المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنويعات فنية في اول الغيث(1) للشاعر الرباوي(2)



إدريس اليزامي
28/01/2009, 11:29 PM
توطئة:
تعزز المشهد الثقافي المغربي بإصدارات مهمة في أجناس أدبية شتى، ويتربع على كرسيها، الشعر ـ ما دام ديوان العرب ـ وحق له ذلك. ومن بين الدواوين التي تفرض على قارئها حسن الإنصات وتجره إلى عوالمها الساحرة والمشاغية ليضيء غموضها بقراءة عاشقة أو دراسة متأنية رغم شح النقد المتخصص، وعجز الصحافي حتى، عن مسايرة ما يعن في الساحة من جديد: ديوان أول الغيث.
حقا إن الفضاء الشعري اللازوردي يسحر بألقه وألوانه اللب، ويأخذ به إلى عوالم رحبة لا نهاية لها. ومما زاد في هذه المتعة واللذة، المسك بخيوط / مفاتيح النص المفضية إلى دهاليزه. وكانت الرحلة من وجدة الشهباء إلى الدار البيضاء عبر فاس ووزان وفضاءات أخرى مغربية. لا يمكن السفر في جغرافيتها وحيوات أعلامها الموتى والأحياء إلا على صهوة الشعر.
هكذا شدني الجانب الفني في نصوص أول الغيث، وأثمر هذه المقاربة الفنية في المحاور الآتية:
ـ التدوير العروضي ( طريقة كتابة النصوص)
ـ النص الغائب الذي تغذت منه النصوص.
ـ المعجم الذي ينحت منه الشاعر كلماته.

I ـ لماذا التدوير العروضي في النصوص؟
فحينما تقع عيناك على أول قصيدة بالديوان ـ منطق الورد3 ـ تخدعك فتحسبها نثرا. وما هو بذلك إن هو إلا شعر موزون. وهكذا دواليك في نصوص أخرى، إن لم نقل أغلبها، بل في دواوين أخرى. فلماذا الكتابة على هذا الشكل ممتدة في مجملها متموجة أحيانا؟
الجواب لن يأتي برانيا، بل جوانيا إنه الفضاء الداخلي ( الذات) حيث المعاناة والاحتراق يزهران حمما، فتثور براكين الكتابة على البياض محاولة منها التهام الفراغ الفظيع، إنه صراع السواد والذات مع الواقع حسب تعبيرالدكتور العلوي الهاشمي4. فما يلبث القارئ ـ خلال قراءته ـ حتى يعود للتأكد من الوزن ثانية وثالثة يتوهم كما أسلفت أنه خرج إلى النص النثري. من هنا تكمن براعة الشاعر وتمكنه من مادته العروضية، هي الوظيفة الفنية التي تدفع به نحو هذه الكتابة، لأنه يخاطب العين قبل الأذن.
وتأتي الوظيفة النفسية والفلسفية أيضا واللتان تعكسان مدى ارتباط الشاعربمحيطه. ولنسق الشاهد الآتي من القصيدة السالف ذكرها قوله:
أيتها الوردة .. يا أيتها المقصورة في هودجها الوهاج ..
أيا لؤلؤة كنَّت في صدف من شعر أسود هل يخلو بلد من
سلطان؟. ها قلبي يحمل عرشا لم يتربع سلطان بعد عليه.
فكوني أنت السلطان، لتنعم أشجار ضلوعي بنظام يأسر
ألباب الطير. قطعت إليك مهامه لم تعبرها قلبي العيس،
فما امتد على طرقات القلب سحاب المزن، ولا انتشرت أوراق
البرق بساحة هذي الذات الظمأى كوني السلطان، وكوني
صاحبتي في هذا السفر الممتد من الآه إلى الآه. هو القلب
العاشق يستنشق ريحا من تلقاء مها نجد، يأمرني أن أركب
متن الوجناء لنطلب نجدا. هل أحد غيرك يقدر أن ينجد هذا
القلب؟ فكوني النار الوهاجة، وانتشري في كل خلايا
الأشجار الممتدة من جسدي حتى بلدي. انتشري أيتها النار،
احترقي أيتها الأشجار عسى من حر رمادك تولد قبل الفجر
الخياله.
