المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاصة فاطمة محمد عمر العتباني



مسلك ميمون
03/02/2009, 07:15 PM
قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاصة السودانية فاطمة محمد عمر العتباني



http://www.wata.cc/forums/customavatars/avatar14375_2.gif
القاصة فاطمة محمد عمر العتباني


الأستاذة فاطمة محمد عمر العتباني من القصاصات اللواتي يرغبن في صرف اهتمامهن إلى كل ما هو اجتماعي . و بخاصة ما له علاقة بالمرأة . و قصصها القصيرة جداً تدور في هذا الفلك . و لكن قد تنفتح على ما هو قومي كقضية فلسطين و ما تعرفه من صراع مرير ، و لكن مع وجود المرأة دائماً كأساس للسّرد و الحكي ... و هو إخلاص دأبت عليه القاصة في جل كتاباتها .
فاطمة محمد عمر عتبانى ،من مواليد الخرطوم بحرى ،حصلت على دبلوم الإعلام من معهد الدراسات الإضافية /جامعة الخرطوم،ثم بكالريوس الإتصال من جامعة جوبا،عملت موظفة بالإذاعة السودانية سنوات ذوات عدد،وفيها تطوعت معلمة بتعليم الكبار .(حب وأقدار) كان أول عمل درامى أنجزته،اشياء فى حياتنا ،وسلسلة نساء رائدات،ومؤخرا الزمن الجديد. حصلت على جائزة القصة فى مهرجان الإبداع النسوى .

فماذا عن النسق الفني الإبداعي في بعض نصوصها التي أخذت عفوا بدون اختيار أو انتقاء مسبق ؟
قبل ذلك أشير أن عملية القراءة عندي تقوم على ثلاثة أعمدة : اللغة ، الفكرة ، الأسلوب . و هي أعمدة في النقد لا يمكن تجاوزها أو تجاوز بعضها . لأنها متكاملة ، و أساسية . فلا قصة بدون لغة و تركيبsyntaxe قصصي .و لا قصة بدون بنية دالة structure significative، و لا قصة بدون أسلوب style و لا أرى ما يراه بعض سدنة الحداثة عندنا و التابعين لما بعد الحداثة و هم في الحقيقة لا يفقهون هذا من ذاك و إنما ينعقون و راء كل ناعق .. فيرون اللغة أمرا متجاوزا و ليكتب الكاتب كما يشاء . فيسمحون بكسر اللغة و التركيب rupture de syntaxe، و تفجير اللغة ، و تشظي اللغة … و يبحثون عن المعنى فيجدونه اسقاطا من عندهم و يحملون النص ما لا يطيقه . و ينطقون الكاتب بما لم يفكر فيه قط . و يجدون الأسلوب في فوضى اللا تجنيس .
أعتقد أن النقد ـ مع هؤلاء ـ أخذ منعطف العبث و اللا معقول . و أم الكبائر في الأدب أن يستهين الناقد باللغة أو يسمح بإهانتها و تجاوزها ... فما بالك بالكسر و التفجير و التشظي ... الذي ليس من ورائه إلا تحطيم اللغة ، بضرب قواعدها و ضوابطها و مقاييسها ......


