المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شعرية القصة القصيرة جدا د. حسن المودن



إسماعيل البويحياوي
28/02/2009, 03:46 AM
شعرية القصة القصيرة جدا: نصوص سعيد منتسب وعبد الله المتقي نموذجا


1- انفتاح البنيات وانفجار الأشكال:


لم تعد القصة كما كانت، هذا ما يعرفه القرّاء وأهل الأدب والاختصاص، فقد تغيّرت خصائصها وطرائقها وأشكالها، وانفجرت إلى أنماط وأنواع جديدة. ففي سياق أدبيّ يتميّز بانفجار الأشكال والبنيات، واختراق الحدود بين الأنواع والأجناس، وتغليب التجريب على التقليد، ظهرت القصة القصيرة جدا، وعرفت انطلاقة لافتة للنظر، فقد تكاثرت الإصدارات القصصية التي تؤسس هذا النوع السردي الجديد وتنتسب إليه، و أضحى الاهتمام باختياراتها السردية والفنية يتزايد في الندوات واللقاءات والمواقع الثقافية والأدبية الورقية والالكترونية.

يمكن أن نرى في القصة القصيرة جدّا الشكل الأكثر مناسبة للحياة السريعة في العصر الراهن التي تتطلّب الإيجاز والاختصار في كل شيء، وقد يرى البعض في شذريتها ومقطعيّتها قدرة خاصة على اختزال العالم وتكثيف الفهم، وقد يرى البعض في ذلك عدم قدرة القاصّ على فهم واسع وشامل للعالم.
بالنظر إلى الرواية والقصة القصيرة، نجد القصة القصيرة جدا تتميّز بخصائص كمية ونوعية، فنصوصها قصيرة جدا، ولا تتألف إلا من عدد قليل من الكلمات، ولكنها تنقل اشتغالها من المستوى الكمّي إلى المستوى النوعي، موظفة شعرية الإيجاز والتكثيف، سواء من خلال الصوغ السريع جدا للوضعية، أو من خلال التركيز على مقطوعة هامة من حياة الشخصية، أو من خلال التشديد على كيفية الكتابة وشكلها، جودتها وشعريتها.

يمكن أن تبدو القصة القصيرة جدّا شكلا بسيطا سهلة كتابته، لكنها في الواقع من الفنون الصعبة التي تقتضي كفايات ومهارات فنية خاصة في الشكل والبناء وسبك اللغة وتكثيف المحكي واختزاله. ففي القصة القصيرة جدّا قد يصل الأمر إلى حدّ استحالة سحب كلمة واحدة من النص، ذلك أنه من دونها ينهار ويتفكك كل شيء. وهكذا، فهذا الفنّ صعب جدّا، لأنه يقول الكثير في عدد قليل من الكلمات.

ومن هنا يرى البعض أن القصة القصيرة جدا كثيرا ما تتشبّه بالحلم في أشياء كثيرة، من أهمها رمزيته وشعريته، فهي تستخدم آليات التكثيف والتحويل والترميز والصوغ الدرامي السريع، وتقول الذاتي والغريب واللامرئي واللاواقع، وتنتهك الحدود بين الواقع والمتخيّل.

يتعلق الأمر إذا بنوع سردي جديد استطاع أن يحدث تحولات وتغييرات في الكتابة القصصية بالمغرب، وخاصة في السنوات القليلة الأخيرة. ومن بين النصوص العديدة والهامة، نقترح مقاربة نصوص سعيد منتسب من خلال مجموعته: جزيرة زرقاء(2003)، ونصوص عبد الله المتّقي من خلال مجموعته: الكرسيّ الأزرق(2005).


2- بلاغة الايجاز:

تتألف كل واحدة من هاتين المجموعتين القصصيتين من عدد من النصوص يتجاوز الخمسين نصا، واللافت للنظر أن النص الواحد لا يتجاوز الصفحة الواحدة، ولا يتركب أحيانا إلا من بضعة أسطر قليلة جدا، ثلاثة إلى أربعة، كما في هذين النصين، الأول لسعيد منتسب والثاني لعبد الله المتقي : -

جريمة


ينتظرها في المقهى. ساعة. ساعتان. لم تأت. ينتظرها في البيت. ساعة. ساعتان. ليلتان. لم تأت. نام. وجدها في حلمه جثة جامدة.
أفاق. السكين في يده. وبقايا عتاب ودم. -

فوطوكوبي


أمّـه تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية، أخته تلعب بدمية مبتورة الذراعين، نظر إلى تقاسيمه في المرآة:
كان صورة منهما، فقيرا، هزيلا، شاحبا …جائعا. -

لا تتألف القصة القصيرة جدا إلا من عدد قليل من الألفاظ، ومن هذا العدد القليل تتشكل لتؤلف نصا، أي ما يؤلّف كلا يقول شيئا ما، عاملة بمبدأ بلاغي قديم: ما قلّ ودلّ، ومستخدمة آلية بلاغية قديمة: الإيجاز. والإيجاز هو الاختزال والاقتصاد والتخفيف والإشارة واللمحة وجوامع الكلم، وهو ضدّ الإطالة والإسهاب والثرثرة.

ويعتبر الإيجاز من الخصائص الجوهرية في اللغة العربية وبلاغتها، ويحدده البلاغيون بأنه البلاغة نفسها، فالبلاغة هي اللمحة الدالة والكلمة التي تكشف البقية، وهي إجاعة اللفظ وإشباع المعنى بالوحي والتلميح والإشارة.

3- شعرية التكثيف:

يستخدم الشعريون والنقاد المعاصرون مصطلحا آخر هو: التكثيف Lacondensation ، ويمكن أن نراه أكثر ملاءمة لوصف إحدى أهمّ الآليات والخصائص الجوهرية في القصة القصيرة جدا. وهو مصطلح استقدمه هؤلاء من التحليل النفسي للأحلام، فمؤسس التحليل النفسي هو الذي لاحظ أن التكثيف آلية شعرية أساس في بناء الحلم. والتكثيف قد يشمل معنى الإيجاز، فالحلم يتميّز بقوة دالّـه وكثافته، ويكون هناك تكثيف في كل مرة يقودنا دالّ واحد إلى معرفة أكثر من مدلول، أو بكل بساطة في كل مرة يكون فيها المدلول أكثر انفلاتا من الدال.

وبهذا المعنى اعتبر اللسانيّ والشعريّ رومان جاكبسون والمحلّل النفسي جاك لاكان أن التكثيف في التحليل النفسي هو الاستعارة في البلاغة القديمة. وخالفهما آخرون رأوا في التكثيف معنى أوسع، فالتكثيف لا يشمل الاستعارة فقط، بل قد يضمّ ما يستخدمه الحلم من الصور والرموز، وقد يعني كلّ هذا الاشتغال على مكونات الدالّ ومستوياته الصوتية والتركيبية والبلاغية والدلالية.

والأهمّ من ذلك أن قوة الدّال وكثافته في الحلم ترتبطان بشيء آخر كذلك: يأتي نصّ الحلم مصبوغا بالمشاعر والأحاسيس والانفعالات، فهو نابع من الداخل، ومن مناطق غامضة مجهولة وغريبة، وهذا ما يمنح نص الحلم كثافة شعرية ورمزية، تجعل منه بنية نصية ملغزة مفتوحة على التأويل.

والنص القصصي القصير جدّا بدوره، ومثل الحلم، يأتي مصبوغا باللذة أو الألم، فهو يريد أن يكون شيئا حيويا حسّاسا، يقول ويعني، ويحسّ ويشعر أيضا، ولا ينتظر من متلقّيه أن يفهم فقط، بل أن يدرك ويحسّ ويشعر. وهو بهذا شكل أدبي أوسع من الكتابة في معناها المادي الطباعي، وأقرب من اللغة الحيّة، أي أقرب من الكلام والخطاب الشفاهي في حيويتهما وحساسيتهما.

