المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أتصمت العصافير ؟ - 8 -



خليف محفوظ
23/02/2009, 08:09 PM
في الصباح أخبرتني المراقبة أن هناك من جاء يزورني، فاستغربت هذا الذي يعرفني! و خفق قلبي، أتكون هي؟
و سبقت المراقبة أحث الخطى إلى قاعة الاستقبال حيث يلقى الزوار ذويهم العجزة.
هناك رأيته بوقفته المعتادة، يداه في جيبه تلعبان بالنقود، الشعر الأشيب الممشوط إلى فوق ، سعيد القهواجي.
وقفت إلى قريب منه أتطلع إلى عينيه الرماديتين، انحنى علي:
ـ ألا تسلم على عمك السعيد؟
و لامست شفتاي أشواك ذقنه، و راح يمطرني بأسئلة عن أحوالي في المركز، و هو ما يفتأ يزين لي المركز، ثم خيرني بين الذهاب معه و البقاء عند الدولة فأخبرته أني أفضل البقاء فابتسم و هو يلعب بالنقود في جيبه:
ـ لن أقطع عنك زيارتي، إذا رغبت في شيء ما أخبرني، لقد أوصاني بك المرحوم جدك.
ـ كلا، لم يكن جدي.
و استدرت على عقبي، عدت إلى أصحابي يملأني نحوهم إحساس ثقيل بالقدرية العمياء، مزيج من الحب و البغض، من الانتماء و الانفصال المرعب. كنت أراهم نسخا تتكرر في و أتكرر فيهم، أندفع معهم في اللعب إلى أقصى حد ثم يأخذني شرودي فأنزوي قي جهة ما، تشاكسني أسئلة ذئبية ، أتراها تخلت عني عمدا كما حصل مع هؤلاء الرضع في الجناح ـ ا ـ ؟ كما حدث مع كريم؟ أ تكون صورتها حقا كما رأيتها في الحلم ؟ الضرس المذهبة في زاوية الفم تلمع عندما تضحك! ميتة لا أمل في اللقاء بها ؟ حية متشردة تسعى في البحث عني؟
و تقطع المربية" نوارة" خلوتي فتأخذني إلى النادي، تعاتبني على توحدي، تلاعبني الشطرنج، تزرع في حنانا معطرا .كانت أحب الناس إلي بعدما اختفى كريم و لم يعثر له على أثر، و تردد كلام في المركز أن سيارة تقودها مجموعة مخمورة في منتصف الليل صدمته، و لم نعلم أكان ذلك حقا أم كذبوا علينا حتى يخوفونا من مغبة الهرب، لكن الحراسة شددت علينا منذ تلك الحادثة، و ألقى علينا المدير خطابا مطولا، أفهمنا أن الدولة تتكفل بنا، توفر لنا ما يضمن مستقبلنا، مستشهدا بأسماء تخرجت من المركز تمارس وظيفتها في الحياة الاجتماعية على أحسن ما يرام.
و أعيد تقسيمنا إلى أفواج على كل فوج مربية لا تغفل عنه، فكانت نوارة ترعانا تماما كما كنت أرعى غنم الشيخ مسعود ذات زمن في مرج عيطر، ترافقنا إلى المدرسة المجاورة صباحا ، و في المساء نجدها عند البوابة في انتظارنا لتقودنا إلى المركز عبر نفس الزقاق لا تحيد بنا عنه أبدا. كانت حازمة لا تسمع لتوسلاتنا إليها بأن تخرج بنا قليلا فنطوف في المدينة، تجيبنا دائما بقولها المكرور:
ـ لا ينبغي الخروج عن النظام يا أولاد، و إذا شئتم النزهة نتقدم بطلب إلى المدير.
و كان المدير عادة ما يرفض بحجة أن الميزانية لا تسمح، نتطلع إليها و هي تخرج من مكتبه يرتسم على وجهها تعبير الخيبة:
ـ هذه المرة لا يمكن، و لكن هلموا إلى نزهة أخرى.
تجمعنا حولها و تشرع في قراءة قصة من قصص ألف ليلة و ليلة ، ننشد إلى صوتها الأغن مقطوعي الأنفاس، يحلق خيالنا بعيدا خلف أسوار المركز، و لا ننتبه إلاّ على تلك الجملة التي لا نحبها: " و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح." فنصيح من غير وعي منا:
ـ أكملي، مازلنا في أول المساء.
تبتسم ابتسامتها الوقور بأن ترخي رموشها و تمد شفتيها من غير أن تظهر أسنانها و تطوي الكتاب:
ـ إلى اللقاء في نزهة أخرى يا أحبابي.
تواظب على مراقبة دفاترنا نهاية كل أسبوع، تتولانا بالنصيحة و الإرشاد تقول لنا:
ـ لا شيء كالعلم يفتح لكم الحياة، و يفسح لكم مكانا فيها.
تحفظنا الأشعار التي تملأنا ثقة:
لا تقل أصلي و فصلي أبدا.... إنما أصل الفتى ما قد حصد
تحبب إلينا الكتاب: " و خير جليس في الأنام كتاب."
كنا نحب حديثها ، و علاوة كنت أحب عطرها، و أحب الحفرتين المرتسمتين على خديها حين تبتسم.
قالت لي يوما و قد غلبتها في الشطرنج، أو أتاحت لي أن أغلبها:
ـ أنت ولد نبيه سيكون لك شأن لو حرصت على اتباع توجيهاتي.
فقلت و انا أقاوم انفعالا يغمرني كلما فكرت في فراق من أحببت:
ـ وهل تبقين دائما في هذا المركز ألا ينقلونك إلى جهة أخرى؟
ـ لا يمكن أن ينقلوني من غير أن أطلب ذلك.
ـ معك لا يمكن أن نفكر في الهروب من المركز.
فظهر على وجهها الاستياء :
ـ احذر أن تسمح لنفسك بالتفكير في هذا ثانية، ستتشرد و تجوع و تعرى ثم تقبض عليك الشرطة و تعيدك إلى هنا، و عندها سيضعونك تحت المراقبة المشددة، و يوجهون إليّ توبيخا .
ثم ابتسمت خفيفا كعادتها حين تعلن عن زوال استيائها :
ـ اشرح لي لماذا لا تفكر معي في الهروب؟
و قلت مندفعا بعواطفي التي أحسها تفيض صوبها دائما:
ـ لأني أحبك، أحب عطرك، و أحبك أكثر حين تبتسمين.
ـ تحب فيّ هذا فقط .
ـ لا، كلك ، حديثك، رموشك، قصص ألف ليلة، أنت حلوة يا سيدتي كحبة السكر.
و لأول مرة أراها تضحك ملء فيها حتى خيل إليّ أني أرى الضرس المذهب يلمع في أقصى فمها .
ـ و هل انت تغازلني أيها الشقي؟
ثم و هي تمسك ضحكتها:
ـ إذا كان صحيحا ما تزعم فلماذا لا تدعوني بماما نوارة كما يفعل زملاؤك ؟
و لم أجد ما أعلل به ملاحظتها :
ـ إننا في المدرسة ندعوا معلماتنا ب "سيدتي".

