المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أتصمت العصافير ؟ - 7-



خليف محفوظ
15/02/2009, 01:26 AM
الاهداء
إلى الأديبة فايزة شرف الدين. مع عظيم احترامي.



رحل الشيخ مسعود في تلك الساعة كنسر حلق في الفضاء و لم يقع، كان حزني عليه خليطا من الانفعال، لم أميز بكائي عليه من رثائي لنفسي.
لم يطل تفكيري ، قررت الذهاب إلى الدولة، الأم الثانية ، كما قال المعلم أحمد:
ـ سوف تحضنك في ملجئها ، الدولة أم لمن لا أم له، و هي في نهاية الأمر أم الجميع.
و حملني ذات صباح في سيارته إلى المركز و قد استقبلنا المدير الذي كان صديقا له في ما بدا من خلال حديثهما، كانا يضحكان و أنا ضائع العينين في أبهة المكتب و كرش المدير المهتز لدى كل ضحكة يطلقها.
ضغط على زر فوق مكتبه فدخلت امرأة غمرنا عطرها الضبابي، و اشار إليها أن تأخذني و تطوف بي في أرجاء المركز، ففعلت في طاعة و لطافة، كان صوتها أقرب إلى الهمس، يدي في يدها، خطواتي متثاقلة فبدت كأنها تسحبني، كان شيء ثقيل يقيد رجلي و يقبض على مجامع قلبي، و كانت ضحكة المدير تفرقع في أذني ممتلئة بالصحة و الاعتداد بالنفس.
دخلت بي قاعات عديدة ، ثم أشرفت بي على قاعة طويلة واسعة و همست:
ـ هنا يمارس الأطفال هواياتهم ، ثم يكبرون و يغادرون تاركين بصماتهم .
و شدتني لوحة معلقة في الجدار: شجرة عظيمة يغوص جذعها في تربة قاحلة، ثم يتخدد و يتفرع في أغصان عجفاء ملتوية كالحة متطاولة تمزق فضاء اللوحة ، ثم فردة حذاء ممزقة ، و لا شيء غير أرض قاحلة تغيب في أفق مغبش مغبر.
ـ رسمها طفل كبر و غادر المركز، أنت أيضا ستكبر يوما و تغادر.
قالت ذلك ذات الصوت الهامس و عطرها يشنقني على الشجرة الخارجة من اللوحة، فوجدتني من غير أن أشعر أمد يدي أشد على طرف ثوبها الناعم، فتزيحها بلطف و تقودني إلى مجموعة من الصبية تحلقوا في الساحة يلعبون من غير ضجيج.

****************************

و كانت الليلة الأولى بين أمثالي، كان سريري إلى طفل شقي يدعى" كريم" أسر إلي و المراقب يطفئ الضوء و يغلق خلفه الباب خارجا :
ـ لا يخدعك ابتسامهم، هنا على كل خطأ حساب، لماذا جئت إلى هنا؟
رغم أني شعرت بألفة بيني و بينه لأول وهلة إلا أني أجبته مقتضبا :
ـ لم أجد مكانا آخر.
فقال مندفعا :
ـ لو أتيحت لي فرصة الدخول هنا في مثل سنك لاخترت أي مكان غير هذا، أنا فتحت عيني هنا، و كرهت البقاء هنا .
ـ لكنهم يقولون إنه مركز يوفر كل الحاجات.
ـ لا تصدق أحدا، صدقني أنا إنهم لا يكفون يخصون أنفسهم بأفضل ما يمنح لنا، و فوق هذا ضبط و ربط و حساب عسير عند أدنى خروج عن نظامهم.
تساءلت في حيرة :
ـ إلى أين يذهب الواحد منا إذن؟
ـ إلى أية جهة، سأتدبر الأمر ، هل تأتي معي ؟
ـ إلى أين ؟
ـ الأرض واسعة ، سنعمل في المقاهي، أو في المطاعم، هناك صبيان كثيرون في مثل سننا يعملون، و هناك من سبق أن هرب قبلنا.
ذكرني حديثه بالشيخ مسعود في اندفاعه فانعقدت بيننا أواصر محبة غريبة، كنا نتلازم في المطعم و في قاعة الألعاب، يمدني بالسجائر التي يجلبها من نادي جناح العجزة، ندخن في خفية عن عيون المراقبات ، يسر بعضنا لبعضنا هواجسه، قال لي ذات مرة فجأة:
ـ أتدري كيف يسمينا الناس؟
ـ الأطفال المسعفون.
فابتسم في هزء:
ـ هذا عندما يشفقون علينا، لكن عندما نغضبهم يقولون إننا لقطاء أولاد حرام.
و أضاف بعد سكوت:
ـ هذا يعني أنه يجب ألا تغضب أحدا حتى يظل يشفق عليك و لا يعيرك.
كنت صامتا، كنت أرى وجهي في وجهه المتمزق و في عينيه الهاربتين في كل اتجاه تبحثان عن شيء ما.
ثم قال في تنهد:
ـ قالوا لي هنا إنهم عثروا علي في القمامة ملفوفا أبكي ، تماما مثل هؤلاء الأطفال الرضع في الجناح ـ أ ـ أتدري ماذا يعني هذا؟
و استرسل يجيب من غير أن يمهلني
ـ هذا يعني أنه يستحيل علي أن أتعرف يوما على أهلي، بعض الأطفال هنا يعيشون على أمل لقاء ذويهم، مثل الذين وجدوا تائهين في الشوارع، أو الذين أودعوا هنا من قبل ذويهم لظرف ما، أما أنا فقد فصل في أمري" لقيط" لهذا كانوا دائما يمنعونني من المشاركة في الأبحاث العائلية و النداءات التي يقوم بها المركز باسم الأطفال إلى الأهالي .
ثم التفت إلي و عيناه تشتعلان بالغضب :
ـ أتدري ما معنى أن تكون لقيطا؟ معناه لا أحد يحبه، لا أحد يثق فيك، لا أحد يصاحبك ، معناه أنك
ملعون إلى الأبد
و آلمني كلامه ،و تذكرت كلام الشيخ مسعود حين يصف أحدا ما باللعنة، فإنه يطلقها مشحونة بكل الاشمئزاز و التقزز.
و خرجت من صمتي ، و لم أخرج من دائرة الشيخ مسعود
ـ و لكننا ذكور ، رجال لن نكون بعدها في حاجة إلى أحد
فضرب بيده على صدره.
ـ نعم، رجال ، و لهذا قررت أن أهرب من هذا المركز.
و حلمت ليلتها الشيخ مسعود ينتفض من قبره عملاقا، منفوش الشعر،عاري الصدر ، يشدني بين يديه و يهزني:
ـ كن رجلا، كن فحلا ، كن كبشا
و كنت مرعوبا من عينيه المطفأتين و كان يقهقه كحصان يصهل :
ـ الرجل ينكسر و لا ينحني

