المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كفن للأرواح الميتة ( قصص قصيرة جدا ) ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
30/12/2006, 10:51 AM
كفن للأرواح الميتة
قصص قصيرة جدا.

ابراهيم درغوثي / تونس

1- الكف والطبلة

ضربت بكفك الطبلة حتى احمرت الكف . وضربت بعنف وشراسة حتى أصاب الخدر الخدر . خدر لذيذ سرى في كامل بدنك كلسعة كهرباء خفيفة . بعدها ، والعرق يبلل جبينك ويسيل على عنقك عدت تدريجيا إلى رقتك وأنت تعالج جلد الطبلة بحذق الفنان ، فيخرج اللحن الطروب من بين أصابعك كالحلم الدافئ في ليلة شتاء .
وتتصايح النسوة فرحات ، ويهللن ، ويدخلن حلبة الرقص مثنى وثلاث ورباع ، يحركن أردافهن في كل الاتجاهات ، ويلعبن بالصدور بمهارة ، ويستعرضن زينتهن : كناء منقوشة ملء الكفوف ، وأحمر على الشفاه ، والعيون غطاها الكحل ، والأفواه مدبوغة بالسواك . وهن يتدافعن ويتضاحكن ويتلامسن ويتهامزن ويتغامزن ويتساقطن مرة على الطبل ومرات في حجرك . يبطئن لحظات ، ثم يهربن خفيفات كرف الحمام .
وأنت ترى بعقلك كل شيء . تسجل في دماغك الأصوات والحركات ، وتحلم بامتلاكهن . تقول لنفسك :
- هذه سمينة رجراجة تحذق الرقص ، وتحذق أشياء أخرى لا محالة .
- وهذه الطفلة مازالت في بداية الرحلة إلا أنها نجيبة . أسمع دق قدميها على الأرض منغما ، وتحريك يديها متزنا ، وعطرها لذيذ .
- وهذه رقيقة كظل شجرة ياسمين ...
وتفوح روائح الند والبخور وعود القماري والجاوي والكمون ، وتعلو الزغاريد .... فيلكزك صديقك صاحب المزمار ، فتفهم أن اللحن قد اختل ، وأنك قد سرحت بعيدا بخيالك المجنون ، فتعود للطبلة تضربها بالكف... تضربها حتى يصيب يديك الخدر .
ويعم الهياج من جديد حلبة الرقص ، فتستغل فرصة عدم انتباه النسوة ، وترفع يدك إلى وجهك تغطي بالنظارة السوداء روحك الميتة .

2 - تحت الشمس

البنت الصغيرة التي خرجت لتوها من البحر نثرت عليه قطرات ماء حين نفضت شعرها الطويل ، فمد يديه يبحث عنها لكنها ضاعت في كل الاتجاهات ، واختبأت وراء ضحكتها المشاغبة .

*****

الرجل الذي جاء الى الشاطئ مسحوبا من أنفه كما تسحب الثيران ، اقتلع شمسيته ، وطلب من زوجته أن تلحق به تحت جدار الكورنيش .
قال لها : ذاك الرجل الجالس وراءنا ، رأيته يلحس صدرك بنهم ، ولم يخجل حين وقعت عيني في عينيه مباشرة .

*****

لم ير العلم الأسود الذي كان يرفرف عاليا على السارية الطويلة ، فهمس لنفسه : ما أجمل هدوء البحر هذا اليوم .

*****
الشبان الذين كانوا يلعبون الكرة على الرمل ، أصابتهم الحيرة حين جلس وسط ملعبهم . ولم يقل شيئا عندما تناوشته الأرجل من كل مكان ، فغادروا إلى جهة أخرى ضاجين بالضحك .