وهذه الطريقة في كتابته الشعرية، قد أعابها على شاعرنا بعض الدارسين وخاصة فيما تقدم من نصوصه، وبالضبط قصيدة "صاحب الغار"5 التي يقول في مطلعها:
أنا في الغار اثنان وثالثنا لم ينزل بعد، وصوت الله
يشق صخور الغار، ليوحي للصاحب أن الغصن الأخضر للسدرة
يجمع كل اثنين، وأن الله بجانب كل اثنين إذا كان من أصحاب
الحب الأبيض ...
ومن هؤلاء، النقاد، نذكر على سبيل التمثيل، الدكتور محمد فتوح أحمد في بحث عنوانه: " القصيدة العربية المعاصرة إلى أين؟"6. التي هاجم من خلالها التدوير العروضي وشكل الكتابة النثرية التي ظهرت به القصيدة، بحجة أن هذه الظاهرة تجهد القارئ حين يلهث وراء الشاعر حتى ينتهي إلى قرار بيت يمكن التوقف عنده. يضاف إلى هذا أنه يترتب على التدوير شحوب الإيقاع وانطفاء موسيقى القوافي النثرية. ونفسح المجال أمام الشاعر ليرد على الدارس:(7)
" أما ما لاحظه في النص من نثرية بسبب التدوير فأقول: إن لغة الشعر تختلف عن لغة النثر، وهذا معروف في الدراسات النقدية، لكن ثمة حالات تقتضي أن يستعير لغة ( وشكل) كتابة النثر لتطعيم تجربته، ونتفق مع أبي هلال العسكري أن المنظوم الجيد ما خرج مخرج المنثور في سلاسته وسهولته واستوائه". أما فيما يخص أن التدوير يجهد القارئ فقد رأى الشاعر أن هناك محطات اختيارية يتوقف عندها متى كان الشعر بضرورة إليها وليس من الضروري أن تطابق الوقفة نهاية التفعيلة. وقد يخرج الشاعر من الشكل الممتد في نصوصه إلى المتموج أو المنعرج. فتتنابذ الكلمات وتتناثر وتختلف. ويظهر فيها مد وجزر في سطورها وهذا الاختلاف تعبير عن اختلاف الشاعر مع محيطه.
وبعبارة أخرى صراع ذات الشاعر مع مجتمعه. فيحاول الرباوي أن ينقل هذا الصراع من الذات الفردية إلى الذات الجماعية ( الذوات). ولعل هذا الشكل يتمظهر فيه الفراغ / البياض بشكل ملفت. وهذا لم نألفه في القصيدة العربية الأم / العمودية المقفاة، إذ أنا نلاحظ فيها فراغا يفصل الصدر عن العجز ليس إلا. وهذا يدل على انسجام الشاعر العربي القديم مع مجتمعه ـ على حد تعبير الناقد العلوي الهاشمي8 ـ اللهم إلا إذا استثنينا حجم ذاك الصراع الفراغ / البياض ولا بأس من التمثيل على الشكل المتموج والذي يبرز لنا من خلال صراع الذات مع الواقع ـ قوله من قصيدة « مغربنا وطننا9 ».
