المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صراع الدّيكة - رواية / أحمد الخطيب



أحمد نمر الخطيب
12/02/2009, 12:46 PM
• واقع الرمز

لم يكن الجبُّ الذي اختاره أخوة يوسف، إلا علامة للحكمة، ولم يكن الذئب إلا من مفرزات الزُّلفى، واقترانها بالتقاء الزمن مع نظيره المكاني، ولم يكن القميص إلا من الشواهد المتأخرة على بنية الحكمة ومشتقاتها، ولم تكن الرؤيا إلا مفتاح الحديث عن التطوّر النفسي لكلٍّ منهم، بعد انتشار اللجاجة في قميص الحيلة والتوتر وإشباع اللغة بلونها الرمادي
_ نحن عصبةٌ تتقمّصُ رئتاها مفاتيح التكوين الطارئ
_ لم تكن الرؤيا إلا جبلاً، لا يعصمنا منه إلا بركان الحيلة
_ إذن نستند على دحرجة الصخر إلى وادي النسيان
... وتدحرجت صخرة النسيان
حاولوا أن يتمدّدوا في خلايا الخسوف، بما لديهم من أفكار منصهرة بدرجة غليانٍ لا تقشّرُ في لهيبها قصب الذكرى، حاولوا، واستعدوا، غير أنهم فرطوا كحبة الرمان على صحن النهوند، فرطوا، واستحكموا في لعبة الجزرة تحت طائلة الوسطية في تبنّي الفكرة، انتبهوا لشعرةٍ في جسد الخشب الذي تحيط به دودة القزّ، فقرروا، وانسحبوا من ثيابهم، وعمّدوا رياح مؤانسة الرمز بمواقع النجوم في ظلال التبنّي، وتبنّوا عطارد بما هو طارد ومحيط.
السيّارة التي فتحت نفق الذات والمغايرة، هي ذاتها التي تدلي بدلوها في مقام غياب الرمز المحمول على جناح التبنّي، والمشبع بالأرجوان، والتأويل
_ حاجتنا أن نبني هرماً من أجل بلوغ الأسباب
_ وأن تكتحل العين بجمجمةٍ تبقي ذاكرة الشيب أمام المرآة
_ حاجتنا أن نأخذ من الحكمة منزلها الأوّل، وبكائها الأخير
_ ولنا أن نضغط أعصاب الورق المشحون بطاقة هذا الرمز
في لعبة الجزرة ثمة ميدان للسبق، وثمة يدٌ لا تخطئ رماحها، وثمة من يشتري ويبيع، وفي لعبة الإقصاء ثمة صفٌّ دراسيٌّ مفتوحٌ على التأويل، يقبض، يبسط، في ديباجة ما تبقى للرمز، وثمة واقع لا يدخل في واقع من يصنع من حرف مطويّ تحت رماد الخوف، أسئلة النصّ الكوني
كن فائض هذا الماء على جسد الأرض الباقي، أو سوف تحيّرك الأنفاس بمن سوف يصلي في الليل على ريش نعاسك.
خرج الرمز محمولاً على بطانة الهزائم، بعد أن لوّحته منازل الكسوف والخسوف، دخل في عباءة التناص، وصعلكة الجبال والوديان والسهول، دخل فارداً أنصال نفسه، وقدرته على تحمل منجزه الدلالي، فرد بوصلة حكمته باتجاه الشمس وهي تداري سوءة المجرات، لم تشفع له تلك القصائد التي في قواميس الجبال والكهوف، ولم تستر قلّة حيلته تلك الحبال التي كوّنتها فزّاعة الليل، ونشوة حراس الحدائق العلوية.
_ منذ تَداخُلِ صيَغِ الكبتِ، ونحن نداري صفة الذات
_ نهمز للعرّافين بأن لا تتحوّل فروة فنجان القوة إلى شُعَبٍ، حتى نسلك في درب مواراة الرمز
_ وعلينا أن لا ننسى الحكمة في الجبّ، إذا شئنا أن نطمس زمناً مفروقاً بين الرؤيا والرؤية
المسافة الفاصلة بين مشكاة الداخل والحارات العلوية، هي مسافة وهميّة، رسم أطيافها مؤلّف مسرحيّ ماهر، ومع هذا لم يجد الرمز أمامه سوى اختراق وهمية المسافة التي قادته إلى شمال الكلام، وشرق قوس قزح، وجنوب الكسوف والخسوف .
