الدكتور شاكر مطلق
14/03/2009, 12:55 PM
مدخل لنظري إلى فلسفة الزِّن :
ولكن ... لا تبَحْ بسرّكَ للرّيح !(*)
د.شاكر مطلق
الحقيقةُ العليا لا شكل لها .
فلو لم يكن لها شكل البتّة
لا توجد عندها إمكانيةٌُُ
لتُظهر نفسَها كحقيقةٍ .
المبدأ الأعلى لا كلام له
فلو لم يكن هناك كلماتٌ البتّة
مِن خلال ماذا يمكن له
أنْ يتجلّى كمبدأ ؟
هذه القصيدة ، المكتوبة على طريقة ( الزِّن ) منقوشة على تمثال حجري " لبوذا "من العام 746 م
قد يقول البعض : حسناً لقد فهمنا النصَّ هذا ولكن ماذا يمكن أن تقدم أو تؤخر كلمة (الزّن ) تلك لي وللقصيدة ؟
الواقع أن إدراج كلمة ( زِنْ ) لم يكن اعتباطياً ولا
( فذلكة) كما قد يتبدَّى للبعض ، وإنما هي شارةٌ - رمزٌ ( كود) أقدّمها للعارف لأنه حتماً سيقرأ ، من خلال هذا المفتاح المعرفي ، النصَّ بشكل مغاير وبأكثر عمقاً وأشملَ أفقاً . كما أنني أعتقد أن علينا بذل جهد أكبر لفهم أدب الشعوب الأخرى وفلسفاتهم وبخاصة فلسفة الشرق الأقصى والمتوسط ونحن أقرب إليهم تاريخياً وفكرياً من فلسفة الغرب ، إن صحّت التسمية الآن ، بعد ما بات يسمى : " النظام العالمي الجديد" .
لو أنني ذكَرتُ طريقةَ ( السّريالية ) _ أندريه بريتون _ أو الوجودية ( ج .باول سارتر ) ... إلخ لفَهِم الجميع فوراً ماذا يعني ذلك ، ولكنهم يتهمونك بالغموض إن تحدثت عن رمز ومعتقد يعيشه ، حتى الآن مئات الملايين من البشر الذين هم جيراننا أيضاً بل و يأخذون عليك، ربما ، استعمالك كلمة
( إنكيدو) وهو من صميم تراثنا الرَّافدي القريب جغرافياً ونفسياً منا وإن كان ينتمي إلى الزمن القديم.
ولكن ماذا عن ( الزِّن ) هذا ؟
يمكن أن أتحدث وأن أكتب الكثير حوله بالطبع ، ولكنني سأكتفي بتقديم شرحٍ بسيطٍ وسريعٍ ، لنرى كيف يخدم هذا الشرحُ فهمنا للنص المذكور أعلاه بشكلٍ أفضل :
كلمة الزن ( Zen ) هي اختصار لكلمة " زينَّا "
( Zenna ) وهي القراءة اليابانية للكلمة الصينية
( شا ، أن )(an ، Ch) التي هي بدورها تعبير عن كلمة ( دْهيانا ) ( Dhyana ) وهي من اللغة السَّنسكريتية ( الهندية ) المعبرة عم جمع الأفكار والغوص في التأمل .
وقد نشأت فلسفة الزن _ وهي في جوهرها درب الكشف ، الإشراق أو التنوير وتعلُّم ممارسة الجلوس في هدوء كامل والغوص في التأمل ، وهي ليست في الواقع ( دين ) أو عبادة ، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك .
نشأت هذه الفلسفة أو المدرسة القائمة على مبادئ بوذية _ ماهايانا ( Mahayana ) في الصين في القرن السادس والسابع الميلادي ، من خلال وصول بوذية ( دْهيانا _ Dhyana ) عن طريق بودي _ هارما ( قادمة من الهند ) وتفاعلها مـع
( التاوية ) - ( Taoismus ، وإذا تساءلتَ الآن عن( التَّاوية ) هذه فعليك أن تعرف أنها أقدم كتب فلسفة الصين المكتوبة بقالب شعري في واحد وثمانين فصلاً ، من القرن السادس قبل الميلاد ، من قِبَل ( لاوتان ) ولقبه ( لاوتز ) ، وهي مترجمة ومشروحة بالعديد مِن لغات العالم منذ القرن التاسع عشر ، وحتى باللغة العربية هناك ترجمة بعنوان ( التَّاو _ نصوص مِن الفلسفة الصينية القديمة ) ترجمها المرحوم " هادي العلوي " وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1981 عن ( دار ابن رشد ) في بيروت . وتستطيع هناك أن تقرأ ، وبالعربية ، كيف انتقلت التَّاوية مِن مبدأ فلسفي خالص إلى(ديناً طقوسياً مشوباً بالفلسفة والتَّصوف ) وأنها ديانة الخلاص للفرد الصيني الرازح تحت ثقل ( نفقات ) طقوس الكنفوشية ، باهظة التكاليف ، وأنها تعني ( الصِّراط ) وتصبح ( المبدأ والمآل ) .
