المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أسفار الرجوع (روايـــــــة)



عبدالسلام المودني
05/02/2009, 01:58 AM
عبدالسلام المودني


أسفار الرجوع
(روايــــة)




الشريــط الأول
الوجـــه الأول:
أراك قد بلغت هاهنا، تاونات أرض الجبال والرجال. يحضنك حوض ورغة الأشم بتينه وزيتونه، بزيته وعنبه، بأعراصه وأغراسه، بطيبة طبيعته و أريحية أهله. ترتوي عيناك من عيون بوعادل راكناً إلى دجنات اليأس وعتمات جور الأيام، و غلالة الحزن تسيح في نفسك الكليمة، تحمل أوزار أمك المقعدة وأختك الشاردة الساهمة، وقد كالت لكم الأقدار صفعة قوية من حيث لم تنتظروا. تتناسل الأسئلة تباعا، وتتردد في دواخلك تنتظر إجابات.
من تكون صاحبة الصوت؟ وما أبغي وراءك؟ وما علاقتي بك؟ ولما طلبت أن تأتي هنا حيث سلمت هذه الشرائط؟ لما هنا في تاونات؟ أما كان ميسر لك تسلمها في أي مكان آخر، الرباط مثلا حيث كنت تقطن وعائلتك؟ فلا تتعجل فإني رادة على أسئلتك هاته من خلال شرائطي، وأسئلة أخرى أكبر وأعمق إذا لم يستبد بك الضيق مما فيها. فتريث، ولا تتعجل.
أعود بك إلى الوراء قليلا حيث ذاك المارد الجبار في وصفه، الضخم في أرقام معادلاته، العسير الاقتحام. حيث الأقنعة تتستر خلف وجوه تستعيرونها، تخفي ملامحكم المشبوهة. حيث كانت مشاعركم أرقاما.
حيث مجتمعكم.
حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والوجوه المصبوغة. حيث العطر والنساء والإنتشاء حد الثمالة والهمسات والهينمات. حيث كلف الرجال والنساء من الحضور عن ذلك لقاء الخوض في الأعمال المزجية والصفقات المربحة. صرفت عنهم تحمل بين ضلوعك قلبا بخفق الشباب، يتنسم من عبق لذاذات ليلة مستلهمة من أجنحة الصفا، النزاعة إلى عروش الأطايب.
كانت عادتك وكان معتقدك. فأنت تحصن ساعات اللهو والعبث من تسلل الجد والحسابات. كذاك كنت تلك الليلة، ككل ليلة استقبلت عائلتك ضيوفها أو دعيتم إلى سهرة انتظمت بعلة أو انتفت عنها. حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والأشداق المتسعة.
كلما ازدادت ثروتكم اتسعت دائرة معارفكم، وسمت قائمة مدعويكم في قصركم الباذخ بدار السلام، عاصمة الغنى والثراء ألويتها الشراهة والبذخ واللاسلام، في طريق ازعير. حيث حيرتكم بين بدوية ماضيكم وحضرية مصالحكم، وترددكم الدائم بين مزارعكم ومصانعكم. هنالك حيث انتشر المدعوون في جماعات تلتهم الحسابات والأعمال والكلام. كل الطرق تؤدي إلى إضافة في الأرصدة حول المسبح المزدان بأضواء مختلفة الألوان على صفحته. فبدا متأنق المظهر، بهي الثوب إذ لم يشكل استثناء. كحال خدامكم الذين اندست أجسادهم في أثواب بيضاء، وجعلوا يطوفون بينكم، يلبون دعوات الداعين ويأتمرون بأوامر الآمرين. وما أكثرهم! وفي أحد أطرافه ضمت خشبة مسرح صغير فرقة موسيقية توسطت أعضاءها فتاة استحارت أنوثتها ترنم بصوت طروب، أسر أذنك بعذوبته ورقته. فتطلعت إليه، ولعلك الوحيد الذي أحس بوجوده والآلات المصاحبة له، إذ صرف الكل عنهم وإن سمقت موسيقاهم تشنف الآذان.
عشقت الصوت إذ داعب روحك ولامس بسحره وصفائه أعماقك.
كانت أعينا ستة تلاحقك أو أكثر، وهمسات فتيات ثلاث على الأقل تدور في فلكك. رفعت إحداهن نخبها عاليا، وقد أشرق وجهها بابتسامة جذابة. جاملتها محييا، لتعود على عجل تستكشف صاحبة الصوت الرنوم.
قلما يخذل الصوت صاحبه، ويندر أن تجد صوتا جميلا يحمله وجه قبيح، ذميم الملامح. وما شذت صاحبته عن القاعدة. فالجمال هي، والنضارة والفتنة كانت. أو كنت تملك من أمر نفسك شيئا لتقرر أن تغرم أو أن تنفذ بجلدك بعيدا عن خيوط القدر التي أحاكها بإحكام حولك؟
أو كان نداء القلب فقط الذي دعاك إليها، أم أن داعيا آخر ظل رابضا بجبن خلف تسميات التجربة والبحث عن المتعة؟
نظرات الفتاة المنتخبة لك ما انفكت أن اصطدمت بإعراضك وتجاهلك لفائدة صاحبة الصوت الفردوسي الآسر. همست إحدى صاحبتيها في أذنها:
- لا تحاولي، إنه حصن منيع.
ردت بتميز مستتر خلف ابتسامة متشنجة.
- ذلك ما يعذبني أشد عذاب.
عادت تهمس بمثل نبرتها الأولى.
- إذن فهو الحب.
تطاير شرر نظرتها الغاضبة، وهي تقول مستنكرة:
- إذا كنت تقولين هذا فأنت لا تعرفينني حق المعرفة وأنت صديقتي. أنا لا أعترف بهذا الذي تسمونه حبا، وأشفق على أهله منه ومن سخافته. بل أنا أعشق ما سيرث عزيزتي. الثروة الكبيرة. هذا القصر. العقارات. المصانع. وأهيم في أرصدة أبيه البنكية، إنه ابن "إبراهيم الشرقي".
صرخت الأخرى كأنها عثرت على ثمين مفقود.
- هذه أنت كما أعرفك، يا "آمال".
أفرجت شفتيها الكرزيتين عن ابتسامة كبر.
- طبعا عزيزتي فالأعمل هي الأعمال، والعواطف لا توجد على قائمة حساباتي.
وتقدمت نحوك بخطوات واثقة محسوبة، عازمة على اقتحام عالمك المسيج وما كنت لتشعر بها وانت غريق بحر الشجو، صريع الإعجاب حد الافتتان. كنت مفتونا بسحر لوحة رسمت أمامك. بل كنت جزءا من اللوحة.
- لن تتغير يا "قاسم". حب جنوني للموسيقى.
كذاك أتاك صوتها ليشوش عليك صفاء لحظة ما عشتها قط من قبل، وبرغم الضيق والتضايق، كظمت حرجك. كنت كما ربيت وعشت داخل المجاملات التي لا تنتهي والردود التي لا تعبر بإخلاص عن صدق المشاعر في البيت والعمل وما جاورهما.
- مساء الخير "آمال" تزدادين جمالا كل ليلة.
ما أظن "آمال"، الكائن الليلي المتمرس ستجاهد كثيرا لتوقعك في حبائلها. فقالت بابتسامة مغرية تزين ثغرها الآسر:
- إذن ستدعوني لرقصة.
ولم تنتظرك لتدبر ردا لبقا تعتذر فيه، إذ أخذت عنك عناء وضع كأسيكما لتنطوق بيدك، وترتمي في حضنك برقة ولطف الثعابين، وتخوضا في رقصة هادئة على هبات موسيقى حالمة. تذوب في صدرك، كقطعة ثلج لامسها لفح شمس قائضة. أغريتما شبابا آخرين وكهولا وشيوخا، انخرطوا بعدكما في مشهد الرقص الثنائي. كم من مجبر مثلك كانت رقصته كالمشي حافي القدمين على جذى أعقاب سجائر زهيدة فرشت له وما استشعر سواه ألمها؟
ويدخل خادمان فوق البساط الأحمر المسجى على عشب الحديقة الأخضر يحملان كعكة كبيرة تغري المدعوين للإقتراب منها والتذوق مما حوت، وقد افترشت وسطها عبارة ""Joyeux anniversaire sohd أحاطت بجوانبها شمعات حمراء مجهشة، فتحلق الجمع حولها مظهرين إعجابا مفبركا، مبالغا فيه.
ما كان لأحد أن يتيه وسط هذا التيه عن صاحبة الشأن إذ كانت الأكثر تأنقا وبهاء، والأجدر بلفت الأبصار. فقد أخفت بعض جسدها الفتان داخل ثوب سهرة استبرقي حانط، حسر عن ذراعيها وجيبها وأبرزت فتحته اليمنى ساقها كما أسفر عن ظهرها وجيدها. وتربع أنف منقاذ وجها مدورا صغيرا ما بين شفتين رقيقتين ورمشا ناعسا لعينين ساعد التزيين في اتساعهما، وإبراز سوادهما، حرست كل واحدة منهما أهداب طويلة، وأطل عليهما حاجبان طويلان أزجان استترا خلف خصلات شعر منساب تدلت حتى أخفت بعضا من وجنتيها.
ووقفت إلى جانبها نسخة عنها قبل عقدين على الأقل، أكثر امتلاء واكتنازا فما كان أحد ليضيع وقتا كثيرا مخمنا حتى يعلم أنها أمها. انطلقت المعزوفات المخلدة للحظة الميلاد تذوب وسطها أصوات الحضور المنشدة بطفولية مبتكرة، لتودع أنفاسها التي هبت على أنوار الشموع آخر أمانيها تحت وابل من التصفيق. تتقبل التهاني من أمها ثم من رجل إلى جانبها أخرج من جيبه هدية لها ناولها إياها وهو يلثمها هامسا:
- عقبى لألف سنة أخرى.
- أعيشها إلى جانبك حبيبي.
لهفي على المسكينة وأمها. لكأني أبصرهما الآن في قمة الإغتباط والسعادة في تلك الليلة، فإذا هما الآن جسدان بلا روح. الأولى تهذي بكلام غير مبين، والثانية شلت أطرافها، وأفلت نظراتها إلى مكان غير معروف. صعب ما تعرضتا له. إنها آلام السقوط، وتباريح رجة الخيانة الملعونة.
في أثناء نهزة استراحتها القصيرة، تدنو من الشابة التي لم تغفل عنها طوال السهرة فتتقدم نحوها وتقدم لها كأسا مترعة:
- تفضلي.
لم تكن تتوقع ذلك من أحد لذلك أحسستها تتراجع والربكة تخالج صوتها الخجول:
- لا أشرب.
فتحت عينيك، أو جاهدت متصنعا لتبدو مندهشا:
- لا تشربين؟
- لا أفعل.
لم تدعها تكمل، إذا غبت عنها برهة لتعود محملا بقطعة حلوى الحفلة، قدمتها لها، وأنت تقول في شبه إعجاز:
- لا تقولي بأنك لا تأكلين أيضا.
ابتسمت بدعة وهي تهز رأسها.
- لا تروقني حلوى الليل.
هززت منكبيك وأنت تنظر إلى الحلوى الشهية المنظر، ثم قلت باستسلام.
- أردت إرضاءك ولكنك كما يبدو لا ترغبين في شيء أو في أحد.
وصدمك ردها بعد ذلك. لم ترد أن تطيل لعبة الذهاب والعودة، وإلا لأحضرت لها شريحة لحم أو طبقا من صنوف ما حوت مائدة كبيرة تربعت وسط الحديقة.
- لعلك أخطأت تقديرك، فأنا لست مدعوة كما يمكن أن تظن. أنا هنا للعمل.
وأشارت إلى خشبة المسرح الصغير. لم تكن تدرك أن من بين أسباب دنوك منها عملها، موهبتها، صوتها الفردوسي المخدر.
- أعلم ذلك. وصوتك الساحر سبب انجذابي إليك.
صكت صماخيك بتبرمها.
- ولعلك أخطات، إذ أنى وباقي أعضاء فرقتي لا ننتمي إلى عالمكم البراق.
كان لزاما عليك التقرب منها، واستغلال كل ما تقوله. فقررت مجاراتها. ولأنك بالعادة تحسن التصنع، والزيف كان أول ما أخذت فقد قلت ببراءة.
- دعيني أصحح لك شيئا. أنا موظف بسيط، حضرت الحفلة مع أحد المدعوين.
نظرت ساعتها بارتياب لما ادعيت. تتفحص ثوبك النفيس الغالي المفند لما قلت. لحظت ذلك منها، فقلت مدافعا عن مظهرك الذي أوقعك في ورطة تتلمس أن تنفذ منها:
- استعرته حتى أبدو كما ترين. صدقيني.
ومددت يدك تقدم نفسك لها:
- "قاسم سعدون"، أخجل دوما من قول إني فقير. لكنك شجعتني على ذلك.
وتصافحتما. حرارة يدها أذابت ندف الثلج في شرايينك فإذا هي تغلي. وغشيتك سعادة ما تمنيت انصرامها. طيلة السهرة وصوتها يداعب روحك، أليف هو لك. لامست كفها لكنك لا تدري أنك وقتها لامست قلبها البكر. تعرفت هي أيضا على شيء جديد، حرارة لم تعتدها من قبل. شيء يجرها نحوك، ويجذبها إليك بقوة. وإحساس بألفة غريبة. سلت يدها برفق، رغما عنها. شيء للأنثى دوما أن تكون الخجلى والمبادرة بالتراجع.
- "وعد".
قلت بمرحك الطفولي.
- "وعد" بماذا؟
أشرق على محياها طيف ابتسامة شهية ككل شيء فيها.
- اسمي "وعد" ـ ثم تراجعت أسفى ـ بعد إذنك، انتهت فترة الاستراحة.
أعلم أنك ككل العاشقين الجدد، تكره لحظة الفراق الأولى التي تعقب لحظة اللقاء الأولى.
انسحبت مغادرة بدلال، أو حاولت إذ أمسكت بذراعها كالمستجير بها. لعلها كانت تتمنى ذلك من أعماقها.
- إذا أردت رؤيتك، ماذا أفعل؟
حينذاك أفرجت شفتاها عن ابتسامة وضاءة، وهي تقول:
- أنا طالبة في السنة النهائية، بثانوية "صلاح الدين الأيوبي"، سلا.
لكم تكون بضع كلمات بلسما مداويا للناس، كمن ينتظر حكم محكمة شك في براءته. وقد كنت المتهم وتنتظر من قاضيك تعاطفا. وما كلماتها الأخيرة تلك إلا تصريحا لك بأنها أعجبت بك أيضا.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:01 AM
الوجــه الثاني:
أرى "آمال" ترقبكما في ركنها القصي تعض أناملها تميزا وغيظا، تستعر كأنها مرجل تغلي غيرة وحنقا وهي التي أزجت شهورا طوال تحاول التقرب منك. ولعلك أحسست ذلك منها، كما أحسست شيئا كان يبعدك عنها رغم الجمال الآسر واستعدادها لتمنحك جسدها إن أردت. لم تكن تدع مكانا ترتاده إلا لحقت بك، تقتقي أخبارك، تعدد أنفاسك، تحاول حبسها وتشديد الخناق عليك.
لا تسمع بحفلة دعيت لها أو سهرة تسهرها إلا تراها متأنقة متصنعة لطفا ورقة تخفي بهما حدة طبعها وسوء طويتها. تغازل نفسها دوما رغبة مكبوتة لتلتفت إليها، وتهتم بها. لكنك وككل الرجال لا تحب المرأة السهلة، اليسيرة المنال. كم تعبت في سبيل ذلك. وبدا الامر وشيكا دنيا منها في الأيام الأخيرة، إذ بدأت تلاحظ أنك تلاطفها بكلمات عذبة، وتحاورها بنظرات إعجاب. بيد أن "وعدا" اندرأت عليها ككابوس خزي، تخنق آمالها وتعصف بسالف جهودها. همست صاحبتها في أذنها تضغط كل كلماتها:
- ألم أقل لك إنه حصن حصين؟
- إن كان حصنا حصينا فأنا خير من يقتحم الثغور المحصنة. أقسم لكما أنه لن يكون لغيري.
عادت تهمس مرتابة، ساخرة:
- أشك في ذلك، وأرى الأمر عصيا عليك. أما علمت أنهم يلقبونه بالنحلة لسرعة تنقله من زهرة إلى أخرى. لقد طار بعيدا عنك ولما يحط.
قالت عازمة:
- ولأنه لما يحط بعد فلن يكون لسواي. لقد أقسمت لكما بذلك، وإني مستعدة لأراهنكما.
قالت الثالثة متزلفة:
- ولأني أعرفك جيدا فأنا خارج الرهان لثقتي بدهائك، وسعة حيلتك على استمالة الرجال وإسقاطهم في حبائل الجنون بك. لقد كنت شاهدة على سقوط زينة الشباب. منير الغازي، محمود التلمساني..,..,..
اتسعت ابتسامة "ليلى":
- أراهنك. وسأكسب الرهان عزيزتي "آمال".
أحنت "آمال" رأسها تشجعها على المزيد فأضافت:
- إذن أمنحك شهرا واحدا لتوقعيه، وليعترف لك أمامنا بالحب وإلا فستخسرين خاتما نفيسا، عزيزا عليك، قريبا إلى قلبك.
تساءلت مندهشة.
- ماذا تعنين؟
- خاتم الماس الذي أرغمت الشاب المسكين أن يهاديك به بعدما رأيته عند أمه وأعجبك.
- اللعينة، الحقودة تذكرينه رغم أني لم أضعه إلا مرات قليلة جدا.
عادت تذكرها بموضوع الرهان.
- انفعالك دليل خوفك من الخسارة. انسحبي صاغرة إن أردت، و...
قاطعتها محتدة وهي تصر على أسنانها حنقا وتميزا.
- بل إني باقية على أمر الرهان هذا لثقتي أنه ككل شيء أريده يخضع لي ويصير في قبضتي.
وأذكرك بأنه في حال فوزي، وهو أمر مؤكد، سأربح خاتم أمك الماسي أيضا. على أن يكون ذلك في شهرين. فما قولك؟
صاحت مندهشة هي الأخرى:
- خاتم أمي الماسي؟ مستحيل إنها لن ترضى.
- إن كانت لن ترضى فلا تعلميها، ورتبي إضاعته وسنحفظ الأمر سرا بيننا كما حفظنا أسرارا كثيرة أخرى. هه؟
فكرت قليلا متمهلة، تقلب الأمر على كل جوانبه.
- أقبل. لكن كما قلت شهر واحد فقط.
- شهران.
تدخلت "نعمى" موفقة بين عنادهما وتطرف طباعهما.
- لنجعله شهرا ونصف شهر، والبدء من الغد.
مدت "آمال" يدها إلى "ليلى" وهي تقول:
- موافقة.
صافحتها "ليلى" مظهرة ضيقا وحرجا، إذ أن غيرتها البادية من "آمال" أوقعتها في رهان تعلم أنها بسدارتها وبخلالها العابثة لن تستنكف في فعل أي شيء للظفر به، وبخاتم أمها الماسي الذي أبدت إعجابا به في أحد الحفلات. بيد أن عزاءها في كل ذلك كنت أنت ذاتك، فقد انتبهت إليك فجاة فإذا أنت هائم في تينك العينين، ظمآن لنظرة منهما رغم ارتوائك منهما. وإذا أنت نائم في فراش عينيها، تلتحف بأهدابهما. ليلك سوادهما، وأحلامك بريقهما.
لم يكن تباغض الفتاتين بالأمر الخفي، "فليلى" التي تغار من جمال "آمال" الآسر وذكائها الحاد، كانت سببا كما تحب أن تذكرها دوما في الإرتقاء بها إلى هذا العالم العلوي البراق، عالمكم. وفتحت الباب أمامها للتعرف على قشدة المجتمع وأريجه، إذ أنها تنحدر من أسرة متواضعة. وكانتا زميلتين و"نعمى"، فصرن رفيقات سهرات. ثم إنها شرعت توظف جمالا ظاهريا، وتعمل دهاء أسود. فأخذت توقع ببعض المراهقين الميسورين، وطفقت تقايض مشاعرهم وصحبتها بالعطايا والهدايا. كان شرعها المال، ومبدأها الأوحد في الحياة الابتعاد ما أمكنها عنه فقر رتعت في أحضانه. تربت في كنفه حتى غدت ابنته المتمردة العاقة. لا تقل ألا فائدة ترجى من نقل حقيقة من تكون؟ بل معرفتك بكل ذلك الآن يساعدك على هضم ما حدث معك. سييسرعليك فهم أمور أخرى كثيرة.
واستفقت باكرا ذاك الصباح على غير عادتك. بل إنك لم تنم ليلتك السابقة إلا غرارا. قضيتها متقلبا بين الأماني المرجوة والآمال المنتظرة، إذ كنت كالمشاهد لمسرحية رومانسية تلتقط مشاهدها التي تثيرك. وإثر كل فصل تسدل الستارة فتغفو ولا تستفيق إلا على ناي "كافيسيوس" أو قيثارة "أرستوكليز" والممثلون فوق خشبة حلمك العذب اللذيذ، كانت حركاتهم كفراشات بديعة الشكل والرقص.
أكنت نائما حقا؟ أم أنك كنت في مكان بين النوم واليقظة، بين الحلم والحقيقة، بين الحياة والموت؟ أم أن وجه الممثلة الفردوسي المعتق من سجون حكايا التيه يدعوك في إصرار فما استطعت رده، واستوطن مملكة خشبة حلمك المنفلت من مرايا الزمن اللزج؟
أكان حلما أم أنه حياة أخرى عشتها وتجتر تفاصيلها المتشابهة مع تفاصيل حفلة ليلتك السابقة؟
يداك الممسكتان على مقود سيارتك الجلدي تقودانك إلى وجهة غير معلومة. لم تبال أنت بذلك بقدر ما ركنت إلى أغنية لا تتفق وهدوء صبيحتك تلك.
- آه من قيدك أدمى معصمي!