بقيَ من الرمز جذره الراسخ في الموت والحياة، منتظراً طائر الرماد، وقابضاً على الجمر، لم يثنه الصلصال الذي يتشقق من بين أصابعه، عن دورة الحياة في الموت، ودورة الموت في الحياة
_ المسافة التي بيننا ليس عائقة لتشكيل مرآة القصيدة من شتاتها
_ وليست واجهة حريرية للكتابة، بل هيَ حامل أثيريّاً للصور والمفردات
_ القصيدة هيَ منتجع العودة إلى ديوان العرب،
_ وهيَ حارس الفصول لبكارة الأرجوان.
اتخذ الرمز له أرضاً حدّدها أهل الصفوة في الحارة العلوية، يحيط بها ألسنة الأشعة فوق الحمراء، ويمنحها تلُّ البوادي الظلّ الساكن، ولها بابٌ واحد، رغم انفتاحها على جبهات الكلام.
_ التنقل بين الكهوف والغابات يشبه الرحيل بين مبتدأ الرؤيا، وخبر الجبّ.
_ أحد عشر كوكباً مفصل تكويني لطاقة القميص
_ الشمس والقمر حارسان للتأويل والخضوع إلى ميزان الإرادة.
_ والإرادة في الأرجوان وحدائقه.
_ وفي لثم عود القصب، وأصابع المفردات.
كم راودته قشور المدائن عن نفسه، وهيأتْ له نار الأساطير، لكنه استعصم، وكم خمّرتْ له الدوالي عنباً، فأراد حضور الذات في غيابها، دخل في متن السياج ألشوكي، متكئاً على ضآلة المتن وعمق الأسئلة، بَحَثَ عن رمز الرمز، وفرد جناحيه على باب القصيدة، وأحاطتْ به سريرته
_ فزّاعة الليل، ودم القميص، طاقتان للذبول والحلول ذبول الخطى فوق طين تشقّقه رغوة انسحاب الأخوة من مواجهة حديث الكلام، وحلول المفردات في قميص الحكمة وحكمة القميص
_ القضبان الحديديّة هي المستند المتخيّل للعبور إلى طاقة القصيدة
_ العذاب، والعصف الجسدي، هما الإيقاع الداخلي والخارجي للقصيدة
_ الفناء هو حضور المفردات في المركب الجمعي للنصّ .
جلبة من المفردات التي صاحبتْ تقطير مياه النصّ العلوية، وهي تنسكبُ من خزّان البحر المتوسط ومستودع أحلامه، إلى الأرض الممتدة بين ذراعيِّ الكلمة، ولم تفق هذه المفردات من ركونها إلى العالم الافتراضي، إلا بعد أن تلمّستْ قدرتها على خلخلة البنية الكلامية، باتجاه تأصيل حالة الوعي القائمة بين أنا الذات وأنا الجماعة .
_ لماذا لا يشكّل الغيمُ حالة للفصل والوصل ضمن معطيات القصيدة ونتائجها ؟
_ لماذا لا يتحلل الحصى من جمود الطرقات وتشعيباتها ؟
_ ولماذا لا تتخلّل الأسطورة منتجع الواقع، وتشكّل امتداداً للتاريخ الزمكاني، هيبةً وحضوراً وقناعاً قادراً على مراوغة التناص المجاور ؟
فُتِحَتْ رئة المنفى، وغربة مشكاة الداخل، واقتربتْ زلزلة الكهوف، وأخذتْ خيوط العنكبوت بالتلاشي، وانسحبتْ حنفية العطش التموزي باتجاه تأنيث حناجر الكلام، ولم يبق في الهاجس القريب سوى بطاقة الحياة.***
• مرايا الصمت

في الواقع الذي لا بدَّ أن يمارس فيهِ وجوده، دخلَ الشّكُّ إليهِ وجوداً آخرَ، أقنعهُ أنّ العالمَ في مهمتهِ الوجوديّة أشبهُ ما يكون بقرنيْ غزال، أو هكذا خيِّلَ إليهِ، وهو يدخلُ فيه.
هذا العالمُ الافتراضي طالما طوّحهُ على جناحيهِ، وهو يسيلُ من الكلمات، في بحر اللوحة التي نسيَ الرسّام أن يصبغَ إطارها باللون الرمادي.
العالمُ إذن لا كينونة في قفصه الصدري،ولا فضاء لذراعيهِ المنحدرين من أنا الأنا، وأنا الجمعي، فقط كلُّ شيءٍ لهُ قابل للمماطلة، والمماحكة، والانكسار، والتشظي، وقابلٌ أيضاً كما يقولُ المهندس للانخفاض والسكون، والترجّل عن سرديتهِ المتقطّعة.
المهندس صاحبُ الواقع المتصوّف
والمهندس الذي كان يتسلّلُ ليلاً، لكي يقطفَ حبّة الرُّمان من حديقة الصمت.
