المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراء السراب... قليلا/ 14/ /ابراهيم درغوثي



ابراهيم درغوثي
26/01/2009, 07:52 PM
وراء السراب ... قليلا/14
رواية

ابراهيم درغوثي/ تونس


الفصل السادس

هل يستوي الذين يعملون
والذين لا يعملون


الباب الرابع عشر



وفيه قصة أول إضراب شنه عمال " شركة فسفاط قفصة " . وتفاصيل عن وصول النقابي الإيطالي " زاري " إلى محطة المتلوي وكيف احتفل الأهالي بهذا النقابي.
كما يحكي عن المصائب والأهوال التي عاشها عمال المناجم في بداية القرن الفائت.

1

عرفت إبراهيم " زلميتة " بعد أن أعدت ابنة عمي فاطمة إلى بلاد الجريد. كبر بطنها وانتفخ فأصابها الرعب . قالت لي أكثر من مرة إن طيورا صغيرة لها وجوه آدمية تخرج من أسفلها كل صباح. ترفرف أمام وجهها ضاحكة مستبشرة ثم تطير جهة الغرب. وظلت تردد على مسمعي هذه الأحاديث إلى أن سألتها إن كانت ترغب في العودة إلى القصر فقالت إنها ما نسيت طيورها وإنها ستسعد كثيرا
هنالك .واقترح علي ابراهيم " زلميتة " أن يقاسمني مسكني فلم أمانع.
لا أدري مما قد هذا الرجل الذي لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلا. فقد سمعته مرات عديدة يردد بصوته الجهوري في مقهى " داتاي " بقرية " فيليب توماس " على مرأى ومسمع من رئيس مركز الجندرمة كلاما يهد الجبال.
سألت عنه فقيل لي إنه جاء من المغرب من جبال الريف .
جاء بلا عائلة فقال للناس إن عائلته عمال المناجم.
ولم يجد مسكنا يأويه فقال إن منزله أنفاق الجبل.
وعرفته ، فآويته ولم أندم على ذلك فقد أنساني مدة إقامته معي فاطمة وطيورها الغريبة.

قال لي بعد أن توطدت علاقتنا إنه كان يعمل في مناجم " "سانت اتيان " بفرنسا ، وإنه تعلم هناك ما لو علم به عمال هذه الأرض لأحرقوا الأخضر واليابس تحت أرجل أسياد هذه الشركة.
وبدأ الإيطاليان " ليدا " و " بيراس " يزورانه ، فينزوي معهما في غرفته ويطلب مني أن لا أسمح بالدخول عليهم بدون إذنه.
وتستمر اجتماعاتهم إلى ما بعد منتصف الليل .