عاصم الذئب
15/02/2009, 05:18 PM
الرجل ينكسر ولا ينحني
كلمات جميلة في زمن قلت فيه الرجال
أخوك ذئب الاسلام

مراد حركات
15/02/2009, 08:36 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الحبيب خليف محفوظ -حفظه الله-
وهكذا السنديان تعصف به الريح ولا ينحني إلا إجلالاً لمولاه سبحانه وتعالى، الرجال كذلك..

تقبّل مروري ومودتي.

فايزة شرف الدين
17/02/2009, 12:50 AM
أشكرك جدا أخي الراوئي الأستاذ خليف محفوظ لما أسبغته على من كرمكم ، وأن يكون لي نصيب من تلك الرواية الرائعة في الإهداء .
وفي هذا الفصل بدأ الطفل مرحلة جديدة جدا في حياته السابقة التي كانت تتسم بالفطرة والعفوية ، ليبدأ مرحلة بين جدران ملجأ كئيب كالح من العواطف .
لقد كنت دقيقا جدا في وصف عيون هؤلاء الأطفال البائسين .. فطالما لمحت هذه النظرة الهاربة والتي تبحث عن شيء ما أفتقدته .. فإنني أعمل في الشئون الاجتماعية ، وكنت أزور ملجأ الأيتام الذي كان يتبع الوحدة التي أرأسها .
وكما وصفت المسئولون يقابلونك بابتسامة وترحيب كبير وكرم بالغ .. وتشم أطيب الطعام والأولاد يلبسون أجمل الثياب .. لكن دائما ما كنت أشعر بريبة مما حولي وأراه ، وأن ثمة شيء غامض يكتنف هذا المكان .
أعتقد أن الرواية لم يكتمل تأليفها بعد .. وهذا هاجس راودني عندما أنهيت هذا التصفح سريعا .. ولكن لا أريد أن أتعجلك في بقية الرواية .. لأن الرواية كي تختمر وتنضج تأخذ وقتا طويلا .
احترامي وامتناني العميق

خليف محفوظ
18/02/2009, 12:04 AM
الرجل ينكسر ولا ينحني
كلمات جميلة في زمن قلت فيه الرجال
أخوك ذئب الاسلام


أخي العزيز عاصم الذئب سعدت بحضورك هنا ، وبما خط قلمك من جميل التعقيب .

لك عميق التحية .

خليف محفوظ
18/02/2009, 12:09 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الحبيب خليف محفوظ -حفظه الله-
وهكذا السنديان تعصف به الريح ولا ينحني إلا إجلالاً لمولاه سبحانه وتعالى، الرجال كذلك..

تقبّل مروري ومودتي.