كان العالمُ الافتراضي في الحارة السُّفليّة القريبة من تلِّ البوادي، يبدأ من نقطة التمحور حول طاولة النرد وكان الليلُ الذي يرتِّبُ أبناءهُ في غفلةٍ من الزمن، جاراً للصفوةِ من أُولي الأمر، هكذا كان يستقيمُ الخطُّ الفاصل بين ملحمتين، ملحمة النبوءة وملحمة الاتصال بالمحسوس، ملحمة النبوءة التي فرد سيرتها المهندس، وملحمة المحسوس التي كان يعاقر أسطورتها في الحانةِ بعضُ أُولي الأمر .
العالم الافتراضي إذن همزة انتقالية من تلاشي النبوءة ونضوج المحسوس، لهذا تركتْ دُرّاقة بعضَ أصابعها بين البرزخ الفاصل بين الملحمتين، انتظاراً لما سيؤولُ إليه الهاتفُ ألشكي الذي أصبح وجوداً آخرَ في هندسة المهندس المتصوّف .
في الحارة السفليّة دَمٌ
أوردةٌ من لحم الليل
وفضاءٌ _ قابَ القوسين _ يميلُ إلى غيمٍ
مسنودٍ بالخلوةِ
_ هل جاوزتَ الحدَّ الفاصل بين النهرين ؟
_ لم أتبع أثرَ الموج، وكانت لي مسحةُ ريحٍ
تغبطني حين أمرُّ على بابك ؟
_ أنتَ إذن منشغلٌ بالترتيب الأبديِّ ؟
_ منشغلٌ بدم الأوردة الأحمر،
وفضاء النرد،
وقطعان السّيْل ؟
الحوار جزءٌ من صيرورة اللغة المتقاطعة بين المهندس المتصوّف ودُرّاقة، في اللقاءات القليلة التي كانت تجمعهما أمام وضوح المرآة، قبل أن تختلف اتجاهات البوصلة بينهما
الخبر الذي تناولَهُ حرّاس الحارة السفليّة عن اللغة المتقاطعة بينهما، كان كالهشيم المنطوي على ذاتهِ في العالم الافتراضي، غير أنّ المهندس وبحنكة الذبذبة التي عاينها منذ أن التقى بدرّاقة، لم يأنس للمثلث الافتراضي، لهذا استمرَّ بمماحكةِ الذات، وتطويعها للحظة المواجهة، مواجهة المحسوس، والانتقال بها من فرضية العدم، إلى عدم الفرضية
الزمن الستيني كان أكثر إجلاءً للمعنى، معنى أن تنظر بعينين اثنتين، وأنتَ تواجهُ رمادية المسكوت عنه، العين المنفتحة على بصيرة الشكل وانحيازه للقدرة الفاعلة في الترتيب الأبدي، والعين العالقة بين فضاءين لهما نَفْس التركيب الأنزيمي
والزمن الستيني أكثر إخفاءً للمثلث الافتراضي .
حبّةُ زيتٍ من السّمك كانت تكفي ليرفع الناسُ أحلامهم باتجاه الشمس، أو هكذا خيِّلَ لدراقة وهيَ تحملُ مفردات الكهل الستيني، وكم كانت تجمحُ صاخبةً وهيَ تبلعها، درءً لعصابة الذبول التي كانت تحيط بأهل الحارة السفليّة .
المفردات في كمائن الحارة العلوية المحشوّة بنمير القلق والتوتر والذهول،لا تفرك باطن كفيها في هذا الزمن الستيني القابض على جمر الأساطير إلا باللجوء إلى حواس الحشو،وهي بالرجوع الأثيري لفطنة الغزال الذي يدسّ قرنيه بالشجر الخريفي،لا تقبض إلا على لحاء طيّرته الرياح قبل اللقاح،وهي بذلك تعيش أزمة المجاورة والمحايثة للفعل المسبوق بسين السيف،لذلك لا بدّ لأنوثتها في الحياة أن تخرج عن ساق الكلمة المتورّط في التأويل
لم تقرأ مثل المهندس مفردات العالم الافتراضي، لذلك كثيراً ما كانت تتجرّأ على مجابهة الانسياق وراء لهاثهِ وهي تقتربُ من ذلك الانحياز العشبي لقارعة الطريق، في طريقها للقاء الكاشف، رغم أنه كثيراً ما أشار لها بأن تسلك الطريق ألشكي .