2

غير بعيد عن باب النفق توجد ساحة واسعة تستعمل لتجفيف الفسفاط. كلفت الشركة العمال القادمين من وادي"سوف" ** بهذه المهمة الشاقة . يحمل الرجال قفافا ملأى بهذا التراب على ظهورهم من أعماق الجبل حتى وسط الساحة ثم يكدسون الفسفاط على الأرض أكداسا فوق بعضها ويحرثونها بالفؤوس جيئة وذهابا. ويظلون يقلبونها طول النهار تحت أشعة الشمس اللاهبة إلى أن تجف. فيعودون من جديد إلى تحميل الفسفاط على ظهورهم في قفاف من سعف النخل لتكديسه في المخازن أو العربات الذاهبة إلى ميناء "صفاقس".
هؤلاء الرجال ذوو الأجسام الخفيفة التي جففها لهب الشمس ، اعتادوا على هذا العمل منذ الصغر. إنهم في صراع قديم وأزلي مع الرمال التي تهب على قراهم في فصل الربيع زارعة الخراب في طريقها.
رياح رملية هوجاء تمر حاملة معها العذاب لهؤلاء الرجال الذين استوطنوا حافة السراب، فتغطي المنازل والمزروعات وعيون الماء. وتنفذ داخل العيون والأنوف والأفواه والآذان وهم لا يكفون عن المجابهة. قفة وراء قفة. يجهرون عيون الماء ويعرون أساسات المنازل وحجارة القبور وألواح الأبواب.
ويوبخون الريح.
في بداية هذا القرن هج السوافة. تركوا واحاتهم وجاءوا يبحثون عن الرزق في هذه " المدينة الجديدة " . ووجد فيهم سادة الشركة ضالتهم فكلفوهم بالعمل خارج " الدواميس " ودفعوا لهم أجورا زهيدة لا تتجاوز في الغالب فرنكين أو ثلاثة في اليوم الواحد.
وغلبهم طبعهم الهادئ، فقبلوا هذا المن وهذه السلوى. وشكروا نبيهم الذي أوصلهم إلى هذه الأرض الطيبة.
سكنوا في الأيام الأولى مغاور حفروها على ضفاف الوادي. واستوطن جماعة منهم الأنفاق المهجورة. ولما استقرت بهم الحال وذاقوا الخبز الإيطالي بنوا منازلهم على شاكلة المنازل التي تركوها في مداشر وقرى سوف بالطين والرمل المخلوط بالقش . وجعلوا لها أسقفا ذات قباب تجنبهم برد الشتاء وحر الصيف.
وتفننوا في زخرفتها حتى صارت تحفا رائعة لا يكف الفرنسيون عن زيارتها والوقوف الساعات الطوال أمام واجهاتها لتفسير الرسوم التي تزيتها.
مكتوب عليك يا " سوفي" أن تظل تحمل على ظهرك... أجدادك الذين ضاقت بهم الأرض الوسيعة فاستوطنوا الصحراء.
مكتوب عليك أن تظل تحمل قفاف التراب ، على ظهر الأرض أو داخل بطنها. لا فرق عندك ، قفاف الرمال أو قفاف الفسفاط.
فالأمر سيان.
ولا خلاف.
سوى أنك كنت تصارع جن الرمل في بلادك.
أما الآن.
فأنت تعمل في بلاد الناس.
وفوقك ملايين الأطنان من الحجارة والعذاب.
ما أشقاك يا ابن أمي.
بين أهلك.
أو في بلاد الغربة.
قلت لي أكثر من مرة أنك تهرب من هذا الجحيم ولكنك تحنث دائما بوعدك وتعود تحرك الفأس في قلب التراب تحت شمس شهر أوت القاتلة. تسمع أنين الحجر والحديد ولا تتأوه أبدا.
أقول لك هون على نفسك يا صاحبي فترد :
- وماذا سأطعم الفراخ هنا وهناك ؟