الشاعر المتألق مراد حركات سلاما جميلا
نعم ، هو كذلك الشموخ الجميل لا ينحني إلا لله .
وما أسهل أن يكون المرء ذكرا ، و ما أصعب أن يكون رجلا ...

عميق تحيتي .

خليف محفوظ
18/02/2009, 12:18 AM
أشكرك جدا أخي الراوئي الأستاذ خليف محفوظ لما أسبغته على من كرمكم ، وأن يكون لي نصيب من تلك الرواية الرائعة في الإهداء .
وفي هذا الفصل بدأ الطفل مرحلة جديدة جدا في حياته السابقة التي كانت تتسم بالفطرة والعفوية ، ليبدأ مرحلة بين جدران ملجأ كئيب كالح من العواطف .
لقد كنت دقيقا جدا في وصف عيون هؤلاء الأطفال البائسين .. فطالما لمحت هذه النظرة الهاربة والتي تبحث عن شيء ما أفتقدته .. فإنني أعمل في الشئون الاجتماعية ، وكنت أزور ملجأ الأيتام الذي كان يتبع الوحدة التي أرأسها .
وكما وصفت المسئولون يقابلونك بابتسامة وترحيب كبير وكرم بالغ .. وتشم أطيب الطعام والأولاد يلبسون أجمل الثياب .. لكن دائما ما كنت أشعر بريبة مما حولي وأراه ، وأن ثمة شيء غامض يكتنف هذا المكان .
أعتقد أن الرواية لم يكتمل تأليفها بعد .. وهذا هاجس راودني عندما أنهيت هذا التصفح سريعا .. ولكن لا أريد أن أتعجلك في بقية الرواية .. لأن الرواية كي تختمر وتنضج تأخذ وقتا طويلا .
احترامي وامتناني العميق

الأديبة المتميزة فايزة شرف الدين أنا الذي يشكرك على ما أوليته من اهتمام لهذه الفصول من روايتي ، وأسعدني ؤجدا قبولك إهدائي .
كما أسعدتني هذه الصدفة الجميلة أن مهنتك لها صلة بحياة الشخصية المحورية للرواية " سعد" .
فأرجو ألا تبخلي علي بالملاحظات ، وسأعمل على الاستفادة منها في تنقيح الطبعة الثانية . الرواية اكتملت من زمان وهي في السوق .
تقبلي عميق تحيتي

فايزة شرف الدين
18/02/2009, 03:39 AM
الرواية لا تحتاج تنقيح من حيث السرد أو الوصف فهي مكتملة كما كتبتها .. فهي رائعة ترقى إلى الأدب العالمي .. لكن أثناء الطباعة والضرب على الكيبورد كانت هناك أخطاء بسيطة لاحظتها .. لكني لم ألق بالا لها لعلمي كروائية أن العمل الروائي من الصعب تنقيحه من قبل صاحب العمل نفسه .. لدرجة أن الرواية الموجودة هنا وهي رواية الرجل العقرب خضعت إلى خمسة من المنقحين .. آخرهم الأخت الغالية فاطمة بنت السراة ، وتدخل الحبيبة زاهية بنت البحر .. خاصة أني نقلت هذا العمل مرة أخرى من المطبوع إلى الحاسب .
لقد اطمأن قلبي أني سأقرأ العمل كاملا .. لذا سأطالبك بباقي الفصول كي يتم الاستمتاع بالرواية .
لك عميق تقديري

خليف محفوظ
23/02/2009, 08:33 PM
الرواية لا تحتاج تنقيح من حيث السرد أو الوصف فهي مكتملة كما كتبتها .. فهي رائعة ترقى إلى الأدب العالمي .. لكن أثناء الطباعة والضرب على الكيبورد كانت هناك أخطاء بسيطة لاحظتها .. لكني لم ألق بالا لها لعلمي كروائية أن العمل الروائي من الصعب تنقيحه من قبل صاحب العمل نفسه .. لدرجة أن الرواية الموجودة هنا وهي رواية الرجل العقرب خضعت إلى خمسة من المنقحين .. آخرهم الأخت الغالية فاطمة بنت السراة ، وتدخل الحبيبة زاهية بنت البحر .. خاصة أني نقلت هذا العمل مرة أخرى من المطبوع إلى الحاسب .
لقد اطمأن قلبي أني سأقرأ العمل كاملا .. لذا سأطالبك بباقي الفصول كي يتم الاستمتاع بالرواية .
لك عميق تقديري

الأديبة المحترمة فايزة شرف الدين تحية عميقة

أعتز بشهادتك حول الرواية

وسعدت كثيرا لحرصك على قراءة فصول الرواية . لن أرد جميلا إذا قلت لك سأتشرف بقراءة روايتك " الرجل العقرب " ، وسأشرع في قراءتها بحول الله مع نهاية هذا الشهر .

تقبلي عميق تحيتي و عظيم احترامي