انتهى بك شرودك وأغنيتك إلى البحر. الأطلسي يمد ذراعه يحضن الغرب المغربي كله. وتلج برفق إلى حي الأوادية الحالم، المسترخي في ذاك الصباح الفاتر. أخذت تتحسس دور الحي بطرفك المستكشف فإذا هو كامرأة قادمة من عوالم سحيقة الأثر ملتفة بالأبيض والأزرق، ترقب الزمن بعين متحدية تقلباته وجوره. امرأة رومانية جددت ملامحها فصارت حصنا مرابطيا منيعا ومنطلقا للجيوش الجهادية. توقف سيارتك في الطلع المطل على البحر. تترجل وتزيح عنك فتورها، لتستقبل برودة خارجية وملوحة مياهه تداعب خياشمك. نذهب دوما للبحر بحثا عن شيء فقدناه. لفرط ما تطوي أحشاءه من أسرار وكنوز. ما أضعت أنت؟ أتراه هناك في قعره ينتظر وصول يدك لتمسك به ظافرا؟
وتنتقل إلى الجانب الأيمن. تطل من هنالك كما تطل الرباط على سلا. وجعلت ترقب المباني السلاوية الملفحة في صبيحتها الخريفية تلك. بدا وجه سلا يشبه وجه بطلة مسرحية أحلامك أو أن وجهها هو من يشبه المدينة. بينهما ملامح غامضة غير مكتشفة وأخرى معلنة. لا تقل لي بأنك نسيت ما فكرت به في تلك اللحظة. لقد تصورت الرباط حياة وسلا قبرا برزخهما الرقراق كصراط بين الجنة والنار. قبر كبير حوى فيما حوى أضرحة أولياء الله الصالحين. "بركاتك سيدي اليابوري".
تساءلت لحظتها وكأنك تستفيق من فورك من لحظة تخدير سلبتك عقالك.
- ما الذي أتى بي إلى هنا؟
وإذا بك تدرك أنك لم تكن وحيدا هنالك.
رأيت عاشقين تشابكت أصابع يديهما، وأنصهرا في منظر آسر، غير آبهين يرقبان بزوغ الشمس. كأنهما يتممان احتفال ليلتهما التي لا تنتهي إلا برؤية الشمس. أو أنهما يمارسان طقسا من طقوس الحب الذي لا تنتهي فصوله إلا بمباركة الشمس.
ما أحلى الحب الذي يحتفي بميلاد الأشياء، ويتجاوز لذة الفراش إلى لذة أسمى وفضاء أرحب!
أكنت على موعد مع هذه العاطفة التي تصادفك أول مرة في حياتك الحالية؟ لطالما أبحرت دون وجهة معلومة. والليلة الماضية أرسى قاربك في ساحل "وعد" الهادئ. ستطأ جزيرتها وستتلف شراعك حتى لا تبرحها أبدا. الأشياء من حولنا على بساطتها عادة ما تمنحنا علامات نهتدي بها في سبلنا، والآن وقد بلغت ما بلغت، قد تعي أمورا أكثر. لقد حضرك يومك للقاء "وعد"، الذي تمنيت أن ترسم معها لوحة العشق العذب بألوان زاهية تبعث في قلبيكما بهجة النبض. كحال عاشقي الصباح. ولأمر كنت تجهله ومازلت، كان يومك الذي استبق ليلة لقائكما مميزا تميز ما أحسسته عند وبعد رؤيتها والحديث إليها ذاك الحديث الخاطف. أزجيته على سحابة ارتقت بك إلى عالم علوي لم تطأه قبلا. لم تكن أنت كما تعرفك، أو كما يعرفك الآخرون. لم تكن غضوبا لأتفه الأسباب، ولم تشاكس "رافان" زوج أختك على عادتك الصباحية في اجتماع مجلس إدارة المجموعة. سياقتك ذلك اليوم لم تكن جنونية. هل كنت تحافظ على حياتك حتى تراها أو لأجلها، كأنك أدركت في أعماقك أنك لم تكن تعتني بك وحدك؟ ربما.
انتبهت مجددا إلى سلا بملامحها الناعسة، فتذكرت أن "وعدا" تسكن إحدى تلك الدور، المرعية ببركات أضرحة أبنائها الصالحين الذين غيبهم ثراها ومازالت أرواحهم الطاهرة تحرس مفارطها. ولعل سحر بنت سلا وبركات أجدادها من خدروا عقلك وأتوا بك هائما على وجهك في مثل تلك الساعة وحيدا هناك. "بركاتك سيدي عبد الله بن حسون". كانت ابنة سلا فيروزة تسكن المدينة تنتظر يدك. فما تراك فاعل؟ أتراك كنت وحيدا؟ كان العاشقان أمامك يتحركان عائدين بعد أن باركتهما خصلات شمس صباحية متثائبة. تبينت في فضول غير مسبوق ملامح وجه الشاب فإذا هو أنت، أو بطل مسرحية أحلامك التي حضرها الملك "أنتيجون" في مقصورته الملكية، يصحبه "زينون" و"كليانتس" وبعض الرواقيين الذين كان يعتز بصحبتهم. وإذا أنت مشدوه، مشدود بخيوط سحرية إلى الشاب. نعم لقد كنت أنت صحبة... حاولت دون جدوى. حالت ذراعه، أوذراعك التي تطوقها من أن تتعرفها وحال شيء آخر دون استمرار ذلك كله. فقد انطفأ المشهد كله أمامك، وكأن ستارة سوداء أتت لتنهي فصول مسرحية أخرى، فإذا السديم يغلف ما حولك. فجعلت تتحسس صوت تنفسك المبعثر. لزمك بعض الوقت لتدرك أنك كنت تحلم. أوَ كان حلمك جسدا لروح حلم آخر بعثت فيه حرارة حياة أصحابه، فإذا هم يتحركون بين ناظريك، وتستشعر أحاسيسهم المتباينة؟
وتتلمس يدك زر الإنارة من على سريرك، وتفتح عينيك فإذا هي الرابعة صباحا. ماذا؟ شهقت من أعماقك: أكل هذه الأحلام عشتها في أقل من نصف ساعة إذ أنك لم تدخل فراشك إلا حوالي الثالثة والنصف؟ ألأجل كثافة كل تلك الاحداث أحسست إرهاقا داخليا عاصفا؟
أسئلة كثيرة انتصبت أمامك تحتاج إلى إجابات لا تملكها (...)
ومن تكون الفتاة التي كانت معك؟ أهي "وعد" أم "آمال" ؟ فلقد شق عليك أن تميزهما وأدركت تشابههما طولا وقدا و انسيابية الشعر الفاحم. كل شيء غريب في يومك ذاك حتى نومك وأحلامك. وصوتي الآن آتيك ليذكرك بما قلته ساعتها وما فكرت به.
لقد حاولت إبعاد أمرها عن ناصيتك. تعللت أن رؤيتها مرة واحدة، أحدثت أعطاباً في طبيعة يومك، وحتى نومك لم يسلم. ثم إنك لا تتشبت بالفتيات. لذلك لقبت في ردهات الصالونات التي كنت مدمنا على ارتيادها بالنحلة. زد على ذلك منطقك الغريب في تعريف المرأة. كنت تشبهها في لحظات سخريتك الدائمة بالبحر. تحبها كما تحبه. ولإن كنت تعشق فيه هدوءه وصفاءه، فقد كنت تكره صخب أمواجه وزبدها. ولإن كنت تستعذب زرقة مائه. فقد كنت توشك على الغثيان قرفا من تصور أمر ملوحته. ثم إن البداية بينكما لم تكن مشجعة فهي كما بدا لك محافظة جدا. وابتدرت اللقاء الأول على قصره، بكذبة كبيرة. أنكرت من تكون فعلا، وكأن الغنى والثراء معرة؟ أية فتاة كانت لتفعل ذلك بقلبك المسكين وتسحبك باكرا من فراشك الوثير إلى هذا الطلع البارد، تطل منه على دور سلا النائمة؟
تريد المزيد، فصبرا وشغل الشريط الثاني.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:02 AM
الشريــط الثاني
الوجــه الأول:
من لم ينجح في فهم ماضيه سقط في فخ اجتراره. وماضيك مرآتك تبصرك من خلالها. هو درعك وسندك فيما يستقبلك من أحداث. حلمك الحقيقي الذي ما كان في حقيقة الأمر إلا صورة محفوظة في ألبوم ذاكرتك الغائرة؟ وجه بطلة مسرحيتك المتنازع الملامح. كان مشج أضداد، جمع ما لا يجمع، عين تنزف دمعا ملتهبا وعين رست بين مآقيها دمعة فرحة، طاقة أنف تتنسم من عبق لذاذات الحياة ومنخر يزفر ما في قعرها من طحلب متعفن، أذن ترهف سمعها لصوت داخلي مكشوف وأخرى تتحدث بصدق عن مشاعر صاحبتها في شبه علم، شفة تمكي مآسيها وشفة ترنم لإسعاد الغير.
وصادفت الحب في ليلة اللقاء الأول بعدما غازلتك أنفاسه، ثم تعرفت إلى طعمه بعد أن أصابتك رؤيته بالدوار، في حفلة عيد ميلاد أختك "سهد" حيث كنت موضوع رهان تعلم بأمره أول مرة. هناك في قصركم الباذخ، حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والأقنعة الآدمية.
أكان يلزمك أن تسقط من فراشك الوثير لتدرك أنك كنت في حلم؟ وتلتقط أنفاسك المشتتة ثم تتحسس بيدك المرتعشة زر مصباحك وتدعك عينيك قبل أن توقعها على عقارب ساعة منضدتك.
وقمت متخاذلا إلى فراشك تستحث النوم من معاقله لكنه يرغب عن زيارتك. تقلبت يمينا وشمالا كأنك فوق صفيح يغلي.
هل الأحلام تجسيد للأماني التي نعجز عن تحقيقها أو رغبات مدفونة في أعماقنا المظلمة لحياة نريد أن نعيشها تندرئ علينا هكذا بدون انتظام في أوقات نومنا فلا نجد لها تفسيرات مقنعة؟
وفجأة يأتيك الخلاص من حيث لا تدري فكرة رائقة اهتديت إليها، فتهب من مرقدك وتغير ملابسك إلى سيارتك الناعسة فإلى طلع حلمك. شيء في داخلك كان داعيك إلى ذاك الإرتفاع الشاهق في ذاك الصباح المظلم البارد. لم يكن منظر دور سلا المستكينة إلى أحلامها الجامحة، ولا صفحة البحر المتراقصة. تمنيت أن تجدكما هناك متلاصقين، وتمسك بحلمك حقيقة، وتحيا تلك الحالة حقيقة مضاعفة. لكنك أحبطت لما لم تجد أحدا، وجلست هنالك على حافة شاهقة تنتظر.
كنت تنتظركما، وكنت تنتظر عيادة الشمس لأنك تعلم في قريرتك أن النوم لن يزورك في ليلتك المبتورة تلك، وكأنك به قد أعلن العصيان عليك. سماء ذلك الصباح كوجه حماة عبوس، متجهم، غاضب من شيء أو من لا شيء. بدأت بعض الحركة تدب في الشاطيء، إذ أخذ يتقاطر عليه بعض المدمنين على الرياضة الصباحية مع بوادر شمس خريفية محتشمة تهب من مرقدها كعروس في صبيحتها، ويدها على طرفها الناعس.
تفاجأت بوجود بعض المدمنين على الحب الصباحي أيضا لم تنتبه إليهم في غمرة شرودك. انتصب على شفتيك ظل ابتسامة، وألقيت نظرة أخيرة على المدينة المقبرة كما تخيلتها، واستدرت على عقبيك، تلوذ بسيارتك وفي رأسك شيء واحد، لايصلح لك دور المغرم الولهان. ستتعذب في جبته. فلتنزع ابنة سلا من فكرك إن استطعت.
ذا أنت في المصطبة الرئيسية للغرفة الخلفية تحتسي صوتي وكوب قهوة سوداء. تقابل المسجل، وترقب ما حوى بنهم المتطلع إلى ما فيه، كأني أراك وغيمة دكناء تظلل ناظريك. لكن دعني أعيدك إلى ركن احتل وقتا كبيرا من حياتك، عملك هناك في إمبراطوريتكم البائدة، في المجموعة الاقتصادية الكبرى، حيث المال والسلطة يتساكنان بحميمية في زوايا ضيقة، ويتحركان كيفما اتفق للتناسل والتعاظم.
في إمبراطوريتكم، حيث تعرفتم على "رافان" أول مرة، وحيث كان آخر من ودعك الوداع الأليم. أراه صبيحة ذلك اليوم، يجيب على هاتف في مكتبه الباذخ:
- آلو. "رافان" على الخط.
- ...
- صباح الخيرات.
- ...
- حسنا سأحضر في الحال.
وهب لتبدو قامته الربعة، فعدل رباط عنقه المتساوق وقميصه الأسود مع بدلته التي حملت اللون نفسه، لون سماء الرباط الخريفية. أطلت عيناه من خلف نظارتيه الدقيقتين اللتان لم تخفيا زرقتهما البادية، وألقهما تألق بشرة وجهه الكلثوم وشقرة شعر رأسه. قادته خطواته العريضة ليلحق بباقي أعضاء مجلس إدارة المجموعة، بعد أن هاتفته كاتبة الرئيس المدير العام تطلب حضوره، إذ لحظت تأخره على غير المعتاد. استقبلته بابتسامة مهنية مشرقة وهي تقول.
- صباح الخير سيد "رافان".
- صباح الخير "وجد".
باغتها بأن قدم لها وردة حمراء لم تنتبه لها في يده عند دخوله.
- مع خالص شكري على نجاح تنظيمك وإشرافك على سهرة أمس.
وقع المفاجأة زلزلها إذ لم تعهد ذلك منه، وهو الذي عرف منذ التحاقه بالإدارة المركزية قبل سنتين باحتياطه الكبير في التعامل مع الآخرين، وإن كان مجاملا في بعض الأحيان، لكن أن يصل الأمر هذا الحد، فذاك أمر مربك حقا.
بيد أن مفاجأتها لم تكن خالصة إذ أنها بدأت تستشعر ملاحقته لها. نظراته الجريئة. كلماته الملمحة لشيء لا تريد أن تضعه بخلدها، ولا أن تفكر به. وردة الصباح أتت لتلقى بها في وهدات الحيرة، ولونها رمى بها إلى التوجس من الغد القريب. لو لم يكن مرتبطا بامرأة أخرى، ربما كانت فكرت به. أما وأنه متزوج، ومن ابنة "إبراهيم الشرقي" مالك المجموعة، ولي النعمة فذاك أمر أشقى وأنكى.
ما تراه يريد منها والسعادة بادية لكل الأعين على حياته مع "سهد"؟
أتراه يبحث عن لذة عابرة، أم هي نزوة شيطانية اجتاحته من حيث لا يدري وألقت به إليها ليعكر صفو حياتها؟
وما تملك من فعل إزاءه، وهو شخص يمكن بنصف كلمة في أذن الإمبراطور أن يفصلها ويفتح عليها أبواب الجحيم، أو أن يتم نقلها إلى أحد الفروع السحيقة في أحسن الأحوال. ولن تشفع لها سنتاها في التفاني والإخلاص للإمبراطور الذي كانت تقدره كثيرا وتحترمه جدا. تدرجت في أروقة مجموعته لتصبح كاتبته الأولى، بعد أن عوضت زميلة لها ذهبت للوضع. أثبتت خلال فترة التعويض كفاءة عالية، جعلته يتشبث بها. و"رافان" هو أول امتحان صعب تمر به منذ ارتقائها إلى هذا المنصب. هو عقبتها الكبرى وعليها أن تحسن تخطيها وإلا فإن السماء ستسقط فوق رأسها.
أنى لها بالحيلة والشجاعة لتصده وتردع شيطانه المغامر، كما وقفت لمحاولات زميلات فريق السكرتارية فأخرستها دفعة واحدة، ونالت ثقة الإمبراطور لدرجة أنها أضحت مسؤولة أيضا عن ترتيب بعض سهرات العائلة؟ قهوته الصباحية، يشربها مع المراسلات العاجلة. طرق ترتيب المواعيد. تحاول إراحته قدر المستطاع، فلا تصله هاتفيا إلا بمن هو مهم، وبما هو ضروري لا يحتمل الإرجاء. لذلك كانت كذابة ماهرة ومراوغة لبقة، تختلق الأعذار بحسب الظروف. كان التردد يلفها، وهي تتناول وردته في شبه تحفظ.
- ممتنة لإطرائك سيدي، لقد قمت بواجبي فحسب.
ثم أشارت جهة مكتب مقابل.
- تفضل، الكل بانتظارك.
واجه بابين متلاصقين نقش على أولهما الرئاسة، والإجتماعات على ثانيهما الذي نقره نقرة خفيفة ليدخله بعد أن أعاد تعديل ربطة عنقه، فإذا به داخل قاعة فسيحة توسطتها طاولة مستديرة كبرى من الأبنوس الخالص أحاطت بها كراسي سوداء. تربع في أحد جوانبها صالون عصري من الجلد الفاسي الأسود، ومنضدة زجاجية أنيقة بها منفضة بنفس لونها، بينما انتصبت لوحة زيتية عظيمة خلفه.
- صباح الخير.
جاءت ردود تحيته مترددة ما بين الهمس والهينمة وشبه الإبتسام وإيماءة خفيفة من الرأس قبل معاودة دفنها في الأوراق.
من يقول أن له أربع سنوات فقط بينكم؟
بداية طلب عمل في مصنع النسيج التابع للمجموعة في فاس، فقبل الطلب للسيرة المهنية المضيئة. دراسة عليا بأحد المعاهد المختصة في باريس الفرنسية في التسويق التجاري والتدبير المالي توجها بشهادة عليا، وخبرة أربع سنوات كإطار في أحدى الشركات المتعددة الجنسيات. حال عودته إلى المغرب ابتسم له سوق العمل المحلي على غير عادته، فامتصته شركتكم منبهرة بما تقدم.
سنتاه الأولتان أمضاهما كادا جادا في بذل جهوده حتى يتقرب إلى رؤسائه، وكان له ذلك، إذ أثبت كفاءة عالية. أمضاهما يرتقي السلم ويدنو من المركز حيث أنتم بصبر وثقة. وأتته فرصته المبتسمة يوما فأمسك بها وعض عليها بنواجذه. امتدحه رئيسه عند الإمبراطور، فتم نقله إلى الإدارة المركزية حيث ستتعرفه أنت أول مرة، وسيعجبك سلوكه المهني، وتفانيه الدائم، وولاؤه المعلن. لم يكن أحد يتصور صعوده الصاروخي بينكم. واستشاط الحاقدون والحاسدون حوله، ولكنهم لم يظفروا بالحد من تقدمه. أين هم منه الآن وقد غدا الإمبراطور الثالث بعدكما؟
- ماذا لدينا اليوم؟
أتاكم صوت الإمبراطور الجاف، ليقفز صوت "محمد مبروك" مدير التخطيط والاستراتيجية وصديق الأسرة الوفي.
- لدينا دراسة جدوى مجموعة من المشاريع السياحية، عبارة عن فنادق مصنفة من خمس نجوم في كل من الصويرة، مراكش وأكادير بمعدل فندق في كل مدينة، وكما ستلاحظون أمامكم دراسة تفصيلية لهذا المشروع الأول الذي ننتظر اقتراحكم بشأنه.
تساءل الإمبراطور وهو ينظر إلى "محمد". تشبهه في كل شيء. عيناه العسليتان، وصوته القوي. أخذت منه القوة، ومن أمك الطيبة والوداعة. تلبس جبته في الشركة، لجوجا غضوبا. طاقة هائلة من القوة والنشاط، تضعها عند خروجك لتصير أمك، أو قريبا من ابنة العائلة الكبيرة.
لهفي عليها، المسكينة. كان التيار الجارف أقوى منها، فما استطاعت صده ولا تمكنت تجنبه.
- لدينا وحدتين في مراكش إضافة إلى رياض متفرقة هنالك، وثلاثة في أكادير، وهي مصنفة طبعا كما تعلمون ما بين أربعة وخمسة نجوم. أما الصويرة فليس بعد.
تدخل "رافان" وهو يحك زنمتا أذنه.
- أعتقد أن الصويرة خيار استراتيجي، كما اقترحت على السيد "مبروك". ذلك أنها تعرف مهرجانا كبيرا كل سنة، وأرى من الحكيم أن ندخلها في رؤانا، خاصة وأنه كما بلغني، هناك مجموعة من المنافسين بدأوا يفكرون في هذه المدينة كقطب سياحي هام.
كنت يومها، نصف حاضر. قلت بنصف لسان.
- ألا ترون معي أننا نلجأ دوما إلى المعاني التقليدية للسياحة، بينما يمكننا خلق وحدات إيواء مفيدة ومريحة لنا؟
وتساءل الإمبراطور مجددا وكأنه انتبه إليك فجأة:
- ماذا تقصد؟
أفاقك سؤاله لتسرسل.
- السياحة الجبلية، الغابوية، الصحراوية لدينا تنوع طبيعي يخدم اقتراحي، وعدد المهتمين بهذه الأنواع من السياحة في ارتفاع مضطرد من الداخل والخارج، ويمكننا الزيادة في أعدادهم أضعافا إذا قمنا بدعاية جيدة.
تدخل "رافان" يدافع عن مشروعه.
- إذا سمحت لي يا "قاسم". لست أريد معارضتك. أنا معك في أن السياحة عرفت ظهور أنماطا جديدة مثل التي ذكرت وأضيف إليها الصحية والثقافية والتربوية والدبلوماسية والجنسية والإيكولوجية ومالا حصر له من التسميات. أنا معك في أن المستقبل لهذه الأنواع غير التقليدية لكنه ليس أولوية ملحة. علينا كسب مساحات فورية قبل منافسينا.
لم يعجبك هجومه اللبق عليك فقاطعته.
- الصويرة التي تتحدث عنها "رافان" لا تعرف إلا مهرجانها السنوي زد على ذلك أن الكناويين أناس لا يرتادون مثل تلك الفنادق التي نتصورها.
أضاف يريد إقناع الإمبراطور.
- ليس الكناويين من يقصدون المهرجان فقط، وأولئك هم زبناؤنا المفترضون، ثم إننا سنعمل على تجاوز طابع الموسمية الذي يخيفك، إذا ساهمنا بدورنا في تظاهرات رياضية وثقافية دولية. تعلمون أيها السادة أن البحر والرياح يشجعان قيام رياضات بحرية تعرف انتشارا واسعا بين كل الأوساط. هذا تصوري للأمر.