ومن خلال نص: سعال لعبد الله المتقي، يظهر واضحا أن النص لا ينتظر من متلقّيه أن يعرف أو يفهم، فالسعال شيء معروف، ولكنه ينتظر منه أن يشاركه إحساسه وشعوره، فالنصّ نفسه يحاول أن يتحسّس معنى الألم، وأن يحسّ ويشعر ويدرك ما معنى أن يصاب الإنسان بالسعال:-

سعال


يسعل ثم يتوقف، ويتواصل السعال.
يمدّ يده إلى قارورة الدواء، كادت تنفلت من بين يديه،
و…احتسى بالكاد ملعقتين.
يضع يديه على قفصه الصدري، يلتقط أنفاسه بصوت مسموع شهيقا وزفيرا حتى تنتظم، ثم يتمدّد مهدودا على السرير.. يتأمل السقف في انتظار السعال. -

وقد تفرض هذه الحيوية والحساسية الاستعانة بالرموز والصور، فالتشبيهات والاستعارات والكنايات تلعب دورا فعالا في تأليف شيء دلاليّ وحسّاس في آن واحد، والنص القصصي القصير جدّا يشتغل بواسطة التشبيهات والاستعارات والرموز من أجل صوغ حسّي للمشاعر والأحاسيس، كالإحساس يالفقدان: فقدان الرغبة وغياب الدفء والحرارة في العلاقة بالآخر، كما في قصة سعيد منتسب: جبل من الثلج، التي تقودنا عبر تشبيهاتها واستعاراتها من أجل أن نستشعر معنى أن يكون ما بين المرأة والرجل والزوج والزوجة شيء مثل جبل من الثلج، وأن ندرك ما معنى أن يكون الإنسان في زمن مضى كالبركان، ثم ينطفئ في زمن الحاضر:-

جبل من الثلج


ينامان فوق نفس السرير. بينهما جبل من الثلج. كان كالبركان. كانت كالبركان. أنجبت جوقة أطفال. أدمن الحشيش واللعنات. لم تنفع المداعبات. لم تنفع الهمسات. انطفأ. انطفأت. الأطفال يكبرون، يتراكمون.
جبل من الثلج يكبر، يتكاثر. تنام فوق السرير. ينام تحت السرير. ينامون في كل الجهات. -

قد تتأسس القصة القصيرة جدّا عند سعيد منتسب على تشبيه يرمي من خلاله إلى تلمّس شعور ما وإدراك معنى ما، وبذلك نجد في النص صورة أساسا تتلاحم حولها الصور الثانوية وتنتظم، وتقوم هذه الصورة الأساس بتغطية المجموع الشامل للنص. فقصة: تمثال تقوم أساسا على هذا التشبيه: مثل تمثال يستغرق في نومه، به تبدأ القصة وبه تنتهي. وهذا التشبيه هو كلام الزوجة النابع من شعورها الداخلي، ويختزل نظرتها إلى زوجها، ويكشف شعورها الأليم بفقدان آخرها، ويحمل الإحساس العميق بالألم، الألم من تحول الأحلام بين امرأة ورجل إلى ملل وأطفال ومطبخ وكلام، ويصور هذا الشرخ الذي يصيب الحياة الزوجية، فيحولها من الاشتعال إلى الانطفاء، ومن الحياة إلى ما يشبه الموت:
تمثال


مثل تمثال يستغرق في نومه. ملامحه الصلبة ترعبها، تجعلها تتسلّق الألم الموغل في عمقه. حين التقته، لأول مرّة، على الشاطئ قرأت عينيه. قرأ عينيها. قرأت عليه أشعارا. الحروف تخرج من فمها كخيول فزعة. في البيت قرأوا الفاتحة. أقاموا عرسا. زيّنوا دنياهم بالأحلام. انتهت الأحلام، مزقّوا وجهها بالملل والأطفال والكلام. لم يعد يتكلّم، لا يتحرّك، يقف أمامها حجرا. تحولت إلى أشعارها، تكتب تلك اللمعة التي كانت في عينيه. تحول إلى تمثال بألم عميق. يستغرق في النوم، لا يهتمّ بعينيها. يهتمّ فقط بالمطبخ.


وقد يكون النص أشدّ تكثيفا ورمزية عند هذين القاصّين، عندما تكون شخصيات النصوص القصصية جمادا أو حيوانا أو لونا، كأن أشياء العالم وعناصر الطبيعة وكائناتها قابلة كلها لتكون من شخوص القصة القصيرة جدا وأبطالها: الكرسي الأزرق، المطر، قوارير زرقاء، كرز، قصة، قصيدة، توم وجيري،…عند عبد الله المتقي، وجزيرة زرقاء، برتقالة، الدمى، الحديقة، جبل الثلج، تمثال،ضفدعة، القطط، الكلاب، خيول، الفراشة، … عند سعيد منتسب.

واللافت للنظر في القصص القصيرة جدّا أن السارد ينظر إلى هذه الأشياء الخارجية من داخل عالمه الشعوري والنفسي، فصياغة المشهد القصصي تأتي صياغة باطنية حلمية، لا تقف عند حدود النسخ والوصف، بل تحاول استحضار الإيحاء الغائب والشعور المنفلت. ولهذا يتمّ التركيز في هذا الصوغ الداخلي الاستعاري على دالات شعرية تمتحّ من الطبيعة والطفولة والحلم والألوان المنفتحة. ومن خلال هذه الدالات تحضر الأنا الساردة بخصائصها الحميمة وإحساساتها اللطيفة ومشاعرها السرية. ذلك أن الأشياء الخارجية تتحول إلى استعارات داخلية، والاستعارة الداخلية تقول الأشياء وفق منطق العالم النفسي الداخلي، فهي تنبعث من شعور داخلي لشخصية ما، شوقا إلى شيء ما أو تدمّرا منه.

ففي قصة: حديقة، ليس غرض النص أن يصف الحديقة، وينقل واقعها، بل نلمس هنا شعورا بالتذمّر من المصير المأساوي الذي آل إليه هذا الفضاء الطبيعي الذي يشكّـل شيئا ثمينا بالنسبة إلى النفس، فهذا العنصر الخارجي يشكّل شيئا خاصّا بالنسبة إلى الأنا الساردة: الحديقة هي فضاء الحبّ والحرية. وبعبارة واحدة، حديقة: هي عنوان النص، وهي استعارته الكبرى، التي من خلالها تقول الأنا الساردة ما تفتقده في حياتها، وتعبّر عن شعورها بالوحشة، وتصور بالكثير من الإحساس رغبتها الممنوعة وحديقتها الغائبة التي تبقى حيّة في الحلم والخيال: -

حــديــقــة


الحديقة بائسة مثل جنّة، خالية من الأنفاس والأطياف. الأجساد لا تغازل الأجساد. الفتيان يائسون. الفتيات يائسات. يحرسها العسس، يطاردون القبل، ويصطادون العشاق.
هجرها العشاق. أحسّت الحديقة بالوحشة. أهملت نفسها. الأشجار شاخت. الأزهار ذبلت. العصافير هجرت الأعشاش.
أمست كالمزبلة. غضب الحب، صنع من دفئه وردة..أهداها للحديقة..تعب الحراس، أكلتهم كلابهم..تسلل عاشقان الى الحديقة. أعطتهم الوردة أهدابها، نصبوا تحتها خيمة وناموا متعانقين. -

إن الشيء المحكيّ أو الموصوف في القصة القصيرة جدّا ليس مقصودا في ذاته، فهو عنصر خارجي يمرّ عبر القنوات الباطنية للأنا الساردة أو للشخصية، فيتحوّل هذا الشيء إلى شيء آخر، ويحيل على أشياء أخرى هي داخلية أكثر ممّا هي خارجية. وهذا الصوغ الاستعاري النفسي للأشياء الخارجية هو ما يمنح النص القصصي القصير جدّا كثافة شعرية متميّزة.

ذلك أن المحكي في قصص منتسب إذ يعمل على اقتناص لحظة من حياة الشخصية في محيطها العائلي والاجتماعي، فانه يركز على صورة هذا المحيط الخارجي كما تنعكس داخل وعي الشخصية، ويقدم الأشياء الخارجية كما تتراءى داخل فكر الشخصية وشعورها ووجدانها. وهو بهذا يقول العالم الداخلي النفسي أكثر مما يقول العالم الخارجي الاجتماعي، ويتقدم محكيا داخليا استعاريا ينقل نظرة الذات إلى ذاتها والى العالم والآخرين، وبطريقة خاطفة شديدة الدلالة برموزها ومجازاتها.