بعد هذا ماذا عن نصوص الأستاذة القاصة فاطمة محمد عمر العتباني ؟

(1) دموع

بكت ثم ضحكت. تذكرت ذلك الأمل الجميل الذي نبع مع حبها له، فضحكت . رنت في أذنها عبارة أمها التي صرخت في وجهها:لوتزوجتي إبن سكينة لتبرأت منك دنيا وآخرة. فبكت حتى بلل الدمع ضفيرتها البيضاء
كان الضحك بسبب الأمل الجميل الذي انبثق مع حبها . و كان البكاء بسبب رفض الأم لهذا الحب . أقصوصة بسيطة في لغتها و تعابيرها . و لكنّها تخدش مشاعر دفينة مسكوت عنها . مشاعر تشكّل الرّغبة و ما يعارضها بين الأباء و الأبناء ، بين جيلين مختلفين ، كلّ و له رؤيته للحياة ، و للحاضر و المستقبل ، و للإمكانات و الظروف ... الشّيء الذي يثير الصّراع و يؤججه ، و يثني حبل التواصل و التقارب و يقطعه ...
أسلوبيا : ( الدموع ) أقصوصة تنسج على منوال التضاد ( الطباق) contre point ( البكاء و الضحك ) و مسألة التناقض هذه تترك دائما وعياً متأججاً دفيناً، يحرّك الضمير، و يوقظ المشاعر ، و يبعث على التأمل و التدبر ...
استوقفتني تعابير النص . ( بكت ثم ضحكت ) نتيجة في حاجة إلى شرح و تفسير فكان ينبغي من حيث علامات الترقيم وضع[:] بدل[.] ثم هناك عملية الفصل بين ( فضحكت ) و ( رنت ) و الفصل و الوصل له قواعد بلاغية ينبغي احترامها . ثم هناك الهفوة التي ينبغي تصحيحها : ( لوتزوجتي إبن سكينة لتبرأت منك ) و في نهاية الأقصوصة هناك هذه العبارة : ( فبكت حتى بلل الدمع ضفيرتها البيضاء) بدون نقطة نهاية . و كلمة (بيضاء) أحدثت اضطراباً يفيد تأويلين مختلفين : الأول خاضع للقاعدة النحوية البلاغية، و الثاني فيه نظـــر :
1 ـ قد تكون الضفيرة البضاء ، ضفيرة الأم بحكم السن . فتكون بذلك الأم هي التي تبكي بعد بكاء البنت .لأنّ الضمير في العربية يعود على ما سبقه مباشرة .
2 ـ و قد تكون الضفيرة البضاء ضفيرة البنت و في ذلك تلميح للشّيب الذي وخط ضفيرة البنت و الأم لازالت تعارض زواجها . و لكن المشكل مشكل تعبير و أسلوب . فإذا كانت القاصّة تعني البنت فيستحسن أن تكون العباررة كالتالي : ( فبكت البنت حتى بلل الدمع ضفيرتها البيضاء .)



(2 ) بصيص

أحاط الظلام بكل شيء . رأت بصيصاً من نور . سارت حتى انقطعت أنفاسها . لم تتبين حينها أنها تسير إلى حيث تغيب الشمس
( بصيص ) حين قرأت هذه الأقصوصة . شعرت بموجة من التأويلات تكتنفني . و تغذي خيالي بومضات ، و إشراقات تقول أشياء كثيرة . فأحسست بلغة الرمز تقرع إحساسي بقوة . ودلالات التضاد ( الطباق ) : ( الظلام / النور ) تخلف آثارها و ملامحها ...
(بصيص) أقصوصة من النوع النظيف : لا حشو ، و لا إطناب ، و لا مباشرة ، و لا تدخل للسارد ، و لا موعظة ، و لا معاضلة في التعبير .... و إنما إلهام و إيحاء ، و رمز و تلميح ، ( أحاط الظلام ، بصيصاً من نور ، انقطعت أنفاسها ، حيث تغيب الشمس . ) و حركة دؤبة تجسدها الأفعال ( أحاط ، رأت ، سارت ، انقطعت ، تسير .. ) نحن إذا أمام أقصوصة تستحق وقفة تشجيع ...و مع ذلك أتساءل لماذا القاصة تهمل نقطة النهاية ؟!