وهزمك البحر مجددا وترديك رياحه العاتية إلى زوايا الخيبة. كنت تريد التصدي له، بيد أن الإمبراطور أتى ليحسم الموقف لصالح "رافان" ويحيلك على الإنتظار.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:03 AM
الوجــه الثاني:
لو دققت النظر أكثر في "رافان"، ولو كنت حاضرا ساعتها للمحت شررا عجيبا يطفر من عينيه. النظرات تفضح صاحبها دوما، لكنك رضخت لأمر الإمبراطور، فكذاك كان. ومجموعته تستمد روحها من روحه المسكونة بهاجس الربح المستمر والمتواصل. أنظاره مشرئبة على الدوام إلى أسواق جديدة. والعولمة أو الكوكبة لم تدع له مجالا لطول تفكير. إن أردت البقاء، عليك أن تكون كبيرا. والعالم لم يعد يعترف بالصغار. عرف فيما عرف بفلسفة اقتصادية قديمة، تقليدية لكنها فاعلة، بسيطة لكنها عميقة. الدرهم الذي تملكه ولا ينسل لك دراهم أخرى، هو درهم عقيم، وجوده لديك كعدمه. لأجل ذلك جمع ثروة مهولة. يتربع الآن فوق عرشها "رافان" بعد أن كان أبوك صاحبها، وانداحت إمبراطوريته في كل البلاد. وبلغت منتوجاتكم أقاصي الأرض وأدانيها. لم تدع مجالا يدرالربح لم تلجه بكل ثقلها، والكل يخضع خلالها للجودة المرتقبة والثمن الخفيض. معادلة استوعبها والدك جيدا، فحقق نجاحاته وفتوحاته. كذلك كان أبوك. لم تدافع بشراسة على مقترحك كما عهدك، ولم يرتفع صوتك الغاضب ليغادر قاعة الاجتماعات ككل مرة دافعت فيها عن شيء آمنت واقتنعت به. لذلك من الحضور من استغرب في سره تغير طبعك. كانت سيماء السهاد والشرود طافية على صفحة وجهك. لم تكن حاضرا تماما في الإجتماع. لقد أحبوا فيك برودك الذي لم ينغص عليهم قرارهم. كنت نصف حاضر، إذ كان نصف اهتمامك الأكبر مع بطلة مسرحية حلمك التي اجتاحته صورتها حيثما وليت وجهك، وأيان التفت تجدها ترمقك بنظرات حانية، تزين ثغرها ابتسامة رضى واستكانة. عبثا حاولت التخلص من صورتها وإزاحة طيفها الذي ظل يسكنك رغما عنك، فاستأذنت في الانصراف من الإجتماع باكرا، وغادرت المجموعة على غير عادتك قبل موعدك، تقصد سيارتك رأسا إلى سلا المحروسة."بركاتك للا فاطنة بنت النعام" "أنت تقول لها آجي، وهي تقول لك نعام".
وتتفحص في وجوه المارة بلا جدوى. منذ العاشرة والنصف وأنت قرب مدخل الثانوية التي قالت إنها تدرس بها. أنفقت أكثر من ساعة ونصف الساعة على مثل حالك ذاك من الترقب والإنتظار بلا نتيجة. وكنت قد عمدت إلى ركن قصي إذ خجلت أن تفعل فعل المراهقين الذين يجدون سعادة لا توصف في الإنتظار. وكنت قد أوقفت سيارتك بعيدا حتى لا تفضح كذبة الليلة الماضية التي ظلت كغصة تشرق بها. كنت تعلم في سرك أن داء الشرود المزمن دواؤك، وكنت تدرك أيضا أنها فرصتك الوحيدة لتبسط لها كل الذي تحمل لها رغم أنك لم ترها إلا مرة واحدة. ولكن أليست المرة الواحدة كفيلة بإدخالك جنان الحب؟
وخاب ظنك مجددا إذ لم تظهر، كأنك كنت تنتظر طيفا من مواطني العدم والسراب. بهرتك صورته وسحرك صوته، وتنازلت عن خجلك إذ اقتربت أكثر من البوابة المخصصة للطلاب عند خروجهم دفعة واحدة كسيل منهمر.
أكنت لتتيه عنها وقد سكنك وجهها واستعمرتك ملامحها؟
ألا تعقلها وقد نزعت الكرى عن جفنيك الليلة الماضية بعد أن تمثلت لك في بطلة مسرحية أحلامك؟ كنت تراها مفتوح العينين ومطبقهما، في نومك كما في اليقظة. وقلبك في ذلك كله، ألا يستشعر وجود قلبها بقربه فيرسل موجات حارة يخبرك بأنها قريبة منك، ويمنحك دفئا، فيعلمك بمكانها وإن استترت عنك أو حاولت؟
كانت زيارتك الأولى لسلا المحروسة فشلا ذريعا، ترك أثره العميق في نفسك. بدون شك أو إمعان في التشاؤم، لم يكن اليوم يوم سعدك. رحت تراكم فيه الخيبات. شيء غير مبين ذاك الذي صرت تحمله لها بعد تلك اللحظة، وألقى بك في أغوار اليأس والحسرة، وضاقت بك السبل. أتراها كذبت عليك هي أيضا، لتتخلص من ملاحقتك لها؟
بين الحب والبغض حدود وهمية، لا تحتاج للخروج من هذا والدخول في ذاك إلى جواز عبور أو تأشيرة مرور. إحساس غير معروف يفصل بين العاطفتين. وكان ما أصابك في تلك اللحظة، مزيج من التميز والشوق. تمنيت لو أنك رأيتها إذن لأشبعتها كلاما جارحا. الكاذبة المخادعة، ضحكت عليك وما نبوت في حقها إلا أن أغرمت بها. لو صدق ورأيتها الآن لـ... ضممتها إليك بقوة الملهوف وحرارة المشتاق، ولما تركتها قبل أن تعرف كل شيء عنها. أين تقطن؟ وهي سالبة قلبك بلا شك. أين تدرس؟ وهي معلمتك في مدرسة العشق. الهاتف. البريد العادي. البريد الإلكتروني. البريد الذي سيخترع مستقبلا. لن تدعها أبدا، قبل أن تتأكد من صدق كل شيء حولها. ولكن أين هي الآن؟
ولما استيأست من ظهورها، تقهقرت نحو سيارتك بخطواتك العصبية، خائبا منكسرا، وجلست داخلها والغبن إلى جوارك. شرعت تحك رتبتك وتدعك خاتم بنصرك حتى لتكاد تزيله من أصبعك، ثم طفقت تخاطب نفسك.
- ما الذي حدث لك حتى بدأت تتصرف كالمجانين تجري خلف صبية، لا تعلم إن كانت إنسية أم جنية؟ لا تعرف عنها غير الإسم "وعد". كأنها وعد عذاب، ووعد سراب بدا لك في صحراء حياتك عند اشتداد العطش؟
العطش؟ من قال إنك ظمآن لذة، و خيرة الفتيات يتسابقن لمجاورتك، أم أنها نزوة طيش عمياء لا تدري أين تقودك؟ وابتسمت بمرارة واستسلام وأنت تضيف حالما:
- ولكنها نزوة لذيذة مجنونة، تكاد تعصف بعقلي.
لحظتها بدأ شيء داخلك يهتز اهتزاز هاتفك في جيب سترتك.
- آلو من؟
- ......
- أهلا "آمال".
لقد كانت "آمال" إذن، تخطو خطواتها الأولى في أول أيام رهانها.
-........
- أنا أيضا أحتاج لمن أحدثه. إذا شئت...
-.......
- حسنا ستجدينني هناك في انتظارك.
مكالمة "آمال" أتت تعضد الذي كنت تقوله لنفسك. فالحسان يتقربن منك بكل ما أوتين من حيلة وقوة إغراء، وينتحلن الأعذار في سبيل الإلتقاء بك رغم صيتك الذائع من أنك لا تطيل عشرتهن، لذلك صدق حملك للقبك. بيد أنهن اخطأن كثيرا، و"آمال" من بينهن، فقد صرت الآن في خدمة الملكة مستعدا للتضحية بأي شيء في سبيلها.
هي ذي "آمال" لا تشذ عن قاعدة من عرفت قبلها. لقد كنت تشعر أنها تتقرب منك منذ مدة وتجاهد لأجل ذلك جهادا دائما. فلتكن هي من تنسيك وعدا كاذبا، اسمه الحب، وهي كفيلة بذلك، إذ أنها تملك قوام ذلك. جمالها الآسر وروحها الخفيفة وظلها اللطيف. كل الأسلحة صالحة في الحرب والحب. و"آمال" كانت مستعدة لاستخدامها جميعا لتمتلكك. لم تكن تحبك كما علمت متأخرا. كانت تود امتلاكك، أو امتلاك ما ستملك بعد أبيك.
أدرت محرك سيارتك، تداعب نفسك المضطربة آمال في "آمال". وداعا سلا!
كانت "آمال" منفاك الاختياري من وطن ساعة أنجبك أغرمت به، ونأيه عنك أجبرك على الرحيل وكأنك رددت ما قاله شاعرغاضب.
وإذا نبت بك بلاد فأرحل فكل بلاد الله أوطان.
شيء تبغضه دوما. ثقيل على قلبك، إسمه الإنتظار. لم تتعود عليه قط، وترى اليوم مشروعك محال عليه، ولقاء "وعد" انتظار وهم، وأنت جالس في بهو الهلتون تنتظر قدرا محتوما، "آمال" التي حركتك يد الأقدار إليها كدمية لا تملك من أمرها شيئا إذ تعسرت السبل وضاقت الجنبات. هي الآن تمارس عليك أقدم ألاعيب النساء وأفتك سلاح يمتلكنه، الغنج وهي أستاذة الفتنة الزائفة والدلال المفبرك. نصف ساعة تزجيها ثم تأتيك زغرودة أمعائك تبشرك بمولود تختار له إسما، الجوع. تتذكر أنك لم تأكل شيئا على غير عادتك منذ إفطارك الخفيف في الصباح الباكر.
الكل اسثثناء اليوم. صبيحتك كانت إستثناء. تعقد عزمك على المغادرة، تريد أن تفعل لولا أنك تبصرها، بدلالها الإستثنائي تلج في كامل بهرجها. متغندرة في ثوبها القاني القصير، وانسدال شعرها العاجي المموج على كتفيها كشال حريري. أحمر الشفاه الذي أصبغ ثغرها الشهي البهي شدك إليه شدا. ظمآن أنت لتينك العينين الخمريتين الصافيتين اللتين طفقت تغرف منهما وترتوي من لحظهما. كانت تلك "آمال" التي أغرقت شبابا لا حصر لهم في بحرها ولم تبق لهم ذكرا.
- آسفة إن تأخرت قليلا.
همست وهي ترميك بقبلة أودعتها سحر فتنتها امتزج بعطرها، المدوخ.
- كنت على وشك المغادرة يكاد يقتلني الجوع.
- أنا أيضا لما أتناول شيئا.
كان تصريحا منها لتدعوها، ما فعلت بسرعة.
- إذا أردت، فلنقصد مطعم الفندق.
وهزت رأسها إيجابا. صعب جدا أن تنتقل من عاطفة إلى أخرى، لكن من السهل جدا الإنتقال من إمرأة إلى أخرى. كنت متفكرا تقارن بين السراب والحقيقة، بين التمنع والإيباح، ذاك طيف تمكن منك ومن أحلامك، وهذا كائن ليلي مستعد ليستلقي على فراشك بـ... وبدون دعوة.
- ألهذا الحد لا تروقك رفقتي؟
كلماتها اجثتك من غياهب الشرود، فأعلنت مداريا.
- لمَ تقولين ذلك؟
نظراتها الجريئة تشعرها تغوص عميقا في نفسك تود إقتلاعك إلى الأبد.
- لأنك تبدو متضايقا، محرجا، مترددا، لا أعلم. تفكر في أمر ذي بال، في عزيز.
أفرجت شفتاك عن ابتسامة متشنجة باهتة، ولم تحر جوابا. كنت كذلك فعلا، ولو أنك برفقة أجمل الكائنات الليلية التي عرفتها، لم تستطع بسحرها أن تجتذبك إليها، ولم يقو عطرها النفيس الغزير أن ينسيك عطرأنفاس "وعد"، الذي مازال يحتل خياشيمك. "وعد"، نعم ابنة سلا المحروسة عملت عملها فيك." بركاتك سيدي بوحاجة". تبرز عيناك فجأة، كانهما وقعتا على طيف عفريت أمامك. ترمي معصمك بنظرة بلهاء عاجلة، فإذا هي الثانية إلا ثلث. تنتفض من مكانك، بلا كلمة، ولا إذن كالمسحور. تنصرف مهرولا، وتذر "آمال" هناك مشدوهة كأنك صفعتها على حين غفلة منها، أو صببت عليها دلو ماء بارد فحاولت أن تناديك بعدما استفاقت.
- قاسـ...
لكنك ابتعدت عنها كفاية، لتبتلع ميم إسمك، وتبقيه أسيرا بداخلها، ويظل قاس، مفرجا عنه إلى حين. ندت عنها حركة عصبية، إذ ضربت يدها في الهواء حانقة ساخطة. صوت بداخلك كان قد همس لك باسمها، ودعاك إلى تصرفك ذاك، إذ فكرت بسرعة أنه قد لا تكون لديها حصة صباحية، وأنك ظلمتها. بدا لك وجهها الفردوسي، خال من الكذب والخداع، فلبيت النداء على عجل تستحث سيارتك اللاهثة تخترق جسر ما بين العدوتين مع أنها ساعة الذروة، إلا أنها أشد وأقوى من الجهة الأخرى، إذ أن السلاويين يعودون إلى أعمالهم يزحفون زحفا في زحام خانق، وصومعة حسان ترقب وجهها في أبي رقراق كحسناء تتجمل أمام مرآتها. وتصل إلى "صلاح الدين الأيوبي" فاتحا كما كان، في وقت قياسي. لم تنسك عجلتك ولهفتك الحذر، إذ أوقفت سيارتك بعيدا، بيد أنك تخليت عن خجلك الصباحي الأول، فإذا أنت واقف أمام مدخل الطلاب ترقب حضورها. وتتطلع في الوجوه بشغف، وإذا نبضات قلبك تتواتر مسرعة، إذ أبصرتها تتقدم رفقة شاب يصحبها فتندفع نحوها دون مقدمات لتلمح البغتة على وجهها والإضطراب. مددت يدك تصافحها متجاهلا من معها:
- "وعد".
عددت الزمن توقف لحظات، ويدك في الفراغ تنتظر إشارة منها أو حركة، قبل أن تفعل لتعاود الدنيا حركتها المسرعة جدا. قالت بارتباك جلي وخفوت ظاهر.
- أهلا.
- كنت أريد محادثتك.
بدا أنها بدأت تتغلب على بعض ارتباك دهشتها الاولى.
- لدي حصة الآن كما ترى.
قلت بلهفة.
- أنتظرك هنا حتى تفرغي منها.
كنت مستعدا أن تنتظرها عمرا آخر لو دعيت لذلك. انتبهت إلى طيف ابتسامة في عينيها وهي تقول مغادرة.
- الرابعة. إذن.
وانتبهت أكثر أنها ترافق شابا جعل يرقبكما بعين مرتابة وهو ينتظرها لدى الباب. وجهه مألوف لديك، لكنك أضعته في قمة الإنتشاء، وزحام وجوه معارفك. وسيطر وجه "وعد" التي أزاحت الجميع واستفردت بحكم مملكتك.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:05 AM
الشريــط الثالث
الوجــه الأول:
ترى كم هي قصيرة مدد لقيا الأحبة مع طول الإنتظار، وشدة الوجد؟
كلماتها ماء أردته يطفئ نارا في جوفك، فلما فارقتها إذا أنت أشد إحتراقا وأكثر عطشا.
طلتها خمرة معتقة سقتك رشفة منها، فإذا أنت ثمل سكران.
الرابعة ساعة ولادتك، هي مغنمك. وشيكة جدا، دنية منك. ساعتان، دهر، دهران.
وقررت أن تفنيهما في سلا المحروسة. لن تذرها حتى تظفر بابنتها الساحرة، حفيدة الزهاد والصالحين. خطواتك الشاردة تقودك عبر باب سبتة العتيق، الذي توارت خلفه دور منقبظة على نفسها. افترش أهلها الممرات الضيقة. تردد جدرانها نداءات باعة الفواكه والخضروات، والأسماك الصباحية. يذكرني شعورك ذاك، بالمرة الأولى التي احتضنتني أزقتها. كنت تائهة أبحث عن بعض أيامي. كنت أشبهها، وأراك الآن لا تفرقنا بكثير. نداء الأمومة تحرك داخلي، ودعاني إليها. حبي لإبني قادني إليها حيث ألقتنا جولات بحثه عن الرزق. أراه الآن، وتراه معي يوما، وقد إفترش أرضها، ورفع عقيرته يعرض بضاعته مع العارضين. لعلك تدرك الآن أنك في قلب جوهرة صغيرة. مدينة شعبية، ملمومة حول نفسها. تناسلت أحياؤها، وتمردت على حصار أسوارها كأورام سرطانية قاتلة، انتشرت كالفطر في زحفها المتواتر. والأسماء دوما جميلة وديعة الرحمة، السلام، كريمة، الإنبعاث رغم أنها تتصف بغير تلك الخلال. عيون منطفئة لوجوه بئيسة دعكتها الأيام تقابلك في مسيرك. ألقى بها العوز حيث هي، وتقيأتها الأيام على طريق الحاجة، وشكلت ملامح غير مبينة، عصية الإختراق كعالمكم الفلكي. لعلك تدرك الآن أننا ألمكم الدائم، و"وعد" جزء منا. هنا تعلمت أول دروس حب الحياة.
تنعطف يسارا حيث "السوق الكبير"، تنفذ منه إلى " سوق الغزل" وطفقت تكتشف الزوايا منبهرا بنمط حياة غريب عنك انبهارا طفوليا.
ثَم حيث السلع الزهيدة معروضة للبيع بأثمنة أزهد، وحلقة الدلالة المنتصبة في ركنه الأيسر شاهدة على "بحبوح" وحكايا "سيدنا علي وراس الغول"، و"سيف بن ذي يزن" هي اليوم معرض كل ما قد يباع. يتحلق الناس هناك كما في حلقات الذكر في زاوية "سيدي علي بن حسون". ينشط هذه رجال ونساء ثوبوا الحاجة إلى ريالات قليلة يجابهون إكراهات العيش ومسؤوليات إطعام الأبناء، وتحضن الأخرى راجين حلول بركة السيد لقضاء الحاجات الكثيرة المستعصية، وبعض الحسنات يجابهون إكراهات العيش ومشاكل الأبناء المتفاقمة. يتحلق هؤلاء حول الدلال وحوائج بيوتاتهم التي تجمعهم بها علائق متينة انتهت إلى البيع أو إلى طلاق رجعي، إذ قد يدلل حاجته " العزيزة" اليوم في صراع البقاء، أو لتسديد فاتورة، أو على بلية حشيش، أو مقامرة في سباق الخيل أو الكلاب أو الفئران، ويصادفها بعد مدة، وقد أعادها من كان في ميسرة ساعة ضيق الأول وحرجه، فيعاود شراء ما كان يملك، ويجدد الصلة بعد أن بترتها الحاجة، ويفك بذلك ضائقة من فعلها معه قبلا دون علم أحدهما بذلك، ولا إرادة مدفوعة، أو حسن نية مقصودة في تضامن عجيب غريب. والرجال هنا كما النساء معنيون. الكل يناقش الثمن ويبدي ضراوة وحدة مشروعين مادامت لقمة الأبناء، أو إشباع بلية هي الهدف.
ساقك هواك وألقى بك حيث رأيت ما لم يسبق وأن وضعت عليه عينيك من قبل. البؤس عنوان كبير للحياة. هو من يبيع ويشتري. يباع ويشترى. والجوع يتخم الناس حتى ليتجشأونه. وتدفعك أمواج البؤس، والشرود من "سوق الغزل" إلى "سوق سيدي مرزوق"، ومنه إلى "الحرارية " و"القيصرية" و"الصياغية " إلى قلب المدينة، فساحة الشهداء التي تدلف منها إلى شاطئ البحر حيث الأمواج تتطامى وتترامى أمامك. تلفحك أنسام خريفية طرية تداعب روحك، بعثت من الرقراق المتلألئ كسلسلة فضية في جيد غادة متدللة. تطلعت إلى الرباط التي كانت طلعك صباحا، فبدت لك عصية إذ ارتفعت أسوارها في كبر ولا مبالاة. صرت جزءا من لوحة سلا الكئيبة. يحضنك إذن بحر المجاهدين الذي انطلق منه يوما "العياشي السلاوي" لردع الغزو المسيحي، وحيث دحر البرغواطيون وكانت نهايتهم داخلها على عهد المرابطين. تلقي نظرة على ساعتك فإذا هي الثالثة والنصف. لا مجال لتأخرك عن موعدك الأول معها.
تؤوب مسرع الخطى إلى "صلاح الدين الأيوبي". محلات المدينة العتيقة تعدل مذياعاتها على نفس الموجة. فتبدأ أغنية "للحسين السلاوي" عند العطفة السفلى لتنهيها في العليا.
المدينة تفيض بسكانها. تلوح وجوههم المدبوغة، القلقة. وتندرئ عليك "آمال" من حيث لا تعلم. تغضن طرفها في شبه كلام. خيط دقيق يربط بين النوعين. ثمة تشابه عكسي بين الوجهين. وجه وجوه السلاويين ووجه "آمال" التي كانت ضحية فشلك الأول مع زيارة سلا الصباحية، وتراها الآن تستعد لتعاود الكرة مجددا بلا كلل ولا ملل. ولكن لا ذنب لك ولا جريرة في كل ما حدث، إذ كنت مسحورا، ولا تملك من أمرك شيئا حتى إنك لم تقاوم زحف "رافان" كعادتك كل يوم.
وكان مغنمك الوحيد في سلسلة هزائمك، هذا الموعد مع "وعد".
