المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين شطاين بك و زكريا تامر



خليف محفوظ
24/02/2009, 01:33 AM
في مطالعاتي الأدبية وقفت على صورة أدبية تكررت بشكل حرفي أثار حيرتي عند كل من الأديب الأمريكي " جون شطاين بك " في روايته الشهيرة " عناقيد الغضب " ، وعند الأديب السوري " زكريا تامر " في قصته " ثلج آخر الليل " من مجموعته " ربيع الرماد " .

الصورة تتعلق بوصف الهيئة التي كانت عليها اليدان عند أحد شخوص الرواية و القصة .

نبدأ بصورة اليدين عند شخصية الأم في رواية" عناقيد الغضب " :

man baissa les yeux et regarda ses mains qui gisaient dans son giron comme deux amants epuises " P318 Stienbeck Les raisins de la colere
قرأت الرواية مترجمة من الإنجليزية إلى الفرنسية ، أي : " أطرقت أمي و نظرت إلى يديها الممددتين في حجرها كعاشقين منهكين "

الصورة نفسها تتكرر في قصة " ثلج آخر الليل " حين يصف الكاتب جلسة العائلة مساء واجمة تحت صاعقة خبر هروب البنت من البيت ، يتعلق الوصف بوالد يوسف : " ... بينما جلس والده صامتا ، ترن الكآبة على وجهه المتغضن ، ويلتمع في عينيه سخط خفي ، ويداه مرتميتان بوجوم على ركبتيه كصديقين متعبين عجوزين ..."
إن صورة اليدين عند شطاين بك و زكريا تامر طبق الأصل ، لكن أيهما الأصل و أيهما المستنسخ ؟ أم تراه توارد الخواطر ، أو كما تقول العرب قديما " وقد تقع الحافر على الحافر " في إشارة إلى إمكانية تتطابق الأفكار و الصور بين الأدباء من غير علم مسبق بينهما بموضوع كل منهما مشبهين العملية بفارس سلك طريقا ثم سلك فارس آخر نفس الطريق و بالصدفة وقع حافر الفارس الثاني في نفس موقع حافر الفارس الأول من غير قصد مادام الطريق أي السياق واحدا .
طبعا الصورة الأصل عند الروائي شطاين بك ، فالرواية كتبت عام 1940حين كان عمر القاص زكريا تامر تسع سنوات .
أنا أستبعد فرضية "وقوع الحافر على الحافر"هذه ، و أميل إلى تأثير المخزون القرائي في الكتابة ، فالأديب يمر في قراءاته بصور عديدة ، تعجبه بعضها و تترسب في أعماقه ، ثم يوظفها في نصوص لاحقة وفي غالب الأحيان بصورة آلية غير واعية .

حين نبحث عن موضوع هذه الصورة " هيئة اليدين " عند أديب آخر نجدها تختلف تماما .

لنقرأ مثلا هذا المقطع لمحمود درويش من قصيدته الشهيرة " جندي يحلم بالزنابق البيضاء "

" ... كخيمة هوى على الحصى ومات
كانت ذرعاه
ممدودتين مثل جدولين يابسين"

صورة الذراعين كانت عميقة التعبير ، شبههما الشاعر بجدولين يابسين لأن الذي سقط تحت رصاص الجندي كان مزارعا بسيطا ، وما جدوى الزرع بلاجداول متدفقة ، أي : بلا سواعد تفلح الأرض ؟؟؟

في نص أدبي آخر نجد لليدين وصفا جميلا يذهب بهما بعيدا عن دلالات الصور السابقة .

لنقرأ هذا الوصف ليدي البطل في رواية أمين معلوف " موانئ الشرق " : " استلطفت أيضا يديه اللتين تحومان بلا هوادة و تدوران دون انقطاع أو تتعانقان طويلتين و رقيقتين يخال النظر إليهما أنهما لم تمارسا عملا قط ، وأن صاحبهما لم يعرف بعد ما الجدوى منهما "
اليدان هنا تحيلان إلى معاني البطالة و الضياع و التشرد و الافتقاد إلى الدف ء ، انظر إلى حركات الفراغ و العناق فيهما ...

خلاصة القول إن تطابق صورة اليدين عند كل من شطاين بك و زكريا تامر أمر ملفت للانتباه ، الأصل في التعبير الأدبي و الفني الاختلاف لا الاتفاق كما رأينا ذلك عند محمود درويش و أمين معلوف ، هذا الاختلاف هو الذي يصنع خصوصية الأديب و الفنان على خلاف الأمر في العلم ، ففي العلم القوانين كامنة في الطبيعة تنتظر من يكشف عنها ، فإذا لم يكشف عنها هذا العالم كشف عنها ذاك العالم ، أما في الأدب فلو لم يكتب أبو العلاء " رسالة الغفران " لما كتبها أحد غيره .

تحتي و تقديري