(3) النصر العائد

المدينة يحفها الظلام ودوي قصف ناري يملأ الأُفق يشق الظلمة ويحيلها إلى نيران تهبط من السماء
تُشرق الشمس على شيوخ من النساء والرجال يبحثون بين الأنقاض عن الجرحى والموتى والدمع يفيض من عيونهم . فِرَق الإسعاف تتحرك في سرعة قلقة مضطربة . صافرات سيارات الإسعاف تدوي متتابعة . الجميع قد صُعق من هول الفاجعة . ورغم الهرج كان يصل للآدان صوت مناحة تُنشَد
فحكيمة المدينة تنادي بين الناس :إنّ النصر قادم مع شباب المدينة المُرتَقَب .
وفي مكان آخر تتحرك أجساد شابة في الظلام عائدة إلى مواقعها ، بعد أن أنهت مهمتها في الرد على قصف العدو. يملأ قلوبهم نور الإيمان وتمتلئ أرواحهم بيقين النصر . يصل إلى مسامعهم من بعيد صدى صوت حكيمة المدينة تنادي بين الناس أنّ النصر قادم مع الشباب المرتقب
النهاية
( النصر العائد ) جاء هذا النص على خلاف الأقصوصة السابقة ، بل دونها كثيراً ، من حيث الأسلوب و طريقة العرض . إن القارئ يشعر أنه لا يقرأ و إنما يُقرأ له . بمعنى أن النص غرق في المباشرة و التفاصيل ، لدرجة أصبح مجرد عرض إخباري إذاعي استعراضي . و هذا ـ مع الأسف ـ يبعده من أن يكون قصة قصيرة جداً ، معبرة و متكاملة و في نسق فني متماسك .
و أرى أن السبب ـ كما قلت ذلك للأستاذ سعيد أبو نعسة ـ يعود بالدرجة الأولى لكون القاص ينفعل مع الأحداث الطارئة انفعالا عفوياً فيبادر إلى التعبير عن ذلك فيسقط في المباشرة ، لأنه لم يترك فكرته تختمر و تنضج ، فيأتي نتاجه خديجاً . لا يستجيب لمقومات الجنس الأدبي . بل أحياناً لا يخضع لتصنيف ما classification و من تمّ ينبغي للمبدع أن يتريث . إلى غاية أن يشعر بعملية الابداع تلح عليه . و فرق بين هذا و بين الرغبة في كتابة نص قصصي . لأن ، أشياء كثيرة نرغب فيها و نريدها ...و لكن هل نحققها كما نشاء أو كما يراد لها أن تكون ؟ و لكن إذا توافقت رغبتنا و إرادتنا و الظروف الملائمة فلا شك أن العمل سيأتي متكاملا ، و متجانساً ، و هادفاً ، و فنياً ...



(4) الأميرة النائمة

تناقلت الأخبار بالمدينة أن الملك حزين لأن الأميرة لا تستيقظ بسبب مرض أصابها
قرر الوزير أن يحتتشد الجميع للبحث عن دواء للأميرة النائمة
أُقفلت الأسواق والمحاكم والدواوين
مرت سنوات كان الجميع يبحث عن دواء للأميرة
يتحدثون همساً ويتحركون على أطراف أصابعهم
( الأميرة النائمة ) تدخل في إطار ما يعرف بالقصص الخارقة contes de fées أو لنقل إن القاصة حاولت الاستفادة من هذا النوع لتمرير خطاب ما . و هذا جائز في إطار القص . و بخاصة في عملية التجريب ، و محاولة اقتناء أسلوب مغاير مختلف ...
هذه الأقصوصة ليست بالحكاية البسيطة كما يبدو، لأنها جاءت بقفلة : ( يتحدثون همساً ويتحركون على أطراف أصابعهم ) قفلة على غاية من الذكاء . لو لاها لكانت حكاية عابرة ، من حكايا الأطفال ، التي تروى لهم قبل النوم . ترى من الذي جعل الناس يتهامسون و يمشون على أطراف أصابعهم ؟؟ و قبل هذا أغلقوا أسواقهم و محاكمهم و دواوينهم لأمر وزاري ، و انهمكوا في البحث عن دواء .... و كيف أن هذه العملية استغرقت سنوات ....؟ لا شك أن القارئ يسبح في خيال بلا ضفاف . و تأويلات لا تنتهي . و ذاك هو الفن . و تلك هي معالم القصة القصيرة جدا في بعض وجوهها .
و في غير هذا . ألاحظ أن القاصة في خصام و نفور من علامات الترقيم . فالنص جاء خال من أي علامة . مع أن عذوبة القراءة ، و خلاصة الفهم ، و رحابة التأويل ، و سداد المعنى ... لا يكون إلا بهذه العلامات الضرورية و الواجبة .



