المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في ذات مساء



نهاد عبد الستار رشيد
04/10/2006, 03:55 AM
القصةالقصيرة


في ذات مساء




لم تكن السادسة قد حانت بعد ، كما تظهرها خيوط الأصيل الدابر ، عندما نزلت من( الترام ) باتجاه مقصف بافونا. وما ان اقتربت من بوابته حتى انبعثت في ذاكرتي الآصال والأماسي الطوال المفعمة بالعاطفة الملتهبة التي امضيتها مع ( باولا ) . هنا بدأ حبنا ، وشرعنا في بناء صرح سعادتنا سوية منذ ما يربو على العام ...
ها انا ذا اعود ، بعد انقطاع طويل ، مرت علاقتنا خلالهابمرحلة فتور . اعود وقد ثارت كوامن شوقي اليها ، وهاج بقلبي الحنين ، وفي اعماقي رغبة لا تفاوم لأطوق جيدها الناصع البياض بالعقد الماسي ، واثقل خنصرها بخاتم الزواج الذهبي . ساثبت لها ان علاقتي ب ( ريتا ) النادلة في المقصف هي علاقة عابرة .
حالما دخلت المقصف شرعت صور السهرات التي تحمل اسرار حبنا تتوالى على ذاكرتي . ولم يعد بوسعي السيطرة على جيشان رغبتي في الألتفاء بها وضمها الى صدري . لم يدر في خلدي انني احبها الى هذا الحد .
كان المقصف غاصّا بالزبائن ، فشرعت أقلّب عيني في الوجوه ، واتلفت في شيء من اليقظة بحثا عتها .وهتف بي هاتف في قرارة نفسي قائلآ: " انها تجلس هناك ، لوحدها ، تصارع الأنتظار القاتل ، وتذرف دموعا سخية على حطام حبنا المنهار ، وتنحي باللائمة على نفسها لأتها كانت تتطلّع الى محبّ جديد بعد اتهامي بخيانتها .
فيما كنت مستغرقا في التفكير في انتحال عذر من الأعذار المقبولة يبرر سبب ابتعادي المفاجيء عنها ، قطعت خيط تفكيري ضحكة انثوية لعلعت من احد الأركان ، فلبثت لحظة اتطلّع الى ذلك الوجه الناعم الذي انطلقت منه تلك الضحكة البريئة ، كبراءة عينيها الغارقتين في الزرقة .
واصلت البحث في وجوه الجالسين عن حبيبتي ( باولا ) ، وفيما كنت متّجها الى الركن المنفرد الذي طالما كنّا نجلس فيه ، دون امل في وجودها .
تهالكت على كرسي هناك قامت امامه منظدة رخامية مستديرة ، وانتصب عليها اناء من الكرستال يضم باقة متنوّعة من الأزهار الفاغمة ، على مقربة من نافذة تظهر من خلالها محطة قطار روما الطرفية .
وعندما كنت اتطلّع بلهفة شديدة ، وارقب وصول ( باولا ) ، بعد ان وطنت العزم على الأصطبار ، فاذا بالنادلة ( ريتا) تتجه نحوي ، حاملة كاسا من الجعة ، وانضمّت الى مائدتي فشعرت بشيء من الأمتعاض خشية ان تراني ( باولا ) ، فقالت ، كابحة في عسر ضحكة لا ارادية توشك ان تنطلق :
- اطمئن ... لا تاتي ( باولا ) اليوم .
فقلت مستدركا :
_ لا اخشى من شيء . اهلا بك ، فانا اجد فيك ما يريح افكاري المضطربة . وندت عنها ضحكة مترعة بالعافية ، ثم نترت خصلة شعر ذهبية لتزيحها عن عينيها الواسعتين اللتين قد ترك فيهما حجر الزمرد الشفاف الشديد الخضرة صبغته الأبدية. وعندما سألتها عن ( باولا ) ، اجابت بنبرة مهموسة وكأنها تهمس لي بسر :
- انها تمضي شهر العسل مع حبيبها الجديد .
كانت الصدمة اعنف من ان تطاق ، وفيما اجتاحتني موجة عارمة من الحزن والكآبة ، فقد اطبق اليأس على حنجرتي ... حدجتني ( ريتا ) بعينين رأتا الدنيا عشرين عاما ، وقالت بلهجة اعتذار :
- عفوا ، لم اكن سببا في انفصالكما لكن الغيرة اخذت تعضّها بانيابها في عنف شديد .
التزمت صمتا مكتئبا من شدة الغيظ وخيبة الأمل ، واغرورقت عيناي بالدموع ، مثل كأسين اترعتا حتى الشفة ... اشحت بوجهي بعيدا عنها ، لكنها جلست بجانبي وقالت فيما يشبه المواساة :
- الفراق امر حتمي ، ولابد ان تروّض نفسك عليه .
فاجبتها بصبر نافد :
_ وكيف يتعين عليّ بعد كل ما حصل ان اشعر بما في الحياة من لذة ؟ وهل بمقدوري ان اتامّل شيئا من السعادة بعد الآن ؟
توقفت عن الكلام بعد ان خنقتني العبرات التي بدأت اكفكفها خجلا ، فاراحت رأسي المضطرب على صدرها الممتليء ، وراحت اطراف اصابعها الناعمة تداعب صدغي ، فاستسلمت لدافع غريزي ، وشعرت برجفة تسري في جسدي وانا اتلمّس جسدها الطري .
تألقت شفتاها بابتسامة عريضة ، وابتهج وجهها ، بعد ان تلاشت امارات الأنكسار التي كانت بادية في حركاتها وصوتها ، ثمّ اردفت تقول بصراحة :
_ لقد انتهى ما كان بينكما ، لكنّ الحياة لما تزل باقية . وليس من المنطق ان تسبح في بحر قاتم من الهموم بينما هي الآن تتمتّع باجمل لحظات حياتها .
ما كادت صورة زفاف ( باولا ) ترتسم في ذهني حتى بدأ شيء من الحقد الصامت عليها يتغلغل في اعماق نفسي ، وسرعان ما انبثقت في داخلي الرغبة الملحة في الأنتقام .
وبينما كنت احاول ان اخمد نوبة الأنفعال في عجلة بالغة ، نازعتني نفسي لأستعادة حب ( ريتا ) وثقتها بي . انها لما تزل في عنفوان العمر وغضاضة الصبا ... شعرت بان حزني قد بدأ يفقد حدته رويدارويدا ، ورحت اتطلّع بشغف الى وجه ( ريتا ) الذي ضحكت اساريره ، وابتسمت ابتسامة عريضة تطفح بالبشر عندما احطت رقبتها بذراعي ، وكانت قد عقصت الى شعرها ، الذي كان في نعومة الحرير ، وشاخا شفافا ذا لون ازرق ضارب الى الحمرة .
استعرت نار حبنا في احشائنا من جديد ، وظلّ كل منا مدى لحظات ينظر في حدقة الآخر ، وكنت اتحسس جسدها الطري يهتز طربا وجذلآ على انغام قيثارة ترامى الينا صوتها من الركن البعيد للمقصف ، فوجدت فيها المرأة المشتهاة التي تستحقّ العقد والخاتم وان امحضها الود ما امتد الأجل بي وبها .

نهاد عبد الستار رشيد
روما / ايطاليا

عبدالله بن بريك
21/05/2013, 02:13 AM
قصة جميلة ،مليئة بالتقلبات العاطفية.
تحيتي ،أستاذ "نهاد عبدالستار رشيد"