المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما طعم الحياة بعد غزة?



wyassin
04/02/2009, 01:21 AM
عيناه لا تفارقان شاشة التلفاز، دموعهما جفت أمام صور الأطفال المذبوحين التي طغت على المشهد... أصابعه لا تفارق حبات السبحة وشفتاه لا تتوقفان عن الدعاء، وبين دعاء وآخر يطلق زفرة، تتبعها آهة عميقة، ثم شتيمة للعالم الصامت أمام المجزرة، ويعود الى التسبيح وتحديق النظر في الصور المتتابعة، ناسياً كل من حوله، متجاهلاً تساؤلات ابنه المتكررة حول أمور اعتبرها اعتيادية أمام المشهد المأسوي.

على الشاشة ظهر سياسيون عرب يردون على انتقادات وجهت الى بلادهم حول موقفهم من العدوان وصمتهم، وسُمع آخرون يقولون انهم عملوا ويعملون كل ما في وسعهم لضمان الحياة لغزة، فاستفزت هذه العبارات والأقاويل كل ما فيه من مشاعر وصرخ: وهل بقي طعم للحياة في غزة؟

عاد ابنه إلى تكرار سؤاله وطلب مفاتيح السيارة، لكنه لم يعره أي انتباه، انضمت زوجته بطرح تساؤلات ملحّة حول امور المنزل والحاجات ومتى سيقبض راتبه، ومتى سيذهب إلى المدرسة لمقابلة معلم ابنته، وجاءت طفلته تسأله المساعدة في فرض منزلي، وتحولت الزاوية الخاصة أمام التلفاز، التي يكاد لا يفارقها منذ بدء العدوان على غزة، إلى ما يشبه تظاهرة صغيرة لأسرته التي تريد للحياة ان تستمر، لكنه واصل التحديق بشاشة التلفاز، منقطعاً عن كل ما حوله، كما لو ان جداراً سميكاً يفصل بينه وبين هذه الجمهرة الأسرية، وعيناه لا تشاهدان إلا صور الأطفال المعلقة على سلك شائك، وأذناه لا تسمعان الا صرخات تلك الطفلة التي ارتمت على صدر والدتها القتيلة بين كومة من الجثث، وأشلاء الجثث، المتناثرة في ساحة مدرسة الاونروا المقصوفة بقذيفة مدفعية.

انتهى الشريط الإخباري، وعاد مقدم النشرة إلى التذكير بتصريح الوزير العربي، اختلط صوت الوزير الذي يتحدث عن «الحياة لغزة» بصرخات أولاده من حوله، ومن جديد لم يتمالك أعصابه ووجد نفسه يكرر الصرخة: «وهل بقي للحياة طعم في غزة»، ثم أطلق صرخة مدوية وقام من مقعده متوجهاً إلى الثلاجة، شرب كوب ماء وقصد العودة إلى مقعده، لكن زوجته اعترضت طريقه: «الحياة لم تعد تطاق معك» صرخت به، «فأنت كالأطرش، نتحدث إليك ولا تجيب، أريد حاجات للمنزل، أريد شيئاً لأطبخ، الولد يطلب السيارة، البنت تطلب مصروفاً لشراء حاجات لها»، سيل من المطالب صبّتها في أذنيه وهو ينظر إليها كالمشدوه، ثم يشيح بنظره باتجاه شاشة التلفاز، ويعود إلى مقعده، فيسارع ابنه لإغلاق جهاز التلفاز احتجاجاً، وتتأفف الأسرة مجدداً من حوله، كل يطرح مطالبه، كل يتحدث عن حياته الخاصة، أما هو فقد اكتفى بالنظر في عيونهم، مر عليهم بنظراته كشريط سينمائي، ولم يقل الا عبارته الوحيدة: «وهل بقي طعم للحياة»؟ وخيّم الصمت على الجميع.

جاءت ابنته الكبرى تحمل طفلتها، فأدرك أفراد الأسرة وصول «المنقذ»، لأن حفيدته هي الوحيدة التي يمكنها ان تخرجه من حال الانطواء واليأس. تناولت زوجته الطفلة وألقتها في حضنه، وسمعها تقول لها، وكأنها تفهمها: «شوفي جدك ليش زعلان». امسك بالطفلة وضمها إلى صدره، طبع قبلة على خدها، نظر في عينيها، شعر بالدفء، لفّ ذراعيه حول جسدها الغض وشدها بقوة إلى صدره وعادت الحياة لتدب في جسده، كرر مشهد النظر في عيون أولاده المجتمعين من حوله، شعر وكأنه استرد حاسة السمع، أصغى اليهم ووافقهم انه لا بد للحياة من ان تستمر.

لكن... لم يمض الا بعض الوقت، حتى سمعوه يطلب مجدداً فتح التلفاز، وعلى رأس الساعة عاد وظهر الشريط الذي يستبق نشرة الأخبار، طائرات تقصف، حبال قنابل الفوسفور تضيء سماء غزة، نيران تشتعل في البيوت، جثث تتناثر في الشوارع، وعلى السلك الشائك علقت صور الأطفال المذبوحين. ومن جديد عاد إلى صمته، ولم يسمعوا منه الا عبارته المألوفة: «ما طعم الحياة بعد غزة»؟