مُدّي حزامَكِ واتبعيني
وتشمّسي بدم الطيورِ
أعطيتُ حلْمَكِ باسطاً كفّيهِ
جمراً،
وأغنيةً،
ومشواري مصيري
إذن هيَ البنية التحتيّة للولوج في حضرة اللغة،وهيَ الخروج من الدائرة المغلقة، إلى دائرة المغناطيس الزئبقي الذي لا يتراخى تحت ضغط العالم الافتراضي وهيَ الأنا الجمعيّة في متناول الكلام والحضور والغياب .
البيتُ الذي لا وتد له في فراغات القصيدة،يقوم على قصب الذكرى، وحسيس الممكن في تفريغ طاقة الإمكان،يجمع في هيكله خطوط المستطيل،لا تقوم مرآته إلا على الجدران الطينية، الطين العبثي المتجذّر في كعب امرأةٍ لا تتقن إلا الهجرة من دمها باتجاه السؤال الرمادي،والطين الذي يشقق الأصابع المائية،ويرسم لوحة المشكاة على ثياب البناء الدرامي للقصيدة،والطين الذي يُدسُّ في جيوبه مفاتيح وأوراق ملكية الذات للذات، ولا تتحدّب المرآة إلا على الأبواب الخشبية التي تقرأ فضاءات الطيور، الصفيح مائدة الأيدي إلى قراءة الغياب،وانتظار المطر،وهيئة الانفصال الجسدي،وديمومة الصوت والصدى
الأرصفة عتبة البيوت،وانشغال الذات بخطواتها نحو القرص المستطيل الذي أصبح مثل خبط عشواء يأوي إليهِ كلُّ سكان الحارة السفلية
الحنفيّات الممهورات بأشكال العطش التموزي، حكاية النساء اللواتي قطّعن أيديهنّ من برادة الحديد الأزلي ،الجامع الكبير المشرع لتلاوة الشهداء، والخيط المقدّس الذي يربط المفردات بقاموسها، \ والمهندس \ ودرّاقة \ والحاج أبو الوداد \ ونعمان الكاشف \ وسليم العنزي \ وكفاح المازني \ وسلمان أبو الحكم \ وسلوم \ والشيخ أبو المنقذ \ والواصف \ كلّها كانت تستردُّ عافيتها من طقوس العودة \ عودة الذاكرة بعد أن أصابتها جلطة الهزائم \ ولكن ….؟
إشكالية العالم الافتراضي هي أنكَ تتبع الواصف الذي تربّى على حليب الليل، وقلقلة الفجر، بعد جملةٍ من التناسخ الأنزيمي في الحارة العلويّة، والحارة العلويّة لا تبعد كثيراً عن جارتها السفليّة خطّيّاً إلا أنها في مفارقة اللغة على حدّ تعبير المهندس، تبعد سنة ضوئيّة أو أكثر.
بيننا ضلعان من غبار الكلام، سنةٌ ضوئيّةٌ أو أكثر، وعلاماتٍ للرعيان، وطقسٌ من شتاءٍ ساخن، بيننا جملةٌ من مرايا الصمت، وانشغال الحاضر بالترتيب الأبدي، بيننا أننا خارجان عن الكيمياء، وفرضيّة الزمن، بيننا أننا قائمان بلا كفن
فرضيّة الزمن هي التي جدعتْ أنف دُرّاقة ذات ضُحى، وختمتْ قراءة دستور النّفْس، وكوّنتْ جداراً صلباً من إسفلتِ اللغة بعد انحياز المهندس لظلال المعنى.
_ هل أنت واثقٌ من ندمائكَ واحتباس المطر، وواثقٌ من أصابعكَ الضالعاتِ قدرةً واكتنازاً لماء الفكرة ؟
قال لها وهو يحرِّكُ قليلاً من السُّكَّرِ في كأس الشاي _ واثقً من حضوري في الكلام، وحضوري في أبجديّة المعرفة، وواثقٌ من رماد الأسئلة في العالم الافتراضي
جلبتْ نفْسها من زاويةٍ أكثر حلزونيّة
_ إذن، هو النصُّ الكوني الذي ما انحنى للخريف
_ وما انحنى لتقلّبات الزمن.***
• صراع الدّيَكة

مسألة وقت التي كانت تحبسُ أنفاس الطيور البريّة" وهناك طيورٌ مُدجّنة " لم تعد وسيلة لإقناع أهل الحارة السفليّة، لمطاردة النوارس المهاجرة،إذ سرعان ما تحوّل الكلامُ من لغة الخطاب _ أيضاً على حدّ تعبير المهندس _، إلى لغة الحركة، وكما كان يقولُ الواصفُ "في الحركة بَرَكة"
إذن لم تعد السيقان المكشوفة غير رمز أسطوريٍّ بات البحثُ عن ثيمتهِ واكتشاف سيمياء دلالتهِ، ملجأ الكثير من سكان الحارة السفليّة، وهم يسترخون على الطريق العشبي بعد فصلٍ من مماحكة النرد ليلاً، واختراق القصب من أجل البحث عن دودة الفخ كما كان يسمّيها نعمان الكاشف نهاراً، إذن لم تعد إلا رغبة في الإصغاء لحساسية الصفيح الذي عقدتهُ تربة الغربة.