وتعمل ليلا نهارا ولا تتعب إلى أن اعترض سبيلك ذات يوم ابراهيم زلميتة فأدخل في رأسك دودة أطارت النوم من عينيك وجعلتك ترى بوضوح أكبر جثة المراقب الفرنسي الذي لا ينفك عن نهرك وقهرك والطمع في الفتات الذي ترتزق منه. فيقتطع من أجرتك الهزيلة يوما أو يومين بدعوى أنك كنت تستظل بعربات الفسفاط القريبة منك. أو أنك أبطأت حين ذهبت تشرب . أو أنط تطبخ الشاي وتتركه يتبخر في الجو لتشم رائحته أرواح أجدادك. أو هكذا لوجه الله ، لم يستلطفك هذا اليوم.
فقال لك ابراهيم زليمتة:
- لماذا لا تحاول دفع ضر هذا المتعجرف عنك ؟
فقلت له :
- كيف ذلك يا صاحبي وهو يملك في يده مفاتيح باب رزقي ؟
رد وهو يتقي بيده لهيب الشمس:
- تنظر في وجهه شزرا، وتتفل أمامك على الأرض ، وتقوم وكأنك ذاهب لقتل العذاب.
قال :
- وماذا ستنفع هذه التمثيلية ؟
رد ابراهيم :
- بعد ذلك تشدخ رأسه.
بعد ثلاثة أيام شدخ " السوفي " رأس الفرنسي بحجر وصاح :
- " وا ذلاه . " فتجمع لندائه خلق كثير من العرب العاربة والمستعربة ومن أبناء القبائل ومن حالفهم من العجم والبربر.
وصار للأنديجان * شأن بعد تلك الحادثة. طاف مدير الشركة مصحوبا برئيس مركز الجندرمة على مداشرهم. ووعد بتحسين الأحوال وبالزيادة في الأجور نصف فرنك في اليوم الواحد. وتغامزتم فيما بينكم وادعيتم أمامه بأنكم تحبون فرنسا وتفدون علمها بدمكم وعرقكم .
وذهب الفرنسي، فعادت الدودة التي زرعها إبراهيم زلميتة في رؤوسكم تخز ضمائركم وتحرضكم على خير العمل. فعدتم إلى حانة " مارياني " ب " فيليب توماس " تشربون الخمور الرديئة وتتبادلون الهمس مع " داتوي " و " ليدا " و " بيراس " حول مصير أمة " المطاريد " التي طوحت بها الأقدار داخل كهوف جبال الجنوب الموحشة.
ذهبت إلى المقهى في المرات الأولى مع صديقك إبراهيم . ثم اعتدت الذهاب وحدك . ما ظننت أبدا أن هناك أوروبيا واحدا يحب أمة الإسلام إلى أن اكتشفت هؤلاء الطليان القاطنين في منازل قريبة من المحطة. رجال يشبهونك في كل شيء حتى في لون أبدانهم التي حولتها شمس الصحراء إلى السمرة الداكنة. واقتربت منهم أكثر فشاطروك طعامهم والهواء الذي يتنفسونه. وصرت تصطحب معك للاجتماعات السرية إخوانا لك من طرابلس الغرب، ومن ريف المغرب ، ومن جبال جرجرة ، ومن بلاد الجريد ، ومن أهالي قفصة . فتوطدت عرى الصداقة بين العرب في حضرة عمال إيطاليا المسكونين بالضحك العالي والكلام النابي والأكل حد التخمة والكرع من قوارير الخمرة وأباريقها والعربدة وسب ظلم ذوي
القربى .
سمعت لدى هؤلاء العمال الإيطاليين كلاما في طعم العسل :
" سنرغم هذه الشركة على أن تعدل بين عمالها. ولن نتراجع خطوة إلى الوراء أبدا ". فيلتهب الحماس في قلبك وتنفتح أمام ناظريك كوى يمر منها النهار في ظلام ليلك الحالك .
وصرت تحمل هذا الكلام إلى مداشر العرب تبشر به في كل مكان . فمشى وراءك أبناء العم ومدوا لك أيديهم يبايعونك على أن لا تغدر بهم وتسلم عرقهم في أكواز من الفخار إلى قيصر الروم.