كنت أسررت في نفسي ألا أدعو أية امرأة " أمي " غير تلك التي تجلت لي في الحلم ، فقد ترسخ في يقين أنها هي ، لا سواها .
و قد كان أملي كبيرا يوم نشط المركز يبدل ثوبه ، بدلوا أغطية الأسرة ، أخذونا صباحا للاستحمام ، وزعوا علينا ثيابا مطوية مكوية ، وقد كانوا يكتفون بغسلها من غير كي ، و نشطت المستخدمات ينظفن الساحة و ممرات الحديقة .
و عرفنا بالعادة أن زيارة مهمة تستهدف المركز، فسألنا نوارة عن القادم فقالت :
- اليوم تزور المركز فرقة تليفزيونية تقوم بأبحاث في فائدة العائلات ، وستكون معها فرقة فنية تحيي لنا حفلا ساهرا.
أوقفونا صفا أمام مكتب المدير حيث الفرقة التليفزيونية . كانوا يدخلوننا الواحد تلو الآخر . وحين جاء دوري دخلت معي نوارة إذ كنت الوحيد الذي اختاروه من فوجها .
وجدتهم حول المكتب العريض و قد سلط ضوء باهر . كان ملفي فوق المكتب وقد كتب عليه اسمي بخط عريض. كانت وجوه الفرقة تتفرسني وسط ضباب سيجارة المدير و الضوء الساطع لذلك المصباح المعلق كالقمع ، لم يكن هناك إلا وجه نوارة يضيء ببسمة خفية في عينيها السوداوين.
أخذني الارتباك ، فدفعتني نوارة إلى جهة المدير الذي أشار لي بالجلوس على كرسي بينه و بين المذيعة. وابتسمت هذه الأخيرة في تصنع فشعرت بالوحشة و النفور من زغب ذقنها و أنفها الحاد المنتصب كالسكين . ووددت لو أخرج فتململت فدنت مني و أفهمتني أن أوجه نداء عبر التلفزة إلى والدي كي ياخذاني إليهما . وقدمت لي ورقة دربتني على قراءتها ، ثم صفقت و قالت :
- هيا عزيزي سعد ، اقرأ نداء ك إلى والديك .
وقرأت بصوت متهدج ، أحسستني أتكلم في بئر عميقة : " أنا سعد ، كان يكفلني الشيخ مسعود و زوجته فطوم بقرية مرج عيطر ، وقد ماتا رحمهما الله ، تعالي ياأمي و يا أبي خذاني ، أنا في حاجة إليكما.
انتهى النص ، غمرني العرق و العياء ، خرجت منقبضا ، دخلت النادي فوجدتهم يعدون الكراسي و المنصة للحفلة الساهرة.
وكان ليلتها غناء كثير .
رقصوا، تداعبوا و تضاحكوا ، بكوا و تباكوا وا ستبكوا . و المطربون انحنوا لنا كثيرا ، و أهدونا قبلات هوائية من على المنصة .
و قامت نوارة ترقص ، تدافع جسدها مدهشا ، التوى و تمطى ، انفتح ذراعاها و انغلقا يحضنان العدم ، رقص جسمها هزجا على إيقاع موسيقى متلاحقة متسارعة متصاعدة ، نغم يجذب نغما ، موجة تركب موجة ، و الجسد يثب ، يأخذ بعضه بعضه ، يندفع ناعما في الهواء كجناح ملاك. ثم راح الإيقاع يخفت قليلا قليلا و يتلاشى في جسدها المتموج ، و سكتت الآلات إلا نقرات رشيقة على الدربوكة يهتز لها صدر نوارة وقدماها في تجاوب رائع ، و خفت الإيقاع و دنا حتى صار همسا و هسيسا ... ولم يعد هناك إلا صدر نوارة يتدنى لطيفا ، يوقع خفيفا ، حتى خيل إلي أنها أم تلقم وليدها ثديها ، ثم جثت على ركبتيها و انحنت كأنها تسجد ، و سكنت الدربوكة فسكنت نوارة على هيئتها ،كأنها لوحة ربانية ، كأنها تمثال يروي أجمل التعابير .
و نطق الصمت فانفجر التصفيق في القاعة ، وغمرني فيض من الدموع ، وددت لو أدفن وجهي في في تنورتها و أنشج طويلا ، طويلا ، لو أنام قليلا في حفرتي خديها ، لو أغمض عيني و أختفي في عينيها بعيدا ، ولن أصير أنا ، أتحول إلى شيء غير مرئي فيها ، أصير عبيرها الذي يوقظ في كلما دنت مني حنينا غامضا إلى التلاشي فيها .
واختفت نوارةبعد أن أتمت رقصتهافتكورت في حلقي غصة، كنت أود لو تريثت قليلا ، لو قالت لي شيئا قبل أن تنصرف ، أو لو نظرت نحوي .
تكورت ليلتها في سريري دفنت رأسي تحت المخدة و بكيت بكاء مبهما.