(5) عادت إلى الصمت

تنهدت. .همهمت. .همست . . كادت أن ترفع صوتها لتقول بعض الكلام. لكنها تنبهت أنه لا يوجد أحد . فقط كانت تحاول كسر الصمت من حولها. فعادت إلى الصمت
( عادت إلى الصمت ) أقصوصة معبرة . ما أحوجنا إلى الكلام ـ أحيانا ـ لبعضنا البعض . و ما أقسى الظروف حين يغيب هذا ( البعض ) فنتنهد و نهمهم و نهمس . و نجد ذلك غير كاف كحديث أحادي أو داخلي . و نرغب في أن نرفع صوتنا ليسمعنا الآخر ، ليقاسمنا إحساسنا الدفين . و أفكارنا المكلومة ، و أهاتنا السّاخنة ، و آمالنا الضّائعة ... و لكن كم يعتصرنا الألم حيث لا نجد أحداً نكلمه . فنعود إلى الصمت نجتر ـ في يأس ـ همومنا .
ألاحظ : إنه رغم قصر هذه الأقصوصة فقد وردت فيها عبارة تفسيرية هي من حق القارئ أن يستنتجها لا أن تحكى له و هي : (فقط كانت تحاول كسر الصمت من حولها )
فكلما حاول القاص تجنب الجمل التفسيرية التوضيحية كلما سما بفنه إلى ما يبتغيه القارئ . لأن القارئ يبتهج بأسلوب يحترم إدراكه و استيعابه و فطنته . و ينفر من أي أسلوب يشعره بضآلة الفهم ، و عدم الإدراك .



(6) فرحة عيد

نظرت حولها. لم تجد شيئاً من فرحة العيد . كل شيء كما هو ، الفراش المهترىء وملابسها البالية ، ليس سوى طبق الحلوى الذي أحضرته الجارة . هرولت طفلتها فرحة نحو طبق الحلوى واختطفت قطعة وصوتها يجلجل بالضحك وهي تسابق شقيقها . ملأ السرور قلبها وأحست بفرحة العيد
( فرحة العيد ) أقصوصة من النوع الأحدي البعد و الدلالة . ذات الشكل البسيط forme simple و هذا ما عرفته القصة الكلاسيكية سواء العربية أو قبلها القصة الغربية . إذ تكون الفكرة واضحة و بينة ،و كل العناصر اللغوية و التركيبة و الأسلوبية تخدم الفكرة من أجل تحديدها و بنائها و توضيحها . ( طبق الحلوى الذي جاءت به الجارة أشعرها بفرحة العيد ) رغم الفراش المهترئ ، و الملابس البالية ...
و الخطاب المراد : إن أبسط شيء يرضي الفقير و يدخل البهجة و السرور إلى قلبه . هذا جميل ... و لكن الأجمل فنياً أن يكون النص منفتحاً على تأويلات شتى ، و يساعد على قراءات متعددة و مختلفة . لأنّ الفنّ لا يقول و إنما يبعث إشارات . و يومض بتلميحات . و يبعث رسائل خفية ، تقرأ من بين السطور ... و من أجل هذا ينبغي التخفيف ما أمكن في القصة القصيرة جداً من اللغة الواقعية langage réel المعتادة المتداولة إلا ما يفرضه النص . و اعتماد ما أمكن الشكل البلاغي forme rhétorique لأنّ هذا الشّكل يسمح باستنطاق النّص ، و تأويل ألفاظه و عباراته و تراكيبه ... و بذلك تذوب القصديـة lintentionalité بل أكثر من هذا تذوب و تنمحي الرؤى المعيقة الفردية individualisme و ينفتح النص على آفاق أرحب و أوسع ...