بلدي ... يا بلدي نخر السوس عظامك
وامتطى الحزن خيامك
بلدي ... يا بلدي، روحي فداك
من يدنس أقمارك اليوم ينل كل رضاك
من يقدم دمه يلق جفاك
ها دمي المفتول قدامك، فاصنع
بدمي فجرك، وامنح جسدي قبرا تغذيه رباك
ii ـ الإضاءات / النصوص الغائبة أي طائل من وراء توظيفها؟
إنها المراجع الثقافية التي تتغذى منها قصائد الشاعر، وبالتالي فهي إضاءات ـ حقا ـ لظلام الغموض الذي يكتنف بعض النصوص وخاصة تلك الذاتية منها ـ وما يتبدى لنا من خلال، قصائد ديوان ـ أول الغيث نصوص وظفها الشاعر بوعي منه لتحيل القارئ مباشرة على مرجعها وأخرى تسللت دون وعي منه إلى عمله فكونت طبقات نصية عجيبة. ولعل الشاعر لا يجتر النص الغائب بشكل عادي لا جديد فيه. بل يعيده بوعي مغاير وبطريقة فنية يخدم دلالات قصيدته ذاك ما يسميه النقاد بالامتصاص. فهذا عنوان الغلاف ( وإن كان هذا الغلاف ذاته برسومه وألوانه عنوانا ثانيا لنصوص الديوان) أول الغيث يحيلنا على نص غائب أورده صاحب العمدة في تقديمه:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه وأول الغيث قطر ثم ينسكب10
هذه واحدة. أما الثانية، فحين نقلب الصفحة الأولى نجد الإهداء التالي: " إلى القطرة المضيئة ولدي محمد زكرياء " فالملاحظ أن عجز البيت الشعري مصدر ب: أول الغيث ( عنوان الديوان) ثم يأتي قطر بعده وهو يحيلنا مباشرة على القطرة / محمد زكرياء. أما إن عدنا إلى صدر البيت فنجد بياض الفجر، أي انبلاج ضوئه: والإهداء يتضمن كلمة القطرة المضيئة. ومن هنا نستنتج أن الشاعر يعقد قرانا رائعا أو تعالقا بين النصوص على حد تعبير النقاد. والعنوان والإهداء ـ حسب استنتاجي ـ لهما ارتباط وثيق بالنص الأخير" مدد من مشكاة الغيث"11
إذ أن الشاعر وظف فيه مجموعة من الكلمات التي تدل على ذلك: (المشاكاة ـ الضوء ـ النور ـ الأنوار ـ وهج ـ المصباح ـ وقد ـ الفرحة جداول ـ ترشني بأنوار ـ الوبل ـ البشرى ـ أنداء الغيث ـ رياحا).. ثم ركز على العطاء والمنع في تضرعه إذا عن أي غيث يتحدث الشاعر، وأي نور وضوء، وبعابرة أخرى، أية بشرى بعد الرياح ( اللواقح)؟
الجواب ـ في اعتقادي ـ مكنون في الإهداء: إنه محمد زكرياء ( عصفور الفجر / الأمل المشرق / النعمة البيضاء)12 الذي ازدان به بيت الشاعر بعد صيف طويل حط بكلكله على صدره ولنفسح له المجال للبوح:
ما عدت أكلم في الحي سواي
فهل استسلمت لوقد الفرحة يا مولاي
إن كانت حقا هي ما يسكن عبدك؟
وهل استسلمت لجوف الخوف الفاجر
إن كان الخوف حبيبي
هو ما يتسكع في هذا القلب الخفاق؟
لماذا حين تسللت البشرى
نحو خرائب قلبي
وأنا عود يتقوس كالآه
لماذا13
ومما يبرهن على أن أول الغيث "النص الغائب" قد أضاء فعلا غموض القصيدة وأن الرباوي يقصد به محمد زكرياء، إجابته عن سؤال ـ في مداخلة بدار الشباب أنوال بتازة سنة 1993 ـ يتعلق بحالته العائلية، أنه أب لطفلة عمرها أربع عشرة سنة، وطفل ( محمد زكرياء أربع سنوات). والقصيدة كما نرى كتبت في شهر يوليوز 1991. وهي في نسيجها العام شبيهة بمقطع من قصيدة "سفر أيوب" لبدر شاكر السياب14 في تيماتها:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطيني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السحر؟
فهل تشكو الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح
تمزق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
ولكن أيوب إن صاح صاح:
لك الحمد، إن الرزايا ندى،
وإن الجراح هدايا الحبيب
أضم إلى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة، هاتها!
أشد جراحي وأهتف بالعائدين،
" ألا فانظروا واحسدوني، فهذي هدايا حبيبي".