وتزداد أهمية هذا الصوغ الاستعاري النفسي عندما تكون القصة القصيرة جدّا في مجموعها حلما، أي على شكل هذا المحكي الداخلي الذي يشاهده النائم، ويكون صادرا عن اللاشعور، ويأتي مصبوغا بالمشاعر والأحاسيس المتدفّـقة والمتباينة، ويتموقع بين الواقع واللاواقع، وقد يقول في الظاهر شيئا غريبا ومرعبا، ويسرد أحداثا قد تبدو من دون معنى، ويكشف المخاوف والرغائب الدفينة، ويجعلنا نسمع صراخ/ مواء اللاشعور. ونجد القصة/ الحلم، بهذا المعنى، عند عبد الله المتّقي في قصته:
-

مواااء


استيقظ فجأة وبعنف، ووجد نفسه جالسا فوق السرير، يتصبّب عرقا، يلهث في تنفّس سريع ومضطرب، ويمسك بين يديه سكينا يتصبّب دما. لم يصدّق، ولم يكن يصدّق أنه سيرتكب تلك الجريمة، أجهد ذاكرته المتعبة ليتذكّر صورة الضحية دون جدوى. فقط تذكّر ظلاما أعمى، زقاقا ضيقا، ولحية تتدلى من ذقنه، وطعنة من الخلف، تردي الرجل النحيف قتيلا.
كان مضطربا ومتعبا، وكان مواء القطة يتردد في أذنيه، القطة التي عنف على ذيلها حين كان متسللا من مكان الجريمة بسرعة الضوء. -

وإجمالا، فمن خلال الحلم والياته في التكثيف يقدم المحكي للقارئ لحظات للرؤية والنظر، وما يراه القارئ هو تلك الرّجات السرية والتخيّلات الخاطفة التي تمرّ غير ملحوظة في أعماق الذهن، وما يراه هو تلك الحياة الدقيقة للأفكار والمشاعر الغير قابلة للإدراك، وما يلمسه هو هذا الترنّح الشعوري المقلق بين الماضي والحاضر، بين المتخيّل والمعيش، وما يراه هو هذه الأنا التي تحضر بطرق متواشجة ومتشابكة من خلال الأحداث التي تسردها، أو من خلال الأشياء الخارجية التي تصفها. وهذا ما يسمح للقصة القصيرة جدّا بأن تقدّم العالم مذوّتـا والذات موضّعة، فتأتي الصورة مثقلة بالدلالات، وتنبثق الحالات الشعرية وتتوالد.
والقصة القصيرة جدّا، بهذا الشكل، تمزج بين السرد والشعر، وتحقق بطريقتها الخاصة ما يسمّى المحكي الشعري، فهي بتشبيهاتها واستعاراتها ورموزها تحول الانتباه عن جريان المحكيّ، وتخلق انزياحا، وتدعو إلى الانشغال بهذه الصور والرموز، فيتضاعف النص بنوع من المحكي المضاد الذي لا ييسر القراءة ولا يجعلها تتمّ بالطريقة السهلة المألوفة.
4- الشذرية مشروعا للكتابة :

الشّذر في اللغة قطع من الذهب، أو صغار اللؤلؤ، أو هو اللؤلؤ الصغير واحدته شذرة. والشذرية من المصطلحات التي يستعملها نقاد السرد والشعر في العصر الراهن.

وباعتبار الدور الفعّال للإيجاز والتكثيف في بناء القصة القصيرة جدّا، يمكن أن نعتبر القصة شذرة، والشذرية مشروعا للكتابة لدى كتّاب هذا الشكل القصصي الجديد.

ورأينا أعلاه أن القصص القصيرة جدّا توظف الشعري والشعوري من أجل تقديم صورة/ شذرة تتلألأ مثقلة بالدلالات، وتغور في أعماق لا سبيل إلى سبرها دون التسلّح بأدوات الشعر.

وهذا اختيار يكشف أن الكاتب لا يريد أن يكتب نصا طويلا يحكي من خلاله ويكتب كل ما يريد قوله، لأنه كاتب لا ينظر إلى العالم من منظور كلّيّ شمولي، بل من منظور جزئي، فهو ينطلق من الجزء إلى الكلّ، وقد يستهدف الكلّ من خلال الجزء. وبعبارة أخرى، يمكن اعتبار نصوص الكاتب في مجموعها نصّا استحال عليه أن يأتي واحدا موحّدا، فاختار أن يأتي واحدا متعددا في شكل شذرات.

والشذرة لا تقول كلّ شيء، بل هي تفضّل أن توحي وترمز، تاركة فراغات وصموتات حافزة على التخييل. فهي تكره الثرثرة والتفصيل، وتكتفي بالتلميح والإشارة، وتترك مساحات فارغة لرغبة القارئ واستيهامه وتأويله.

والشذرية هي التي تسمح للقصة القصيرة جدّا بأن تلتقط ما لا تستطيع الأشكال السردية الطويلة إدراكه، وأن تجعل من العالم في انسراباته وانفلاتاته شيئا أدبيا. فالشذرية تستتبع أن تأخذ القصة القصيرة جدّا بعين الاعتبار ما هو غير قابل للإدراك في الحياة، وأن تكتب المنفلت واللانهائي، وأن تشتغل على الحيّ والحسّاس، وأن تنقل اضطرابات الشعور وفلتات اللاشعور، وأن تقول الطبيعة المقطعية الشذرية للحياة نفسها. ونمثّل للشذرية بهذا المعنى بنص لسعيد منتسب، بعنوان:
-

جريمة


ينتظرها في المقهى. ساعة. ساعتان. لم تأت. ينتظرها في البيت. ساعة. ساعتان. ليلتان. لم تأت. نام. وجدها في حلمه جثة جامدة.
أفاق. السكين في يده. وبقايا عتاب ودم. -

وقد تقتضي الشذرية أن لا تكون الكتابة خاضعة للخطية والسطرية، بل العمل على تكسيرها بالاشتغال على الكلمة المطبوعة أو على بياض الورقة، بما يسمح بالانتباه إلى رمزية الكتابة في بعدها الطباعي المادي، فالكلمة قد تتفكك، وقد تحذف، وقد يمتدّ صوت من أصواتها، والجمل تتركب بطريقة من الطرق، والنص قد يبدو كإحدى قصائد التفعيلة أو قصائد النثر . وهذان نموذجان تمثيليان، الأول لعبد الله المتقي، والثاني لسعيد منتسب:
-

مدونة


هو
كان مستلقيا فوق السرير، يلاعب لحيته المشتعلة شيبا.
هي
كانت في المطبخ تغسل مخلاته من بقايا العلف.
هو
يتنصّل من ملابسه و…يكحّ ليذكرها بالسرير.
هي
توغّلت الكحّة فيها كما السكين، وتحركت صوب الغرفة بكثيييير من القرف.
-

اشتعال


أشعل المذياع. أشعل التلفزيون. أشعل المسجل، ألقمه شريطا ضوضائيا. أشعل الغسالة الكهربائية. أشعل الفرن. أشعل الأضواء. أشعل النيران. أطفأ العالم في عينيه. -

وتقتضي الشذرية أن يؤخذ البعد الصوتي الموسيقي بعين الاعتبار، فالقصة القصيرة جدّا هي تلك الكتابة التي تسعى إلى كثافة عالية، ولا يتعلق الأمر بتكثيف المعنى فقط، بل وبتكثيف الموسيقى، فالقصة/ الشذرة هي شيء من الملفوظ والمغنّى، كما هو واضح في هذا النموذج :
-

كرز


أنا أحب الكرز .. أنا أتلمّظ الكرز..
وكانت طامو تحكي لي كثيرا عن الكرز..
حتى صرت أراها كرزا..
لذيذة طرية..
في عينيها كرز..
في فمها كرز.ز
فوق نهديها كرز.ز
وأحيانا كنت أتذوق الكرز.. -

تتحول الصفحة المكتوبة إلى تخطيط وتشكيل، إلى صوت ومعنى، فالتركيب الطباعي للنص يستدعي التقسيم والتناغم السريع بين الكتابة والموسيقى. فالملفوظ تخطيط إيقاعي على الصفحة، والنص يسعى إلى الامتلاء، فهو كلمة مكتوبة وكلمة منطوقة، هو كتابة وكلام، هو نثر ونظم، هو رؤية وسماع، هو كلام وصمت(نقط الحذف) وصورة وصوت ومعنى وشعور وأشياء أخرى بلاشكّ. كأن النقص الذي تشكو منه الشذرة على المستوى الكمي، إذ تكون ألفاظها قليلة جدّا، يتمّ تعويضه بهذا التركيز أو التمركز حول لفظ واحد( الكرز)، وهو تمركز يسمح بامتلاء نوعي: يأتي اللفظ الواحد( الكرز) صوتا وموسيقى وطباعة وصورة وتخييلا ومعنى.

وإجمالا، فالقصة القصيرة جدّا شكل أدبي جديد يأتي في شكل شذرات شديدة الإيجاز والتكثيف، تتقدّم كأنها همسات نابعة من الروح، أو كأنها صور انفلتت من بواطن النفس.

انطلاقا من نصوص منتسب والمتقي يبدو أن هذا الشكل الأدبي الجديد يسمح للكاتب بأن يكتب، وبكثافة عالية، ما بين الذات والعالم، ما بين الداخل والخارج، ما بين الحلم واليقظة، ما بين المتخيّل والمعيش. وأكثر ما يثير في هذا المابين هو هذا العابر المنفلت، اللانهائي واللامحدود ، الذي يصعب إدراكه ولا نوليه كبير اهتمام في حياتنا اليومية كما في حياتنا الأدبية، وخاصة في الأشكال الأدبية التي تعتمد على التطويل والاسترسال والخطية والنظرة الشمولية.