*****
صفير الشرطي المكلف بحراسة الشاطئ جعله يفقد أعصابه ، ويصيح في وجه السماء : لماذا لا يكف هؤلاء الأطفال عن الصفير ؟ هل تحول الشاطئ الى ملعب كرة قدم ؟

*****
وطرب لخشخشة الرمل تحت زفير الأمواج المرتدة إلى الأعماق ، فأغفى تحت الشمسية المزركشة بأريج الربيع ، ونام ...
عندما أفاق ، قام خفيفا . خفت أن يدوس ظل شمسية في اندفاعه المجنون نحو الأمواج ، فأعطيته يدي ، ومشيت أمامه وسط غابة الأرجل الكثيفة وصياح لاعبي الكرة وصفير أعوان الحماية المدنية وهمس العشاق والضحكات المرشوشة بماء البحر ...






3- العصا البيضاء

تمر بك السيارات مسرعة وكأنها تهرب من عصاك التي كنت تلوحين بها .
كنت تستمعين لطشيش الماء تحت العجلات فتقولين لنفسك : ما أوسع رحمتك يا الله .
وتعود السيارات إلى عدوها المجنون لا تحفل بطول وقفتك على الطوار .
ويمر الزمن . يلاطفك تارة ، فيمسح عن وجهك الأسى ، وطورا يهطل على رأسك مدرارا .
هاهي سيارة تقف بالقرب منك . يأتيك صوت لطيف : ها ، أنت يا امرأة، إلى أين تريدين الذهاب ، فالليل على الأبواب ؟
تقولين للصوت انك ذاهبة لمبيت الطالبات ، وانك هنا واقفة وقد تعاقبت عليك فصول السنة. وان أمطار الخريف بللت ثيابك ، وأن هجير الصيف مر من أمام وجهك وان السيارات التي مرت من هنا كانت كلها عمياء .
وتضعين في يده العنوان .
فيرد عليك : محضوضة أنت ، فطريقنا من هناك .
وتنزوين في المقعد الخلفي ، والسيارة تهدر ، وصوت مطربة الشباب يصدح بأغاني عبد الحليم حافظ ، وأنت تحبين كثيرا هذه الأغاني ( جانا الهوى جانا ، ورمانا الهوى رمانا ) . وتقولين لنفسك : لماذا يصمت هذا السائق ، وأمثاله في العادة كثيرو الكلام ؟ ويتغير صوت الطريق تحت العجلات . يصير الضجيج أكبر ، والسيارة تخرج من حفرة لتدخل في أخرى .
وتقولين حين تمتد يد تريد قطف التفاح النافر فوق صدرك :
- اللي شبكها اخلصها .
وتزجرين اليد السارقة :
- يا آدم ، هذا التفاح أخرجك من الجنة ، فلا يغوينك الشيطان .
ويسكت المحرك ، فيضج قلبك في الصدر . وتبحثين عن النجدة . لكن صوتك تكتمه يد غليظة . وتحسين كأن بشيء يلامس جنبك . شيء كنصل السكين . وتحاولين العودة إلى الصراخ فيضيع صوتك في الحلق الذي أصبح يابسا كسبخة ملح .
ولم يكتف الغزاة بالتفاح . استباحوا القلعة بعدما دكوا أسوارها المنيعة ... وكانت يداك تتحسسان الوجوه .تبحثان عن قرون الشيطان . وكنت تتقين عزلاء الرماح الهائجة .
حين همدوا سمعتهم يتهامسون :
لا تخافوا ، فلن تعرف هذه المرأة الطريق إلى مفاتيح وجوهنا .
وتفر الطريق تحت عجلات السيارة الهادرة ، فتعودين من جديد الى الوقوف على الطوار تلوحين بعصاك البيضاء في وجه الظلام ...

dargouthibahi@yahoo.fr

محمد ربيع
02/01/2007, 03:08 AM
نعم ..تلك أرواح ميتة فمن يعجل بدفنها ..
أستاذي القدير ابراهيم حفظه الله
السلام عليكم وبعد :
فتقبل خالص تقديري واحترامي ..

ابراهيم درغوثي
02/01/2007, 03:28 PM
شكرا عزيزي محمد ربيع على مرورك الكريم على هذه النصوص

وكل عيد وأنت العيد

مع المودة والتقدير