3

ازدان سماء " عزيز السلطاني " بالنجوم الزاهرة بعد أن وصلته رسائل من فاطمة.رسائل كثيرة حملها إليه هاتف * بشره بمولود من جنس الذكران.
ولم يسمعه عزيز ، فالنيران ملتهبة في كل مكان والقلوب ملتاعة لا تسع الفرح.
فعاد الهاتف يذكره في أواخر الليالي المقمرة بالمولود الجديد. ينتصب على حافة السرير ويهتف :
- فاطمة تنتظرك لتسمي المولود يا عزيز.
وظل يلح إلى أن قال له :
-سمه " محمدا " يا صاحبي.
فطار " الهاتف " بالبشرى .
حط على حيطان القصر المهجور وصات :
سم المولود " محمدا " يا فاطمة.
وذاب في السحاب.






4

عاد الإيطالي " ليدا " إلى الدار متأخرا جدا. وعلى غير عادته ، كان البشر يفوح من وجهه هذه المرة. طرح بعيدا رداء اليأس وتأكد أنه يستطيع صنع الربيع في هذه الأرض.
قلت له وأنا أتثاءب :
- أراك مبتسما تدندن بأغانيك الخفيفة يا عزيزي ، هل قبلت " أنطونيلا " أن تعطيك خدها هذه المرة ؟
لم يرد " ليدا " على هزئي وواصل دندنته وتصفيره ثم ذهب إلى الحمام فصب على جلده سطلين من الماء البارد وغير ملابسه وجاء يجلس على الفراش.
وفاحت رائحة القهوة التي أعددتها في المطبخ الصغير .
وضعت قدحا أمامي وقدحا أمامه فبدأ في ترشف القهوة شاكرا ممتنا . ولم أطق صبرا فسألته عن اجتماع نقابة الحديديين بقفصة وهل قبلوا حضور ممثلين عن عمال شركة الفسفاط في اجتماعهم ؟
ولكنه تمادى في تصفيره ثم رفع صوته بلحن راقص .
فجأة أنهى الارتشاف من فنجان القهوة وقال :
- اليوم التقيت بالرفيق " زاري " وقد تبنى مشروعنا في تكوين نقابة لعمال المناجم ووعد بالمجيء إلى المتلوي.
فسألته
- ومن هو "زاري" هذا؟
فقال :
- هو ممثل اتحاد النقابيين بتونس وهو صديق قديم ، وصفق وهو يصيح :
- أزفت الساعة ، الآن يا صديقي حل وقت العمل والكد.
ولم يكد ينهي كلامه حتى دخل " ابراهيم زلميتة " ، فوقف الإيطالي وضرب له سلام تعظيم وهو يضحك ثم تلقاه في حضنه وراح كل واحد منهما يربت على كتف الآخر إلى أن قال إبراهيم :
- أخبار سارة جدا يا رفيق. الأمور تجري كما نريد في منجم " الرديف " . لقد عدت الآن من هناك صحبة " بوستورينو " و " اسماعين " بعد أن وزعنا خمسمائة من بطاقات النقابة على العمال ، وتقابلنا مع الرفاق ، وأكلنا حتى شبعنا كسكسا ولحما. وطفنا بالأحياء ووصلنا حتى دواوير أولاد سيدي عبيد والمغاور القديمة التي يسكنها المغاربة والسوافة . ورأينا العجب العجاب: رجال مع عائلاتهم يسكنون داخل الأنفاق التي هجرتها الشركة. وآخرون حفروا مساكن على جنبات الوديان، لا فرق بينهم وبين الجرذان والأفاعي. عائلات بأكملها تعمر مغاور بلا أبواب ولا مرافق صحية ولا أثاث ولا فرش. والبقية انحشروا في مساكن جماعية تفوح منها روائح الغائط والبول والمني وتسكن في جنباتها الأمراض والأوبئة وتكثر فيها السرقة واللواط والقتل لأتفه الأسباب.
قال " ليدا ":
- أعرف هذا وأكثر يا رفيق.
وتهدج صوته حتى كاد يبكي وهو يحدثني عن الأموات الذين قتلهم وباء " الكوليرا " هناك منذ ثلاثة أشهر .
قال إن الشركة على علم بأن هذا المرض يعشش في تلك المساكن البئيسة ولكنها لم تفعل شيئا إلى أن كادت تحصل كارثة. فقد أركب بدوي قريبه المريض بالكوليرا على جمله وراح إلى دوارهم وهو يحدو وراء الجمل وينوح فتحركت الإنسانية في قلب الطبيب الذي تكتم طويلا على الخبر تحت تهديد الشركة خوفا من فرار العمال من المنجم فأمر بإحراق جثث الموتى وبتطهير المبيتات بالجير .
ولكن المرض أهلك خلقا كثيرا في البلاد القريبة من المنجم وفي قرى بلاد الجريد ونفزاوة.
واتفقنا على اجتماع غدا في دوار " أولاد مطرود".