أما "وجد"، فما عادت تجهل شيئا من ملاحقة "رافان"، وضاقت دائرة حصارها، بعد وردة الصباح الحمراء المشهودة، ومكالمته الهاتفية، بعد ذلك، الرقيقة جدا يعيد ويكرر شكره وامتنانه على حسن صنيعها في سهرة الأمس، إذ كانت المشرفة عليها، وكانت من سهر على إنجاحها. الكعكة الكبرى والمأكولات والشراب والفرقة الموسيقية الشابة التي فتحت لك أبواب قلبك وأضاءت قطعا منه. كل ذلك كان من المقدرات.
وندل السهرة، ولوازمهم. كانت فعلا القائمة المشرفة على كل شيء. كانت جندي الظل الذي يكد ويشقى لتخلق لكم منظرا بهيجا، ومتعة لأنظاركم ونفوسكم. شكرها صباحا، وعاود بعد ذلك، وهي تعلم أنها ذرائع لشيء آخر في نفسه بدأ يظهر شيئا فشيئا، فإذا به واضح أمامها، إذ وصلتها ورقة من مكتبه تفيد أنها ستسافر رفقته إلى أكادير، نهاية الأسبوع لإعداد تقرير حول سير وتقدم الأشغال هنالك، وللتعاقد مع مستثمرين أجانب سيتم استقبالهم بمطار إنزكان الدولي. لم يكن سفرها داعيا للبغتة، فهي تعودت ذلك. لكن أن تسافر مع "رافان" فذاك ما مسها بالإضطراب والإنقباض في آن. ترددت في أعماقها أسئلة محيرة.
من عوض من؟
أهي التي حلت محل كاتبته "لطيفة"، أم أنه من فعل بدل الإمبراطور؟
أيعقل ما يقوم به الآن تقربا إليها؟ ولكنه شخص متزوج ومن "سهد" أختك، وهي فتاة قمة في الجمال، زد على ثرائها، وهي من عائلة كبيرة معروفة. كم راكمت من حسنة. ما تكون هي إلى جانبها؟ صحيح أنها فاتنة، ولها جاذبيتها كأنثى، وذ على ذلك أنها حلوة الحديث، ولكنها منافسة غير ذات وزن إلى جانب زوجه. أم هو شيطان الشهوة الأهوج لدى الرجل، يبطر نعمة متاحة، ويتمرد عليها ابتغاء الحصول على ما هو أدنى عند أخرى بعد طول تخطيط وتدبير، أم تراها أشياء أخرى لم تكن تعلمها في حينها، وأزاحت الأيام عنها سترها؟ كانت بادية الربكة، ظاهرة الإنفعال حين رن الهاتف، فإذا صوته يصلها من الطرف البعيد.
- "وجد".
- نعم سيد "رافان".
- توصلت لا شك، بأمر سفرك رفقتي إلى أكادير.
- نعم سيدي، وإن كنت أتساءل لماذا لا ترافقك الآنسة "لطيفة" كاتبتك؟
- آه، للسيد "إبراهيم" مشاغل كثيرة نهاية هذا الأسبوع، ولذلك طلب مني تعويضه، واقترح علي أن ترافقينني لمعرفتك ببعض أعضاء الوفد الأجنبي الذي سيحضر، وأصارحك أن الامر راقني وأسعدني كثيرا لما هو مشهود لك من تفان وكفاءة قل نظيرهما.
- شكرا لك سيد "رافان".
- إذن وإذا سمحت، أدعوك لنتباحث في إجراءات السفر وبرنامج العمل وما إلى ذلك.
- حسنا، سأحضر لمكتبك الآن.
- لا، ليس الآن. قصدت أن نتتناول شيئا معا، إذا لم تمانعي.
- لا مانع لدي البتة سيد "رافان"، ولكني منهمكة في عمل مستعجل، ثم إني أخشى إن اتصل السيد "الشرقي" ألا يجدني.
- لا تخشي شيئا فذلك داخل في صميم العمل، ولتعوضك واحدة من طاقم السكرتارية. إذن أنتظرك حتى تنتهين مما هو مستعجل لديك، أم لك رأي آخر، "وجد".
وهمست المسكينة في داخلها. لا رأي لي أمام جرأتك التي تخنق مقاومتي.
- حسنا سيد "رافان". ليكن كما أعتقد عند الثالثة والنصف.
- إذن سأنتظرك خارج المجموعة.
مستعجل جدا "رافان". يحدد هدفه، ويقصده مباشرة دون تأخير أو مواربة، ولا يني عن فعل المتاح في سبيل تحقيقه، و"وجد" أخذت على حين غفلة وما استطاعت مجاراة سرعته ومقاومة حصاره. استغل فراغها العاطفي البين، وقلة تجربتها. مسكينة كانت "وجد"، كما كنت في وقوفك بمحاذاة باب "صلاح الدين" كمراهق أعجبته لعبة الإنتظار التي احترفتها. مس رأسك الدوار وأنت تلمحها تخرج مسرعة بعدما رمتك بنظرة قصيرة، ثم أخذت تحث مسيرها كأنها تود الإفلات منك. أصابك الغضب حد السعار. واستعرت الدماء في شرايينك، وتصاعدت في غليانها إلى ناصيتك. عادتك حكاية كنت قد سمعتها عن أهل سلا، وأضحت تقال فيهم للتندر والتفكه.
أحقا يصيبهم شيء في عقولهم مع اقتراب العصر ودنو إغلاق الأبواب الكبرى؟
لماذا إذن منحتك وهما إذ أضمرت الفرار منك؟
كنت حكيما فعلا إذ قررت تعقب خطاها لتطلب منها توضيح تصرفها ذاك، فإذا هي تموج بين الخلائق الذين تصورتهم للحظة يصرخون جميعا. المدينة تجأر ونأمات بنيها وصراخهم يمزق العنان. لم تزل ناظريك عنها، حتى قادتك المطاردة إلى وسط المدينة حيث ساحة الشهداء. شهيد الحب أنت، صريعه. أخذت تخفض من سرعتها، لكأنها أنهكت من إصرارك، والتفتت إليك وهي ترسم ابتسامة مضيئة على وجهها المضرج بحمرة عذبة.
- كنت أخشى ألا تفهمني.
كنت تلهث - إذ المطارد دوما يتعب- فقلت بجفاء غير مستوعب ما تقول:
- ماذا تقصدين؟
- لقد اضطررت إلى كسر طوق المراقبة المفروض علي.
- ممن؟
- من الكل. كأنك لا تعبأ بما قد يقوله الناس عني لو لمحوني أخرج مع غريب.
لم تكن تدري إحساسها ولا شعورها على الرغم من أنها لم تكن تتوقع أن تعاود رؤية "قاسم سعدون" بعد سهرة الليلة الماضية، على أنها تمنت ذلك من أعماق نفسها.
أعجبتها وسامته، وخفة ظله، وكفاحه في سبيل العيش، وأشياء أخرى لم تجد لها أسماء في قائمة الموجودات دفعتها إليك. وكان "قاسم سعدون" كما قدمته لها، فارس أحلامها أزجت ليلتها متقلبة في فراشها. تنتظرك في بيت الزوجية، بعدما تقدمت لها، وقد أعدت لك وجبة سعادة تقتسمانها في عشكما الصغير، الحالم. صغيرة هي أحلام الصغار، لكن هل تتحقق كل الأحلام على صغرها؟ لو صح ذلك لحلم الناس صغارا، ولكن ذلك شيء محال.
واليوم بعدما رأتك لم تكن ربكتها وترددها فقط لقربك من وسطها حيث تدرس، أو لأنها كانت رفقة زميل دراستها، ورئيس فرقتها الموسيقية، وشبه أخيها. لكن ذلك كله كان اندهاشا وعدم تصديق أنها في بداية تحقيق ما رأته في أحلامها.
لأجل ذلك أنفقت كل حصتها تفكر في طريقة تتخلص فيها من "محمد" زميل الدراسة ورفيق الدرب فأوهمته أنها ذاهبة للمرحاض، وأوصته أن ينتظرها داخل المؤسسة حتى تتأكد أنه سيبقى هنالك عند خروجها لمقابلتك، وكان لها ما أرادت. لأجل ذلك أيضا، خرجت متسللة، مسرعة الخطى كأنها مطاردة، تحاذر أن يراها أحد من معارفها، وليس للفتاة إلا سمعتها وحسن سيرتها في مجتمعاتنا وإلا لحقتها وصمة الفجر أبدا. وحسبتها تسخر منك.
أرى الآن ابتسامتك من سخرية الموقف. جميل أن أعيد إلى ذاكرتك كل هذه الأحداث لتعيد اكتشاف خطواتك الأولى في الحب. وتكتشف خيانة "رافان" لأختك "سهد"، إذ ضمه و"وجد" في ذلك اليوم ركن قصي في مقهى العاصمة، فإذا به يباغتها بسؤال دون تقديم حين قال:
- آنسة "وجد"، أريد رأيك صراحة. هل أبدو لك سعيدا فعلا؟
- هه؟
واتسعت عيناها دهشة.
- لست أدري سيد "رافان"، ولكني أراك كذلك.
- أرجو أن ترفعي الكلفة بيننا، والألقاب. ألسنا صديقين الآن، نتدحث عن أمور شخصية. سأفعل أنا يا... "وجد".

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:06 AM
الوجــه الثاني:
ازداد اتساع عينيها وهي تنصت له، وهالها تسارع الأحداث وتلاحقها، ولم تدر ما تصنع حيال نظرته الجريئة إلا أن حاولت الفرار بنظراتها فإذا هي تقع على حوض أكواريوم زين بهو المقهى. شدت لمطاردة سمكة سوداء عنيفة لأخرى جميلة اللون صغيرة الحجم. تفر بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة. فوجئت بيده تمسك يدها بحرارة كالمستجير بها ثم قال بتأثر.
- لست كما أبدو للجميع. إني أعذب يا "وجد".
شيء أن تكونا أنتما في نفس الوقت في مقهى "الموعد" قبالة بلدية سلا. كان النادل يضع لـ"وعد" عصير البرتقال حينما همست مهينمة.
- شكرا.
أتذكر ما قلته لها ساعتذاك؟
- أنا من المجدودين لتقومي بكل هذه المغامرة لأجلي.
خضبت حمرة الخجل وجنتيها، فأضفت:
- هل توقعت رؤيتي بهذه السرعة؟
كان صوتها نغما يهز روحك طربا.
- لست أدري، لكني مسرورة لذلك..
أخذت تكشف لها حقيقة ما تحمل.
- لقد كنت بطلة أحلام ليلتي. منذ فارقتك بالأمس وأنا أتمنى أن أعاود لقاءك، وأنت؟
بدا كأن الدمع سينفرط من عينيه، وأخذت تنظر حولها بانفعال مكبوت، تبحث عن ملاذ، فإذا هو دوما الأكواريوم حيث السمكة الشرسة ماتزال تتعقب السمكة الفريسة بلا كلل. كانت تخشى فعلا أن يكونا عرضة لعيون الآخرين المستطلعة في فضول، فقالت مواسية:
- تمالك نفسك سيد "رافان". ماذا سيقول الناس؟
ثم استلت يدها برفق منه أو حاولت، إذ عاود إمساكها بقوة وضراعة.
- "وجد"، أنا أحبك.
صكت الكلمة أذنيها، قالها هكذا دون تقديم، أو سابق إخطار. لم تظهر عليه أعراض تلك الكلمة كي ينطقها وتصدقها. لم يبد تقربا منها إلا في الأيام الأخيرة. أتراه فعلا كان يعيش فراغا عاطفيا مثلها؟ لقد كان لتوه يريد البكاء، يستجدي عطفا وذلك ما نجح فيه فعلا، أو كاد.
سؤالك المباشر ذاك، أتاها من حيث لم تتوقعه. وبدت الأشياء تركض مسرعة بينكما. لم تكن من جنس كائنات الليل التي تخبرها، يتصنعن دلالا يفقدها أنوثتها. كانت مبتدئة في دور الحبيبة، فطري كل شيء لديها. لم تحاول أن تخفي ما تحس به اتجاهك. أخذت تتفحص عينيك وهي تهز رأسها علامة الإيجاب.
وسحبت يدها بقوة وهي تتمالك غضبا رغما عنها بنبرة صوتها وهي تقول:
- لقد كنت أعلم ما تخطط له. فثق بأنك أخطأت حساباتك هذه المرة سيد "رافان". لست كما تعتقد ثم إنك متزوج...
قاطعها متأثرا:
- وتلك مصيبتي...
قاطعته بدورها محتدة:
- لا شأن لي بحياتك الشخصية. جئنا لنتحدث عن العمل، إذا عاودت الكرة معي سيد "رافان" سأضطر إلى الإعتذارعن سفر أكادير، وليقع ما يقع.
وهبت من مقعدها تاركة كلماتها الأخيرة تائهة بينهما.
- لا يمكنني إيذاءك. ثقي بي.
وتخرج غاضبة، مسرعة وتلقى نظرة أخيرة على الأكواريوم، فإذا الفريسة مواصلة فرارها في عناد واستبسال وقد نالها التعب أمام إصرار الشرسة. أتستمر هكذا في الفرار إلى ما لا نهاية؟ أشك في ذلك حقا.
سماء الحبور تظلل رأسيكما. جميل جدا أن تدرك أن قلبا آخر ينبض بإسمك في كل آن وحين، والأجمل أن تصادف روحا أخرى، تكتشف أنك تعرف تضاريسها خير معرفة دون أن تطأ أراضيها. أكنتما في لقائكما ذاك تحتاجان إلى كلام؟ قطعا لا، وذاك ما أدركتماه، فإذا نظراتكما تتحدث عنكما، وتخرس لسانيكما. قصرت الكلمات أن تسمو لعاطفتكما وشعوركما. كان كل شيء استثناء في ذاك المساء السلاوي، العذب في كل تفاصيله. "بركاتك سيدي لحسن العايدي". كان الحب انتصارك الأول، وانتصارك الأهم في يومك المشهود ذاك.
- حدثني قليلا عن نفسك.
كان سؤالها يطربك، وإن أفاق عليك لعنة كذبتك. تناسيتها وقلت بمرح طفولي بريء.
- إسمي "قاسم"...
قاطعتك وهي تضحك أيضا بعمق.
- "قاسم سعدون"، موظف بشركة. قلت لك حدثني قليلا عن نفسك، ولم أقل أعد علىّ ما قلته بالأمس.
طالعك شبح الأمس مرة أخرى، ورطته، كذبته. لعنت في سرك الكذب ومخترعه وداعيه، وغناك الذي ألقى بك إلى هذه الحافة المدمرة، وفقرها الذي أحرجها أن تصادق غنيا لما تحمل في نفسها عليهم، من أنهم متلاعبون. شبح قد يعصف بهذا الجنين الآخذ في التشكل.
لعلك الآن تذكر جبنك لحظتها. كنت تود مصارحتها لكنك جبنت وخشيت ردة فعلها. وما يدريك؟ فلو صارحتها ساعتها لعظمت في نظرها أكثر، لكنك لست الملام. وإذا بك تخطو خطوات أخرى في مستنقع كذبك، سيشق عليك الخروج منه فيما بعد.
- عائلتي من مدينة فاس.
- ألا تقطن معها هنا؟
- بلى، ولكننا أتينا من فاس.
- "بركاتك مولاي ادريس"، وأين تقطنون بالرباط؟
وشرعت تفكر قبل أن تنطق كقاض شيء أن يحكم على ذي صلة بالإعدام أو المؤبد.
- العكاري.
أترى الآن أن الكذب على صغره، يجر ما هو أكبر منه فالأكبر، مع كل ورطة تحاول الخروج منها إلى وقت لا تستطيع معه هزم الغول الذي صنعته بيدك، أو على الأصح بلسانك.
سماؤكما صافية لا غيم فيها يحجب شمسها إلا هذه الكذبة التي تهددها. تزدرد ريقك، ويصل صوتك إلى أذنيها مرتجفا، كأنك تبوح خيانة باسم عضو سري في حركة ثورية للمخبرين لا باسم الحي المفترض لسكنى "آل سعدون". خشيت أن تكون قد أدركت اضطرابك، ولكنها، المسكينة تراك ملكا منزلا لتوك لتقيم سعادتها على الأرض.
لفرط ما تمر الأوقات السعيدة التي نتمنى خلودها. رفعت رأسها إلى الساعة الحائطية فأجفلت من مكانها إذ كان عقربها الصغير يحاذي السادسة وكبيرها شارد بين العاشرة والحادية عشر.
- متى أراك؟
قلت متلهفا، كأنك وقعت على جوهرة تخشى ضياعها من بين يديك.
- غدا لا يمكن. الجمعة الساعة الرابعة إذا أردت.
- لن أعيش الغد إذا لم أرك فيه. لكن لا بأس بالجمعة. أين نلتقي؟
- هنا إذا أردت.
همست جذلا.
- نعم، هنا.
صعبة لحظة الفراق ساعة أول لقاء. مخاض عسير ستعرفان بعده إن كان الوليد المرتقب سيعيش أم الموت مآله. لكم تمنيتما أن تسمعا صراخه يوما، إذ ما أتعسكما بدونه. تصافحتما طويلا. تذكر الآن أيضا أين أوصلتك لمسة من يدها؟ إلى طلعك تراقب بزوغ شمس العشاق تبارك يومكما.
كنت صاحياً وحلمك مستفيق معك. تعيش من خلاله ما كان عصيا على ناظريك قبلا، سعادة غير محدودة كتلك التي تستشعرها "وعد"، إذ أحست قلبها يرقص بين ضلوعها. لقد كنت أنت فارسا كان يعودها كل ليلة. يمسك يدها برفق. يأخذها إلى عوالمه العجيبة. لطالما حلمت بك. تعرفت عليك بالأمس، واليوم فقط اكتملت ملامح فارسها. حلم صغير وبسيط جدا، أخذت تجتره وهي في طريقها آيبة إلى منزلها. كنت رفيقها دون علمك. عائلتك التي تقطن بالعكاري. تصورت أمك حنونا طيبة. أفاضت عليك من مشاعرها، فإذا أنت تشبهها كثيراً. رأت أباك، متقاعدا بعد طول كفاح. وخمنت أن لك إخوة صغارا، أربعة أو خمسة. كبيرهم كنت لتنتقل الأسرة في خطاك من فاس إلى الرباط. تعرفت عليهم أكثر يوم أتيتم لخطبتها. وعندما سئلتْ هل تقبل بك خطيبا ومن بعد زوجا؟ هتفت في أعماقها بكل قوتها، بكل عشقها، نعم. وهزت رأسها أمامكم خجلى تؤكد قبولها.
حدد موعد العرس، وخضبت الأيادي بالحناء. وثوبت النسوة أجمل ما لديهن. وتماهين مع الموسيقى مع دعوات التبريك. وجلست العروس ورأسها أرضا، تحاذر التطلع في الأعين المشرئبة إليها.
قالت لك قبل أسبوع، أنها تعلم أنك مسؤول عن إخوتك، وأنها لن تكون حاجزا بينكم، وأنها ستسكن معك أنى شئت. ارتحت ساعتها من صراع داخلي كنت تعيشه، وقبلتها في جبينها عرفانا، وأخبرتها بأن لك غرفة ستعجبها كثيرا. قالت ضاحكة.
- لا يهمني شيء مادمت معك، حبيبي.
وعدتك أنها ستعامل أمك كأم لا كحماة، وصرت تعلم كل شيء عنها. علمت أنها فقدت أمها بعد ولادتها وأنها لم تر ملامح أمكما. عذبة هي أحلام الصغار. جميل هو حلم "وعد " على بساطته وبدائيته. كان ذلك أقصى أمانيها في الحياة. زوج تحبه، تمنحه قلبها. تدخلا غرفتكما. لحظة طالما يرقبها العريسان ويستعدان لها. توصد الأبواب دونكما. جالسة هي مرتعشة على كثب سريرها، خجلى من لمسة يدك، مع أن كل جوارحها تتمناها وتقول أنت بشوق:
- ما بالك "وعد "، ألا ترين كم صبرنا لنصل إلى هذه القمة؟
هدأت قليلا، وأخذت تقرأ عليها قسم الأزواج الجدد.
- أعدك حبيبتي بالسعادة ما حييت، وبالحب طول عمري. أعدك.
يد توضع على كتفها. لا، لم تكن يدك. يد أخرى امتدت إليها تنتشلها من حلمها وتجرها من لذة عاشت عمرا تحلم بها.
يد طردتها من جنتك. تلتفت وراءها وجلى فزعة، فإذا هي "وجد"، كاتبة والدك وأختها الكبرى. قالت معتذرة:
- أخشى أني أفزعتك، لكني ناديتك أكثر من مرة دون أن ألقى منك ردا.
كيف للمسكينة أن تجيبها وهي سابحة في بحرك؟ كانت تسمع قسمك ووعدك لها. اضطربت وعادت إلى بعض هدوئها.
- كنت عائدة من الخزانة الصبيحية إلى البيت.