دُرّاقة _ أو كما كان يسمّيها أهل الحارة السفليّة " دُر" لانعكاس الأشعة تحت الحمراء عن خديها، وانعكاس الرؤيا عن سريرتها في طلّتها الصباحية_ وبعد أن أتقنتْ أنوثتها تماماً من خلال الخطاب البنفسجي،أصبحتْ جملةً من الإعصار الزمني الذي لا تحدّدهُ كلُّ مقاييس ولغة المهندس،فهي وإن خمدتْ نيران جرأتها،وجفّتْ عيدان الكبريت في أعصابها، إلا أنها ما تزال قادرة على احتواء أهل الصفوة من أُولي الأمر،وهذا ما جعل نعمان الكاشف أن يترجل عن وقار منزلته من أهل الصفوة، وهو الرجل الستيني الذي خاض المعارك مع عزّ الدين القسام .
لم تكن دُرّاقة تعلم بحقيقة المهندس وما يخفي بين أبيات قصيدتهِ الكونية، ولغموضهِ الشديد في حضرتها وتقلّبات حواريتهُ معها، وهما يسبحان في الطريق ألشكي، ورغم تحذيره الشديد وبلهجة الآمر أو الوصي لها، بأن لا تدخل في الجُحْر الذي حفره أهل الحارة العلويّة، إلا أنها وربما من قبيل المماحكة،أو المغايرة دخلتْ الجُحر، ولبست تنورة المينوجُب .
كظم المهندس غيظهُ، وانبرى في البيت الأوّل من قصيدته، يبحث عن ممر آمنٍ لها، غير أنّ سرعة التحوّل في حياة دراقة، جعلته يقفز إلى البيت الثاني وينطلق باتجاه طائر الوعد الذي نسيهُ لفترة من الزمن وهو يراقب نمو وأنفاس وحركات دراقة .
كظم المهندس غيظهُ حين رآها تفتحُ نافذة البيت، لم يكن الصِبْيَة يلعبون، ولا الفتيات المقبلات على عدِّ الخطى يلعبن، ولم يكن ثمّة عرسٌ في الحارة، وما كان سلطان الأعرج يعرج هرباً من قذائف حجارة الأطفال، وسلطان الأعرج هذا ليس أعرج، ولكن أصابتهُ لوثةُ العقلِ بمفرداتها، فأضحى يثيرُ ما في الطفولة من عبثية المنطق، ويثير في الرجال كهربة الحواس، ليس خوفاً، ولكن خشية من انقلاب السحر على الساحر كما يقال في المثل، لم يكن ثمة أمر لافت، فلماذا تضعُ يدها على خدّها الزئبقي المخاتل ؟ ولماذا هذا الانكسار والحيرة والترقب في العيون الكستنائية، أسئلة خافتة لعاشقٍ لا يسلك الطرق العشبية .
لم تكن عباءة نعمان الكاشف تخفى على أحد، ولو كان الظلام جاراً للظلام، ولم تكن طويّتُهُ تسعى إلى ملامسة الحديث، بل لممارسةِ التخفي والانصهار بالجسد الحريري، ربما لأنها كانت طويّةَ مقاتلٍ لم تهزمهُ الدروب بتعرجاتها، أو ربما لأنها كانت تصدرُ عن خبرة الكهوف، وإمكانية مغايرة توجّهات الذات قبل احتدام الصراع، مثلما تفعل الدِّيَكة في اقترابها من لحظة المواجهة، وعباءة الكاشف شفّافة مهفهفة، مطرزة بخيطٍ حريريٍّ قال إنه جاء بهِ خصيصاً من بلاد ألواق واق، وكثيراً ما كان يتندر عليه أبو المنقذ من هذه الحكاية، فأين هي ألواق واق في حساباتك يا نعمان الكاشف
دقائق معدودة وتمرُّ الأخيلة أمام قصيدة المهندس، وتنكشف الصورة.
_ إذن هي لعبتك الأثيرية يا نعمان بعد أن تهدلت قامتك من تشابك الإسمنت والحديد
وهي لعبة الذين فقئوا عينَ الشمس بعد أن ظنوا أن الكسوف دائم
وهي لعبة صراع الدّيَكة في المهرجان الروماني .