5

وصل الجماعة قبلي إلى دار " أولاد مطرود " الطرابلسيين: الحاج مرابط القبائلي والشاوش علي المروكي واسماعين الجريدي وعلي بن عامر البويحيي وحميدان السلامي. اصطحب كل واحد منهم عددا من بني قومه فامتلأت الدار الكبيرة من أدناها إلى أقصاها.
كان الأطفال والنسوة يملأون ساحة المنزل فكأن الليلة عرس. ذبحت الذبائح وفاحت رائحة الكسكسي وامتلأ المكان بالبهجة. ولم تطل غيبتنا فقد خرجت من داري مصحوبا بالإيطاليين الذين قرروا حضور الاجتماع. وقدموني فدخلت أولا مفسحا الوقت للنساء حتى يتوارين في إحدى الدور. وجاء بعدي " ليدا " و " داتوي " و " لويجي " فأوصلنا الأطفال إلى قاعة الاجتماع . ووقف الرجال للسلام علينا والترحيب بنا . وتبادلنا الأحاديث الجانبية والسؤال عن المعرف والأصدقاء وأشياء أخرى . وارتفعت الضحكات هنا وانفجرت الشفاه تبتسم هناك إلى أن قال الحاج مرابط بصوته الجهوري:
- صلوا على رسول الله يا جماعة.
فارتفعت الأصوات تصلي وتسلم على خير البرية . وبسملت الشفاه ومسحت الأكف الوجوه وساد الصمت والترقب. فعاد الحاج مرابط إلى الكلام :
- نحن الليلة في دار " أولاد مطرود " لأمر هام. لقد نسينا الضغائن والمآسي وتآخينا لأن الصبر على المكاره ما عاد يجدي نفعا. فهذه كما رأيتم قد تمادت في غيها . ورئيسها رفض الزيادة في أجورنا التي ما عادت قادرة على إطعام أولادنا خبزا حافا
صاح رجل من ركن البيت :
- صار ثمن الخبزة فرنكا.
وجاوبه صوت آخر :
- وثمن كيلو الشاي ستة عشر فرنكا
فتأوه اسماعين :
- وكيلو السميد بفرنك ونصف.
فقال علي بن عامر البويحيي
- ولتر الزيت بأربعة فرنكات.
وأضاف حميدان :
- ورطل لقهوة بستة فرنكات
فهمهم الحاج مرابط:
- والمرتب لا يفوق أربعة فرنكات في اليوم.
أعرف... أعرف... يا جماعة ، لكل هذا اجتمعنا الليلة في هذه الدار لنتفق على قرار نلتزم به جميعا. والله يهدينا طريق الصواب.
ثم أعطى الكلمة ل " ليدا " الذي كان منشرح الصدر يهزه الطرب فقال إنه عاد البارحة من اجتماع نقابة سكة الحديد وإن الجماعة شجعوه على تكوين نقابة لعمال المناجم . ولأعلمهم بأن النقابي " زاري " سيزور المنطقة في القريب العاجل. ووزع تحيات المجتمعين في قفصة على المجتمعين في دار " أولاد مطرود ".
وجلس " ليدا " فعم البشر الوجوه وارتفعت القبضات في الهواء.
وقبل أن يبسط الأكل ، أخرج الحاج مرابط من جيبه مصحفا وضعه فوق قطعة من قماش القطيفة الأخضر وطلب من الحاضرين أن يقسموا بالله بعد أن يضعوا أيديهم على " الكتاب " بأن يحفظوا سر هذه الجلسة على الأعداء. ومر الرجال واحدا وراء واحد أمام المصحف وهم يقسمون بالله على أن يدفنوا هذا السر داخل شغاف القلب. وجاء دور " ليدا " فمر أمام " الكتاب " بخشوع . وتبعه " داتوي " و " لويجي " .
بعد العشاء ، اتفقوا على مواصلة تحسيس العمال بالمطالبة بالأجر العادل مقابل عملهم في الأنفاق.