(7)جــــــــــــندي

كان الإستشهادي يهيئ نفسه وقلبه ينبض بالفرح فهو يموت من أجل الوطن والدين والقضية ، دقائق معدودة يلقى صحبه ويرقى إلى الجنة .
في مكان آخر لم يتمكن الجندي من سماع توجيهات الجنرال لشدة الخوف الذي كان يعتريه
وقلبه يكاد يتوقف عندما مرت فكرة الموت بخاطره وهو يسأل نفسه
من أجل من سيموت
في هذا النص تعود القاصة إلى أسلوب التضاد الذي يبدو أنه يستهويها كثيراً : ( الشهادة / و الموت المجاني ) استشهادي يستعد للشهادة فارحاً مستبشراً بالجنة . و إسرائلي يخوض غمار الحرب و لا يدري من أجل من سيموت . و شتان بين الرجلين !!
الفكرة واضحة و هي أيضاً صيغت بلغة واقعية إخبارية تفسيرية لا تحتمل تأويلا و لا تخيلا ... لأنها كسابقتها قصة ذات بعد واحد .
فرغم وضوحها و عدم كثافتها جاءت حبلى بالجمل التفسيرية التي ـ و كما أسلفنا ـ لا تخدم القصّة القصيرة جداً و من ذلك :
ـ ( فهو يموت من أجل الوطن والدين والقضية ، دقائق معدودة يلقى صحبه ويرقى إلى الجنة . )
ـ ( لشدة الخوف الذي كان يعتريه )
ـ (وقلبه يكاد يتوقف عندما مرت فكرة الموت بخاطره )
كل هذا كلام زائد لا جدوى منه فنياً . لأنه من قبيل : ( يأكل بيده ، و يمشي برجله ، و يستنشق بأنفه ، و يعض بأسنانه .....) ينبغي للكتابة الفنية أن تكون في درجة أعلى لغة و تركيبا وأسلوباً ... إن كنا نهدف إلى خلق فسحة للتأمل و التأويل ، و جلاء الطريق للقراءات المتعددة و المختلفة . فإذا حذفنا كلّ هذا سيصبح النّص ـ إن سمحت القاصة ـ كالتالي :
(( كان الإستشهادي يهيئ نفسه ، فارحاً مستبشراً ...
و كان في مكان آخر ، جندي مرتبك ، لم يستسغ أوامر الجنرال . كانت الحياة تغمره ، و السؤال يعذبه : ما جدوى الموت ؟ ))
لقد حافظت على الفكرة . و لكن الصياغة تغيرت ، و بتغيرها تناسلت الأسئلة و تكاثرت :
ـ لماذا كان الاستشهادي فارحا مستبشرا ؟
ـ لماذا الجندي ـ العدو ـ مرتبك ؟
ـ لماذا لم يستسغ أوامر الجنرال ؟
ـ لماذا كانت الحياة تغمر ؟
ـ لماذا كان السؤال يعذبه ؟
ـ .......................
فهذه الأسئلة موكولة للقارئ أن يجيب عنها ، لكي يكون مشاركاً في كتابة و إعداد النص . لا أن يبقى مستهلكاً خاملا عاطلا و عالة على القاص و على الأدب بأكمله .


(8)وصول

سارت طويلاً يثقلها حملها ، لاينتهي الطريق .أخذت تلهث من ثقلها، وقفت تستجمع أنفاسها لتواصل السير ، حاولت أن تضع عنها ماتحمل لترتاح . تنبهت أنها لم تكن تحمل شيئاً ، لكنها ثقلت قدماها في السير من وطء السنوات. فسارت وهي تعلم أنها قد قربت من الوصول .
(الوصول) نص تجنب اللّغة الواقعية و اعتمد لغة رمزية تلميحية : ( حملها ، الطريق ، ثقلها ، السير ، ما تحمل ، الوصول ) و لكنها تبقى رغم ذلك لغة واضحة و بينة . ساعد في ذلك تحديد الهدف و الغاية ألا و هو( الوصول) أي نهاية العمر .
و تواصل القاصة لعبة التضاد في هذا النص أيضاً : ( لا ينتهي الطريق ) مقابل ( قد قربت من الوصول ) و لكن يبدو أن العبارة ( لاينتهي الطريق ) لا تخدم النص في شيء بل هي عكس ما تهدف إليه الأقصوصة لأن حسب التلميح( لا ينتهي الطريق ) بمعنى لا تنتهي الحياة . بيد أن عبارة النهاية (قد قربت من الوصول ) بمعنى قربت من نهاية العمر .. ثم هناك بعض الزوائد التفسيرية مثل : ( بثقلها ، من ثقلها ، لتواصل السير ) كما أن الصياغة في حاجة إلى تعديل :
ـ أخذت تلهت .
ـ بديلها : ( اشتدّ لهاتها )
ـ حاولت أن تضع عنها ماتحمل لترتاح .
ـ بديلها : ( محاولة وضع حملها لترتاح )
ـ لكنها ثقلت قدماها في السير من وطء السنوات .
ـ بديلها : ( لكنها أحست بثقل قدميها من جراء وعثاء السفر .) و السفر هنا رحلة
العمر مجازا .ـ فسارت وهي تعلم أنها قد قربت من الوصول .
ـ بديلها : ( فسارت متثاقلة ، و قد علمت أنها اقتربت من الوصول . )
فيصبح النص مثلا ـ إن سمحت القاصة ـ كالتالي :
(سارت طويلاً بحملها .اشتدّ لهاتها . وقفت تستجمع أنفاسها ، محاولة وضع حملها لترتاح . فتنبهت فجأة أنها لم تكن تحمل شيئاً . لكنها أحست بثقل قدميها من جراء وعثاء السفر . فسارت متثاقلة ، و قد علمت أنها اقتربت من الوصول .)