تبصرُ ريحُ التلِّ حرارة نعمان الكاشف،
وهو يجرُّ خطاه،
وحرارة دراقة، إذ يخفتُ تلُّ الرمان
تستمطر أوقات من لدن الغفلة،
والبابُ من القصب السكران
ما بين الحارة والحارة يولدُ طوفان
وعلى ذمّتِهِ البريةِ راح الإنسانُ
إلى ثقب الخزان
بدأتْ أروقةٌ الحارة السفليّة تشرع منديل حرارتها، وبدأ كلُّ شيءٍ يندسُّ في جيب العابرين إلى منازلهم حيث الجلبة التي أصبحتْ من مفردات البكور الصباحي، والتقاطعات شديدة الخصوصيّة لحراك الناس، وبدأ كلُّ شيءٍ ينتظمُ في منفى الصفيح،
هنا بالقرب من مدارس الوكالة منزلُ أبي منقذ ويشبه قطاراً بخاريّاً،تنتظم فيهِ الغرف في خطٍّ مستقيم وتطلُّ جميعها على الكهف الذي شاع فيما مضى، بأنّه مأوى لحراك الجنِّ، ومأوى للسائرين إلى الهوى فجراً، ومأوى لسلطان الأعرج، وهناك في الزاوية الغربية من حبّة الزيت، تستقرّ بقالة الحاج أبي الوداد ولا يعرف أحدٌ ما السبب وراء تسميتها ببقالة السعادة ربما كان في نفْس الحاج، محو آثار الهزائم المتتالية التي أصبحتْ تظهر على وجوه أهل الحارة السفليّة، وعند التقاء وادي القطا مع بستان الواصف تربّعتْ مطحنة القطن الوحيدة في الحارتين والتي تشير اليافطة البيضاء المعلقة على شجر الزيتون بأنها ملك لنعمان الكاشف، وفي المقابل الوسطي لتلِّ البوادي، كان منزل المهندس، يحبسُ أنفاس الرياح الجنوبية، لشدة حرارة الحطب الذي لم تخمد ناره منذ أن التقى بدرّاقة.
***
• مخيّلة القصيدة
القوسُ الذي شذّبَهُ المهندس بعد أن خلع الخاتم من إصبعهِ، صار رفيقهُ، ومآل خطاه، وعصاه التي يتوكأ عليها، وله فيها مآرب أخرى، القوس هو الحكاية التي تلوحُ في مخيّلة القصيدة، التي بدأها المهندس منذ أن اكتشف مرارة الحصى في المرارة، ومنذ أن رأى في منامه ما يزعج الصقر في انقضاضه، رأى حجراً مستتراً خلف حراك الكاشف، حجراً أندلسيّا، ينشقُّ إلى نصفين، نصفٌ أرجوانيُّ القطع ونصفٌ مُضبّب، وما مزيج الأحمر والرمادي إلا بداية المسألة، مسألة تشقّق القدمين المنتفخين لانزلاق الجوارب عن حاجة الخطى، حجراً يقبضُ على بلور المنفى، والكاشفُ في نصفيْ الحجر الأندلسي، تتفصّد عن لحمهِ ذاكرة السيرة .
_ أبي، هل أنت بخير ؟
_ ما الحكاية ؟
_ لماذا كنتَ تمسك وأنت نائم بسروالك، وتصرخ، كاشف؟
_ لا شيْ، أنها الكوابيس
لم يدرِ المهندس، بأنه إلى جانب اسم الكاشف الذي كان يردّده، كان يردّد حجر، ولو كان يدر لما قال لابنهِ الكوابيس، لأن الكاشف والحجر هما معادلة ربما كانت بحاجة إلى إجابة لكي يتسنّى لابنه معرفة عناصرها عن بُعد.
_ والحجر يا أبي
_ حجر النرد
_ أيّ حجر هذا الذي يوقدُ فيك الحيرة والعرق،ويجعلك تصرخ كاشف حجر كاشف حجر فطن المهندس بأن ضلعاً ما من أضلاع مثلث الرؤيا قد تسرّب إلى ابنه، فقال مستدركاً، خشية انفلات بؤرة القصيدة من يد الخفاء، ولو كان هذا التسرّب لأقرب الناس، لذلك كان لا بدّ من الحكمة في الإجابة بحيث لا تنزلق غيمة الصيف عن أهدافها الظليّة
_ بالأمس رأيتُ الكاشف مع أهل الصفوة يلعبون النرد تحت شجرة الكستناء.
أحسَّ الابن بأنّ أباه يحاول التهرب، ربما ثمة أمر لم يحن له أن يسأل عنه، لهذا ترك الإجابة للزمن وقال في محاولة لتغيير مجرى الحديث
_ نسيتُ بأن أقول لك بأن أبا المنقذ، يدعوك الليلة لحضور حلقة الذكر في بيته.