والقصة القصيرة جدا تكتب كل ذلك بطريقة تمزج بين السرد والشعر، بين الفكر والشعور، بين الوضوح والغموض، منفتحة على لغات الشعر والموسيقى والحلم واللون، فاتحة الطريق أمام انفراج المعاني وتعددها، وانبثاق لذة القراءة وقلقها.
ليس صدفة أن تكون للون مكانة خاصة في نصوص الكاتبين، منتسب والمتقي، فقد اختار كل واحد منهما أن يكون اللون حاضرا داخل نصوصه، بل وفي عنوان مجموعته: جزيرة زرقاء، الكرسي الأزرق ، لأن اللون هو هذا الذي يصعب حصره في معنى محدد، و هو هذا الذي يستدعي انفعال الإنسان وحساسيته. وليس صدفة أن يكون اللون المفضل في عنواني المجموعتين هو الأزرق، ذلك لأن لهذا اللون رمزية خاصة، إذ يتمّ النظر إليه ( Kandanski,1964)، على أنه أكثر الألوان انفتاحا و جاذبية، وهو لون الملوك والأباطرة، وهو لون السماء الذي له مفعول خارق على الأرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الــهــوامــش:
1 ــ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء،منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب،2003،
ص 11.
2 ــ عبد الله المتقي: الكرسي الأزرق،منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، 2005،
ص 57.
3 ــ نفسه، ص 56.
4 ــ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء، ص 10.
5 ــ نفسه، ص 9.
6 ــ نفسه، ص 12.
7 ــ عبد الله المتقي: الكرسيّ الأزرق، ص 62.
8 ــ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء، ص 11.
9 ــ عبد الله المتقي: الكرسيّ الأزرق، ص 48.
10 ــ سعيد منتسب: جزيرة زرقاء، ص 14.
11 ــ عبد الله المتقي: الكرسيّ الأزرق، ص 31.

شوقي بن حاج
28/02/2009, 03:59 AM
أخي / اسماعيل البويحياوي

أجدني هنا أقرأ وأستفيد وأحمل ما يبقى في الذاكرة من مفاهيم

تساعد المهتم بهذا الفن كثيرا كثيرا

أرجو أن تشاركنا في موضوع التكثيف

تقبل الشذرات اللؤلؤية كلها

إسماعيل البويحياوي
28/02/2009, 04:28 AM
أخي شوقي
نتعاون ونستفيد جميعا. أولا أنوه بمبداراتك وأسئلتك الوجيهة وسعيك الحثيث لخدمة القصة القصيرة جدا. فعلا فكرت في المشاركة بالوقوف عند الكثافة مصطلحا علميا لظاهرة طبيعية فيزيائية، ومصطلحا يستعمل في علم النفس التحليلي مع فرويد و لا كان و استعير إلى مجال دراسة وتحليل القصة القصيرة والقصيرة جدا. ويستعمل للدلالة على آلية نفسية للنقل والتحويل الحلمي. ويستعمل للدلالة أيضا على تقنية وآلية في كتابة القصة القصيرة جدا تختلف درجاتها وفق القناعات والوظائف الجمالية المتوخاة. وبما أنني لا أتوفر حاليا على المراجع المؤسسة ولا الشارحة للمصطلح. فمعرفتي لاتجاوز ما أورده الناقد حسن المودن. فكرت في المشاركة فقط بالمقتطف الذي أورده حول الكثافة. لككني وجدت الدراسة متكاملة ومنسجمة ولا يمكن بترها. وحتى لا أثقل صفحة "التصور حول الكثافة" نشرت على الإخوة هذا المقال مستقلا تعميما للفائدة، مع اعتذاري للإخوان الذين اطلعوا عليه سابقا.
شلالات مودة أخي شوقي.

محمد فائق البرغوثي
28/02/2009, 09:36 AM
من أجمل المواضيع التي تناولت القصة القصيرة جدا ، في شعريتها

إختيار موفق أخي العزيز اسماعيل البويحياوي ..
أنت تتحفنا دوما بكل ما هو مفيد وممتع ومختلف ، نصوصك دوما منتقاة بعناية فائقة
وهذا دليل على نضوج رؤيتك واتساعها ، وينم عن ذائقة أدبية تستشعر كل ما هو جميل فتلتقطه
وهذا ليس غريبا عن الأستاذ البويحياوي ، الأديب والناقد .

أستأذنك أستاذ اسماعيل بتسيق الموضوع ، وتمييز القصص بلون مغاير ، نظرا لأهمية الموضوع

تحيتي وتقديري ،،

إسماعيل البويحياوي
28/02/2009, 01:37 PM
شكرا جزيلا على تدخلك وتنسيقك الجميل أيها البهي. نتعاون أخي من أجل معشوقتنا القصيرة جدا.
شلالات مودة وتقدير.

عبدالله بن بريك
06/12/2012, 03:23 AM
دراسة نقدية مفيدة جدّاً.

شكراً للمبدع الأستاذ " اسماعيل البويحياوي".

نور عابد
06/12/2012, 05:40 AM
دراسة قيمة وجهد كبير في عرض الموضوع. السؤال الذي يشغلني هل اثبت هذا اللون القصصي نفسه على الساحة الإبداعية؟
من مراجعاتي للكثير مما ينشر اقول ان ما يسمى قصة قصيرة جدا(ق.ق.ج)لم تصل الى مستوى القصة القصيرة . هذا اللون يواجه مشاكل عديدة، اهمها انه يفتقد للدراما القصصية، ويفتقد لمساحة معقولة لبناء الحدث والشخصيات. لا اعتقد ان (ق.ق.ج) قادرة على ان تشكل تيارا أدبيا، الكثير من الفاشلين في الكتابة القصصية يلجأون ل (ق.ق.ج).
لست كاتبا قصصيا، ولكني قارئ واسع الإطلاع ولا احكم على لون أدبي ما لمجرد نزوة ألمت بي، بل حتى كتابة هذه المداخلة القصيرة، جعلتني اراجع عشرات القصص القصيرة جدا. ومراجعات نقدية متنوعة.. وجدت أفضلها ما كتبه ناقد وكاتب له مكانة كبيرة في القصة القصيرة، والعرض النقدي، ارى ان أقدم لكم مقاله ، الذي أعتقد انه يطرح الموضوع من منطلق تجربته الشخصية الوارفة.