ولنمعن النظر في كلام الرباوي15 ونقارنه بالمقاطع الأولى من نص السياب:
ـ أنت كريم إذ تعطي
وكريم إذ تمنع
(...)
هو ابتلاء حين تعطي
وابتلاء حين تمنع
آه حبيبي ! ما أشق الابتلاء !
لكنني
أطمع يا مولاي أن تكرمني
ثم ترشني بأنوار محبتك.
وكما يبدو أن الشاعرين يتقاسمان الحلاوة / المرارة للرزايا أو الابتلاء، وقد عداها كرما موظفين قاموسا مشتركا: ( العطاء ـ الابتلاء ـ الكرم ـ المنع ـ غمام ـ ندى ـ ظلام ـ مطر ـ سحر ـ ضوء ـ الحمد)
ولنعد مرة أخرى لنكتشف ذلك في كلام الرباوي16:
استسلمت وقلت:
لك الحمد على ما أعطيت
لك الحمد على ما أنت منعت
لك الحمد ...
لك الحمد ...
لك الحمد ...
(...)
أنا عبدك العاصي
فما شئت بي فاصنع
لك الحمد إذ تعفو
لك الحمد إذ تغضب
والأبعد من هذا. فبدر شاكر السياب ومن كثرة معاناته فقد رمز إلى نفسه بأيوب معتمدا على الآية الكريمة: " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" الأنبياء / الآية 83 ـ والنبي أيوب ( عليه السلام) رمز للصبر. أما الرباوي فيربط نفسه بالنبي زكرياء ( ع.س) من خلال نصين غائبين الأول أتى في القصيدة على شكل جملة اعتراضية.
ـ " وأنا ما ناديت حبيبي في المحراب ـ" ولعل الآية الكريمة تلخص لنا قصة زكرياء " وزكرياء إذ نادى ربه، ربي لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين" الأنبياء / الآية 89. وتأتي الآية الأخرى ( هنالك دعا زكرياء ربه) آل عمران، الآية 38.
فكانت استجابة الله عز وجل لدعائه " يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا » سورة مريم / الآية 6.
وعليه فالسياب / أيوب قد صبر على ألم الجراح .. والرباوي / زكرياء، قد تحمل مرارة الصبر على الولد. إلا أنه سمى ولده بمحمد زكرياء وهذه التسميته في حقيقتها ولادة ثانية للرباوي / الأب. ولا نقصد الولادة البيولوجية بل المعنوية ...
أما النص الثاني فيجسده المقطع الآتي:17
" ما عدت أكلم في الحي سواي
فهل استسلمت لوقد الفرحة يا مولاي
إن كانت حقا هي ما يسكن عبدك؟
فمولد محمد زكرياء كان ( فرحة / خوفا) بالنسبة للشاعر إلى حد أنه ما عاد يكلم أحدا في الحي إلا نفسه. وهذا فيه تناص مع النبي زكرياء حينما بشره الله عز وجل بيحيى ( ع ـ س) بعد أن كان قد وهن عظمه وعقرت زوجته قوله: " قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا" سورة مريم / الآية 9.
ولا يلتقي الشاعران في توظيف الرموز ـ وإن كان الغالب عند السياب الرمز الأسطورة بينما يكثر التاريخي عند الرباوي ـ فحسب، بل في الافتتان بالمدينة وكرهها في نفس الوقت. فلماذا المدينة / القناع؟
إن الفضاء بعنفه وحميميته هو المؤثر في نفس الشاعر. فالمدينة بمظاهرها وقنواتها تفسح للشاعر المجال لتمرير خطابه وإيصاله لأبناء أمته. فهي جامعة لأصناف الخير والشر. فالسياب في ديوانه " أنشودة المطر" في قصيدة" مدينة السندباد" ثورة على المدينة المعاصرة وبالضبط بغداد ونعي على الجحيم الذي تتخذه الحياة فيها:18
... مدينة الخطاة
مدينة الحبال والدماء والخمور
مدينة الرصاص والصخور
أمس أزيح عند مداها فارس النحاس
أمس أزيح فارس الحجر
فران في سمائها النعاس.