(9)أمــــان

تحمل طفلتها الغائبة عن الوعي وهاجس مجنون بالخوف من فقد وحيدتها . بحثت عن مكان تهرب إليه من هاجسها . لم تجد إلا طيفه .أحتضنت طفلتها . أحست بالأمان. فهمست .كم أحبك
( أمان ) تحمل عطف الأمومة ، و صدق العطاء ، و الحب الذي لا يعرف ضفافاً و لا انتهاء ...تحمل فكرة من أروع الفكر !!
و لكن النسق و الأسلوب و الصياغة كل ذلك في حاجة إلى إعادة نظـر . مثلا :
ـ ( وهاجس مجنون بالخوف من فقد وحيدتها ) رغم الركاكة السؤال : ماذا بعد ذلك ؟
ـ ( بحثت عن مكان تهرب إليه من هاجسها ) الهواجس تسكننا فكيف الهروب منها إلى مكان ما ؟
ـ ( لم تجد إلا طيفه ) الهواجس لا طيف لها . و الطيف تنعت به الأشياء الجميلة . و الهواجس ـ وإن كانت نفسية ـ فما أبشعها !!
فهلا سمحت القاصة بإعادة الصياغة ؟


(10) حظر

تأكدوا من خلو القرية تماماً بعد أن قتلوا كل الشباب والشيوخ الموجودين بها
حظروا الخروج ليلاً
في اقتحامهم القرية في اليوم التالي وجدوها تضج بالشباب،لم يكن هناك أطفال
وكانت كل النساء حبليات
فأعلنو الحظر حتى بالنهار
( حظر ) هذا النص يطرح اشكالا في بنيته الدلالية : كيف يقتل كل شباب و شيوخ القرية و يقام الحظرعلى الخروج ليلا . و في اليوم التالي تضج القرية بالشباب و تصبح كل النساء حبليات ؟ ! أليس في النص غرابة ؟ ثم ما جدوى ( الحظر حتى ليلا ) إذا كان القوم يتكاثرون بهذا الشكل الغرائبي العجائبي ؟ ! أعتقد أن القاصة أرادت أن تذهب إلى أن الأعداء مهما قتلوا فإن الشعب لا يتوقف عن العطاء . و من كانوا أطفالا سيصيرون شباباً و قد يتعبُ الأعداء من القتل ، و لكن لن تتوقف الأمهات عن الانجاب ... غير أنه يبدو أن التعبير خان القاصة فلم يستقم ما كانت تهدف إليه .
فالنص الناجح ما حافظ على لغة القص متماسكة ، و ألفة intimacy الفكرة و واقعيتها . و قوة التأثيرية impressionisme و فاعليتها .


أخيراً أجمل ملاحظاتي من خلال هذه العشرية القصصية في التالي :
ـ حذار من المعاضلة في التعبير .
ـ عدم إهمال علامات الترقيم .
ـ تجنب الجمل التوضيحية و التفسيرية ما أمكن .
ـ التقليل من اللغة الواقعية إلا ما دعا إليه النص و الضرورة .
ـ اعتماد الشّكل البلاغي لتحقيق التأمل و التأويل ....
ـ الحفاظ على واقعية الفكرة و تماسكها .
عموماً القاصة فاطمة محمد عمر العتباني قاصة واعدة . حقاً قد تنقص نصوصها بعض ميكانزمات القصّ الفني . و لكن ذلك يمكن تداركه عن طريق المطالعة المكثفة للنصوص الإبداعية و الدراسات النقدية ... و ما ذلك بالأمر العزيز ، إذا توفرت الرغبة ، و شحذت العزيمة ، و سنحت الظروف ....