تمشيان صامتتين ساهمتين، متحاذيتين، هذه بحبورها، وتلك بانقباضها. لم تكن تدرك أنهما أختان، ولم تلحظ الشبه بينهما. ملامحهما المشتركة لم تكن لتوقظ داخلك ذلك الشعور، فأنت بالكاد تلقي نظرة خاطفة على "وجد" في الشركة، بينما أنت متيم بأختها. كانتا نسختين عن أمهما. عيونهما الدعجاء الصافية. مسحة الحزن الدفين في صوتيهما. شعرهما المخملي كان طويلا منسابا عند "وعد"، ومشذوبا لدى "وجد". اتفقتا ووجه سلا، خمريا كأسوارها العتيقة. شفتاهما كرحيق مختوم، عند هذه كحبقة طيبة ولدى تلك كسوسنة عطرة. كذاك كانتا، حبيبتا قلبي، لا تحملان إلا الأطايب ولا تتفوهان إلا بما يسر الخواطر. تلجان حي الطالعة، حيث قابلهما المسجد الأعظم، ودعوة "عبد اللطيف الصبيحي" ومن ورائه الحناجر مرددة "اللهم يا لطيف ألطف بنا فيما جرت له المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر" حدث ذلك بعد أن تنبه لمكيدة المستعمر، فأعلنت اللطيف في كل البقاع. وتجدان "محمدا" كأنه ينتظرها هناك، ونظراته المعاتبة لم يحاول أن يخفيها. فطن لمحاولتها توجيه عنايته عنها. وخمن أنها خرجت معك، بل كان شبه ياقن من ذلك.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:07 AM
الشريـط الرابع
الوجـه الأول:
كانت "وعد" تحمل لـ"محمد" ابن الجيران كل ود وكل حب وهو الذي ربي إلى جانبها. شجاره مع أطفال الحي صغاراً يدافع عنها. زميل دراستها منذ أربع سنوات بعدما رسب ولحقت به ولم يعودا يفترقان. أحب الموسيقى لعلمه ولعها بها. لأجل ذلك كون فرقة موسيقية، ودعاها إليها بعدما شجعها على الغناء. حتى هواياتها شاركها فيها. رقيق الروح "محمد"، أحبها في صمت، وظن أنها تعشقه أيضاً. لم يصارحها يوماً، ولكنه ألمح لها بذلك غير ما مرة، بيد أنها لم تفهم إشاراته وتلميحه، أو أنها لم ترد أن تفهم ذلك حتى لاتضيعه وتخسر أخاً أهداها إياه الحي الذي كانت تسكنه. كان ينتظر فرصته، وانقبض لما رآك في الحفلة تقترب منها. وغضب اليوم في صمت، وما أكثر صمته! كان يريدها أن تعلم أنه منزعج من تصرفها، لأجل ذلك حينما سلمت عليه "وجد" رد عليها بينما رمــى "وعداً" بنظرة لم تفلح في فك شفرتها لأنها لم تتعودها منه. "محمد" الوديع، حتى في وعيده بالمقاطعة، صامت لا ينطق بشيء. نظرته لها كانت كل كلامه. هي أيضاً كانت تنتظر فرصتها لتعبر عن شعورها اتجاهه. أخاً لها دوماً عدته. لم تره حبيباً أو زوجاً تعده أن تعامل أمه كأمها التي لم ترها، ولم تحلم به يوماً يقرئها وعد الأزواج. وبينما كانت مترددة ما بين نشوة التعرف على الحب، وبين الخوف من فقدان أخ عزيز، كانت الأخرى تسكن في أعماق الحيرة. ما عساها تفعل لصد "رافان" الذي أوكل إليها قبلاً تنظيم مهمة سهرة عيد ميلاد أختك "سهد" تقرباً إليها؟ أحسن إليك من حيث لا يدري. لو لم يفعل لما دعت "وجد" فرقـــة "محمد" الموسيقية، ولما قابلت الحب.
مكتوب لقاؤكما في لوح المقدرات، وحبكما يليه في السطر الثاني الذي شرعتما تقرآنه معاً وتعيشان تفاصيل دقائقه. كأنكما تعلمان أن لحظات السعادة لا يمكن التكهن بمعاودة مصادفتها، فأقبلتما عليها تغرفان منها دون انقطاع وتشبعان ظمأكما. أكنت لأتيه عن ما يحمل وجه كل منهما وهما تدخلان عليّ ذاك المساء؟
وأذرك ممتطياً سيارتك فرحاً مبتهجاً عائداً إلى رباطك، فرحاً جذلاً، لأعود بك إلى هنا، تاونات الجبال والرجال، راكنا إلى مصطبتك، تقتات من صوتي بنهم تريد الوصول إلى حلي المقترح.
أعيدك إلى هنا حيث بداية الأشياء، وميلاد الحكاية التي تجتر الآن خيبتها. قد تقول:
وما ذنبي؟ ولا يد لي في حكايات أخرى لأجيبك بحسم:
- الكل مربوط بالماضي، ولو كان قويماً سليماً إذن لسلم حاضرك، وحاضرنا معك. ثم ألا ترى معي أن ماضيك يلاحقك مسرعاً يحاول الإمساك بك مهما أسرعت في الفرار منه؟
لاحل أمامك إلا أن تتعرف على عدوك، ماضيك. وتواجهه بإرادة هزمه ودحره، وإلا ستعيش معلقا بين ماضيك وحاضرك، فاقدا مستقبلك.
طيلة أشهر ثلاث تواترت لقاءاتكما بمقهى "الموعد" السلاوية، تبسطان مشاعر صادقة وحميمة، وأضحت طاولة في أقصى يسار الطابق العلوي وطنا لكما، تحتفي بالحب والحياة معكما. لكأني أبصر طيفيكما بعدكما جالسين يتناجيان، ويرسمان طريقكما التي ستمشيانها متحاذيين.
وطيلة تلك المدة، احتفظت بغصة كذبتك الصغيرة عليها. وتستجمع كل قواك الكامنة، وتستدعيها من معاقلها، بيد أنك ما إن تجلس أمامها لمصارحتها حتى تجبن، وترتد عزائمك مخافة أن تضيعها من بين يديك. وكنت واهما. لم يكن يهمها من شيء غيرك. ما العيب في أن تكون غنيا أو معدما؟ كنت الوحيد الذي تراه وتؤمن به. لو صارحتها، في أي وقت، لوفرت عليكما مشوارا طويلا وعذابات كبيرة، ولكن لابأس. كنتما قاصرين في الحب تتعلمان، تخطئان وتصيبان، تتعثران وتقومان.
وانتصب إلى جانب كذبتك الصغيرة، طيف "محمد" بينكما، وهو الذي عدته دوما أخا لها، تبث له أمانيها المخفية حتى إنها أوشكت أن تطلعه على علاقتكما، بيد أن أملها خاب، وتكسرت موجة أمانيها عند صخرة اعترافه لها ذات يوم بشيء صك سمعها، ولم تنتظره قط مسبقا، ولا توقعت حدوثه، إذ ألح في طلب مقابلتها والحديث إليها منفردة، وزاد أن دعاها إلى "الموعد"، واستفحل الأمر وتعاظم عليها أن جلسا في طاولتكما، وطنكما، فتأكدت أنه يعلم حكايتكما، وأنه بلاشك كان يتعقب خطواتكما، حتى يعلم أين كنتما تجلسان؟
الحب مجنون، وإذا ما كان مبتور الأطراف، ناقصها، وانتفت عنه عوامل النجاح، الطرف الآخر، يضحي مدمرا قاتلا لصاحبه ولمن يحب. كان بادي الارتباك، ظاهر العذاب.
- لست أدري من أين أشرع حديثي؟
تطلعت إلى وجهه الأسمر البريء كأنها تراه لأول مرة، وتتعرفه:
- "محمد"، ما بك؟ هل الأمر مهم لهذا الحد؟
- أكثر مما تتصورين. أنا يائس، ومرهق من طول التفكير. أحس رأسي ستنشطر نصفين.
ذهلت لما يصلها منه، وهي التي عهدته متزنا خالي البال، فتساءلت متوجسة:
- ألق ما لديك علي أساعدك، وأنت تعلم قدرك عندي...
قاطعها:
- تلك هي المشكلة، أو أنت هي مشكلتي.
بغتت وهي تهتف.
- أنا؟
- نعم أنت، وتحسبينني أعمى لا أكاد أبصر شيئا من حولي، وذاك ما يشقيني.
بدت كأنها لم تع جيدا ما يود قوله.
- أفصح عما لديك، فأنا لم أعد أفهم.
صدر صوته من صدره كالحشرجة ألما بما سيبوح به لها.
- ذاك الشاب الثري الذي صرت تقابلينه.
- تقصد...
- نعم هو، إنك بفعلك ذاك تغتالين أحلامي معك، وتطعنينها في ظهرها.
- ماذا تقصد؟
- أحسب أن الأمور جلية أمامك. كم يلزمك من الوقت لتعلمي أني أحبك؟
وأمسك بيدها لحظة دخولك لتجده يناجيها حبه، ويبث لها ما يحمل قلبه من حب عاصف جارف. كانت توليك ظهرها، وتعرفت إلى وجهه كما تعرفت إليها، وما كنت لتتيه عنه وهي مرتك الثالثة التي تصادفه خلالها. حسبتهما يتناجيان، وحسبت أنها كانت تخدعك ولو أعملت عقلك قليلا لأدركت أنكما كنتما على موعد هنالك. كانت تنوي أن تدخل عليهما، فتعرفك عليه كأخ، لكن... وانسحبت غاضبا، وشيطان الغيرة يعمي عينيك، ويهمس في أذنك:
- خدعتك الملعونة.
لو بقيت لحظة أخرى لرأيتها تسحب يدها من يده، ولو اقتربت منهما أكثر لسمعتها تقول له:
- وأنا أيضا أحبك كأخ كبر إلى جانبي، وليس كحبيب يشاركني الحياة. لاأملك إلا قلبا واحدا وهبته إلى من تلمح إليه.
بدا كشبح اليأس، وصوته الخيبة والمرارة.
- ألأني فقير، وهو ميسور؟
- ميسور؟ إنك لا تفهم يا "محمد"، بل هو موظف عادي.
- لا تحاولي خداعي.. إنه ابن عائلة فاحشة الثراء في العاصمة. أتذكرين الحفلة التي دعتنا إليهـــا "وجد"؟ لقد كانت حفلة ميلاد أخته. ليلتها دنا منك، وتعرف إليك. ثقي بي، إنه لايصلح لك، بل إنه لايراك إلا متعة لحظة بينما أنت عمري كله.
وقع خبر كذبك عليها وقعا أليما موجعا، وصعقت لتصريح "محمد" أخيها بهذه العاطفة الغامضة التي حلت عليه فجأة مع ظهورك في حياتها، وأغاضها غدرك ولؤمك. أياما طويلة معك ظنتها ستخلد بخلود حبكما، ولكنك ما كنت إلا متلاعبا بها وبمشاعرها بيد أنها لم تشأ أن تظلمك، وتحكم عليك دون التحقق. وما يدريها؟ لعل جنون "محمـد" قاده إلى اصطناع كل هذه الكذبة للإيقاع بكما.
كنت ملاكا لايكذب ولايتلاعب بعاطفة نبيلة كهذه أم أن شيطانا محتالا يسكنك ويحركك. هل أعماها الحب عن حقيقتك المغرضة؟
وخسرت "آمال" رهانها مع "ليلى"، وضاع منها خاتم ماسي نفيس، كما ضعت أنت من بين يديها وأحنقها خسرانها لكما فأجمعت أمرها على ضرورة الإنتقام منك وإسقائك من الكأس نفسها التي أسقيتها منها دون علمك، وجعلت تنتظر وتتحين نهزة تحقيق آمالها وإشفاء غرورها. وكان أن أتاها الفرج من حيث لاتدري. اتصل بها "رافان" ذات صباح يطلب لقاءها. كان يعلم مجهوداتها المتواصلة للحاق بك ولإيقاعك في حبائلها. أراد الإيقاع بها أيضا بعدما أوقع "وجد" المسكينة التي ما استطاعت التصدي لإعصاره الجارف، وأذعنت له في أكادير. كانت دعوته لـ"آمال" على الغداء لا تقاوم، وهو الإمبراطور الثالث. وبعد تقديمات المجاملة كعصيرهما الذي استبق الطبق الرئيسي، ابتدرها:
- تعلمين "آمال" سر نجاح المرأة.
رفعت حاجبيها المنحوتين وقد اتسعت ابتسامتها كأنها لم تتوقع منه ذلك، فاستدرك يعد على إبهامه وسبابته ووسطاه.
- الجمال، الأناقة والذكاء. وأعتقد أنك تملكين كل هذه المقومات، بيد أني أعيب عليك استخدامها.
أسلوبه المباشر يربك دوما محدثيه كحال "آمال" التي تصنعت غير ذلك فقالت في اكتراث غير ظاهر.
- لم أفهم.
- تضيعين وقتك وراء وهم وسراب، بينما الجنة أمامك لا تنتظر إلا أن تشرعي أبوابها وتدخلينها لتتربعي على عرشها.
ازدادت ابتسامتها اتساعا وهي تقول:
- زد على كوني غبية، فأنا عمياء لاأبصر.
هز رأسه يؤكد دعابتها.
- نعم عزيزتي. ماذا تريدين بـ"قاسم" وهو شاب طائش لا يقدر حق من يحبه، بينما تستطيعين بمجهود أقل الظفر بمن هو أغنى منه؟
حسبته يمهد ليعرض صحبته عليها فقالت بكبر:
- القلب وما يريد، وما نملك إلا اتباعه.
قاطعها مستهزئا:
- الحب؟ لا تحاولي خداع نفسك، وخداعي معك. إننا نتشابه كثيرا، أنت وأنا. أتعلمين أني انطلقت يوما من الصفر كما فعلت أنت؟ وهذا ما يجعلني أتعاطف معك، ولا دخل للترهات فيما نحن خائضان فيه. ويمكنك سماع اقتراحي إذا أردت.
تساءلت مستطلعة:
- اقتراحك، أي اقتراح تقصد؟
- نتعاون سويا حتى يحقق كل منا هدفه. سأعمل على تقريبك من حماي العزيز، ويبقى عليك إعمال فتنتك وجمالك وحيلتك لتتمكني منه وتدخلي جنته. وبذلك تحققين رغبة طالما ساورتك: الغنى. وهدفا آخر قريبا: الإنتقام من ابنه. فماذا تقولين؟
لم تكن تتخيله يمهد لأمر كهذا، فقد عدته يفعل لأجله إذ تصورته أغرم بجمالها. لذلك تفأجات كثيرا للأمر. قالت بعد أن هضمت وقع المفاجأة والإبتسامة لا تكاد تفارق وجهها الجذاب:
- لا أحد يرفض دخول الجنة.
واستدركت بعد حين.
- هذا هدفي كما تعلم، فما هو هدفك؟
استشعرت شيئا رهيبا لأول مرة في "رافان" على أنها كانت تعرفه من قبل، وكأن شخصا آخر يتحدث من داخله.
- إن كان هدفك دخول الجنة، فإن هدفي امتلاكها.
كان هذا "رافان" الذي لبس ثوب الخديعة معكم، وبهرتكم أخلاقه. استطاع النفاذ إلى قلب أختك "سهد". لهفي عليك يا ابنتي. شرخا عظيماً تركه الملعون في نفسك. ولكنا سنلملم كل أجزائنا لنعيد تصحيح أيامنا وتقويم اعوجاجها. ما لم تكن تعلمه هو أنه بعدما أخضع "وجدا" له، جعل يتجسس عليك إلى أن علم بعلاقتك و"وعد" وتعقبكما غير ما مرة ولحظ تعقب "محمد" لخطاكما أيضا. ولأمر ما أراد أن تدوم علاقتكما، لأنها من جهة تلهيك أكثر وقت ممكن. لكأنك سابح على الدوام في ملكوت العشق لاتكاد تنزل أرضا لتدرك ما يحاك ضدك في غفلة منك. ومن جهة أخرى، يبقي "آمال" تحت خدر الغضب والانتقام.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:09 AM
الوجـه الثاني:
"رافان" يحب دوما أن يصيب أكثر من عصفورين بأقل من حجر واحد. ولو علم شدة عذابك وضياعك إن فقدت "وعدا"، إذن لسارع إلى إعمال حيلته لأجل ذلك. ولكن رياح الأقدار حركت أشرعته بحسب ما ترتضيه وتشتهيه. و"وعد" لم ترد أن تظلمك أو أن تحكم عليك دون سماع دفاعك وتتحقق من مزاعم "محمد" لديها. ولعلمها باشتغال "وجد" لديكم، فقد كانت تعلم مقر المجموعة، فقصدت مقرها مرتعشة وجلة من أن يصدق ما جاءها عنك، فإذا إمبراطوريتكم كقدر اقتيدت إليه مجبرة. خطواتها المضطربة تدنو من حارس مرآب السيارات التابع لأمنكم. تسأله متلعثمة:
- من فضلك. أردت السؤال عن "قاسم سعدون".
ابتسم ابتسامة عريضة ذات معنى بعيد.
- "قاسم سعدون"؟ لايوجد لدينا هنا إلا السي "قاسم الشرقي" ابن السي "ابراهيم الشرقي" صاحب كل ما ترينه هنا، وما لاترينه أيضا، و"قاسم بركات" أيضا وهو رجل قريب من التقاعد.
عقد لسانها وشل عن الحركة، وأدرك الحارس ما هي عليه فأضاف ينكأ جرحها.
- على كل حال، لست الوحيدة التي تسأل عنه.
أولئك الموظفون الصغار الذين لا تنتبهون لهم عادة، كثيرا ما يملكون الحقيقة. وحقيقتك رجت عالمكما، وهدّت أركانه فإذا هو هشيم بعضه فوق بعض. وعادت متهالكة متثاقلة إلى سلا المغبونة الجاثية عند أقدام الرباط العاتية، تنوء بهموم لاطاقة لقلبها الهش على حملها. تبكي غدرك وخداعك، وتحترق احتراق شموع المواكب ليلة المولد النبوي الشريف. شمعة وحيدة في عالم مظلم تحترق في صمت تنير ما حولها. المسكينة. كانت كما قالت لـ"محمد" يومها لا تملك إلا قلبا واحدا، ولقد أوقفته على حبك فإذا نبضه اسمك. لقلبها باب واحد، لم يدخله أحد قبلك، ولن يفعل بعدك. ولباب قلبها مفتاح وحيد وهو بيدك.
أتعيش بعدك بلا قلب؟ كيف ستتذوق الأشياء الجميلة بدونه؟ ما أقساك!
أين كنت أنت وسط كل هذا؟
ما حدث لك بعد ذلك يدل على صدق مشاعرك نحوها، ويؤشرعلى طيش الشباب وحماقته. ما بعد العصر كان زلزالك الذي رجّ أركان كيانك. لم تدر إلا ورجلاك تقودانك نحو الوادي رغم أنك كنت محتاجا لأن تمشي بضع خطوات في سلا حتى تعرف كيف يفكر هؤلاء الناس الذين أقرفتك رؤيتهم، كما اشمأز قلبك من كل المدينة، وبدوا لك كما الأساطير المنسوجة حول مدينتهم، قبرهم. ومازالت كلمات أغنية تصك سمعك كأنها تعنيك مباشرة "احضي راسك ليفوزوا بك القمان.. يا فلان"
وكنت غضبانا حد الثمالة حتى أنك نسيت سيارتك هنالك.
وإذا أنت أمام الفلاّكة. وشيء للوادي الذي يفصل الرباط عن سلا أن يكون جامعهم حوله، فكان العمل الوحيد الذي يشترك فيه أبناء العدوتين، وكأنهم يقتسمون حدود المنفعة من ملكية مشتركة. ويشتركون أيضا في ملامح حياتهم اشتراكهم في مصدر الرزق الذي كان أيضا مثار نزاع وخصام. وعرفت الخصامات بينهم بالخفة حتى إنهم ليتنازعون صباحا ويسأل بعضهم بعضا عن صاحب الدور في ملء قاربه بعد الظهر. ويناديك الفلاّك بصوته الأبح، ويستقبلك بوجهه المدبوغ وعينيه الغائبتين، وشبه ابتسامة تغضن خديه الذاويين. نعلاه المنقوعان الرخوان يصدران همس أنين شجي.
ما أسرع ما تجد نفسك في الضفة الأخرى! أكانتا حقا منفصلتين ومتقاربتين بتلك الصورة الغريبة؟ كأنهما عشيقان قريبان رغم ما قد يبدو حاجزا بينهما. كانا متلاصقين في أعماقهما.
أكان الرباط أميرا أحب سلا الفقيرة ابنة الصياد، وحال بينهما الوشاة بإيعاز من حاقد سخر ضدهما ساحرة عجوز، ألقت عليهما عملها الشيطاني الأسود، فإذا هما منفصلان إلى الأبد بفعل سحرها الرقراق الخالد؟
وتخترق شاردا فضاء حانة حقيرة من ثلاثة طوابق، وكأنها منازل لمرتاديها، فلا اختلاف في حقارة طوابقها الثلاثة، ولكن دركات الحقارة والوضاعة والدناءة تختلف.
طابقها السفلي أشد حلكة ومقتا ورعبا، يليه العلوي ثم الأوسط الذي يستقبلك مباشرة لدى الباب. وكان من استقبلك أول عهدك بحانة "طاهيتي" عجوز مطلية الوجه، بابتسامة بدينة خلف المشرب، واضعة كأسا أمامك، تحثك بإغراء بائد على مقاومة التردد. كم هي مرة علقمية كأسك الأولى، ولكن ألا يصير بعدها السائل نقيعا عذبا يخطف لبك ويقودك لاكتشاف الطابق العلوي منتشيا ثم ترتقي إلى السفلي ثملا؟
كم يحلو للندماء أن يتلذذوا بحكايا إخفاقاتهم؟ وكم من حكاية تلتقي اشتباها بتلك التي ربطتك و"وعد" ذات ليلة؟
- لا ثقة بالنساء يا ولدي، خذها نصيحة من مجرب.
رماك بها أحد المجربين في فن المجون، نفذ إلى أعماقك وعلم ما تكابد في صمت.
- المرأة شر كلها.
يلقي بها آخر، فتعالجه العجوز وتلكزه مجيبة:
- وشر ما فيها أنه لابد منها.
يندفع وهويضيف غاضبا مستعرا:
- أنت شر كلك ولا أحد بحاجتك غير السكارى. آلقحـ...
ونشبت معركة صغيرة بينهما، حصيلتها كدمة في عينه اليسرى، ورضوض جراء إلقائه خارج الحانة. سيئة هي الحانات التي تضع ساعات على معاصمها. لفرط ما يمر الوقت هنا. وعند منتصف الليل تخرج مع الزبائن الرسميين فتكسب معهم رسمية منشودة بعد أن غدا ذلك حالك كل ليلة. ولم تعد لسلا إلا يوما واحدا استرجعت فيه سيارتك، وظننت أنك نسيت "وعدا" ابنة سلا.
ما أغباك! عذرا. ذهبت إلى الحانة واعتصمت بصخبها بحثا عن الهدوء والصمت للتفكير فيما آلت إليه أوضاعك. مسكين أنت. وغصت في أعماق الفوضى تبغي تنظيم أفكارك. وبينما كنت تود طمس معالم سلا وابنتها معها من ذاكرتك تجد ثمَّ قلوبا مكلومة، فنكأت جراحهم وأوغرت جرحك.
صاح قلب دام:
- أشك دوما أن النساء ما وجدن إلا لتنغيص حياة الرجال.