ملاحظات ثقافية حول القصة القصيرة جداً

نبيل عودة

أعترف أن بعض ما قرأته مما يسمى قصصاً قصيرة جميل.. ولكنه جمال سريع العبور والتلاشي، لحظة بعد قراءة النص. وبعض النصوص مجرد ثرثرة بلا معنى ولا فكرة ولا رؤية، ولو أراد كاتب متمرس مثلي لأنتج مجموعة قصصية من القصيرة جداً كل يوم، وربما بمضمون وروح دعابة، وفكرة فلسفية، ونص شاعري، أجمل من كل ما قرأت من قصص قصيرة جداً.
انا لست مقتنعاً من أمرين بكل ما يسمى القصة القصيرة جداً، أولاً من كون هذا اللون ينتمي لعالم القصة، وثانياً من رؤيتي ان التسمية قصة قصيرة جداً هي تسمية دخيلة على عالم القصة. القصة القصيرة هي قصة قصيرة وقد تكون ومضة حقاً ولا أرى ان المساحة هي المقررة، انما المضمون، وما يسمى بدون وجه حق قصة قصيرة جداً، القليل منه فقط، يمتلك عناصر القصة... والباقي ليس قصة وليس أدباً حتى..!!
هل هذا يعني ان قصة قصيرة مصوغة بكثافة روائية تصير، حسب هذا المنطق "رواية قصيرة جداً؟". قناعتي ان هذه التسمية عبثية!!.
القصة القصيرة جداً تفتقد للمبنى القصصي بحكم مساحتها، وغياب عناصر هامة مثل الخطاب التاريخي والخطاب الفني، وبناء الحدث، وبناء سيكولوجية الحدث وأبطاله، أي بمفهوم أوضح دراسة العوامل النفسية للفكرة الدرامية ولشكل تصرف الأبطال. ربما ينفع نص ما يسمى قصة قصيرة جداً ليكون حالة معينة داخل قصة.
أعرف ان موقفي سيثير رفضاً واسعاً، لأن الكثيرين من الذين فشلوا في صياغة قصة قصيرة يبحثون عن تغطية ثقافية.. ولكني لم أتعود ان ابقي رأيي طي الكتمان.
لا أطرح ما أطرحه لأنتقص من قيمة اي كتابة أدبية إبداعية. وكما قلت بعض ما يسمى القصص القصيرة جداً قرأتها بمتعة، رغم اني لم أدخل في نوسطالجيا القصة القصيرة، او أجواء الدهشة والإحساس بالحدث، وشعور التواصل والرفض لمواقف أبطال النص القصصي، او القناعة الفكرية بموقف او نهاية. وخلافي ليس حول قدرات إبداعية لبعض كتابها، لأن الأكثرية المطلقة من كتّاب هذا اللون، صاروا تماماً مثل شعراء آخر زمان، الذين هبطوا على الشعر بدون فهم ادوات الشعر، ولغة الشعر وصياغة الصور الشعرية، ووجدوا بالمنثور غطاء تنكريا، بينما الشاعر الوحيد الذي اثبت نفسه في الشعر المنثور هو الشاعر محمد الماغوط. وقد نجد القليل عند غيره من المنثورات الجيدة.. ولكنها لا تشكل حالة ثقافية.
لذلك نرى الكثير من حاملي صفة شعراء وكتاب قصة قصيرة جداً، او حتى قصة قصيرة، ولا نجد بينهم الا عدد نادر من الشعراء والكتاب، وبالكاد لديهم روح أدبية تستحق الالتفات.
يقلقني تماماً ان حالة من التسيب والسهولة التي وجدها البعض في هذا اللون من الكتابة، قد تقود الى تعميق أزمتنا الأدبية.. بحيث تصير الكتابة القصصية القصيرة جداً ملعباً للكثير من الفاشلين قصصياً، تماما كما ان الشعر المنثور أضحى لعبة يمارسها الفاقدون حتى للحس اللغوي وليس لبحور الشعر وأوزانه فقط..
أفهم ان شاعراً مجيداً مثل محمود درويش او نزار قباني كتبا قصائد النثر، او ظهرت نثريات في قصائد بعضها موزون. لدرجة ان القارئ العادي، او المثقف أكثر، يستصعب أحياناً الفرز بين الموزون والمنثور او فهم ان بعض الشعر، رغم انه على المسطرة من ناحية الوزن الا انه يبدو لغير الملمين بالأوزان الشعرية، نثراً.
أحد الأدباء العرب داخل اسرائيل، الدكتور فاروق مواسي أصدر مجموعة قصص قصيرة جداً حملت عنوان "مرايا وحكايا" قرأتها وأعجبتني روحها الأدبية.. ولكني لا أستطيع قبولها كقصص، لا قصيرة ولا قصيرة جداً. تفتقد لمبنى القصة. ربما كتابة ذكية ببعضها روح الدعابة. لذا امتنعت من الكتابة عن مجموعته رغم رؤيتي انها لوحات كتبت بذكاء وحس أدبي جميل. واليكم نموذج، وهي القصة الأولى في المجموعة:
سمك
سألته وهي تهاتفه: أي الطعام أحب اليك؟
أجابها بلا تردد: سمك!.
ولم تكن تحب السمك...
وألِفت نفسها بعد أيام تكثر من شراء السمك للعائلة، تقدمه مقلياً ومشوياً وتأكله بشهية..
وتساءلت العائلة: ما سر شراء السمك بهذا القدر... ترى هل رخص السمك؟!.
***
أعترف انها فكرة جميلة، وهي أجمل قصة برايي في المجموعة، ولكن السؤال،ألم يكن من الممكن تطوير عقدة قصصية من نفس هذه الفكرة السريعة، وجعلها أكثر جمالاً وأكثر اندماجاً بجو قصصي يعيش لفترة أطول في ذهن القارئ، ويخلق انفعالات درامية تدوم في ذاكرة القارئ لفترة أكثر امتدادا؟.
سيقولون لي عصر السرعة. هذه حجة تولد ميتة. اذن تعالوا نجعل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلاج الطبي يخضع لفكرة السريع جداً، أو القصير جداً..؟.
فكرة القصير وارتباطها بعالمنا السريع، هي تدمير للأدب.
ربما تكون قصة قصيرة لا تتعدى الخمسين كلمة. أو أقل، ولكنها ليست قاعدة إطلاقاً. وتحويلها الى قاعدة يبنى عليها تحمل في داخلها ميكروبات قاتلة للأدب.
الأدب متعة نفسية وجمالية وفلسفية وأخلاقية وتطويرية ونقدية.. ورحلة في عالم الانسان والطبيعة والجماليات، لا يمكن اختصاره الى قصة قصيرة جداً، تكتب خلال دقيقتين.
من هذا الشكل مثلا قصة كتبتها خلال دقيقتين بدون فكرة مسبقة، من أجل ان أثبت لنفسي أولاً عبث فكرة القصة القصيرة جداً. وقدرة كاتب متمكن من مهنته، ان يصوغ عشرات من النصوص، من هذا النوع، خلال جلسة واحدة قصيرة. واليكم النموذج:
أضف الى رجائك ورقة ياناصيب

كان يصلي لربه ان ينقذه من تدهور حالته الاقتصادية، بأن يجعله يفوز بمليون دولار بسحب اليانصيب. وتمضي الأيام والأسابيع، والله لا يستمع لندائه. أخيراً وقف يصيح بأعلى صوته: ألم تقل على لسان ابنك: اقرعوا يفتح لكم؟ ابحثوا تجدوا؟ أكاد أموت جوعاً وانت لا تسجيب لندائي بأن أفوز ياليانصيب!".
وجاءه صوت مجلجل من السماء: "عليك ان تقوم بخطوة كي تساعدني على مساعدتك، اشتر أولاً ورقة يانصيب".

وقصة أخرى:

كتابة تافهة..؟

جلس يهودي متدين في عيد الفصح في حديقة، وكان يأكل المصّة ( خبز عويص لعيد الفصح). جلس بقربه رجل أعمى، قدم له اليهودي قطعة من المصّة، تلمّس الأعمى المصة بأصابعه من الجهتين وسأل بحيرة: "من كتب هذه التفاهات؟"

وقصة أخرى:

من تصدق؟

دخل بيته ووجد زوجته وأفضل أصدقائه عاريين في السرير. قبل ان يفتح فمه قفز صديقه من السرير قائلا: "قبل ان تقول شيئا أخي، فكّر جيداً، من تصدق، صديقك ام عينيك؟".

هذه القصة قد تبدو نكتة عابرة ولكنها فلسفياً تطرح موضوعاً هاماً: "على أي نوع من المعلومات عن عالمنا يجب ان نعتمد؟"

هل تريدون ان أواصل؟

إنسانية
"الإنسانية؟
ليست ان يبصق صدرك دماً من طلقة مدفع في يد عدو.
الإنسانية؟
ان تزغرد رصاصاتك فرحاً بالنصر!!"
هل يمكن وصف هذا المقطع بالقصة؟

مقاومة

انت في مهمة، ومهمتك تطبيقية، مهمتك ان تضغط باصبعك الى الوراء، بعد ان يكون الصليب المنبعث أمام عينك عبر منظار البندقية، قد تعلق كوسام الشرف فوق صدر الذي احتل ارضك"

غضب أيوب

فقام ايوب ومزّق جبته وجزَّ شعر رأسه وخرّ على الأرض ساجداً.
قال ايوب: عرياناً خرجت من بطن امي وعرياناً أعود الى هناك، الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً"... وقتلت فلسطين!!

بعد نكسة 1967 كتبت مجموعة "ٌقصص جو" تحوي عشرات المقاطع المستقلة في إطار قصصي واحد، بإمكاني تحويلها الى أكثر من 50 قصة قصيرة جداً. ولكني لا أشعر بأني أبدع كتابة قصصية، انما فذلكة نصية لا أكثر.
وأنهي بهذا المقطع:

الموجات الثلاث
وصلت قبل ايام، كنت في رحلة الى بحر هائج. أضعت هناك ثلاث موجات، وعندما وصلت ميناء النهار اكتشفت اني أضعت ايضا نصف البحر وحبيبتي التي كانت تحتضنني بين وديانها وجبالها.. آه من ألمي. حملتني الريح بعيداً عنها.. وها انا أبحث عنها حتى اليوم.
***
مثل هذه القصص لا تحتاج الى الدخول في مشكلة التكنيك القصصي، وضبط الخطابين الأدبي الفني من جهة والتاريخي الأيديولوجي من الجهة الأخرى، لصياغة قصة فنية متوازنة، وانتاج نص يشد القارئ ويثير دهشته.. مثل هذه "القصيرة جداً" لا تحتاج الى التفكير بخلق عالم البطل وشخصيته، ودراما واقعه، مثل هذه القصة لا تحتاج الى خلق أحداث حياتية ونص متماسك يأسر بدهشته القارئ، وتكريس تفكير وجهود فنية لجعل الفكرة أكثر كثافة في ذهن القارئ، وأكثر عمقاً اجتماعياً، وأبعد في صياغتها من مجرد خبر كتب بروح الدعابة السوداء او البيضاء.
لاحظت ان بعض الزملاء يعلقون على القصص القصيرة جداً بكلمة مكررة "كثافة" هل حقاً يدركون مفهوم التكثيف في الأدب او في النص اللغوي او في الطرح الفكري؟ رجاء لا تدمروا هذا التعبير باستعماله في غير مكانه، يكفينا ان مفهوم الحداثة صار يطبق على كل كتابة مفككة وهابطة لغوياً وفنياً.. وبجهل كامل لمعاني التعابير والاصطلاحات ومضامينها ومصادرها الفكرية.
القصة القصيرة جداً ليست تكثيفاً لشيء، بل هي اختصار لفكرة وتجزيئها. لا افهم ما هو التكثيف في النص القصصي، الا اختراعاً لإصطلاح للتغطية على الفقر القصصي.
هذا رأي.. لست متمسكاً ومتعصباً له، او لأي رأي آخر، لأن عالمنا متحرك متغير متطور، عاصف بأفكاره ومعاييره، ممتد بعمقه واتساعه بكل الاتجاهات، وفقط الملقّنون (بفتح القاف) يتمسكون برأي ثابت لا يتغي..
هذه هي قناعتي، حتى هذه اللحظة على الأقل.. ولكل الحق بأن يجرب!!
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي – الناصرة