أما محمد علي الرباوي في قصيدته "الدار البيضاء " ص 18 من " أول الغيث" فيعلن غضبه عليها بقوله:
يا دار قد خدعوك إذ قالوا
بأنك كالضحى الفتان، أو كالنجمة العذراء
كم غر الثناء المر من صفصافة حسناء
خدعوك يا وحشية العينين إذ سموك بالبيضاء
من أين يأتيك البياض وأنت مقبرة تضم مواجع الفقراء؟
(...) من أين يأتيك البياض اليوم
يا دارا رمت بكبودها في لجة الرمضاء
......
يا دارا هل كذب الذي سماك بالبيداء؟
فللمدينة عدة أبعاد، قد تكون اجتماعية،سياسية، وللقارئ أن يستشف ذلك من النصين السالفين عند الشاعرين. إلا أن فضاء مدينة وجدة لا يشاكله أي فضاء آخر. فهو مسكون بحبه ولا يخلو ديوان من ذكره، وهذا ما أثار حفيظة النقاد عليه. حتى أن بعضهم نعته بالإقليمية. وتتساءل لماذا حضور وجدة / المدينة في نصوص الرباوي؟
إنه مغرم بها ويصرح بحبه لها في إحدى قصائده ديوان « أطباق جهنم »:
" يا من علمت القلب هوى وجدة
أفلا علمت العاشق تكبير جدار الوحدة"
ويقول في قصيدة "خرائط تحت المجهر"19
بحثوا عن وجدة في موقعها الأول
والثاني ... والثالث
بحثوا في كل خرائط هذا العالم،
وضعوا كل خرائطه تحت المجهر.
قالوا: من هربها؟"
قال: " أنا هربت ظفائرها في قلبي
من يعشقها فليدخل من بوابة هذا القلب"
والديوان الذي بين أيدينا لا يخلو من ذكر وجدة / الفضاء. فهذه قصيدة " كأس من رماد"20 تقول بعض مقاطعها:
"أحمل فوقي جسدي، وأجوب به طرقات
مدينتي الشهباء. وحين يدب الملل القارس
في غيابة ذاتي، ألقي جسدي المنهار بركن
من أركان المقهى ( تنبت كالفطر مقاهي
وجدة حيث تظل إلى ما بعد أذان الفجر
مفتحة الأبواب"
ولنفترض أن حب الشاعر لوجدة راجع لسببين:
ـ نفسي: ويتلخص في كون هذا الفضاء بمناخه وجغرافيته شبيه بمنطقة الريصاني حيث مسقط رأس الشاعر. وهو ابن بيئته، فليس غريبا أن يحن إلى تلك العوالم الصحراوية بشمسها ونخلها ورملها عبر فضاءات وجدة.
ـ اجتماعي: بساطة وشعبية ساكنة وجدة وتعايشها في سلم اجتماعي، يكاد الصراع الطبقي لا يظهر بذلك الشكل الفظيع المريب كما الحال بالدار البيضاء ...
أما عند السياب فتستأثر جيكور بحبه وقد تغنى بها كثيرا. لنأخذ على سبيل الذكر: قصيدة: " مرحى غيلان" من ديوانه أنشودة المطر يتحدث فيها على لسان ابنه:
جيكور من شفتيك تولد، من دمائك في دمائي
فتحيل أعمدة المدينة
أشجار توت في الربيع، ومن شوارعها الحزينة
تنفرج الأنهار، أسمع من شوارعها الحزينة
ورد البراعم وهو يكبر أو يمص ندى الصباح21
(...) ولعل الشاعر أحب جيكور، لأنها القرية التي نزح منها في العالم الدراسي (1943 ـ 1944) نحو المدينة طلبا للعلم، وكان إذاك مشبعا بالروح الرومانسي.
ولعل قصيدته " اللقاء الأخير" والتي كتبها عشية الرحيل من سنة 1948 تعكس تلك العلاقة الحميمية بينه وبين قريته قوله:
هذا هو اليوم الأخير ليته دون انتهاء!
ليت الكواكب لا تسير.