وإذا بمتفلسف واثق:
- المرأة زهرة جميلة الشكل، والأجمل أن تنظر إليها. تخفي أشواكا غير ظاهرة، تباغتك متى دنوت منها وحاولت لمسها. تلك هي المشكلة. تغويك إليها وتشقيك إذ قربتها.
ويتفكه آخر:
- زوجتي عجوز كساقيتنا هاته. كنت أحار ماعساني أقول لها فرارا من مضاجعتها. تتدحرج الأعذار أمامي، وتسقط على رأسي من عل دون أن يوقفني أحدها أو يفتنني. وفجأة ينتصب أمامي طيف عذر ساخر، ويخرج صوتي كالمستحيي.
- معذرة سيدتي، إنها العادة الشهرية.
ويغرق المكان في ضحك محموم مبالغ فيه أحيانا. بعض الأفواه تشرع من ضحك أفواه أخرى.
ويقفز صوت من فم مهشم.
- زوجتي، عدوي الدائم. أفر قدر استطاعتي من البيت الذي صار حلبة صراع لاتحكمها أحكام ولاتضبطها قوانين. لانتفق حتى على أبسط الأشياء. تصوروا معي أنها حين وضعت إبننا البكر، كنت أريده أن يحمل اسم والدي "محمد"، بينما أصرت الملعونة على اسم آخر "علي"، ولست أدري من أين أتت لي به؟ المهم أنه وبعد طول صراع، وأخذ ورد، ولكم ورفس رسينا بتواطؤ على "محمد علي"، فأناديه "محمدا"، وتناديه "عليا"، بينما تذكرنا شهادة ميلاده اسمه الكامل، وأدركنا متأخرين أنه كاسم أشهر ملاكمي التاريخ، واحترفنا الملاكمة بعد ذلك نحن أيضا، وأنتم ترون نتيجة ذلك، فمي الذي أسقطت كل أسنانه.
كنت تنصت لحكاياهم ومجونهم معتصما بصمت قدّ من مملكة الأموات. ماذا كان بوسعك أن تقول؟
- الحب شعور جميل، والخيانة أسوأ ما في المرأة، والضحك على الذقون أحط ما قد يتعرض له إنسان.
ليجيبك خبير في شؤون الخيانة:
- ما استضفت امرأة في فراشي إلا وأقسمت أنها تفعلها لأول مرة، مع أنها وبعد مدة تبكي رجلا خائنا غدر بها إذ قضى منها وطرا.
وكأنك لا تعلم قط أن بعض النساء خائنات، وأن من النساء أمهاتكم وأخواتكم وزوجاتكم وبناتكم، وأن بعض الرجال خونة وإن كان منهم آباؤنا وإخواننا وأزواجنا وأبناؤنا، أم أن الحسنة تخصّ والسيئة تعمّ؟
ويصيبك الندم صباحا وتمسك الربكة مساء. فتصيح:
(أعلم أن صباحي عنوانه الندم، وأعلم أني ضعيف منقاد إليه بيأس، فلمَ لا أعيش ربكتي الحلوة كاملة أو سعادتي المغنمة مطلقة دون أن أسمي الأشياء. ألا توجد في النهاية أشياء بلامسميات؟)
وتجيب معاندا:
(بلى.. إذن فافعل ما شئت وليذهب الجميع إلى الجحيم، واندم على كل شيء صباحا ولكن ليس الآن، وإلا عشت ندمين).
تراك كنت تضاجع أفكارك دون أن توقفك قوانين أو أخلاق وضعناها وتعارفنا عليها خدمة لنا، فإذا هي أغلال في أعناقنا تطوق حركاتنا والسكنات.
كان حبكما وجاقا. ناره وصل وانتظار. آنيته سعادة تغرفان منها أوقاتا أحالتها الأقدار طيفا يظلل أيامها السابقة متى أطلت من نافذة ماضيها القريب، والعبق بشذا نسائمك. ملاذها البحر حيث شهدت ذرات رمله خطوات حبكما الأولى، تغني لك بصوتها الطروب:
" يا موجة غني يا بحر غني كيف اللي سايب محبوب متهني
على البحر نغني".
معك سما حبها للغناء وازددت عشقا للموسيقى بجانبها. لعلك تذكر يوم سألتها إثر تلك الأغنية السلاوية التي برعت في شدّك إليها.
- ماذا تمثل لك الموسيقى؟
- هي عشقي الثاني، أو لنقل إنها وجه حبي الآخر للحياة وللناس.
وانطلقت مسترسلة أنها ترى الأغنية ككائن حي. كأنت وأنا قالت. الكلمات عمودها الفقري، واللحن لحما يكسوها، أما الأداء فروح تحرك هذا الكائن الفني ومعه أرواح من يسمعونه إذا كان جيدا ولم تصبه إعاقة في أحد أطرافه. كانت أصيلة في غنائها مطهرة للأعماق والأسماع، تشفي كل ما يصيبه صوتها بعد أن عمّ التلوث الأسماع والأغنية. كنت هناك في حانة "طاهيتي" الحقيرة التي أدمنتها لأمر أجهله، تتجرع كؤوس الفشل المترعة، وتجتر خيبات وهم الخيانة. وكانت تبكيك في الشاطيء السلاوي. صارت الدموع جزءا من وجهها، فقد بكت المسكينة كثيرا، وناحت طويلا حتى لا تكاد تخلو مسامة من مسام وجهها إلا ونزّت عبرة استقرت بها، واستوطنتها.
كانت "آمال" تعرض عليك جسدها الفتان فوق طبق عاجي، وأهدتك "وعد" روحها كاملة فماذا تفعل وقد ملكتك زمامها وما عاد لها تصريف في أمرها؟ أخذت تناغي البحر وتناجيه مجهشة، وتتمثل صورتك فيه. ثم إنها ارتجلت:
لا تسلني عنهم.. فقدت ذكرهم..
ذات صباح.. بين تلك المحايا.. بين صراخ ونواح
ذات صباح.. مروا من هنا.. لعلهم هناك
فلا تسلني عنهم.. فقد فقدت ذكرهم
ذات ليلة.. والأرض المسكينة.. حزينة
ذات ليلة.. على تلك المقل العليلة.. بلا حيلة.. قتيلة
جفت شرايينها.. عليلة..
تستجدي واردها.. قتيلة..
ذات ليلة..
لعلهم هناك.. أو هنا
واروا أبدانهم.. تحت أحزانهم
فلا تكترث لهم.. فقد أضاعوا فجرهم
وفقدت ذكرهم.. فلا تسلني عنهم.
نضبت عيناها إذ استنفذت عبراتها. تغيرت حياتها كما تبدلت حياة من تحب. سوء فهم منك رماكما إلى ما أنتما عليه الآن، ولو استعلمت لكان خيرا لكما. أيعقل أن تظن أنها و"محمدا" عشيقان؟

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:10 AM
الشريـط الخامس
الوجـه الأول:
"محمد" الذي استيأس من حبها له فقلبت طباعه، حتى إنه قصد طنجة باب الأمل الزائف فرارا أو محاولا ذلك. استوى في عينيه الموت والحياة.
ظن خطأ أن "وعدا" أحبتك لغناك، فقرر المغامرة حتى يعود إليها ثريا يخضعها لحبه. كأني به أراد أن يعبر إلى الضفة الأخرى حيث أنت وعائلتك. ظن الأمر يسيرا. زورق صغير يقوده مجدفا وصفيره سعادة يرتفع في العنان فإذا به في الرباط. لكن الأمر أشق وأصعب. ينقلب الزورق به وبمن كان معه. ويغرق العشرات من أشباهه. وينجو بعد أن رأى الموت رأي العين. ويؤوب إلى سلا المغبونة أشد يأسا وصمتا من ذي قبل. وتتحول انقطاعاته عن الدراسة إلى هجر قاطع امتد حتى الحي الذي ولد فيه. وغابت أخباره عنها مدة غير يسيرة. كان قاربه الأول الذي انقلب به شراعه اليأس نحو أمل مجهول. ولإن ارتد من الموت منه إذ صدمه، فقد ظل طيف الموت يتماهى مع طيفه الذي لمحته ذات يوم من أواسط ماي، يبيع مصاحف في أبواب أحد المساجد. تعرفته بصعوبة لشدة شحوب وجهه وللحيته الصهباء الطويلة التي حاذت صدره. كان يلبس ثوبا أبيض قشيبا. كان يلبس كفنه، ويحمل نعشه بين يديه. كان يبيع كلام الله عند أبواب المساجد. كان...
أشك أن توصل رياح الكراهية العاتية التي تدفع شراع الظلام المحرك لقاربه الثاني حيث الإرجاف، مطامع من يتاجر في يأس بنينا. أشك في ذلك! حسرة عليكم أبنائي. من ذا يقول أنه "محمد" الوديع الذي رأيته زهرة تتفتح أمام عيني يغدو بتلك البشاعة التي أبصرتها تلك الليلة؟
وانغمس أبوك في مستنقع "آمال" التي وإن خسرت رهانها كسبت رهانات حياتها، ولامست أحلام طفولتها وحققت أهداف سدارتها ومالم تحلم به يوما قط.
شراك "رافان" الماكر شدت عقاله إلى القعر ليقضي حاجاته في غيبته. وكنت غائبا أيضا.
هنا ألومك. ألم تكن تحصن أوقات لهوك من ساعات الجد والعمل. فلم تركت أحزانك ومشاكلك الشخصية تؤثر على عملك؟ غبت فاستفرد "رافان" بـ"محمد مبروك" الذي لا طاقة له وحده على التصدي له. حاول أن يحذرك غير ما مرة بعدما تعذر عليه الاتصال بأبيك المفقود في صحراء "آمال". أتذكر ذاك الصباح الذي هاتفك، وكنت ماتزال تجتر آثار ليلة لما تخبو جذوة المجون فيها فوبخته بكلام قارع. جرحته وهو في منزلة عمك. تأثر كثيرا فقد جرحته وما ود إلا مصلحتكم.
طاغ جدا "رافان" ذاك ولا حدود لسعة تطلعه وتحجر قلبه، هذا إن ملكه. بعد أن قتل أباك، طلق أختك وطردها وأمك من نعيمهما ورمى بكم جميعا إلى البؤس والحرمان بعد الرغد والثراء. أصابتكم صفعة الغدر برجة نفسية قوية. مرضت أمك جراء موت الزوج المباغت، وضاعت كل الممتلكات في غمضة عين، وأصابها شلل نصفي. أما "سهد" فقد فُقدت في بحر الشرود وغدت شبه ميتة.
أكان ذاك "رافان" الذي رأته وأعجبتها أخلاقه السامية؟ وأمسكت بيده برفق وحب ترتقي به الدرجات حتى صار ما صار. وألفيت نفسك وسط أكثر من نار. حب فاشل، وملك ضائع وأم وأخت مفجوعتان تحتاجان إلى الرعاية والمواساة وما أحوجك إليهما. ليتك أنصت لـ"محمد مبروك" قبل أن تدهسه سيارة في حادثة سير. ولن يحتاج ذكاؤك إلى كثير عناء ومجاهدة ليدرك من يقف خلف قتله كي يخرسه إلى الأبد. كان كالإعصار يا بني ينسف كل يقف في وجهه. من لم يستطع أن يضمه تحت جناحه دمره. قتل "محمد مبروك" وضمّ "آمال" تحت جناحيه ودجّن "وجدا" إذ وعدها بالزواج، وشدّها إلى وحل نفسه الوضيعة بالتدرك، وأفلح في ذلك. بلغت بها درجة التخديرأن صارت تتجسس له، وتقوم بتصوير ملفات سرية احتفظ بنسخ منها، وجهز عقودا أعملت "آمال" فتنتها والخمر مغعولها ليوقعها دون وعي منه.
وإذا أملاك الإمبراطور الماجن، عذرا، تنتقل إلى "رافان" وتجدوا أنفسكم لا تملكون شيئا. ترحل إلى فاس في حمى أخوالكم. هناك تتصل بك "وجد" بعدما استفاقت من مفعول تخديره لها لإيمانها بأن الحق يقف إلى جانبك، وتأتي بك إلى هنا، تاونات الجبال والرجال حيث ستكتشف أن "وجدا" كاتبة والدك الميت و"وعدا" حبيبتك، أختان. هذه طردها "رافان" الذي جعل يتخلص من كل معاونيه. "آمال" غادرت الدنيا أيضا مع المغادرين بجرعة سم زعاف. وجدت في شقتها وجثة والدك بعد أن انبعثت منها رائحة كريهة انتبه لها الجيران وأعلموا الشرطة. فكانت الفضيحة.
وتلك حصلت على شهادة الباكلوريا بصعوبة بالغة بعد أن عانت في شق هذه السنة الثاني. خسرت حبيبا وفقدت أخا إلى الأبد. لقاؤكما الأول بعد شهور البعاد كان باردا رغم سعادتكما الخفية ولكنه بعض من عناد المحبين. كذبة صغيرة منك ضخمتها الأيام، وظروف أحاطت بها فإذا هي جبل يفصل بينكما. وسوء تفاهم بسيط نفخت الغيرة رياحها العاتية فيه فإذا هو معقد يشقيكما. تناسيتما أن الحب أسمى من ذلك وحبكما أعظم بلاشك.
قد تظن الوقت غير مناسب لأروي لك تفاصيل حكاية حب عجيبة عرفتها هذه الجبال التي تتطلع إليك اليوم بحدب وحنو، وعاشت وقائعها هذه الوهاد التي ترنو معك لصوت الذكرى والأمل، ولكني اختبرت صبرك بما يكفي، وامتحنت سعة تحملك.
قبيلتان جبليتان ألقت بهما أيادي القدر إلى اقتسام واد يفصلهما ينتهي إلى عين رية. عرفت حياة أناسهما الاحتياط والترقب وتحول ذلك إلى تنافر، وبلغ سناه عندما وصل إلى تباغض. بل تعادوا وكادوا يتحاربون لولا الألطاف الإلهية نفخت رياح الحكمة والتعقل عند شيوخ القبيلتين.
حديثي هنا عن حب كسر أسوار رفض الآخر، ضفتنا الأخرى. "عيشة" بطلة حكايتي فاتنة ذات كعب في الجمال وساق في التأدب جعلاها فتاة قبيلتها الأولى، زد على ذلك كونها ابنة شيخ شيوخها المالك لأطايب أرضها ولجنان زيتونها وتينها. لاحقتها الأعين وهي بعد في الثانية عشر من عمرها. تعقبتها وهي بعد "عويشة الصغيرة". كان أول المتيمين بها ابن عمها "علي" فرفضته منذ أول محاولة له. قالت له صراحة ودون مواربة، "لا". لم يكن يعجبها كما أنها سمعت كثيرا من فتيات القبيلة عن مغامراته داخل وخارج ديارهم. لم تكن تريد ملكية مشتركة. رفضته رغم إصراره، وصدته رغم عناده. انتحلت أعذارا بعده لرد خطابا آخرين، وصارت موضوع رهان بين شباب القرية الذين خسروا رهاناتهم جميعا. صرت تعلم الآن أن الرهان للظفر بشخص أمر قديم جدا وليس حكرا على أبناء المدينة. كانت حصنا منيعا لايقربه أحد، ولايستطيع أن ينفذ إليه ليعلم خبايا ما حوى. لم يكن جميع من تقدم إليها خاطبا مفتونا بجمالها فحسب، بل طامعا أيضا في أملاك سترثها بعد موت أبيها. كانت تعلم ذلك فرفضت الجميع. وحقيقة الأمر أنها كانت تحب في صمت. قلبها اهتز لقلب آخر في السفح المقابل.
لم تكن هذه القبيلة "طاطا" لتلك. غريبة هذه الكلمة غرابة معناها. لاأحسب أنك سمعتها من قبل ولقد خبرت مفعولها. عند خروجي وابني نبحث عن وطن يأوينا، وعن رزق يحفظ كرامتنا، وعن ماض تاه عنا، رسينا في جولتنا في ازعير حيث لم يكن "النجديون" ولا "العبيديين" أعداء، بيد أن علاقتهم كانت احتياطا وترقبا وإمعانا في الاحترام. يبدو ذلك جليا عندما يتزاورون، إذ يدخل الزائرون حفاة محملين بالهدايا احتراما لمضيفهم، لكنهم لا يتصلون فيما بينهم بزواج. كان النجديون "طاطا" للعبيديين، وكذلك كان العبيديون للنجديين. ولم تكن قبيلتانا " طاطا" لبعضهما إلا أنهما كانتا كذلك ضمنا.
العين التي كانت سبب تشنج القبيلتين ومصدر بقائهما ونبع مائهما، كانت حضنا لأول لقاء بينهما. اشتدت وشائج النظرات بينهما، وعاهدته في حلمها اللجي وهي في أحضانه أنها لن تكون إلا له وإلا فإنها لن تكون لسواه. لم تكن النظرات حديثهما الأول فقط. كان جريئا جرأة أهل الريف المجاهد وشجاعا شجاعتهم في ردع المستعمر ومقاومته. يوم رآها أول مرة أخذ يحاور قلبها مدندنا:
- بسم الله نبدا بيكم انتما بجويجات بيكم
نطلب الله يحضيكم
مع أرفيق الحجــل زينك ما يتبــدل
الحناء طرية من العيد والقديد مازال جديد
الحجلة البلدية ريشها فشكل.
لإن كان اتفاق قبيلتاهما ضمنا على "الطاطا" فلقد كان تواعدهما على الحب ضمنا أيضا، وجعلت العين موطنها ودندنته مناجاة، فإذا به في كل يوم يرنم لها.
- مساك مساك للا البنيه مضركة الخد عليه
احكي لي ما بيه
ويحسبها تجيبه:
- منين جايبني لبلادي ربي وفى لي مرادي
وفين ما دير الفرح صرد لي انجي
وفي يوم آخر.
- مساك مساك للا بوخرسة يوم الخميس في الجلسة
انزول المفوض احكمي أنت
وسمعته يقول لها وقد علا صوته هذه المرة:
- مساك مساك للا منانة جالسة في الدكانـــة
السالف حتى لبنانـة البارود راه معــانـا
إلى جينا نيشان ما نخطاوا حد
جاهد كثيرا ليسمع صوته أيضا لقبيلته فرفضت ذلك منه وردته عليه. جابه أهله بقوة رفضهم حتى أوشكوا على طرده ونبذه. ومع شدة التضييق عليه وقرب اختناقه إلى وجده المزمن أقدم على خطوة شجاعة زلزلت نفوس أفراد القبيلتين ورجت أركان التنافر بينهما. عبر الوادي الذي يفصل الضفة المقابلة خاطبا يحمل سلة تين وعنب وخمسة لترات من زيت الزيتون ومن زيت "علوانة" وقلب رجل يخفق بحب "عيشة" بنت البنوت. اقتحم عالمهم المسيج بخطى واثقة ثابتة. فاجأهم في معقلهم بطلبه ذاك، وأربكهم إذ تحدث إلى ناهزهم، أبيها، بجرأة واحترام وثقة مودعها النفس بمنطق سليم متحديا ابن عمها الذي يريدها لنفسه وشبانا آخرين كثر. ولما سأله والدها أسئلته التقليدية:
- ... وأين والدك، وأهلك؟
كان يجيبه بثقة:
- أنا المعني بأمري.
- ومن رأى البنت وأطلعك على أمرها حتى لتكاد تعرفها؟
- لإن كانت قمرا يزين سماءكم إنها تضيء سماءنا أيضا. اشرأب عنقي إلى القمر ليل سهري فأخبرت نفسي بأنها ستكون لي ولا شأن لأي كان بهذه الزيجة. أنا من سيتزوجها. عارضت الجميع في أمري هذا بعدما عارضوني، وأنا مستعد للقتال من أجلها حتى الظفر بها، إلا أن ترفضني هي.
تبادلوا نظراتهم بين إعجاب بجسارته ومنطقه، وتنقيص من اعتداده بنفسه. ظنوه شخصا أخر سينضاف إلى قائمة من ترفضهم. لم يظنوا أن يصدر عن شاب من قبيلة منافسة وفي مجلسهم كل ذلك التحدي والإباء، فإذا بأبيها يقول مهدئا من حدة الموقف وتصاعد وتيرة غليانه الذي حاول "علي" النفخ فيه.
- لقد نطقت حقا وقلت صدقا، سننادي عليها وإن وافقت باركنا، أما إن رفضت وليت من حيث جئتنا حاملا هداياك معك.
أحنى رأسه موافقة والأمل يداعب نفسه. وأدخلت "بنت البنوت" مجلس أبيها تتعثر في ثوب الحياء، تشخص إلى الأرض، وتتوجس إلى رجفات قلبها المتسارعة. همست دونما تردد.
- نعم أبتاه. إن كان سيحسن معاشرتي، ويقيم أودنا فنعم أبتاه.
أخرست كل الألسن، وأقفلت كل الأفواه إثر صدور حكمها. وبوركا في تلك الليلة التي لم يغمض لها جفن إذ استمر الاحتفال بالعروسين حتى الغبش و"علي" يعض نواجذ الغيظ والتميز. لم يغفر لهما حبهما وهو الذي ودها لنفسه ليستولي على كل أراضي والدها إذ كانت وحيدته. وجعل يدبر لها مكيدة تعصف بزواجهما ذاك. فاجأته قبيلته عند نزوله وعروسه عليهم باحتفال كبير لم يقل عن الأول كرد عليه، إلا أنه دام سبعة أيام على عادتهم انتهى بفك حزام العروس. ترى أن العبور إلى الضفة الأخرى لايفشل دوما إذا كان قاربه الصدق وشراعه الحب تدفعه رياح الخير، رغم العثرات والإخفاقات. فعساك قد فهمت أن الحب الصادق شحنة قوية تجمع الناس حولها وتحارب أعداءها، فلماذا عمي بصرك عن الحقيقة وأنت محب صادق؟

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:11 AM
الوجــه الثاني:
لم تكن استعانة "علي" بالسحرة بالأمر الجديد عليه. فقد دأب على ذلك طويلا، وقادته الغيرة وحب الإنتقام إلى أحد أصدقائه القدامى العاملين في الظلام، فأعمل سحره لتفريقهما، بيد أنه خاب إذ ظلل زواجهما صراخ توأم ذكر بعد عامهما الأول: "إبراهيم" و"عمر". ولم يعل صبره ولا كلّ عزمه، فمازال متنقلا من دعي إلى دجال إلى ساحر إلى محتال إلى أن تحرك شيطان الخبث لديه وجعل يفكر في سبيل يصيب به مناه. وهل يستيقظ الشيطان إلا في أوكار الظلام؟ إذ وبينما كان يجالسها أفتت عليه بشرك يقضي به على غريمه.