وهدد رجال طرابلس باللجوء إلى القوة وحرق المنجم والبلدة إذا لم تمكنهم الشركة من طعام الأولاد والنساء.
قال علي المصراتي :
- الأمر بسيط ، نشعل النيران في الخشب الذي تتوسده الصخور التي تحمل على أكتافها ثقل الجبل فينهار وينهار وراءها الجبل كما وقع عام الفجيعة الكبرى . ونرتاح ويرتاح الجميع. الظالم والمظلوم والقاتل والقتيل والجائع والشبعان.
ولكن رأي الأغلبية ذهب في اتجاه آخر.
قالوا : نطالب بحقنا بالحكمة والموعظة الحسنة .
وتكلم" ليدا "مرة أخرى فقال : علينا أن نعمل كالذئاب وأن ننام بعين ونراقب الأعداء بالعين الأخرى. وأن لا نعول إلا على سواعدنا وعلى الرأي الصائب.
ووزع على الحاضرين بطاقات اشتراك في النقابة ممهورة بإمضائه وطلب منهم توزيعها على معارفهم من العمال.
وخرج الرجال من الاجتماع يبشرون بالغد الأجمل الذي ستفوح فيه الأزهار على شرفات بيوت العمال وتمتلئ بطون الصغار بالحليب ويذهب فيه أطفال " الأنديجان " إلى المدارس ويقل جهد الرجال في المنجم وتجري الفرنكات بين أيديهم.
ولم يحضر إبراهيم " زلميتة " ذلك الاجتماع فكثرت الأسئلة حول غيبته. لقد اختفى في الطريق بين داري ودار " أولاد مطرود ". ثم ظهر بعد ثلاثة أشهر في صورة " شق " . " شق " شرس يقفز على رجل واحدة ويشعل أعواد الثقاب في كل مكان فأهلك خلقا كثيرا من أعوان فرنسا. وظل يقفز ويشعل النيران إلى أن قتلته كتيبة من جنود المستعمرات. خرقوا نصف الجسد المندفع في وجوههم بآلاف الطلقات.
ولما اختفى صوت الرصاص وضاعت رائحة البارود داخل دواميس الجبل اكتشفوا لدهشتهم نصف رجل : رجل واحدة ويد واحدة وعين واحدة وقلب يملأ الصدر*.
وانتبه رجال الإدارة إلى الوهج الذي لفح وجوه العمال بالسعادة الغامرة فجروا وراءه يأسرونه ويعوضونه بالظلام.
وأعلم مدير الشركة الكاتب العام للحكومة بأن الطليان حرضوا العرب ضد فرنسا فارتفعت أصواتهم تطالب بالمنكر:
" الأجر العادل لقاء نفس العمل " . A travail égal, salaire égal"
ولكن هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون؟ وهل تدفع فرنسا للأنديجان الكسالى كمثل ما تدفع لأبنائها الذين جاؤوا من الجنة إلى هذا الجحيم ؟
قال له : أيعقل هذا يا سيدي الكاتب العام لحكومة فرنسا الموقرة ؟
فرد عليه بوقار رجا الدولة : " دارهم بالتي كانت هي الداء. امنع عنهم العمل في شركتنا ليموتوا جوعا كما تموت الكلاب."
فبث المدير عيونه أمام أبواب أنفاق المنجم ليمنعوا من هتك عرض فرنسا من ولوج أبواب رحمتها . فوقف رجال أشداء أمام الأبواب وصوبوا نيران أعينهم على الداخلين واطردوا كل من رفع عينيه في وجوههم. ونفضوا أيديهم وعادوا إلى قواعدهم سالمين .
وظنت الشركة أنها تخلصت من مثيري الشغب فأعلن مديرها على رؤوس الأشهاد أنه سيرفع في أجرة العملة العرب نصف فرنك آخر في اليوم الواحد.
وتساءل هل يشبع هؤلاء الكسالى الذين يبذرون نعم فرنسا على الخمر والميسر والقحاب ؟