د مسلك ميمون

محمد أكراد الورايني
23/08/2009, 12:32 PM
أستاذي الكريم الدكتورمسلك ميمون,,

أشكركم جزيل الشكر على قراءتكم الحبلى بالفائدة, وتحليلكم الموضوعي الفياض بالتوجيه ,نحو السبيل

الأسلم للإبداع في مجال المشاكسة:القصة القصيرة جدا..وأهنيء الأخت القاصة فاطمة عمر عتباني على

قصصها التي استطاعت أن تحظى باهتمامكم. وتكون سببا في استفادتنا جميعا.

فاطمة عتباني
23/08/2009, 12:33 PM
سيدي الأستاذ الناقد مسلك ميمون


كم هي سعيدة محاولاتي القصصية بهذا التشريح

كانت الغبطة تملأني وأنا أتابع كلماتك حرفاً حرفاً
وأتعلم مع كل حرف مهارة جديدة . وأرى أعمالي على مرآة نقدك الناصعة
التي أرجو أن تكون بوصلتي في أعمالي القادمة
لك التحية ، كل الود ، وعظيم التقدير
وأجمل العبير

سعيد أبو نعسة
23/08/2009, 12:35 PM
أخي الكريم مسلك ميمون
أكرر شكري لكم هنا أيضا و أنتم تبذلون جهودا صادقة في توجيه الكتاب ووضع أيديهم على مكامن الروعة و الخلل في قصصهم و أعلم كم يحتاج ذلك من جهد .
سر رعاك الله ولا تلتفت إلى المنغصات وأنت تعرف قصدي .

مسلك ميمون
23/08/2009, 12:36 PM
سيدي الأستاذ الناقد مسلك ميمون


كم هي سعيدة محاولاتي القصصية بهذا التشريح

كانت الغبطة تملأني وأنا أتابع كلماتك حرفاً حرفاً
وأتعلم مع كل حرف مهارة جديدة . وأرى أعمالي على مرآة نقدك الناصعة
التي أرجو أن تكون بوصلتي في أعمالي القادمة
لك التحية ، كل الود ، وعظيم التقدير
وأجمل العبير

بسم الله الرحمن الرحيم
سيدتي الفاضلة الأستاذة فاطمة محمد عمر العتباني
السلام عليك و رحمة الله

سعيد بتقبلك لهذه القراءة . راجياً من الله أن تستفيدي منها .و إنه ليفرحني أكثر و أكثر حين أصادف مبدعة مثلك متفهمة ترى نفسها على الطريق ، و تعلم أنّ طريق الإبداع طويل و شاق ..فتبتهج للنقد و تحتفي به ...
فتلك سيدتي مؤشرات النجاح و التفوق . و المبدع الحقّ من يرى نفسه دائماً متعلماً متلقناً مستفيداً . لا الذي يعتقد نفسه عانق عنان السماء إبداعاً . ويرى نتاجه فوق النقد ... فمن أخطائنا نتعلم ، و من غيرنا نستفيد ، و بعضنا يكمل الآخر ....و تلك سيرورة عملية الإبداع في كل زمان و مكان ...

لا أكتمك سيدتي أنني بدوري قد وجدت متعة في قراءة نتاجك . و أعربت بكل إخلاص عن آرائي . و أملي أن تواصلي الكتابة . فالاستمرارية و حسن الاطلاع تفتح الآفاق ، و تمهد الطريق ، و تنعش الإبداع ...
مع خالص تحياتي ...

د مسلك ميمون

مسلك ميمون
23/08/2009, 12:36 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ سعيد أسعدك الله بكل خير .

فرحت لمرورك ، و فرحت لكلماتك الطيبة . و لاشكر على واجب .
.
إنني أنتظر إبداعاتك ـ دائماً ـ بشغف و اهتمام . و اعلم أن كتابتك الرمزية ، تميز انتاجك القصصي ، و تكسبه عمقاً في الدلالة ، و سعة في الخيال، و بعداً في الرؤية ... و هي خاصية إبداعية حباك الله بها فينبغي الحفاظ عليها و تطويرها ... لأنها ليست في ملك و لا في متناول الجميع ...

تقبل خالص تحياتي
د مسلك ميمون