نور عابد
06/12/2012, 05:54 AM
دراسة قيمة وجهد كبير في عرض الموضوع. السؤال الذي يشغلني هل اثبت هذا اللون القصصي نفسه على الساحة الإبداعية؟
من مراجعاتي للكثير مما ينشر اقول ان ما يسمى قصة قصيرة جدا(ق.ق.ج)لم تصل الى مستوى القصة القصيرة . هذا اللون يواجه مشاكل عديدة، اهمها انه يفتقد للدراما القصصية، ويفتقد لمساحة معقولة لبناء الحدث والشخصيات. لا اعتقد ان (ق.ق.ج) قادرة على ان تشكل تيارا أدبيا، الكثير من الفاشلين في الكتابة القصصية يلجأون ل (ق.ق.ج).
لست كاتبا قصصيا، ولكني قارئ واسع الإطلاع ولا احكم على لون أدبي ما لمجرد نزوة ألمت بي، بل حتى كتابة هذه المداخلة القصيرة، جعلتني اراجع عشرات القصص القصيرة جدا. ومراجعات نقدية متنوعة.. وجدت أفضلها ما كتبه ناقد وكاتب له مكانة كبيرة في القصة القصيرة، والعرض النقدي، ارى ان أقدم لكم مقاله ، الذي أعتقد انه يطرح الموضوع من منطلق تجربته الشخصية الوارفة.


ملاحظات ثقافية حول القصة القصيرة جداً

نبيل عودة

أعترف أن بعض ما قرأته مما يسمى قصصاً قصيرة جميل.. ولكنه جمال سريع العبور والتلاشي، لحظة بعد قراءة النص. وبعض النصوص مجرد ثرثرة بلا معنى ولا فكرة ولا رؤية، ولو أراد كاتب متمرس مثلي لأنتج مجموعة قصصية من القصيرة جداً كل يوم، وربما بمضمون وروح دعابة، وفكرة فلسفية، ونص شاعري، أجمل من كل ما قرأت من قصص قصيرة جداً.
انا لست مقتنعاً من أمرين بكل ما يسمى القصة القصيرة جداً، أولاً من كون هذا اللون ينتمي لعالم القصة، وثانياً من رؤيتي ان التسمية قصة قصيرة جداً هي تسمية دخيلة على عالم القصة. القصة القصيرة هي قصة قصيرة وقد تكون ومضة حقاً ولا أرى ان المساحة هي المقررة، انما المضمون، وما يسمى بدون وجه حق قصة قصيرة جداً، القليل منه فقط، يمتلك عناصر القصة... والباقي ليس قصة وليس أدباً حتى..!!
هل هذا يعني ان قصة قصيرة مصوغة بكثافة روائية تصير، حسب هذا المنطق "رواية قصيرة جداً؟". قناعتي ان هذه التسمية عبثية!!.
القصة القصيرة جداً تفتقد للمبنى القصصي بحكم مساحتها، وغياب عناصر هامة مثل الخطاب التاريخي والخطاب الفني، وبناء الحدث، وبناء سيكولوجية الحدث وأبطاله، أي بمفهوم أوضح دراسة العوامل النفسية للفكرة الدرامية ولشكل تصرف الأبطال. ربما ينفع نص ما يسمى قصة قصيرة جداً ليكون حالة معينة داخل قصة.
أعرف ان موقفي سيثير رفضاً واسعاً، لأن الكثيرين من الذين فشلوا في صياغة قصة قصيرة يبحثون عن تغطية ثقافية.. ولكني لم أتعود ان ابقي رأيي طي الكتمان.
لا أطرح ما أطرحه لأنتقص من قيمة اي كتابة أدبية إبداعية. وكما قلت بعض ما يسمى القصص القصيرة جداً قرأتها بمتعة، رغم اني لم أدخل في نوسطالجيا القصة القصيرة، او أجواء الدهشة والإحساس بالحدث، وشعور التواصل والرفض لمواقف أبطال النص القصصي، او القناعة الفكرية بموقف او نهاية. وخلافي ليس حول قدرات إبداعية لبعض كتابها، لأن الأكثرية المطلقة من كتّاب هذا اللون، صاروا تماماً مثل شعراء آخر زمان، الذين هبطوا على الشعر بدون فهم ادوات الشعر، ولغة الشعر وصياغة الصور الشعرية، ووجدوا بالمنثور غطاء تنكريا، بينما الشاعر الوحيد الذي اثبت نفسه في الشعر المنثور هو الشاعر محمد الماغوط. وقد نجد القليل عند غيره من المنثورات الجيدة.. ولكنها لا تشكل حالة ثقافية.
لذلك نرى الكثير من حاملي صفة شعراء وكتاب قصة قصيرة جداً، او حتى قصة قصيرة، ولا نجد بينهم الا عدد نادر من الشعراء والكتاب، وبالكاد لديهم روح أدبية تستحق الالتفات.
يقلقني تماماً ان حالة من التسيب والسهولة التي وجدها البعض في هذا اللون من الكتابة، قد تقود الى تعميق أزمتنا الأدبية.. بحيث تصير الكتابة القصصية القصيرة جداً ملعباً للكثير من الفاشلين قصصياً، تماما كما ان الشعر المنثور أضحى لعبة يمارسها الفاقدون حتى للحس اللغوي وليس لبحور الشعر وأوزانه فقط..
أفهم ان شاعراً مجيداً مثل محمود درويش او نزار قباني كتبا قصائد النثر، او ظهرت نثريات في قصائد بعضها موزون. لدرجة ان القارئ العادي، او المثقف أكثر، يستصعب أحياناً الفرز بين الموزون والمنثور او فهم ان بعض الشعر، رغم انه على المسطرة من ناحية الوزن الا انه يبدو لغير الملمين بالأوزان الشعرية، نثراً.
أحد الأدباء العرب داخل اسرائيل، الدكتور فاروق مواسي أصدر مجموعة قصص قصيرة جداً حملت عنوان "مرايا وحكايا" قرأتها وأعجبتني روحها الأدبية.. ولكني لا أستطيع قبولها كقصص، لا قصيرة ولا قصيرة جداً. تفتقد لمبنى القصة. ربما كتابة ذكية ببعضها روح الدعابة. لذا امتنعت من الكتابة عن مجموعته رغم رؤيتي انها لوحات كتبت بذكاء وحس أدبي جميل. واليكم نموذج، وهي القصة الأولى في المجموعة:
سمك
سألته وهي تهاتفه: أي الطعام أحب اليك؟
أجابها بلا تردد: سمك!.
ولم تكن تحب السمك...
وألِفت نفسها بعد أيام تكثر من شراء السمك للعائلة، تقدمه مقلياً ومشوياً وتأكله بشهية..
وتساءلت العائلة: ما سر شراء السمك بهذا القدر... ترى هل رخص السمك؟!.
***
أعترف انها فكرة جميلة، وهي أجمل قصة برايي في المجموعة، ولكن السؤال،ألم يكن من الممكن تطوير عقدة قصصية من نفس هذه الفكرة السريعة، وجعلها أكثر جمالاً وأكثر اندماجاً بجو قصصي يعيش لفترة أطول في ذهن القارئ، ويخلق انفعالات درامية تدوم في ذاكرة القارئ لفترة أكثر امتدادا؟.
سيقولون لي عصر السرعة. هذه حجة تولد ميتة. اذن تعالوا نجعل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلاج الطبي يخضع لفكرة السريع جداً، أو القصير جداً..؟.
فكرة القصير وارتباطها بعالمنا السريع، هي تدمير للأدب.
ربما تكون قصة قصيرة لا تتعدى الخمسين كلمة. أو أقل، ولكنها ليست قاعدة إطلاقاً. وتحويلها الى قاعدة يبنى عليها تحمل في داخلها ميكروبات قاتلة للأدب.
الأدب متعة نفسية وجمالية وفلسفية وأخلاقية وتطويرية ونقدية.. ورحلة في عالم الانسان والطبيعة والجماليات، لا يمكن اختصاره الى قصة قصيرة جداً، تكتب خلال دقيقتين.
من هذا الشكل مثلا قصة كتبتها خلال دقيقتين بدون فكرة مسبقة، من أجل ان أثبت لنفسي أولاً عبث فكرة القصة القصيرة جداً. وقدرة كاتب متمكن من مهنته، ان يصوغ عشرات من النصوص، من هذا النوع، خلال جلسة واحدة قصيرة. واليكم النموذج:
أضف الى رجائك ورقة ياناصيب