فاجرة يا بني لا حصر لعدد من قاسمتهم لياليهم. فضحته بإيعاز من "علي" الغادر، وطعنته في أعز ما ملك طول عمره، ونزعت من فوق رأسه تاجه المرصع الذي يبهيه. كانت ترقبه آيبا من صلاة الفجر، فإذا بها تستدرجه إليها ثم تشرع بالصياح والاستنجاد بأعلى صوتها بعدما قدت ثوبها وشقته، فرمته بالفجر. لاشك أن صوتي يصل إليك مضمنا بنحيبي في مرارة تأثرا.
أيكون فاجرا من كان بمثل خلاله الفاضلة النبيلة؟ ثم إنه كان قادما من بيت الله فجرا. لايمكن أن يكون السلوك فضيلة في ساعة ورذيلة في أخرى. أشك في ذلك حقا! وانطلت حيلتها على الناس أجمعين، وتناسوا من كان الرجل فيهم. حيلة نسائية أفلحت فيما عجز عنه عتاة السحرة. أخبرتهم والدمع يجري من عينيها مدرارا أنها عابرة سبيل لم تجد مكانا يأويها، غالبها النعاس فلم تنتبه إلا وهذا الرجل ينقض عليها كوحش ضار يفتض بكارتها. بقع الدم يا ولدي، أعدتها سلفا منثورة على ثوبها شفيعتها فيما ادعته. أنكروا ذلك عليه ولم يمهلوه دفاعه عن نفسه، كما لم يمهلوا أنفسهم وقتا حتى يتبينوا صورته جيدا وكانوا علماء به، فإذا أحكامهم تنزل عليه قاسية مجحفة وظلم الأحبة وذوي القربى أقسى وأمر.
"عيشة"، زوجه، الوحيدة التي لم تكن منهم. لم تشك في براءته قط. وكان صك براءته معرفتها المتجذرة به. لكن رجة نفسه الحساسة كانت عنيفة مدمرة أمام نظرات الزراية والاتهام التي جعلت تصيبه كسهام سامة أينما سار وأيان اتجه، وكانت سبب عارض ألم به فإذا هو مدنف لا يبرح بيته وجعا وكمدا. والده الشيخ أصابه أيضا لفح المهانة والمقاطعة. لم يقاوم آثاره طويلا ليسلم روحه إلى صاحبها. وجعلت "عيشة" تعنى بزوجها الراقد مرضا الذي اشتد ألمه حينما علم بأنه كان سببا في موت والده. حاولت عبثا أن تخفف عنه، وتداويه بحبها وبأعشاب تغليها له فتسقيه ماءها. بدأ يتضاءل بالتدرج حتى تلاشى واضمحل في ليلة ممطرة قارس بردها. امتزجت صرختها بصرخات السماء المرعدة وعبر المسكين إلى الضفة الأخرى، مجبرا كارها.
لم تتلق فيه عزاء من أحد وجاهدت كثيرا وحيدة منكسرة تودع جسده الثرى ليلا. غريبة أضحت وسطهم كما كانت. لا تكاد امرأة تحدثها أو تلقي عليها تحية إذا صادفتها أو تسمع ردا على تحية لها. ولملمت شجاعتها الكامنة وأجمعت أمرها على حمل ابنيها إلى قبيلتها، ملاذها الأخير حيث بيت أبيها.
لم تأبه قط بـ"علي" الغادر وتحرشاته. قوية كما عرفت على الدوام رغم انكسارها. نظراتها المتحدية لم تتغير أبدا حتى أمامه، وإن تفنن في ابتداع خطط للتودد لها والتقرب منها. كانت نافرة منه ترده في كل مرة موليا والخيبة تتعقب ذيوله. كان متذمرا كما يبدو للعيان من عقر زوجه ظاهرا وأخفى سرا عقمه وهو الذي عاشر نسوة من داخل قبيلته ومن خارجها دون أن يفلح في إخصاب أحداهن.
وإذا بالفاجرة تظهر مجددا من لا مكان. كأنها تتعقب "عيشة" الصبورة لتنغص عليها مقامها حيثما تواجدت. لم تكفها الأرواح التي أزهقتها ولا الأنفس التي شقيت جراءها. أتت مرضعة لأنثى قالت إنها ابنتها. واستوطنت القبيلة إثر اتفاق ضمني مع "علي" المهاب الجانب في قبيلته. صاحبته سرا في البدء بيد أن الناس ما عتموا أن بلغتهم آيات ظاهرة عن تلك الصحبة المريبة المخزية، ولم يجرؤ أحد على قول شيء خوفا من بطشه. زوجه هي الأخرى صمتت متواطئة مذعنة، وهي المرأة العاقر التي لا تصلح لشيء ولاشوكة لها ولاسندا.
يكبر ابناها. تسيجهما بحنانها ودفئها، وتوجههما بنصائحها ودعواتها. "إبراهيم" كان طامحا بلاحدود. مشرئب العنق على الدوام. لايرضى بالقليل ويبذل كل ما يملك وما لايملك للحصول على ما يريد. وورث "عمر" قناعة أمه وبساطتها وصمودها، وطيبة أبيه وعزة نفسه.
لطالما حذرتهما من "علي" الثعبان الذي يربض بقربهما، يتحين نهزة من جود الأقدار وغفلة الزمان ليذيقهما سم نفسه الحاقدة الزعاف. لم يرعو "إبراهيم" لذلك وهو المستخف بعظام الأمور التواق إلى المجازفة، واستجاب لنصحها "عمر" البر.
ضبط ليلا يتلاعب بالحدود ويغيرها فإذا حكم العائلة المجاورة ينزل عليه يهدده في حياته. علمت أمه أن الأسرة كانت تتربص به إذ قيل أنه كان يتحرش بإحدى بناتها فإذا به يفر ليلا كسارق يخرج من القبيلة إلى ضفة طالما حلم العبور إليها. يعتصم في فاس حذرا من أن يتعرفه أحد أو يدل عليه واش. وإذا هو يحتفظ بـ"إبراهيم" ويضيف "الشرقي" لقبا له.
أرى البغتة تعودك مجددا وما ينبغي لها. ألم أقل لك إن ماضيك ستبصرك من خلاله؟ لم يحدث والدك أحدا عن ماضيه ولاأتى على تاونات ذكرا. ظل شبح الخوف يستوطنه حتى بعدما أسس إمبراطوريته المغتصبة. لم يكن يدري أنه ولو فرّ منها فإنها ستلحق به أنّى ذهب.
في فاس، ضفته المرجوة، سيتعرف على خالك، وهناك سيشرع في إنشاء أولى ركائز أحلامه. تزوج من أمك التي وضعتك هناك وأختك الشريدة. ومن فاس، بعدما بدأت نجاحاته تطفو على حياتكم، سيتطلع إلى ضفة أبعد ودرجات أعلى. الرباط حيث سيخطو خطوته الكبرى لدخولها والتدرج في سلم الثراء فيها ومنها إلى البيضاء. لكن شيئا غريبا قلما حدث معه يربطه بالرباط فيستقر فيها بعدما بلغ ازدهار أعماله أوجه، وانتشرت شركاته ومصالحه داخل المغرب بل وخارجه أيضا. لم يحاول العودة للبحث عن أمه وأخيه "عمر" حتى بعد أن أضحى من الثراء ما يدفع عنه خوفه. حقيقة الأمر أنه كان يخشى ماضيه. قطع كل تلك المراحل وحيدا، وعبر إلى ضفاف أحلامه الرابضة وحيدا، وعدّ نفسه وحيدا. كذب يوم تعرف على خالك ومن بعد على عائلته، حين أخبرهم أنه قادم من الشرق لذلك لقب بـ"الشرقي"، وأن كل عائلته قضت في عام الجوع. أسقط منطقة بأكملها من جغرافيا نفسه، واجثت أناسا أحبوه وأخلصوا في رعايته، من ذاكرته. وإذا به يستعيض عن أسرته بأسرة زوجه التي منحته فيما منحته، لقبا ورأسمال تجارة. كانت فاس منطلقه الثاني بعد تاونات، أصل الحكاية ونبعها وأمه الثانية التي لم يبر بها إذ قلت زياراته لها مع توالي نجاحات عمله وازدهار تجارته حتى نسيها كما فعل مع أمه الأولى.
كذاك كان "إبراهيم". ولإن فعل ما فعل، فليعلم أن أمه قد غفرت له خطاياه وزلاته أجمعها. لقد سمعتها تبكي موته. نعم يا بني، لقد كان صوتها الأصم يصلك مع نحيبها في هذه الشرائط. فاعلم أني قد غفرت له قسوة قلبه وغلظته.
وإذا أنا و"عمر" نحاول جبر شروخه العديدة التي ما إن ننتهي إلى حل عقدة حتى نفاجأ بمصيبة أخرى قام بها في الخفاء. أنفقنا الكثير من الوقت والجهد والهدايا وماء الوجه في اعتذارياتنا المتواصلة لإصلاح أخطائه فإذا بنذر الشؤم تعاود زيارتنا تحلق فوق رأسينا.
لإن أوتي "إبراهيم" من نزقه وقوة طموحه، إذا بي أصاب في "عمر" بخيبة موجعة أليمة وقد أوتي من مسالمته ورهافة حسه وطيبة قلبه.
تشبه عمك كثيرا يا "قاسم". ورثت عنه بعض ملامح أعماقه يا بني. وقع في الحب من عل كما وقعت، وشتان ما بين الوقوعين.
أمام كل بنات القبيلة، لم يجد إلا ابنة الفاجرة "ليليان". كان اسمها غريبا عن قبيلتنا وعن منطقتنا كلها غرابة أمها وأفعالها وأصلها ومنبتها.
ابنة من كانت حقا؟
كذلك ملامحها كانت غريبة عنا. جميلات بناتنا إلا أن جمالهن أثيل متزن شامخ شموخ الجبال التي احتضنتهن. جمالهن يا بني يتوافق وطبيعتنا وأعرافنا وعيون وأذواق رجالنا، بيد أن جمالها كان من نوع آخرغريب عنا لم نعهده فينا من قبل. كان مكشوفا فاضحا، يبهر الأعين حد العمى ويخيف. كان مخيفا حقا.
ولإن كانت بيضاء البشرة، فإن بناتنا بيض أيضا رغم لفح شمس تطاردهن في أعمالهن خارج بيوتاتهن. لم يكن الإختلاف هنا ولاكانت الغرابة ثمّ. لون عينيها الشهلاوين وشعرها الأشقر لم يكن مألوفا لدينا، ثم صعوبتها في إخراج بعض الحروف بسبب لثغ لسانها الظاهر ولكنتها الغريبة.
ما أزعجني أكثر في حكاية حبها المزعوم ذاك، أنها كانت ابنة الفاجرة التي سقتني من كأس الشقاء والحرمان، وكانت سببا في موت والده، جدك، لؤما وغدرا وطعنته في ظهره وأخذت منه كل ما كان يملك. بدأت حكايتهما في غفلة مني. ظننتني وضعت في نفسه ما أمكنني من سلاح يواجه به "عليا" و"الفاجرة"، فإذا به يهزم في جبهة منسية. أوقعته نظرات "ليليان" وأدخلته جنة من ظلال حسبها حقيقة جهلا وتوهما. دأب سرا على الالتقاء بها. فاجئني ذات يوم بخبر رقصت له جوانحي فرحا بدءا، بيد أنه غمّني مع استرساله في الحديث عن عروسه المرتقبة.
أتاني عازما مصمما يحفظ ما يقول وكأنه لقن ذلك تلقينا. كان يملك إجابات على كل أسئلتي. كان يريدني أن أذهب إلى "الفاجرة" صاغرة أطلب يد ابنتها لـ"عمر" ابني، وأنا أعلم أن ذلك كله ما أريد منه حقا إلا أن تكسر شوكة أنفتي وتذل ناصيتي. كنت أعلم أن "عليا" الملعون من يخطط ويدبر، وما "الفاجرة" وابنتها إلا يديه اللتين يسلطهما علينا لغايات دفينة في نفسه نجهلها وتعلمانها معه حتما.
أكان علي أن أقبل ذلك الحب الموهوم؟ أمر دونه الموت.
أكان علي أن أبارك كل ذلك وأنا "عيشة" الشموخ والقوة والتحدي؟
زد على ذلك جهلي الكلي بما يخطط له "علي" في عالمه الخفي المظلم. كنت أخشى علينا من تدبيره الشيطاني. ولما جابهته بحقيقة "الفاجرة" و"علي" صاحب وشمة قلبي المحرقة وندبته الغائرة، وفتحت عينيه على "ليليان" كما أراها ويراها معي من في القبيلة سرا، استسلم لرغبتي الجارفة بدون حماس وبألم أخرس صامت. ولعلمي بعذابه وشقائه، وعدم استطاعته نسيانها تماما هرعت إلى حل آخر. رضيت بعذابي على أن يجهز عليه القهر والعذاب يوما إثر يوم إذ يراها دنية منه محرمة عليه.
لو خيرت لافتديت ابناي بروحي وحياتي على أن ألمح طيف عبرة تستوطن مقلة أو تعبر منها. كنت دوما متحفزة وما أزل. لأن أقضى على أن أسمع همس أنين يمرق بين ضلوع أحدكم. واخترت أن أفعل مثل ما فعلته مع أبيه من قبل حين تركت كل شيء خلفي في سبيل حب تحرك بين أحشائي، وهزم حبي لابني حبي لأرضي الطيبة المباركة. خرجنا ليلا، نلتف بعباءته القاتمة. نتعثر في طيفينا محاذرين أن تقع عين ساهرة علينا. ترقبنا السماء بعينها المقمرة. ترافقنا دعوات جبال الأنفة والعزة. ذرات تراب أرضنا تشبثت بأرجلنا متوسلة متضرعة ترجونا ألا نغادر. لم تكن تردنا أن نكـون "إبراهيم" آخر. كانت تخشى علينا الضياع بين الضفاف. كان يصل صماخيّ انتحابها وتوسلها. أخذت أحفن منها وأودعها صرة صارت بعد ذلك ملاذي عند الضيق واشتداد الوجد. كنت أتشممها بشوق مشفوع بأمل العودة ذات يوم، مرفوعة الهامة لاأخاف من شيء ولاأخشى على أبنائي أحدا.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:12 AM
الشريـط السادس
الوجــه الأول:
ريح قبيلتي ورائحتها.. صورها ووجوهها.. دورها وأغراسها.. واديها ونبعها.. سماؤها وطينها، كانت زخرفا بديعا لما بداخلي، ولم أحتج معها إلى الحفنات والصرة.
لو كان الأمر بيدي لمكثت هاهنا على الدوام، ولكني عليمة بضعف "عمر" وسرعة استجابته لدواعي قلبه مع شدة مكر الفاجرة، واتساع حيلة ابنتها. فخرجنا وأسئلة عديدة تكاد تمزقني.
أين عسانا نذهب؟
وإذا ابتعدنا، هل نأمن على نفسينا؟
لكن السؤال الذي ألح علي كثيرا:
أيقدر لي أن أعود يوما إلى قبيلتي، موطني؟
كان همي العاجل إثر فرارانا، الذهاب بعيدا ما استطعت عله ينسى "ليليان". أعلم ما يمكن أن تقوله عني. قد تراني ظالمة في حكمي عليها بجرم لا يد لها فيه، وقد تقول أنها ربما كانت صادقة في مشاعرها تجاه ابني. ولن هل تعلم عدد الليالي التي رحت أصارع فيها فكري وعواطفي أقلب الأمر على فراش الروية؟ وكنت أخلص في كل مرة أنها لم تكن صالحة له. لقد رأيتها نسخة عن أمها، ولكن بشكل آخر.
بلون عيون أخرى. بطريقة مختلفة وبكلام مختلف.
ماذا كنت أنتظر من فتاة ربتها أفعى سامة قتلت جدك وأباه؟
لم أظلمها حين أنزلت عليها حكمي الذي ما كان حكما عليها. حاكمت نفسي وكنت المتضررة الأولى من كل ذلك. وبعد أن اطمأن قلبي في مكناس الأسوار و"الهديم".. "بركاتك الشيخ الكامل"، أخذت عاطفة الأمومة تستيقظ من غفوها قوية ملحة، ولمت نفسي كلما لمحت في عيني "عمر" حزنا مدفونا وخيبة ثاوية. حاول حياء مداراتها بيد أن عينيه كانتا تئنان في صمت يسمعه قلب الأم. وكدت أضعف أمام بؤسه. وخيرا أني لم أفعل، إذ أسلمت أمري للأيام علها تكون دواءه. وفي غمرة مشاعري الفياضة، ومع ما قد يكون لحق بابني "إبراهيم"، وأنا جاهلة ساعتها مكانه، انتابتني رغبة قوية في لملمة أجزائي المبعثرة، فإذا برحلة بحثنا ترمينا من مصر إلى بلدة، ومن قرية إلى مدشر، إلى أن ألقتنا إلى سلا الشموع والأولياء. وهي كما يقولون في كل خطوة ولي صالح "بركاتك سيدي جبل بن جبل فكاك العقدة من الحبل". وأحسسنا بألفة غريبة سرت في عروقنا إذ وجدناها ضفة هي الأخرى كتاونات الجبال وأساطيرالرجال "بركاتك مولاي بوشتة الخمار".
حين كنت أسكن قبيلتي، كانت نارا وأهلها حطب أتلظى بها في كل آن وحين. وحين خرجت منها مضطرة، صارت تسكنني. وإذا هي أشواق غامرة فياضة تجرفني وتنزع بي إلى أطايب الذكرى في كل آن وحين. واحتضنتنا زقاقات المدينة العتيقة نتنسم في جدرانها جزءا من ذواتنا، وإذا نحن نطوف خلالها و"عمر" يصيح:
- هل من غرفة للكراء.. الله يرحم والديكم؟ هل من غرفة للكراء.. الله يرحم والديكم؟
حتى إذا انتهينا إلى حي الزناتي، أطل رأس فتاة زينه خمار كستنائي مطرز، وأوقفتنا كلماتها بصوتها العذب مشيرة لنا بأن لديها غايتنا. وإذا مصراع الباب يفتح في وجهينا، وأذر ابني لدى الباب ينتظر هنالك فيما تقتادني الفتاة التي اكتشفت بدانتها عبر دهليز التف بنا يمينا ارتقينا بعد نهايته بضع درجات حيث قابلتنا غرفة، توسطها مجلس سيدة بدينة فاضت ضحكتها، وامتزجت بكلمات ترحيب ودودة.
- أهلا بك أختي.. أهلا بكم في سلا العلا.
أجبتها ممتنة:
- بارك الله فيك سيدتي.. أحسب أن ابنتك أخبرتنا أن عندكم غايتنا.
عجيبة ابتسامة المرأة التي لا تفارقها، كأنها تطلع زوارها من خلالها على نابي فكها العلوي المذهبين.
- تقصدين ابنة ابني يا أختي.. أي نعم.. لدينا ما تبحثون عنه إن أراد الله.
كانت الفتاة التي استقبلتني لدى الباب، والتي تشبهها بدانة وملامح وجه، حفيدتها. والمرأة كما تبدو في مثل سني أو أصغر، تمتلك وجها ينضح بالحياة، لم تنفذ إليه تجاعيد، ولم يكن من شيء يفضح سنها غير شعيرات حمراء تساكنت وأخرى بيضاء في سلم ورضى تسللت من غير إرادة تحت منديل رأسها الضخم.
وتدلف الحفيدة إلى الغرفة دون أمر. تفاجئنا فعلا بخفة وهمة ولا تتفقان واكتناز جسمها المفرط، تحمل بين يديها صينية بدت صغيرة، ضمت أكوابا وإبريقا. وضعتها أمام جدتها في حركة كما بدا لي وقتها اعتيادية. وإذا المرأة تملأ كوبين معممين كشيخين قرويين. كنت مبتهجة في أعماقي. فالبيت جميل جدا، ينشرح له الصدر إذ توسطت باحته أغراس تخلب الأبصار، وأصحابه خيرون. تذكرت "عمر" الذي سلوت عنه بسبب انشغالي بحسن حديث المرأة وحاتميتها المنعنعة.
- إذا سمحت لي سيدتي أرى الحجرة.. لأني تركت ابني "عمر" في الخارج.. أحسب أنه متضايق من طول انتظاره.
رمقتني المرأة بنظرة عتاب لطيفة وصلتني مع أنها حافظت على بسمتها الذهبية العجيبة، فقالت موجهة حديثها لحفيدتها:
- "جميلة".. انزلي عند ابننا "عمر".. وادخليه إلينا.
فقلت معتذرة.
- اعذريني سيدتي لا أظنه سيدخل.. لأنه يستحيي كثيرا.
بدا أنها لم تكترث لي، وأشارت إلى حفيدتها برأسها التي ذرعت الحجرة كما دخلتها بخفة غزال ومرح طفولي لذيذ. سألتني المرأة وقد نست تماما أمر ابني.
- ترين البيت الملاصق لبيتنا هذا، هو لإبنتي "جميلة" حرصها الله. ومن حسن حظكما أن إحدى غرفه قد أفرغت بالأمس فقط.
كان اعتراضي لعلمي بطباع ابني المتحفظة، وذلك ما تأكدت منه المرأة حين عادت "جميلة" والخيبة تكدر ملامح وجهها العريض زامة شفتيها العبلتين، وإذا جدتها تدرك ذلك فتقول لها بكلمات ذات معان:
- لا بأس يا ابنتي. سندخله بيتنا هذا في القريب. خذيهما إلى الغرفة علها تعجبهما.