أبو المنقذ من طبائع سيرته كما يقول المهندس، إنه لا يتكلّم كثيراً في شؤون العالم الافتراضي، إلا إذا طفح الكيل، وخاصة عندما تحكمه الظروف وتجبره إلى الجلوس مع أهل الصفوة، وهذا قليل ما يحدث، غير أن أبا المنقذ لهُ من اللسان الباطني ما تنوء به الجبال، الحضرة، أو حلقة الذكر، وانسجام ظواهر الأمور مع بواطنها، والاكتفاء بالفعل محرّكاً فاعلاً والالتصاق الكهرو مغناطيسي بآليات القول واشتقاق المعرفة،واقتناص لحظات الصفاء، لإدراك الأبعاد الخفيّة للكون والملكوت، والحسابات الدقيقة وانكشافها على مرونة التلقي هي غيض من فيض أبي المنقذ.
لم يذكر المهندس يوماً بـأنه تغيّبَ عن حلقات أبي المنقذ، ولو كان الأمر يستدعي وجوداً قريباً من بيت درّاقة، _ خاصة في مساءات الشتاء، حيث يتجمع الناس في منازلهم وخيامهم حول صوبة الكاز، من شدة البرودة الليلية _ ليرى ما الكاشف فاعل في هذه اللحظات، والكاشفُ بطبيعتهِ الخفيّة يستغلُ مثل هذه الأوقات، ودراقة تراها ستراً لحيويتها وشعرة تبقيها لمكابدات الزمن.
دائماً تشير الساعة إلى الثامنة ليلاً، عندما تبدأ دائرة الكون بالاتساع لتشمل فضاء الملكوت، ودائماً كان أبو المنقذ يضع أمامه في هذه الساعة أوراقه الصفراء ولا يعلم أحدٌ من أين جاء بها، ولكن التقوّلات التي كثيراً ما تدور بين الخاصة، تشير إلى أنه ورثها عن جده الجيلاني .
بعد المكابدات التي عانى منها المهندس في بدايات التزامه مع أبي المنقذ، وبعد الفتوحات التي جاءته من اللطيف الخبير وبعد أن أصبح يمسك قطبيْ المعرفة والذوق، وبعد أن شهد له أبو المنقذ في رؤيته له، أنه رآه يدخل في باب المعيّة، قرّبه منه إلى حدِّ أن الحضرة أو حلقة الذكر لم تعد تقام إلا بوجوده، وإن حدث أنه في شغلٍ شاغل، أو في مقام سائل، كان أبو المنقذ يؤجّل الحضرة أو حلقة الذكر وكثيراً ما كان الكاشفُ يثير جلبة الأسئلة حول ذلك، مما حدا بأبي المنقذ أن يقول له : كفّ عن هذا الفساد، وإلا لا حاجة لنا بك،
ولكن الكاشف القادر على استثمار المواقف قال لأبي المنقذ بلهجة الاستفزاز: أتطردني من العالم الذي هو ليس لي أو لك.
عندئذٍ، لم يعد للكاشف وجوداً في حضرة أبي المنقذ، وصار ينعتُ جلسات أبي المنقذ بالدروشة
خاصة حينما كان يفتح باب النميمة عليهم في حضرة أهل الصفوة وهم يلعبون النرد
***
• الأنوار العلوية

سلطان الأعرج، ينحدرُ من عائلة ريفية، كما هو حال رجب، ولا يروق له إلا أن يجلس في الحقول القمحية، أو تحت أشجار الزيتون، وكثيراً ما أبدى انزعاجاً منه الواصف، ظناً منه بأنه يجلب الخراب والدمار، وربما يكون مآل ذلك الاعتقاد، إلى تلك السمة التي تبرز في محياه عندما يغضب، وكثير من أهل الحارة السفليّة يعتقدون بأنه ممسوس بالجن، ولم يكن أحد يطيق الأعرج إلا اثنان، المهندس وأبو المنقذ فهو مع كلّ ما فيه من هيجان الذات يبقى ابن الهجرة على حدّ تعبيرهما، كثيراً ما كان يسترق السمع إلى حضرة أبي المنقذ، من خلف النافذة التي كان يغطيها
شوال الخيش، ولم ينتبه له أحد _ وهو الذي لم يغب عن حضرة واحدة _، إلا عندما خرَّ مغشياً عليه بعد أن شاهد الأنوار العلوية تتنزّل على بيت أبي المنقذ، لم يقل هذا، ولم يسمعه أحد يقول، ولم يقل أبو المنقذ ولا المهندس، ولكنّ انعكاس الظلّ النوراني على جسده النحيل، أوحى بذلك عندما وارووه التراب في مقبرة الحارة السفليّة، القريبة من تلّ البوادي .