عليك الآن أنْ تعود إلى آخر كلمة ترجمتُها للقصيدة أعلاه ، فتجد أمامك ( المبدأ ) وقد اتخذت بعداً آخر وعندما تعرف أنّ ( التَّاو ) يشكّل ( القانون الطبيعي أو الكيان الذاتي للأشياء ) ويشبه اللَّوحة، غير المنقوشة على حد قول( لاوتان )، وأن(التَّاو ) مقابلٌ لمفهوم ( الباري ) والعقل الأول والمحرك الأول وطاقة فيضٍ ( أفلوطين الأول _ أرسطو _ فلاسفة الإشراق المسلمين ) _ وذلك على الرغم مِن عدم تعامل ( التَّاو ) مع الألوهية _ عندها سينفتح أمامك أفقٌ أبعد لفهم أشملَ ، وبما أن مبدأ الشيء _ حسب الفلسفة الإسلامية _ هو طبيعته ، فإن( التَّاو ) يستقر في صميم الكون ، داخل المجرّات وليس خارجها تستجيب له الأشياء تلقائياً ولكن ليس في ذات ( التَّاو ) بل في الاتجاه الذاتي إلى الحركة مِن خلال المبدأ _ المبدأ مرة أخرى _ وبالتالي ... فإن بقاء ( التَّاو ) وسط المتغيرات مرهون بدأبه الأزلي على التغيير وليس في الثَّبات _ كماهِيَّاتِ أرسطو _ وبالتالي أيضاً فإن الكائنات هي استطالات للمبدأ(! ) وهي لا تُنقِص منه شيئاً . ومِن هذا التناوب في قوة استطالة المبدأ ( ! ) مِن هذا الفعل المتناوب الخفي تنشأ السماء والأرض والهواء الأوسط ( تْشي ) وعندها يتدخل مبدأ هام في الفلسفة الصينية القائمة على التوازن الكوني مبدأ ( اليِن ) و( اليانغ ) _ السالب والموجب _ الذكر والأنثى ... إلخ .
إذن ( فالمبدأ ) ليس روحياً بقدر ما هو مادي لا يُدرك ، بسبب صِغَره المفرط ، وهو الكائن المادي السابق للمادة الأولى وقد أحسَّ الأستاذ المرحوم
" هادي العلوي " عندما شبهه ( بصفة البسيط ) عند الشيرازي .
طبعاً لن يتيح لي المكان الآن الاستطراد في شروحات أكثر حول هذا الموضوع ، بل حول كلمة واحدة في القصيدة ، وإنما أردت من خلال ذلك _ كما فعلت ذات مرة عندما قدمت في عدد خاص بالأدب الصيني مِن الآداب الأجنبية العدد 43 _ 44 / 1985 ص201 شرحاً مطولاً لكلمة تعني( السلام ) وهي في الواقع أبعد بكثير ، لأن لها علاقة بمفهوم ( التوازن ) _ أردت أن أعطي مثالاً للمتعة والمعرفة التي يمكن لنا أن نستمدها مِن قراءة مثل هذا الشعر الغريب علينا .
وقد صدر في أواخر العام 1991 كتابي ، عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق ، ( فصول السنة اليابانية ) _ قصيدة الهايكو والتََّانكا _ وفيه مدخلاً موسَّعاً حول الموضوع ، قد يفيد قارئ هذا الشعر الممتع والمثير للدَّهَش أيضاً .
