المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنويعات الأداء القصصي في المجموعة القصصية أكواريوم لعبد الحميد الغرباوي



عبد الحميد الغرباوي
27/01/2009, 01:59 AM
عــــازف قصـــــة قصيــــــــرة بامتيــــــاز


http://i63.servimg.com/u/f63/11/53/02/12/copie_13.jpg

بقلم الأستاذ الناقد و الشاعر عمر العسري

" الخيوط المطرية الرقيقة، الرهيفة، تحولت إلى زخات عنيفة تضرب في كل اتجاه، تضرب على الأرض ، الأرض العفنة...تضرب عليها، تغسلها، تزيل عنها أدران سنة بكاملها...قدماي تتقدمان في تثاقل...لدي إحساس أني لن أصل في الوقت "(1)
في هذه الافتتاحية الشاعرة ، يلخص الكاتب المبدع عبد الحميد الغرباوي ملامح رؤيته الكونية، كما تتجسد في ملحمته القصصية " أكواريوم"، فهي رؤية تتذرع بالحياة و تسترق لحظات لما وراء الواقع، و تطرح مناجاة و أسئلة عن المستقبل و الإنسان، و هي فوق ذلك ، عزف متنوع يجرب فيه الكاتب أنماطا سردية تتمتع بجماليات نوعية خاصة.

و عندما نتساءل عن أهم الأنماط السردية في مجموعة " أكواريوم " نجدها تتمثل في أربعة أنماط :
1ـ النمط السردي الومضي
2ـ النمط السردي المضاد
3ـ النمط السردي المسترسل
4ـ النمط السردي المتوالي
و هذا على وجه التحديد ما سنكشف عنه من خلال هذه الورقة.

1 ـ النمط السردي الومضي
سمَّ الكاتب هذا النمط بقصص قصيرة جدا، و هي تضم ثلاثين قصة ومضية، أولها " حالتان وجوديتان"، و آخرها " بنت الشاطئ ".
و خصائص هذه القصص أنها حديثة بامتياز، لأنها توظف الفعل كحالة بدئية: لوحظ، دخل،اُنظر، جلت،ركب، حثَّه...
و طبيعة هذه الأفعال أنها لا تتضمن ردودا، و إنما هي تعليق سردي على جملة من الأفعال المتتابعة التي تلج عالما معينا فتتناص فيه الأحداث.
يقول الغرباوي في قصة " وحيد ":
" ركب القطار،
و الوحدة كف شرسة تحط على صفحة وجهه، تخنق أنفاسه...
في القطار، تعارف، تحدث، ضحك كما لم يضحك من قبل..
انفتحت نفسه للحياة..." (2)
تتراكم ، في هذا المقطع السردي، امتصاصات الراوي لروح الإنسان الوحيد الذي ينضح بالصمت، و يتوق إلى الحياة التي تدور في غفلة من القلوب الواهمة.
فإلى جانب التكثيف الفعلي، نجد سردا ينزع نحو التكثيف الزماني و المكاني، و هي خاصية تتماشى و هذا النمط من السرد الذي يعتمد ، في غالبيته، على أحادية الشخصية، كما يتجلى ذلك في باقي القصص القصيرة جدا الأخرى.

واضح من خلال هذا النمط السردي، الاستخدام التكثيفي للمكونات السردية، عبر تناسق المشاهد، و إن كانت متباعدة على مستوى الموضوع، فإن هناك جوانب أخرى تلتقي فيها، كالإيجاز و المفارقة؛ و هي جماليات نوعية تنماز بها هذه القصص القصيرة جدا التي طغى عليها الجانب التقني و التنظيمي.