لم أكن على علم بما قصدته خلف كلماتها تلك. وإذا الفتاة تقتادنا إلى البيت المجاور فبدا لي الفرق بين بيتهما المعمور والبيت المكترى المأهول أيضا. وانتهت بنا إلى غرفة في أقصى اليمين من بابه الذي قابلته باحة غابت عنها أغراس دارهم واستوطنتها حبال ارتمت فوقها أسمال الجيران بخمول. وتدخلنا حجرتنا الموعودة فإذا هي فضلات حجرة بقيت ملامحها أو بعض ملامحها. وإذا بصرصر يتغندرأمامنا غير مبال بنا وكأنه في موطنه غير آبه بأحد، ومن سوء حظه أن لمحته "جميلة" إذ داسته بقدمها الضخمة فتلوى على إثرها صريعا دون حراك. وترميني بنظرة غائمة وشبه ابتسامة دلالة على التعود على الفعل وهي تقول:
- لا بأس يا خالة.
وتذرع حجرتنا، فيفاجئني الصرصر إذ قام كأن لم يمسسه شيء. أدركت ساعتها لعبة الضعف التي تمارسها الحشرات أمام بلادة القوة المستعرضة، وأدركت أن الضعف أيضا ينتصر من حيث يدع للقوة انطباع النصر المزيف. كان ذلك أول عهدنا بسلا. لقاء مع هذه العائلة التي غمرتني سيدتها الأولى بأفضالها. لم تناقش الإيجار معي والذي اكتشفت فيما بعد أنه نصف ما كان يؤديه الذين سبقونا. أدينا ذلك من بعض ريالات احتفظنا بها من أعمال "عمر" المتفرقة، ولم تقف أفضال السيدة الأولى عند حدها ذاك، بل ذهبت أبعد من ذلك. وجبتان في اليوم، تبعث بهما مع "جميلة" التي اكتشفت بعد اقترابي اليومي منها بأنها بخراء. وشيء أن تكون رائحة فمها أولى عذاباتي في سلا.
وإذا الأسئلة تتعقبني ملحة لم كل هذه العناية التي أضحت عادة؟ كدعوتي المسائية لكأس الشاي عندها. كنت كلما اعتبرت الأمر عن حسن نية، كرما فياضا، أنظر إلى حال جاراتي التي لم تعمل مع إحداهن حسب علمي، عملها معي. ثلاث نسوة لا تمتد إليهن يد الكرم بشاي النعناع المسائي، ولا الوجبتين المغذيتين، وكن كما يبدو في حاجة مثلنا لذلك.
كان الأمر يضايقني كثيرا إذ لم أتعود على مد يدي لأحد، ولا وددت أن يكون لأحد فضل يكبلني به ويذلني، ولكني لم أشأ ظلم المرأة وابنتها، وأنا لم يمسسني منها سوء إلا رائحة فم "جميلة".
كان ابني متضايقا أيضا في صمته الهاذر من "جميلة" التي تتوافق أطباقها وساعات تواجده. لحظت ذلك فيما لحظت نظراتها الشرهة وإعراضه المطلق عنها. وإذا الأمور تبدأ بالوضوح أكثر، عندما همست لـي "غيثة" الجارة مازحة:
- احذري على ابنك "عمر" من "السمينة"، ستأكله إن تركته لها ولجدتها بعد أن يذبحه والدها الجزار.
هنالك أخذت أتحاشى ما استطعت اللقاء بالجدة التي لم تكن تفارق مجلسها، وصارت تعلم لماذا؟ وأتخلف عن مواعيد الشاي المعتم. أتظاهر بالإنشغال مرة، وبالمرض أخرى والسفيرة "جميلة" تنقل اعتذاراتي المتواصلة لجدتها، وأخذت أتحين الفرصة لأصدها وأطباقها التي قد يكون "عمر" ثمنا لها. أزجينا بعد ذلك شهرين هنالك على مثل ذلك الحال، تدحرج "عمر" خلالها بين عدة مهن ارتبطت جميعها "بالسوق الكبير". فمن حمال، إلى صبي بائع داخله، ثم على طرفه بعد ذلك. وكان خروجه من السوق الكبير إلى مقهى عمل فيها نادلا. عرف هنالك بـ"اجبيلو". تلك المقهى الصغيرة المكونة من بضع طاولات وكراسي خشبية مسجاة على طول ممر ضيق، ستصير له معها حكاية عجيبة ستغير حياتنا كلها. المقهى الصغيرة أضحت موطن رزقه الجديد ومودع قلبه. حدث ذلك منذ أن أطلت عليه ذات صباح ابنة صاحبها من نافذة بيتهم المتثائب. لم يقاوم أحد قبله مذلة الإشتغال في المقهى الصغيرة، إذ ما أن يمضي وقتا يسيرا حتى يفر من لهيب تسلط مشغله، وتطاول الزبائن، بيد أن اصطباحاتها كانت زاده في صبره وإصراره. طلتها ظلت تمده بشحنة نفسية قوية لمواجهة أعباء يومه، وملاحقات "جميلة" البدينة عند عودته مساء. كان يأتيني جذلا فرحا. وكنت ألحظ ألق ذلك في عينيه، وأرهف السمع إلى أنفاسه عند نومه كأنغام سعيدة، وأعلم أن شيئا ما يحدث معه.
وتشاء الأقدار أن يقعد المرض مشغله في بيته. وإذا "بعمر" يحقق أعز أمانيه. لم تعد اصطباحاتها مجرد نظرات نافذة من عل، إذ أخذ يصعد إليها كل صباح لأخذ المفاتيح ويعيدها عند المساء ومداخيل المقهى اليومية. همسها بتحية الصباح يداعب صماخيه ويطرب قلبه اليوم كله.
كانت دواءه من كدر الإبتعاد عن "ليليان". صفت نفسه وتعرف على الحب في أبهى صوره وأسماها، ونجحت في محو أثار الحزن الرابض في عينيه فأحالت أيامه إنتشاء لم يتذوقه من قبل.
ويدأب على الوفاء لعادته شهرين آخرين، بينما تدعوني المرأة إليها على عجل لأمر هام حسب المبعوثة "جميلة" فإذا بها تحدثني صراحة ودون مواربة:
- صرتم الآن تعرفوننا جيدا كما أننا نعرفكم.
أحنيت رأسي إصغاء للأمر المتوقع فتضيف مقترحة:
- نريد أن نفرح بالأولاد، وتأتيان للعيش معنا هاهنا، فالبيت كما تعلمين كبير. وليس فيه إلا أنا وابني ووحيدته.
أبديت غباء في غير موضعه رميت من ورائه البحث عن طريق للخلاص ووقت للتفكير في رسمه.
- ماذا تقصدين سيدتي؟
اتسعت ابتسامتها الذهبية وهي تقول:
- نزوج "عمر" "لجميلة".
"بركاتك سيدي المخفي". حدث ما كنت أخشاه. أكنت أقبل أن يعذب ابني كل هذا العذاب الأرضي البدين؟ طبعا لا. كنت مستعدة لفدائه وأخيه بروحي في سبيل رؤية سعادة كتلك التي بدأت تسكن سماءه.
- صراحة سيدتي الأمر مفاجئء لي، وأحسب أن هناك سوء تفاهم كبير.
لأول مرة منذ تعرفت عليها، اكتشفت وجهها بلا ابتسامة. وبعينين جاحظتين تساءلت صامتة تطلب مزيد توضيح:
- قرأنا للولد الفاتحة مع ابنة عم له في تاونات.
كانت سيماء الغضب بادية عليها..وهي تمنحني حلا لهذه الورطة.
- الفاتحة؟ وما تعني الفاتحة؟ نعيد قراءة فاتحة أخرى والمعوذتين والصمدية، بل نستدعي فقيها يقرأ لنا القرآن كله "وكفى الله المؤمنين شر القتال" ولو كان متزوجا يطلق.

عبدالسلام المودني
05/02/2009, 02:13 AM
الوجــه الثاني:
كانت صادقة في قولها، وأرهبني ذكر القتال في حديثها، فانكمشت في ركني أنظر إليها في شبه استسلام وأتصور "جميلة" البدينة تعينها علي. أضافت:
- ... إنه يحب ابنتنا وهي كذلك متعلقة به. إلا يتزوجها تقتل نفسها.
صحت بدوري في محاولة أخيرة يائسة.
- ولكن ذلك لا يمكن. نقض العهود ليس من عاداتنا. وإذا منحنا الكلمة لأحد لا يمكننا التراجع عنها مهما حدث. على الكلمة تهدر الدماء وتزهق الأرواح.
تغيرت نبرة صوتها فإذا هي قوية مجلجلة.
- العهد؟ وما تعني العهود إذا كانت ابنتي ثمنا لها. ثم إنه منحها وعدا بمعاملته اللطيفة لها. لقد كانت تنتظره ورفضت لأجله خطابا أتوها؟
لم يكلمها "عمر" في حياته قط. حتى عندما كانت تلقي عليه تحيتها الغليظة، كان المسكين يكتفي بهزة من رأسه. أكان ذاك عهده الذي أعطاها؟ المفترية! والخطاب الذين تتحدث عنهم، لو لمحت طيف رجل لحسبته خاطبا، ولألقت له بأطنان لحمها المتكدس. وتضيف المفترية في شبه تهديد أقلقني حقا وأفزعني.
- أختي.. لن يمر استخفافكم بنا بهذه السهولة.
تصورت ابنها الجزار الذي لمحته مرة بشاربه الكث يذبح "عمر" ابني كشاة مغلوبة على أمرها، وأدركت أن علي مجاراتها بدل تهييجها فالمواجهة معها غير متكافئة، وهي غير مأمنونة العواقب. وبدا لي الشرر يتطاير من حدقتيها حتى لأكاد أجزم أنها ستبتلعني. أأكون مثل ذلك الصرصر الذي ظنت حفيدتها أنها انتهت منه، وأمنح لنفسي وابني حياة أخرى أم أجابهها ولاشك أني سأكون خاسرة أمامها؟
واستهوتني لعية الصرصر، وسقطت أمامها بلا حراك.
- لا تقلقي نفسك سيدتي، سنتشاور في الأمر، ونرد عليكم بالخير إن أراد الله.
بالسرعة التي غضبت بها علي، رأيتها ترسم ابتسامتها الإعتيادية وهي تقول في اقتناع بظفر نالته.
- حسنا. سننتظر زيارة "عمر" لإبننا.
وتدخل جذلى العروس المرتقبة كأنما كانت تتسمع حديثنا. ضفيرتاها تاهتا فوق كتفيها العريضين، محملة بصينية تضعها أمام جدتها في حركة اعتيادية، وضحكة ثخينة تلتهم فمها. لست أدري لمَ تصورتها من موقعها خارج غرفة جدتها تسترق السمع لنا وقد حطت الصينية المعلومة عن يمينها وساطورا عن يسارها. والواضح أني اجتزت هذا البلاء بنجاح وإلا لكنت ضعت هناك بضربة ساطور قاصمة.
وإذا ارتعاشة قوية تسري في جسدي سريان الدم في عروقي. وأحسست بدوار شديد، فاستدعيت قواي من معاقلها، وأنسحبت معتذرة إلى حجرتي أحمد ربي أن أنجاني من شر مستطير إلى حين.
يوم أسود ذاك الذي مررنا بحيهم وتلقفت أسماعهما نداء "عمر"، وأجابتنا "جميلة" الرشيقة. لو علمت الصعاب التي ستعترضنا معها لما مرقنا من حيهم حتى صرنا مهددين في حياتنا. خلت متاعب يومي انتهت مع خروجي من غرفة المرأة، وأصارحك أني لم أعرف لها اسما ولم أسع إلى معرفته. ناديتها في سري منذ أول مرة وقعت عيناي عليها بـ"دردورة"، وبدأ يعني لي هذا الإسم الفزع والخوف والقلق.
غادرت إذن غرفة "دردورة" وجلة مضطربة والدوار يتلاعب برأسي الواهنة، ولم تكد تمضي إلا لحظات حاولت خلالها استرداد أنفاسي المشتتة ولملمة نفسي المبعثرة واستعادة هدوئي المفقود، حتى تناهى إلى سمعي صوت خطواتها العاتية تهدج إلي دبا على الأرض بثقل في إحدى خرجاتها النادرة، وإذا هي تلج حجرتنا كإعصار مدو من دون كلفة أو استئذان.
عاودتني تلك الرعشة الباردة عند رؤيتها، وشحب وجهي، وتصلبت أطرافي وتحلب دمي وخلت أنها نهايتي الوشيكة تسرع نحوي دون إمهال، فإذا هي تحط بعناء على الأرض جالسة، وطبقات لحمها بعضه فوق بعض كدور سلا المهمشة. كانت البسمة تعلو محياها في شبه ارتياح منها، وكان كل ذلك حقا مشروعا تمارسه دون تفريط. ألم تكن في بيتها؟
- اعذريني يا أختيعلى زيارتي المفاجئة هاته.
قلت في شبه استسلام:
- البيت بيتك.. سيدتي.
وجهها طالعني كصفحة بيضاء تعذر علي فك رموزها، وقراءة ما حوت، لذلك ما انفكت تفاجئني.
- أتيتك لأطمئن عليك أولا، إذ بدا لي تكدرك من حدة كلامي معك...
لطيفة هي "دردورة" فعلا تحاول الاطمئنان علي. قاطعتها أود الاطلاع على الأمر الثاني الذي هو الأهم.
- لا تكترثي لذلك فأنا أختك.. أليس كذلك سيدتي؟
استطردت:
- أما الأمر الثاني، فلست أدري كيف سقط عن رأسي؟ يبدو أني كبرت وصرت أنسى كثيرا.
ولما لم أعلق، تابعت:
- هو شيء هام مررت عليه في حديثنا دون أن أوضح قصدي فعلا، عندما قلت بأنكما ستأتيان للعيش معنا، لم أكن أعني فقط أني أريد "عمر" "لجميلة"، ولكني قصدت أن تكوني أيضا لابني.
لست أملك وصفا لدهشتي وبغتتي الشديدتين. فالمرأة خارقة للعادة حقا. كنت أتوقع أن تأكلني في أية لحظة لكن ليس بهذه السرعة، ولا بهذه الطريقة.
كان الأمر أبعد عن كل حسبان. هل كانت حقا تخطبني لإبنها الذي لمحته مرة واستنتجت أنه لا يكبرني إلا بقليل، بيد أنه كان يعرضني بحوالي ثلاثة أضعاف؟ كان مندلق البطن بشكل عجيب. كان من فصيلة "المدردرتان" أمه وابنته. لا أذكر من ملامح وجهه إلا شاربه الكث وأنفه الروماني العظيم، وشفتيه الغليظتين. هل من مخرج لي من هذه الكارثة التي قادتني إليها قلة الحيلة وتصاريف القدر الغريبة. استنتجت بما استبقيت من رشدي أنها تساومني، وتحاول تطميعي بزينة الرجال ابنها الذي سيسترعرضي، ويملأ وجبات يومي من خير لحمه، ويدفئ فراشي من خير لحمه أيضا. أرادتني أن أقبض ثمن "عمر" لحما. أراداتني أن أذعن للتضحية بابني "لبنت البنوت" "جميلة" التي ستلملم طيش ابني وتمنحه "دردورات" صالحات من فصيلتها. مسكينة حقا هي، وساذجة هي فعلا. لم تكن تعلم أني رغبت عن كل متاع الدنيا وزهدت في كل شيء منذ فقدت زينة الرجال سراج قلبي الذي مازال منيرا.
ظنتني لاحمة من فصيلتها، ولم تكن تدري أني صرت عاشبة عاشبة عاشبة. كنت في قراري المكين أعلم عن سابق تجربة ألا فائدة ترجى من مجابهتها، فإذا بي ألجأ إلى المهادنة عساني أتخلص من طيفها الثقيل على قلبي حتى أتمكن من استرداد وعيي بعدما أفقدتنيه بلكماتها المتلاحقة والموجعة في مباراتنا اللامتكافئة. لم أكن في وزنها ولا في جبروتها، وإذا ابتسامة لا أعلم كيف أبصرتها وحكمت عليها أخفي بين طياتها خبثي وتذمري.
- نفكر في الأولاد أولا وبعدها نرى ما يكون من أمرنا نحن الكبار.
قالت بصوتها المجلجل الذي أحسبه وصل مسامع الجارات المتحفزة.
- لا تقولي ذلك وأنتما بعد شباب. والله يا أختي لو جاءني خاطب لما رددته.
هنا فقط حمدت ربي في سري على نوازله الهينة وإلا لو رأت "عمر" لعدت ابتسامة منه أو رد تحية تصريحا منه بخطبتها، ساعتها حتى الأمم المتحدة ما كانت لتنفعنا لتخليصه من قبضتها الفولاذية ونابيها الذهبيين، ولكانت انتزعته من "جميلة" اللذيذة عنوة التي كانت ستقف في غرفة الإنتظار وعيناها على ضحية أخرى. أخذت تسترسل في هذرها.
- تعلمين ما أحلم به؟
همست كالبلهاء.
- هه؟
- حلمي أن نقيم عرسكما في ليلة واحدة فماذا تقولين؟
إنتشلت نفسي من كوابيسها البشعة.
- الحقيقة أن الأمر مفاجئ كما قلت لك عزيزتي. تمهليننا بعض الوقت للتشاور، وثقي بي أرى الأمر فيه خير كبير لنا جميعا. فلا تستعجلي.
واصطنعت بجهد ومشقة دلال العرائس وخجلهن، ولست عليمة إن كنت بارعة في تصنعي، وشككت للحظة في ذلك إذ أفلت بسمتها مجددا، وأخذت ترنو إلي بلا معنى، وصعد قلبي ساعتها إلى بلعومي، واحتجز هنالك ولم يعد إلى مكانه إلا بعدما عفت عنها مجددا لتريحني بعض الوقت.
وتتمايل في مجلسها كأنها تستعد للقيام أو تحاول جاهدة لذلك فتدخل علينا الخفيفة المرحة "جميلة" من حيث لا أدري وهي بلا شك كانت تسترق السمع إلينا وهو أمر بدأت أعتاده ولم يعد يضايقني، حتى إن درجة تفاجئي لم تصل أبداً حد فعلها. وتغادر الفيلتان حجرتي الصغيرة المتراقصة على إيقاع خطواتهما العاتية. خرجتا تركبان حصانهما الطروادي، ورايات النصر وأعلام الظفر تخفق في سمائيهما.
تركتني "دردورة" و"دريدرة" ما بين الغيظ ومغالبة الضحك. حقا لقد كان شر البلية ما يضحك، بيد أني خشيت على نفسي من الضحك الذي كان سيسترسل بلا شك إلى ما لا نهاية، حتى تتهاطل الدموع من عيني، فتصير من برودة ضحك مستخف إلى حرارة بكاء مرير.
ماذا عساني أصنع أمام هذا المأزق الثخين الذي ألفيتني وابني داخله؟
أكانت المجابهة تنفعني مع هذه الأسرة وقد بلغني من صريح تهديد زعيمتها ما لا يدع مجالا للشك على خطورة عصابتها؟
لم أكن محتاجة في حقيقة الأمر إلى كثير وقت لأصل إلى قراري. مخرج وحيد كفيل أن ينقذ رأسي وبقية حياة "عمر". مخرج وحيد من هذا البيت ومن الحي أجمعه، ومن كل سلا إن لزم الأمر ذلك. طيف نور باهت عند نهاية السرداب بدا لي، وقررت أننا سنخرج من هناك كما خرجنا من قبيلتنا متسللين.
ولإن كان السبب واضحا في الخروجين معا، الخوف من الآخر وسوء تدبيره، فإن الفرق بينهما جلي واضح. نحن إن خرجنا من قبيلتنا فقد خلفنا وراءنا بيتنا، وأرضنا وزيتوننا وتيننا وبقية أهلنا وذاكرتنا. لكننا هاهنا، سنرحل غير آسفين، وسنهجر المكان هجرا لا عودة بعده. ما يبقينا والموت يتهددنا من قبل "ريا".. و"سكينة"؟
لا أدري كم استهلكت من وقت منتظرة قدوم "عمر"، أغلي على نار الإنتظار المستعرة، حتى تناهى إلى سمعي وقع أقدامه يجرها بثقل في تعبه المسائي المشروع. واستلمته لدى الباب بلهفة، ورغبتي تجمح بي إلى بسط الأمر إليه دفعة واحدة مع نيتي المبيتة، ولكني تراجعت في آخر لحظة بعدما شممت رائحة اللحم والشحم والعرق غير بعيد عنا. ولما كنت الأعلم بطبيخ الجارات، استبعدت أن تكون لعشاء أسرة من جاراتي المعدمات، إذ اللحم منتف أساسا من قائمة غذائها.
تميزت طول حياتي كما تتميز جل الأمهات بتلك الحواس الحيوانية المتيقظة على الدوام المتحفزة عند اقتراب الفرائس التي ستفتك لا محالة بصغارها.
وإذا أنفاسي تلتقط أنفاسا غريبة معهودة تزكمها. تضايقني هذه اللعبة المكرورة فقررت استخذام الحيلة، وقد صرت خبيرة في ارتجال الحيل منذ تعرفت على "دردورة" الفريدة فقلت لـ"عمر" مصطنعة فرحة مرتجفة.
- لدي خبر سيبهجك حقا حبيبي.
ابتسم في وجهي بوداعته المعهودة. أشرت له بالصمت بأن وضعت سبابتي فوق فمي ثم جعلت أحطها على شحمة أذني وأهزها مشيرة له بأن أحدا يتسمعنا، فرسم تساؤلا عريضا على عينيه، وقلت:
- السعد يدنو منك، وأخال أبوابه ستشرع لك.
أكله الشوق والفضول وعدم إدراك ما أرمي إليه صراحة بإشاراتي المتواصلة وهو الذي تعودني مباشرة في أحاديثي غير خبيرة بليها.
- غدا سنخرج لشراء هدية نقدمها لخطيبتك.
لاحت فرحة صبيانية من وجهه، وتساءل بمرح:
- أحقا ما تقولينه؟
أجبته من فوري وأنا أهز يدي بألا يتكلم فيفضحنا.
- طبعا حبيبي. كنت تظن نفسك قادرا على خداعي وسعادتك بها تكشفك أمامي.
تساءل بحيرة:
- لكن، كيف عرفت؟
المسكين. حسبني أحدثه عن حبيبته ابنة صاحب المقهى، مشغله. لهذا لم يكلف نفسه مشقة اصطناع فرحته، وإلا لكان أفسد علي ترتيبي. ولم يخذلني حدسي الأمومي إذ لمحت طيف الفريسة من فرجة الباب قبل أن تندرئ علينا كعادتها.
(يتبــــع).