كان يصلي لربه ان ينقذه من تدهور حالته الاقتصادية، بأن يجعله يفوز بمليون دولار بسحب اليانصيب. وتمضي الأيام والأسابيع، والله لا يستمع لندائه. أخيراً وقف يصيح بأعلى صوته: ألم تقل على لسان ابنك: اقرعوا يفتح لكم؟ ابحثوا تجدوا؟ أكاد أموت جوعاً وانت لا تسجيب لندائي بأن أفوز ياليانصيب!".
وجاءه صوت مجلجل من السماء: "عليك ان تقوم بخطوة كي تساعدني على مساعدتك، اشتر أولاً ورقة يانصيب".

وقصة أخرى:

كتابة تافهة..؟

جلس يهودي متدين في عيد الفصح في حديقة، وكان يأكل المصّة ( خبز عويص لعيد الفصح). جلس بقربه رجل أعمى، قدم له اليهودي قطعة من المصّة، تلمّس الأعمى المصة بأصابعه من الجهتين وسأل بحيرة: "من كتب هذه التفاهات؟"

وقصة أخرى:

من تصدق؟

دخل بيته ووجد زوجته وأفضل أصدقائه عاريين في السرير. قبل ان يفتح فمه قفز صديقه من السرير قائلا: "قبل ان تقول شيئا أخي، فكّر جيداً، من تصدق، صديقك ام عينيك؟".

هذه القصة قد تبدو نكتة عابرة ولكنها فلسفياً تطرح موضوعاً هاماً: "على أي نوع من المعلومات عن عالمنا يجب ان نعتمد؟"

هل تريدون ان أواصل؟

إنسانية
"الإنسانية؟
ليست ان يبصق صدرك دماً من طلقة مدفع في يد عدو.
الإنسانية؟
ان تزغرد رصاصاتك فرحاً بالنصر!!"
هل يمكن وصف هذا المقطع بالقصة؟

مقاومة

انت في مهمة، ومهمتك تطبيقية، مهمتك ان تضغط باصبعك الى الوراء، بعد ان يكون الصليب المنبعث أمام عينك عبر منظار البندقية، قد تعلق كوسام الشرف فوق صدر الذي احتل ارضك"

غضب أيوب

فقام ايوب ومزّق جبته وجزَّ شعر رأسه وخرّ على الأرض ساجداً.
قال ايوب: عرياناً خرجت من بطن امي وعرياناً أعود الى هناك، الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً"... وقتلت فلسطين!!

بعد نكسة 1967 كتبت مجموعة "ٌقصص جو" تحوي عشرات المقاطع المستقلة في إطار قصصي واحد، بإمكاني تحويلها الى أكثر من 50 قصة قصيرة جداً. ولكني لا أشعر بأني أبدع كتابة قصصية، انما فذلكة نصية لا أكثر.
وأنهي بهذا المقطع:

الموجات الثلاث
وصلت قبل ايام، كنت في رحلة الى بحر هائج. أضعت هناك ثلاث موجات، وعندما وصلت ميناء النهار اكتشفت اني أضعت ايضا نصف البحر وحبيبتي التي كانت تحتضنني بين وديانها وجبالها.. آه من ألمي. حملتني الريح بعيداً عنها.. وها انا أبحث عنها حتى اليوم.
***
مثل هذه القصص لا تحتاج الى الدخول في مشكلة التكنيك القصصي، وضبط الخطابين الأدبي الفني من جهة والتاريخي الأيديولوجي من الجهة الأخرى، لصياغة قصة فنية متوازنة، وانتاج نص يشد القارئ ويثير دهشته.. مثل هذه "القصيرة جداً" لا تحتاج الى التفكير بخلق عالم البطل وشخصيته، ودراما واقعه، مثل هذه القصة لا تحتاج الى خلق أحداث حياتية ونص متماسك يأسر بدهشته القارئ، وتكريس تفكير وجهود فنية لجعل الفكرة أكثر كثافة في ذهن القارئ، وأكثر عمقاً اجتماعياً، وأبعد في صياغتها من مجرد خبر كتب بروح الدعابة السوداء او البيضاء.
لاحظت ان بعض الزملاء يعلقون على القصص القصيرة جداً بكلمة مكررة "كثافة" هل حقاً يدركون مفهوم التكثيف في الأدب او في النص اللغوي او في الطرح الفكري؟ رجاء لا تدمروا هذا التعبير باستعماله في غير مكانه، يكفينا ان مفهوم الحداثة صار يطبق على كل كتابة مفككة وهابطة لغوياً وفنياً.. وبجهل كامل لمعاني التعابير والاصطلاحات ومضامينها ومصادرها الفكرية.
القصة القصيرة جداً ليست تكثيفاً لشيء، بل هي اختصار لفكرة وتجزيئها. لا افهم ما هو التكثيف في النص القصصي، الا اختراعاً لإصطلاح للتغطية على الفقر القصصي.
هذا رأي.. لست متمسكاً ومتعصباً له، او لأي رأي آخر، لأن عالمنا متحرك متغير متطور، عاصف بأفكاره ومعاييره، ممتد بعمقه واتساعه بكل الاتجاهات، وفقط الملقّنون (بفتح القاف) يتمسكون برأي ثابت لا يتغي..
هذه هي قناعتي، حتى هذه اللحظة على الأقل.. ولكل الحق بأن يجرب!!
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي – الناصرة

نور عابد
06/12/2012, 06:01 AM
اضافة لما سبق وجدت هذه القصص القصيرة جدا نسبيا ولكن كاتبها وصفها ب "ليست قصيرة جدا" كتبها كما يبدو ضمن بحثه لموضوع القصة القصيرة جدا ورده على هذا اللون، بان المساحة لا اهمية لها . اقراوا وتمتعوا بهذه اللوحات التي صاغها قلم بارع:


ثــلاث قصص ليست قصيرة جدا

نبيل عودة

1 - نرسلها لك بسعادة

رن التلفون في آخر الليل، كان المتحدث "زامر المسلح"، فقيه الأدب، ما كدت أقول حرفاً إلا وكلماته تتدفق:
- وصلت لصانع شواهد القبور؟
- أجل، لكن ما العجلة لتتصل في هذه الساعة؟
- أريد أن تجهّز لي شاهد قبر
- حسناً تعال غداً
- - ولكن المرحومة عزيزة علي، وأريد أن أطمئن إلى أني في العنوان الصحيح
- يا حبيبي، هل تعرف كم الساعة الآن، الصباح رباح... نحضر لك بدل الشاهد شاهدين.
- لا فقط واحد... هل انقلك النص ؟
رأيت أن الشخص بالطرف الآخر لا يسمع إلا صوته، قلت:
- هات... ماذا نكتب؟
- أكتب: هنا ترقد الزوجة الغالية نيروز، رجاء يا الهي استقبلها بسعادة مثل ما أرسلها لك بسعادة!!

2 - هنا يرقد رامي سعيداً

كان رامي يحب الحياة ويحب المناصب ولو على خازوق،
تقدم به العمر وهو مكانك عد.
كان ينظر حوله ويشتاط غضباً. كلهم صاروا حملة ألقاب وهو ما زال قطروزاً رغم شعوره أنه أفضل من الجميع، وشهاداته تملأ حيطان الديوان.
كان يغضب حين يقال أن فلاناً أنهى الجامعة ونال لقب جامعي وما هي إلا بضع سنوات واذا هو في القمة... وأنت يا رامي مضت سنوات عمرك بلا فائدة، رغم شهاداتك وثرثرتك.
كيف ينجح الآخرون، وانت مكانك عد؟
قضى جل أيام عمره غاضباً. ربما لهذا السبب تعقدت دروب الحياة أمامه أكثر.
عندما تقدم به العمر، وبات يتحرك بصعوبة، فكر وقال لنفسه لا بد أن أجعل من موتي حدثا لا ينسى اخوزق به الجميع ، عندها سيعرفون ان رامي كان ذكيا جدا.
قبل موته بيومين انتهى من كتابة وصيته، ولأول مرة يشعر بالرضاء عما أنجزه، قال المعزون:
- أخيراً انتقل إلى ربه راضياً مرضياً
المفاجأة كانت في وصيته التي فتحت بعد انتهاء مراسيم العزاء. كتب كلمات قليلة:
- انقشوا على شاهد قبري كفة يدي مضمومة الأصابع إلا الإصبع الأوسط بارزاً إلى أعلى وتحتها "هنا يرقد رامي سعيداً!!"