واستدعى رؤساء المجموعات الأهلية جميعهم في بهو الإدارة وأطلق بينهم كلابه المسعورة تنفث السم في وجوههم ، فحدثوهم عن الجنود السينيغاليين الذين جلهم رئيس الشركة من فرنسا وعن الأفعال الفظيعة التي بإمكان هؤلاء السودان اقترافها.
قالوا إن الرئيس سيسمح لهؤلاء الجنود باغتصاب النساء وببقر بطون الحبالى . وقالوا إنهم سيشربون الخمر في قحاف رؤوس القتلى بعد أن يأكلوا لحومهم مشوية على نيران الفحم الحجري.
وأمر الرئيس بإدخال رؤساء المجموعات واحدا وراء الآخر يمد له يده مسلما ويأمر له بقهوة وينهمك معه في حديث عن خطر هؤلاء الشيوعيين الذين سيجعلون بطون أطفالهم تمتلئ بالدود ثم تنفلق لتهجم هذه الهوام على حديقة قصره فتأكل أزهارها وتمتص ماءها وتتنفس هواءها، فيعم البلاء هذه الديار التي حولتها فرنسا إلى واحة سلام وازدهار في هذه الصحراء الكئيبة. ساعتها لن تنفعكم رحمة ربكم ولن يجدي استعطاف السماء.
ثم يختم حديثه بالدعوة إلى طرد المحرضين على الشغب أو ال‘لام عنهم لتقديمهم إلى العدالة.
ويخرج الرجل فيبادر المدير إلى غسل يديه بالماء والصابون المعطر. ويدعو عاملا فيمسح الكرسي الذي كان يجلس عليه ويفتح نوافذ القاعة ويهش الهواء الفاسد قبل أن يغلق الشبابيك.
هكذا قضى المدير الأيام الأولى من شهر أفريل عام عشرين: محادثات مع أعوانه المخلصين ومحاولة لتجنيد الرجال لصد هجمة النقابة التي ترأسها الإيطالي 3 ليدا 3 وتخويف لرؤساء المجموعات الأهلية حتى يمتنع منظوروهم عن المشاركة في الإضراب.
ولم يعد الرجل ينام.
نزلت على رأسه مقارع الخوف وتجاذبته الظنون من كل جانب. وحاول رد نذر الشؤم التي جاءته بالخبر السيئ الذي انتظره متذ أيام. أعلن عمال منجم 3 الرديف 3 الإضراب عن العمل . وضرب المدير وجهه بالكف حين أعلمه أعوانه أن من بين المضربين مائة وخمسين إيطاليا وعددا لا بأس به من العمال الأوروبيين.
واطمأن قلبه بعض الاطمئنان، فقد امتنع عمال فرنسا عن المشاركة في الإضراب.
قال : لقد أينع الخوف في قلوب رجالنا وفي هذا كفايتي .
لن أقطع عنكم امتيازاتي أيها الأحباب، وليأكل البقية عقارب هذه الصحراء وأفاعيها وجيف الكلاب الموبوءة.

* تعليق من المؤلف عن هذه القصة : توجد جثة ، شق، ابراهيم زلميتة محنطة قي متحف ، باردو ، بتونس العاصمة مخرقة بالرصاص ويفوح منها إلى الآن عطر البارود .
وعلى من يكذبني أن يزور المتحف ليتأكد من صحة هذه الرواية .
والله على ما أقول شهيد.







زلميتة : من الفرنسية :allumette" " وتعني عود ثقاب.


* Saint Etienne : مدينة بشمال فرنسا كانت بها مناجم حديد في بداية القرن الفائت.

** وادي سوف : منطقة واحات في جنوب الجزائر تتاخم واحات الجريد.


الأنديجان : les indigènes تسمية أطلقها الأوروبيون على السكان الأصليين للمستعمرات ، ويراد بها التحقير والامتهان.


* " الهاتف " و " الرئي " جنس واحد من الجن الأزرق.