=================
(*) –هو عنوان كتاب لي (لا تبح بسرك للريح -شعر وحكم- من الصين واليابان – ترجمة – دار الذاكرة 1991- حمص-سورية
mutlak@scs-net.org : E-Mail
ولكن ... لا تبَحْ بسرّكَ للرّيح !(*)
د.شاكر مطلق
الحقيقةُ العليا لا شكل لها .
فلو لم يكن لها شكل البتّة
لا توجد عندها إمكانيةٌُُ
لتُظهر نفسَها كحقيقةٍ .
المبدأ الأعلى لا كلام له
فلو لم يكن هناك كلماتٌ البتّة
مِن خلال ماذا يمكن له
أنْ يتجلّى كمبدأ ؟
هذه القصيدة ، المكتوبة على طريقة ( الزِّن ) منقوشة على تمثال حجري " لبوذا "من العام 746 م
قد يقول البعض : حسناً لقد فهمنا النصَّ هذا ولكن ماذا يمكن أن تقدم أو تؤخر كلمة (الزّن ) تلك لي وللقصيدة ؟
الواقع أن إدراج كلمة ( زِنْ ) لم يكن اعتباطياً ولا
( فذلكة) كما قد يتبدَّى للبعض ، وإنما هي شارةٌ - رمزٌ ( كود) أقدّمها للعارف لأنه حتماً سيقرأ ، من خلال هذا المفتاح المعرفي ، النصَّ بشكل مغاير وبأكثر عمقاً وأشملَ أفقاً . كما أنني أعتقد أن علينا بذل جهد أكبر لفهم أدب الشعوب الأخرى وفلسفاتهم وبخاصة فلسفة الشرق الأقصى والمتوسط ونحن أقرب إليهم تاريخياً وفكرياً من فلسفة الغرب ، إن صحّت التسمية الآن ، بعد ما بات يسمى : " النظام العالمي الجديد" .
لو أنني ذكَرتُ طريقةَ ( السّريالية ) _ أندريه بريتون _ أو الوجودية ( ج .باول سارتر ) ... إلخ لفَهِم الجميع فوراً ماذا يعني ذلك ، ولكنهم يتهمونك بالغموض إن تحدثت عن رمز ومعتقد يعيشه ، حتى الآن مئات الملايين من البشر الذين هم جيراننا أيضاً بل و يأخذون عليك، ربما ، استعمالك كلمة
( إنكيدو) وهو من صميم تراثنا الرَّافدي القريب جغرافياً ونفسياً منا وإن كان ينتمي إلى الزمن القديم.
ولكن ماذا عن ( الزِّن ) هذا ؟
يمكن أن أتحدث وأن أكتب الكثير حوله بالطبع ، ولكنني سأكتفي بتقديم شرحٍ بسيطٍ وسريعٍ ، لنرى كيف يخدم هذا الشرحُ فهمنا للنص المذكور أعلاه بشكلٍ أفضل :
كلمة الزن ( Zen ) هي اختصار لكلمة " زينَّا "
( Zenna ) وهي القراءة اليابانية للكلمة الصينية
( شا ، أن )(an ، Ch) التي هي بدورها تعبير عن كلمة ( دْهيانا ) ( Dhyana ) وهي من اللغة السَّنسكريتية ( الهندية ) المعبرة عم جمع الأفكار والغوص في التأمل .
وقد نشأت فلسفة الزن _ وهي في جوهرها درب الكشف ، الإشراق أو التنوير وتعلُّم ممارسة الجلوس في هدوء كامل والغوص في التأمل ، وهي ليست في الواقع ( دين ) أو عبادة ، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك .
نشأت هذه الفلسفة أو المدرسة القائمة على مبادئ بوذية _ ماهايانا ( Mahayana ) في الصين في القرن السادس والسابع الميلادي ، من خلال وصول بوذية ( دْهيانا _ Dhyana ) عن طريق بودي _ هارما ( قادمة من الهند ) وتفاعلها مـع
( التاوية ) - ( Taoismus ، وإذا تساءلتَ الآن عن( التَّاوية ) هذه فعليك أن تعرف أنها أقدم كتب فلسفة الصين المكتوبة بقالب شعري في واحد وثمانين فصلاً ، من القرن السادس قبل الميلاد ، من قِبَل ( لاوتان ) ولقبه ( لاوتز ) ، وهي مترجمة ومشروحة بالعديد مِن لغات العالم منذ القرن التاسع عشر ، وحتى باللغة العربية هناك ترجمة بعنوان ( التَّاو _ نصوص مِن الفلسفة الصينية القديمة ) ترجمها المرحوم " هادي العلوي " وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1981 عن ( دار ابن رشد ) في بيروت . وتستطيع هناك أن تقرأ ، وبالعربية ، كيف انتقلت التَّاوية مِن مبدأ فلسفي خالص إلى(ديناً طقوسياً مشوباً بالفلسفة والتَّصوف ) وأنها ديانة الخلاص للفرد الصيني الرازح تحت ثقل ( نفقات ) طقوس الكنفوشية ، باهظة التكاليف ، وأنها تعني ( الصِّراط ) وتصبح ( المبدأ والمآل ) .