3 - احذر أن تقربه

كان الحوار حاداً حول الميت المسجّى. زامر توفاه الله: وهم أهله الوحيدون فهل هم مكلفون بأجره ودفنه بسبب رباط العائلة؟
بعضهم اعترض وقالوا انهم براء من زامر حتى اليوم الآخر، لقد نهب بيوتنا وسطا على أموالنا وأملاكنا، وأبقانا على البلاطة، لتأكل لحمه القطط والكلاب، الأمر لا يخصنا.
قال كبيرهم: يا جماعة الخير مهما كان في دنياه حسابه عند ربه، انه يحمل اسمنا، ونحن نقوم بواجبنا نحو عائلتنا، صحيح أنه نهبنا، ولنعتبر ان مصروفات دفنه هي سرقته الأخيرة لنا.
- - بل يسرقنا حتى في مماته
وبتردد ، وبسبب ضغط كبير العائلة ، دفع كل فرد حصته مجبراً لتغطية مصروفات الجنازة والأجر.
دفنوه، وسارعوا ينهون أيام العزاء بأقل من يومين، لقلة عدد المعزين. كان واضحا ان زامر لم يترك أحدا بعيداً عن شره. كانت يده تطول جميع أهل البلد.
عندما طرح كبير العائلة ضرورة إقامة شاهد على قبره استهان الأقارب بذلك وتذمروا ، قال أحدهم:
-اسمه مثل الزفت، حتى لعزائنا بموته لم يحضر إلا نفر قليل، والشاهد يوضع لمن يعزّ على أبناء عائلته.
أصرّ كبير العائلة أنه يعرف ما يعتمل بالصدور، وللعائلة اسمها وكرامتها ولا يمكن أن تتخلى عن شخص يعد من أبنائها، ستصبح سمعتنا في الحضيض.
وهكذا أقنعهم، أو ملّوا النقاش، ووضع كل منهم ما يقدر عليه، وأوصوا له على شاهد لقبره، وقرر كبير العائلة حتى يبرئ ذمته أمام الخالق عندما يحين أجله بأن يكتب على شاهد القبر:
- نرسل لك أيها الرب ابن عائلتنا زامر، الذي أفرغ جيوبنا وسرق أملاكنا، نحن غفرنا له ونطلب أن تغفر له أيضا، ولكن إذا غفرت له احذر ان تقربه من عرشك!!

سعيد نويضي
08/12/2012, 10:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم...

سلام الله على الأحبة الكرام من عشاق الأدب و الفن و القصة القصيرة و القصيرة جدا...

حقا هي الكتابة الإبداعية ليست بالشيء الهين و لا بالشيء السهل...خاصة إذا أخذ الكاتب بعين الاعتبار "إنسانية القارئ" على أساس أنه إنسان أكرمه الله جل و علا بالأخلاق التي تميزه عن باقي المخلوقات...الصفة التي تجعله يحترم نفسه قبل غيره...من هذا المنطلق لا يمكن حصر نشاطات الإنسان المتعددة و المتنوعة و قياس بعضها على بعض إلا من هذه الزاوية...
فنشاط الفزيائي و الرياضي لا يمكن قياسه بمقياس القاص أو الناقد...بمعنى أن المواضيع التي يشرحها و يحللها و يقوم بتركيب عناصرها ليست كالمواضيع التي يتناولها الأديب القاص أو الروائي أو الرسام ...لأن طبيعة الموضوع تختلف من موضوع إلى آخر...فلا يمكن الحديث عن معادلة رياضية قصيرة جدا أو نظرية فزيائية قصير جدا...و لكن القياس الملائم مع كامل احترامي هو مثلا حكمة سريعة أو مثل عميق أو ومضة عابرة أو شيء من هذا القبيل...
و الاختلاف بين لغة الأدب كما يجيدها كاتب المقال الأديب الفاضل نبيل عودة تختلف عن اللغة العادية و التي لا يبدل المتلقي فيها أدنى مجهود لا فكري و لا معرفي و لا حتى لغوي حتى يستوعب مضمونها و مراميها...باعتبارها تتكأ على المباشر في الخطاب بمفردات عادية لا فيها فنية و لا جمالية و لا صور بلاغية...و هذا الاختلاف بين الطريقنيت في التعبير هو الذي يجعل من القصة القصيرة جدا كمثل الحكمة العابرة كالبرق أو كالشمس المشرقة بين ضباب كثيف أو غيوم ملبدة...أو كالحلم بين السّْنة و اليقظة...
حقيقة هي القصة القصيرة و الرواية لا يمكن لكتاب قصة قصيرة جدا أن يجيد الكتابة فيها من خلال محاولاته و لكن من الممكن بل و الواقع يشهد على ذلك أنه من بين كتاب القصة القصيرة من استطاع أن يكتب القصة القصيرة جدا فيها من العمق ما يغنيك عن الصفحات الطوال...لكن هذا لا يعني أن القصة القصيرة جدا هي الأفضل...لكن هل يحق و يصدق القول بأن هناك عبث ما في تناول القصة القصيرة جدا بشيء من الاهتمام و بشيء من العناية..."عبث فكرة القصة القصيرة جداً..." فالمعروف أن العبث هو الذي لا غاية من وراءه و لا هدف أمامه و لا شيء يرجى منه...
حقيقة أن القصة القصيرة جدا تترك القارئ في لهفة و عدم إشباع وجدانيا و فنيا و جماليا لما تحمله أجواء و فضاءات المسمى "أدب" و خاصة الرواية أو القصة القصيرة التي تحكي الحدث و تتناول الشخوص و تقيم بناء دراميا تصاعديا أو تنازليا لتحقيق متعة معينة من جهة و فائدة من جهة أخرى...و لكن لا نستطيع أن نقيس اليوم على الأمس و لا أن يكون مثالا إلا فيما هو تابت غير قابل للتغيير كالقيم و المبادئ و التي أصاب جذورها تصدع لا مثيل له بحكم الجديد و التجديد...و لكن في مجال الأدب و الإبداع لماذا لا يقول الإنسان ما يشعر به...في الشكل الذي يجد فيه ضالته...و لله المثل الأعلى و لرسوله عليه الصلاة و السلام...الحقيقة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها...
فكل جديد مرفوض إذا ما تطاول على كتاب رب العالمين و سنة رسوله عليه السلام و ما عدا ذلك قابل للنقاش و الحوار...و إلا سيكون الحوار الذي سمح به رب العالمين لإبليس (نستعيذ منه في كل و قت و حين) شيء غير وارد في العلاقات الإنسانية و خاصة في الأدب الذي هو تعبير أساسا عن الوجدان و الشعور و إن كان يتخذ مواقف معينة فلسفية و عقلانية و أخلاقية...
لذلك أعتقذ أن الأدب ليس هو العلوم لا الرياضية و لا الفزيائية و لا حتى العلوم الإنسانية بل هو المادة الخام التي تشتغل عليها العلوم الأخرى...
لذلك من ألف شرب ماء زمزم على سبيل المثال لن تروق له المياه المعدنية الأخرى...لكنها تروي الظمأ و من ألف المياه المعدنية لا يرتوي إلا من مياه العادية...و هكذا فالإنسان و ما ألف من أطباق...فالجيل الذي تربى على القصيدة العمودية و شرب من بحورها فسيرى في الشعر الحديث أو المعاصر أنه خارج عن المألوف و خارج عن البحور...فهل وجدت البحور قبل الشعر أم العكس...؟سيقول قائل أن البحور ظهرت بعد ظهور الشعر...و الحقيقة أنهما وجدا معا...لو نظرنا لقضية الوجود كقضية تفترض وجود الشيء سواء كان ظاهرا جليا كالشعر أو خفيا قبل ظهوره كالبحور...و لذلك فالقول الذي يؤثر في النفس بشكل معين لديه قوانين معينة قد تكتشف (قوانين ذلك الثأتير) فيما بعد كما هو شأن الشعر و بحوره...و صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قال: و من البيان لسحرا و من الشعر لحكمة...و لذلك فقد تحمل القصة القصيرة جدا على النصف الأول من حديث الرسول عليه الصلاة و السلام ...كون القصة القصية جدا تنتمي إلى عالم البيان...الذي قد يأسر المتلقي و المبدع و الناقد على السواء...

كلمة خطرت ببالي عندما قرأت المقال من بدايته لنهايته...

تحيتي و تقديري...