في الحضرة التي تلتْ موت سلطان الأعرج، حدّث الشيخُ أبو المنقذ مريديه عن إمكانية عودة الأعرج إلى الحارة، ولكن المهمهة والتمتمة جعلت الشيخ يتنبه لنقطةٍ هامة، وهي أنّ معادلة الفاعل والمفعول لم تكتمل عناصرها في قلوب المريدين، لهذا مال على المهندس هامساً :
_ ما كان لي أن أقول ذلك
تدارك المهندس الأمر، وبعد أن أثنى على كلام الشيخ قال:
_ شيخنا يقصدُ عودته في الرؤى،والرؤى ثوب الحقيقة وميدانها الفاعل،
بلاغة القول كثيراً ما تشفع لصاحبها خطأ التعبير وأحياناً تستردّ المغايرة من الحقيقة في صفة واحدة هي الإقناع.
أن تبني فصلاً أو جزءاً من فصل روائي لشخصية لم تنم بعد، ثم تغيّبها، يثير كثيراً من علامات الاستفهام حول أهميتها، ولماذا زُجَّ بها في متن الرواية،ولكنّ الراوي في مثل هذه الحالات،لا يريد منها سوى أن تكون كموطن الشفق الفاصل بين النور والعتمة،أو كالتصاق غيمتين في لحظات هبوب الرياح،إذن لم تكن شخصية الأعرج عبثية مقطوعة الوصل عند المهندس،وأبي المنقذ،ولكنها فيما عداهم غيمة صيف عابرة لا جدوى منها،الأعرج إذن في متن الرواية الغائب،هو الخيط الرفيع الذي يستندُ عليه المهندس في حلقات رؤيا القصيدة،أو الحلقات السريّة فيما بعد، أو لالتقاط فاكهة درّاقة من وراء حُجُب،ولا يعرف نوع هذا الخيط سوى أبي المنقذ شيخ المهندس
ما بين تربة الزيتون، والمجرى الهوائي للكهوف التي كان يختلي بها المهندس، ثمة طريق متعرج، لا يقودُ الآخرين إلاّ للجبل الذي يقابل جبل الشيخ، فمن أين لك كلَّ هذا الحدس أيها المهندس، لتعرف المعابر الخفيّة للكهوف، ربما يعرفها غيرك، ولكن حكايات الضباع والجن والرعب الداخلي باعدتْ بين الناس والكهوف، فلم يعد لها وجود في ذاكرتهم الفردية والجمعية، أو هكذا أقنعوا أنفسهم، خشية إملاق .
_ من أين أبدأ ؟
سؤالٌ يقدم النتائج على معطيات الحركة، تلك المعطيات التي كان المهندس يهيكل معالمها، أيبدأ من ابنه عدنان، الشاب الذي فقد يده اليسرى، بعد أن سقط عن شجرة اللوز، وبعد أن أخطأ الطبيبُ في إعطائه جرعة زائدة من الأمل، أم يبدأ من الكاشف وهو يعلم حقيقة المتغيرات التي تطرأ في كلّ لحظة على عباءته المطرزة بخيط أندلسي،أم من الواصف ويهادنه في عبثيته، والوسيلة تبرر الغاية،أم من دراقة وهي ما تزال تعبر خطّ الانكشاف على أبجدية الكاشف الجافة بالنسبة له، والقادرة على استدراج النحل بالنسبة لها،أم من أبي الوداد الذي يتوكأ على عكازه من فرط الألم الذي يحتل مساحة واسعة من ظهره، بعد أن فقد أهله في زمن الطوفان
من أين يبدأ السؤال الذي يقدم النتائج على المعطيات، وربما يقول الراوي، لماذا لا يبدأ من أبي المنقذ وهو
شيخه، وحافظ سرّه، والقائم على ذلك الخيط الرفيع الذي يتجلّى في عودة سلطان الأعرج.
قال رجب في خلوته الكهفيّة
_ أبو المنقذ هو من النتائج،وليس من المعطيات
ويجب أن يبقى بعيداً عن متتاليات الزمن
قادته هذه الفكرة إلى معاينة الواقع ألذكوري في الحارة السفليّة،وفي حلقات الشيخ إلى تقصّي الرؤى التي يقصّها المريدون على أبي المنقذ،لهذا استدعى كلّ طاقتهِ الشعرية لغايات فتح باب التأويل _ مستأذناً بذلك _ بعد أن رأى الشيخ فيه علامات الإيصال والاتصال الحسّي والمادي والمعنوي