عليك الآن أنْ تعود إلى آخر كلمة ترجمتُها للقصيدة أعلاه ، فتجد أمامك ( المبدأ ) وقد اتخذت بعداً آخر وعندما تعرف أنّ ( التَّاو ) يشكّل ( القانون الطبيعي أو الكيان الذاتي للأشياء ) ويشبه اللَّوحة، غير المنقوشة على حد قول( لاوتان )، وأن(التَّاو ) مقابلٌ لمفهوم ( الباري ) والعقل الأول والمحرك الأول وطاقة فيضٍ ( أفلوطين الأول _ أرسطو _ فلاسفة الإشراق المسلمين ) _ وذلك على الرغم مِن عدم تعامل ( التَّاو ) مع الألوهية _ عندها سينفتح أمامك أفقٌ أبعد لفهم أشملَ ، وبما أن مبدأ الشيء _ حسب الفلسفة الإسلامية _ هو طبيعته ، فإن( التَّاو ) يستقر في صميم الكون ، داخل المجرّات وليس خارجها تستجيب له الأشياء تلقائياً ولكن ليس في ذات ( التَّاو ) بل في الاتجاه الذاتي إلى الحركة مِن خلال المبدأ _ المبدأ مرة أخرى _ وبالتالي ... فإن بقاء ( التَّاو ) وسط المتغيرات مرهون بدأبه الأزلي على التغيير وليس في الثَّبات _ كماهِيَّاتِ أرسطو _ وبالتالي أيضاً فإن الكائنات هي استطالات للمبدأ(! ) وهي لا تُنقِص منه شيئاً . ومِن هذا التناوب في قوة استطالة المبدأ ( ! ) مِن هذا الفعل المتناوب الخفي تنشأ السماء والأرض والهواء الأوسط ( تْشي ) وعندها يتدخل مبدأ هام في الفلسفة الصينية القائمة على التوازن الكوني مبدأ ( اليِن ) و( اليانغ ) _ السالب والموجب _ الذكر والأنثى ... إلخ .
إذن ( فالمبدأ ) ليس روحياً بقدر ما هو مادي لا يُدرك ، بسبب صِغَره المفرط ، وهو الكائن المادي السابق للمادة الأولى وقد أحسَّ الأستاذ المرحوم
" هادي العلوي " عندما شبهه ( بصفة البسيط ) عند الشيرازي .
طبعاً لن يتيح لي المكان الآن الاستطراد في شروحات أكثر حول هذا الموضوع ، بل حول كلمة واحدة في القصيدة ، وإنما أردت من خلال ذلك _ كما فعلت ذات مرة عندما قدمت في عدد خاص بالأدب الصيني مِن الآداب الأجنبية العدد 43 _ 44 / 1985 ص201 شرحاً مطولاً لكلمة تعني( السلام ) وهي في الواقع أبعد بكثير ، لأن لها علاقة بمفهوم ( التوازن ) _ أردت أن أعطي مثالاً للمتعة والمعرفة التي يمكن لنا أن نستمدها مِن قراءة مثل هذا الشعر الغريب علينا .
وقد صدر في أواخر العام 1991 كتابي ، عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق ، ( فصول السنة اليابانية ) _ قصيدة الهايكو والتََّانكا _ وفيه مدخلاً موسَّعاً حول الموضوع ، قد يفيد قارئ هذا الشعر الممتع والمثير للدَّهَش أيضاً .
=================
(*) –هو عنوان كتاب لي (لا تبح بسرك للريح -شعر وحكم- من الصين واليابان – ترجمة – دار الذاكرة 1991- حمص-سورية
mutlak@scs-net.org : E-Mail