2 ـ النمط السردي المضاد
وجد مفهوم النمط السردي المضاد في " أكواريوم " جذوره في نصوص سماها الكاتب " نكاية في القص جدا". إن المهيمن على هذه النصوص ، هو صوت الكاتب بالدرجة الأولى، و كأن الكاتب يعبر عن ذاته بالصيغ السردية و التشخيصية المختلفة؛ و هي قبل كل شيء، يحقق الكاتب عبرها التواصل.
يقول:
" الأوراق التي أحبرها...
أسودها بعبارات و حكايات...
عندما تتحول إلى ركام، أحرقها أو أمزقها...
لكن، لماذا كلما تخلصت منها تعود؟..." (3)
يلخص المقطع حدثا و يؤكد عليه، بل و يتحكم في تشويقه. فوجهة نظر الكاتب تتوضح في وجهة النظر داخل وعي الشخصية أو عدة شخصيات ، و لم يعد لدينا في مثل هذا النمط السردي مشكل علاقات السارد بحكايته و لا مشكل البنيات الداخلية للمحكي.

يُبرِز هذا النمط السردي، سبقا لما سبق، ذاتية المبدع الذي يُشبه بشكل مثير الأسلوب التوضيحي.
إن الأمر يتعلق بتحديد تصنيف نموذجي يربك الحكاية و يخضعها عن طريق مقارنة الظواهر الخاصة بالقوانين العامة، كما هو الحال في قصة " تعليل"، إذ يقول فيها:
" أسألك:
لماذا كلما أخفقت عللت الهزيمة بكثرة الأعداء أو بضيق الوقت؟ !! ؟ (4)
لعل المهيمن ، في هذا المقطع، هو القول و العرض، و من خلالهما يعبر الكاتب عن وجوده من خلال التساؤل و التعليق، و لا يجب أن نفرق بين السارد و الكاتب في هذا النمط، بل إن الكاتب أو السارد أو الشخصية التي تحمل رسالة معينة، قد توهم من خلال كل ذلك، بتغيرات النص ووضعياته اللاحقة.

3 ـ النمط السردي المسترسل
نجد، في هذا النمط السردي، الكاتب عبد الحميد الغرباوي، يخطو خطوة أخرى، فيكتب قصصا مختلفة عما عرفناه في النمطين السابقين، و مختلفة من حيث الطريقة المتبعة في تصوير الواقع و الشخوص، أو من خلال التكثيف و الاقتصاد الشديد.
و لعل ما يلفت الانتباه، سعيه الواضح لكتابة قصة توهم بالواقع و تلتزم بعرضه على متواليات سردية مترابطة ضمن علاقة نسبية أو حتمية منطقية، و في قصة " الصديقات "، نلمس تألقا أدبيا، فالقصة تعتمد على ثلاث نساء فاطمة، نعيمة و زينة، و رجل، و يوهمنا السرد بأن الراوي يروي حدثا مما يجري في الواقع، و مع ذلك لا تخلو القصة من الدلالة على الخمارة بمؤشر النادل و القنينات العشر، و قد تبدو القصة مفككة من خلال لغة المحو، مما قد ينعكس على الحدث الذي يبدو غير متماسك و لكنه غير مكرور.
" لا تقلن الوداع...لا تتلفظن بهذه الكلمة، أكرهها...غدا، أو بعد غد نلتقي...أعدكن بذلك...ناول النادل ثمن القنينات العشر، و انصرف تاركا خلفه ثلاث سمكات يسبحن في حوض زجاجي"(5)
بهذا السرد الفني الرشيق، استطاع الكاتب أن يوحي بما في حياة الشخوص و علاقتهم، من لذة لا تكتمل، و إنما تتربى في أحضان أمل العودة. و في هذه القضية التي يتخطى الكاتب فيها حدود القصص المكرورة و الرتيبة، يركز على الأثر النفسي لمفهوم اللذة ، فيعمد إلى التصوير و الاسترسال في الوصف و التكرار.
" أزرقك أزرق فريد..."
" هذه العاشرة الباردة، الباردة... و الدامعة، الباكية كما لو أنها تبكي من فرط الضحك"(6)
يعتمد هذا النمط السردي على الحكاية و ليس بتبني وجهة نظر فيها كما في النمط السردي المضاد، و إنما بإثارة حدث معين قد لا تنتهي ديناميته، تماشيا مع لغة المحو، إذ نلمح تبئيرا على الإنسان و إعادة صياغة للقيم الإنسانية.
إن المقياس المميز لهذا النمط السردي، هو تحديد الرؤية الكامنة في القيمة النفسية و الأنطولوجية لوضعية الشخصية. و تبدى هذا بدرجة قصوى في قصة " الصديقات " التي ألمحنا إليها. فالرؤية قد ارتبطت بالشخصيات و بالقيم النفسية، و قد تحدد ذلك بشكل أكثر على الرجل الذي قام بكل شيء فظل مبأرا يسترسل في انتقالاته من فاطمة إلى نعيمة ثم زينة، حيث زمن الوداع.