خميس لطفي
23/02/2009, 08:36 PM
أستمتع جداً وأنا أقرأ لك أخي الفاضل .
بارك الله بك

فايزة شرف الدين
03/03/2009, 10:44 PM
أواصل معك قراءة الرواية ، وأجد أن شعور الطفل هنا ، قد تجاوز مشاعر الطفولة ، وهذا وارد جدا .. التمازج بين مشاعر الاحتياج إلى حنان امرأة وأيضا التطلع إلى عوالم المرأة المكتنف بالفتنة والغموض .. ويحضرني المثل الشعبي المصري " خاف من الدكير ولو كان صغير " .
الحقيقة أنني لو كنت قد كتبت تصورات الطفل عن نوارة لكنت كتبته بطريقة مختلفة ، أعتقد أني سأكون ساذجة نوعا .. عندما أفيض في وصف احتياجه لأم .. لكني هنا أمام رجل يدرك تماما كيف يفكر الطفل المقبل على مرحلة المراهقة وهو أدرى بها .
سعدت بما قرأته ونترقب البقية بفارغ الصبر

خليف محفوظ
07/03/2009, 01:35 PM
أستمتع جداً وأنا أقرأ لك أخي الفاضل .
بارك الله بك

شكرا لك شاعرنا المبدع خميس

شرف لي أن أجد بصمتك هنا

تحيتي و تقديري.

خليف محفوظ
07/03/2009, 01:45 PM
أستمتع جداً وأنا أقرأ لك أخي الفاضل .
بارك الله بك


أواصل معك قراءة الرواية ، وأجد أن شعور الطفل هنا ، قد تجاوز مشاعر الطفولة ، وهذا وارد جدا .. التمازج بين مشاعر الاحتياج إلى حنان امرأة وأيضا التطلع إلى عوالم المرأة المكتنف بالفتنة والغموض .. ويحضرني المثل الشعبي المصري " خاف من الدكير ولو كان صغير " .
الحقيقة أنني لو كنت قد كتبت تصورات الطفل عن نوارة لكنت كتبته بطريقة مختلفة ، أعتقد أني سأكون ساذجة نوعا .. عندما أفيض في وصف احتياجه لأم .. لكني هنا أمام رجل يدرك تماما كيف يفكر الطفل المقبل على مرحلة المراهقة وهو أدرى بها .
سعدت بما قرأته ونترقب البقية بفارغ الصبر

الأديبة المحترمة فايزة شرف الدين تحية عطرة
يسعدني جدا حضورك هنا ، ومتابعتك الكريمة لفصول هذا العمل .
أوافقك تماما فيما ذهبت إليه في ضرورة الإفاضةفي وصف حتياجه إلى امه ، إلا أني هنا أردت التلميح إلى فترة المراهقة كما تفضلت بملاحظة ذلك .

عويق احترامي .