والساعة العجلي تنام على الزمان فلا تضيق!22
خلفتني وحدي أسير إلى السراب بلا رفيق
وجيكور كانت محضن الأحبة من أهل وأصحاب، في انسجام وطمأنينة مما جعل الشاعر يحن إليها خاصة حين رحيله للتداوي في لندن الصماء قوله من قصيدته: " جيكور أمي" من سفر أيوب.
بعيدا عنك ـ في جيكور ـ عن أطفالي وبيتي
تشد مخالب المال على بطني الذي ما مر فيه الزاد من دهر ( ...)
وحتى لا يأخد منا الكلام في ذلك حيزا كبيرا، فنقط التشابه بين الشاعرين كثيرة وخاصة فيما يتعلق بالجانب العروضي. إذ أن السياب يعتبر بحق من رواد شعر التفعيلة الأوائل إلى جانب نازك الملائكة. وترجع أسباب تفوق الشاعر محمد على الرباوي كونه أستاذا جامعيا متخصصا في المادة العروضية، إلى جانب اتقانه للعزف ( الموسيقي) مما ساهم في خلق شاعر يصغي لصوت نصوصه وجرسها الحزين، فتنساب متناغمة منسجمة.
فبعد هذه المقارنة ألا يمكننا اعتبار الرباوي سيابا مغربيا ووجدة جيكوره؟؟
أ ـ ومما لا شك فيه أن النصوص الغائبة قد أضاءت لنا حقا الغموض الذي يكتنف النصوص ولنجمل الآن تلك التي وظفها الشاعر بوعي منه ونصنفها حسب الحقل الذي تنتمي إليه ابتغاء تحديد ثقافة الشاعر:
1 ـ قصيدة إغاثة الأمة بكشف الغمة23
وظف فيها الشاعر نصوصا تاريخية من توقيع المؤرخ الشهير المقريزي.
ـ برقية: إن الغلال معظمها لأهل الدولة، أولي الجاه، وأرباب السيوف الذين تزايدت في اللذات رغبتهم وعظمت في احتجاز أسباب الرفه نهمتهم.
ـ برقية جديدة: دخلت سنة ( ...) وبالناس شدة من الغلاء وقلة الواصل، لأنهم يمنون أنفسهم بمجيء الغلال الجديدة وكان قد قرب أوانها.
ـ برقية أخرى: في أول شهر ( ...) سنة (...) وقع الغلاء (...) وعز القمح ...
ـ رسالة قصيرة: كلما ازدادت معرفتي بأهل هذي البلاد
كلما طالت إقامتي فيها
ازداد اقتناعي بعظمة هذه الأمة
وهذه الرسالة جاءت بتوقيع ليوطي: Lyautey24
ـ رسالة مستعجلة: إن جيلا من المغاربة أخذ بالظهور، وهو جيل يفيض حيوية ويحتاج إلى مجال يحقق فيه نشاطه وحيويته ... أما المنافع التي تقدمها إدارتنا فقليلة جدا ... لقد آن الوقت لأن نصرح قائلين: جاء الخطر إمضاء lyautey
كما نلاحظ أن العنصر التاريخي هو الحاضر في هذه النصوص، فلماذا المقريزي وليوطي بالضبط؟ ولم هذا التوظيف التاريخي؟
إن الإنسان بطبيعته كائن تراثي ـ تاريخي، ولغوي ـ حضاري، وهو ينتمي للتراث شاء ذلك أم كره. والتراث لا يختزن أشياء صامتة بكماء، وإنما كينونة ووجود حي متجدد وهو خلاصة تجربة شعوب راسخة في قيود التخلف وأزماته. والرباوي قد أدرج هذا التاريخ / الرمز في أطوار حياة جديدة ثم أنطقه بلسانه ولسان عصره فاستلهم المقريزي25 باعتباره المؤرخ المقتدر الذي كان يسير على المنهج السوي في نقد التاريخ ولا يصدق كل ما يروى. عاش زمن حكم الدولة الفاطمية، حيث القلاقل السياسية والفتن... ونصوصه مرآة تعكس بصدق الأوضاع السياسية والاقتصادية المزرية التي عاشها المجتمع العربي آنذاك ( مصر مثلا) وهي صورة / نسخة مطابقة لما هو الحال عليه في المجتمعات العربية من حيث الفتن والتخلف ... فحضور الوعي / الحس التاريخي عند الرباوي دفعه لاستثمار نصوص المقريزي لتتكلم مستلهما منها عوامل مساعدة للخروج من الراهن. وهي بمثابة إبر تخز الأذهان.