4 ـ النمط السردي المتوالي
يتأسس هذا النمط السردي على أحداث متقطعة تعتمد تعدد المستويات و تداخلها و الانزلاق على سطح الواقع بدل النفاذ إليه، بحيث نجد كون السرد لا يعرض حكاية مكتملة، و إنما يصف مشهدا حياتيا أو شيئا معينا، فنجد المتلقي في القصة؛ و هي قد عدلت عن الخطوط المستقيمة و الأحداث المتوالية؛ أداءً مغايرا لا يقوم على السرد الرتيب، و لا يلتزم خطا وحيدا، بل و لا تبدأ الحكاية من أولها إلى آخرها، بل نعثر على تجزيء لمستويات الحكاية، فتلعب الصورة المفردة المنتزعة من الحياة، دورا فذا في الانتقال من الحياة إلى السرد الإيحائي الدرامي الذي يعتمد في الدرجة الأولى على عنصر التتابع السببي المتكئ بدوره على خلفية سردية تضبط الحركة فقط.
نذكر في هذا السياق المتوالية القصصية التالية:
" كان يعدو مطلقا لصرخاته العنان...
لو، فرضا، أوقفه رجل أمن حازم،
أو اعترض سبيله شخص مفتول العضلات...
أو انقطعت أنفاسه من شدة الجري..
و حاول البعض استفهامه،
فبماذا كا ن سيجيب !...
كيف كان سيجيب ! "(7)

إن عبد الحميد الغرباوي، هنا، يعبر بالموقف و بالمحتمل ، و يتوقف ليقول حكمته عن الإنسان و الحياة، في وقفة تُعد سؤالا و إحساسا بإيقاع الزمن و إنصاتا للمجهول و مزجا للحكاية بالخاطر البعيد، و هي أيضا رؤية عجلة الحياة و هي تدور في غفلة من القلوب الواهمة.
يرصد هذا النمط من السرد، الذي أسميناه بالسرد المتوالي، الحكاية باعتبارها إشارة لا تبتدئ و لا تكتمل، و لكنها شديدة الالتحام بالتصور العام للحياة.
و أنت تقرأها، توصلك بعالم شديد الارتباط بالوهم و الجنون و الألم و الموت.
أيا كان خطأ أو صواب هذه القراءة في مجموعة " أكواريوم" ، فإن عبد الحميد الغرباوي عازف قصة قصيرة بامتياز، يواجهنا في هذه التجربة الفذة، بجرأة شديدة في تنويع أدائه القصصي و اعتماده التخفي أحيانا وراء القناع التشكيلي.
ـــــــــــــــــــــــــ
الإحالات:
1 ـ عبد الحميد الغرباوي. " أكواريوم" منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب.ط1/ 2008 ـ ص43
2 ـ نفسه، ص13
3 ـ نفسه، ص29
4 ـ نفسه،ص30
5 ـ نفسه،ص48
6 ـ نفسه،ص47
7 ـ نفسه،ص71