أما رمز اليوطي، وقد حافظ الشاعر على رسم اسمه بحروف أبيسية دلالة على أنه أجنبي، غريب لا صلة له بهذا المجتمع. وهو كما نعلم أول مقيم فرنسي بفاس. وقد أخفق في التحكم بزمام الأمور فيها وتم عزله وتعويضه بمقيم ثان. وقد رمز إليه الشاعر بالاستعمار في ثوبيه الجديد والمهلهل وقد جعله ـ أيضا ـ يتكلم في رسائله ليشهد على عظمة هذا الشعب الذي قاومه ببسالة وكسر شوكته. ولنترك المجال للشاعر يعبر عن ذلك بصدق:
" يا قلبي المبتل بأنداء الحزن الهيكل.
بالأمس قطفت رؤوس lyautey الأول
رأسا ...
رأسا ...
فغفوت قليلا"
---------------------------------------------------------------------- يتبع

المراجع والهوامش:
1 ـ ديوان ـ أول الغيث ـ شعري صدرت طبعته الأولى في يناير 1995 م.
من المطبعة المركزية بوجدة، منشورات مجلة المشكاة.
2 ـ شاعر مغربي من مواليد النصف الثاني من القرن العشرين بقرية الريصاني، جنوب المغرب. أستاذ بجامعة محمد الأول، كلية الأدب بمدينة وجدة. وللدكتور الرباوي دواوين تزيد على العشرة منها: الكهف والظل، الرمانة الحجرية ـ الولد المر ـ الأعشاب البرية ... وهو عضو اتحاد كتاب المغرب ...
3 ـ ديوان أول الغيث ص 9.
4 ـ ناقد وشاعر بحريني ـ مجلة الوحدة ـ السنة السابعة ـ العدد 82 ـ 83 ص 82.
5 ـ ديوان الرمانة الحجرية ص 23 ـ المطبعة المركزية وجدة ـ منشورات المشكاة سنة 1988.
6 ـ مجلة الشعر ـ العدد 29 ـ يناير 1983 ـ ص 184 ـ مقدمة الرمانة الحجرية ص 5.
7 ـ نفس المرجع السابق ص ـ 6.
8 ـ مجلة الوحدة ـ السنة السابعة العدد 82/83 ـ ص 82.
9 ـ ديوان أول الغيث ص 15.
10 ـ ليس البيت في النسق للميمني ولا بديوان ابن رشيق للياغي.
11 ـ ديوان أول الغيث ص 35.
12 ـ نفس المرجع ص 40.
13 ـ نفس المرجع ص 41.
14 ـ سفر أيوب ـ ص 248 من الديوان.
15 ـ ديوان أول الغيث ص ـ 36.
16 ـ نفس المرجع ص ـ 39.
17 ـ نفس المرجع ص ـ 41.
18 ـ المدينة في الشعر المعاصر ـ سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 196 السنة 1995 م ص ـ 347.
19 ـ الرمانة الحجرية ص ـ 55.
20 ـ أول الغيث ص ـ 22.
21 ـ المدينة في الشعر المعاصرـ سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 196 السنة 1995 ـ ص ـ 352.
22 ـ نفس المرجع ص ـ 14.
23 ـ أول الغيث ص ( 26 ـ 34).
24 ـ نفس المرجع أعلاه ص ـ 30.
25 ـ ولد بالقاهرة سنة 766 هـ وتوفي بها سنة 845 هـ كتبا كثيرة تبلغ نحو ثلاثين كتابا تدل على ثقافة واسعة ودقة في البحث وصبر عليه.