المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في نص من كتاب (الفرج بعد الشدة )...



د لقمان شطناوي
17/03/2009, 08:45 AM
قراءة في نص من كتاب (الفرج بعد الشدة ).. للقاضي التنوخي

• لماذا قتل أبو سلمة الخلّال ؟

يمثل كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي واحداً من كنوز التراث الأدبي العربي بما يزخر فيه من أحاديث وحكايات واخبار .
يخبرنا التنوخي في مقدمة كتابه أنه دون هذا الكتاب بعد ما مر به في اواخر أيامه من محن وشدائد استطاع النجاة منها ، ويحتوي الكتاب على حوالي أربعمائة وإحدى وتسعين حكاية منها ما يقارب مائة وثلاثاً وخمسين حكاية استلها من بطون الكتب وهي حكايات واقعية ينقلها لنا من خلال الخطاب المستحضر معيداً كلام الشخصيات جزئياً وبأسلوب مباشر ، والحكاية التي بين أيدينا واحدة من هذه الحكايات .
والتنوخي ينقل لنا هذه الحكاية تحت عنوان (لماذا قتل أبو سلمة الخلَال؟ ) ، ويتضح من العنوان ارتكاز الكاتب على عنصر التشويق من خلال الاعتماد على الأسلوب الإنشائي المتمثل بأداة الاستفهام لماذا ثم من خلال الفعل الماضي المبني للمجهول (قُتِل ) الذي يحرك دوافع المتلقي لمعرفة سبب القتل ، والمرتكز الثالث للعنوان هو الشخصية الرئيسية أبو سلمة الخلال ، ولعل واقعية هذه الشخصية يحفز القارئ ويشوقه لمعرفة حقيقة السبب في مقتلها ، ويشير من طرف خفي إلى أن ثمة شكوكا وأقاويل عديدة قد أُثيرت حول كيفية القتل ودوافعه سيتم الكشف عن ملابساتها ، إن العنوان يفصح عن العلاقة التي تربط المؤلف بالمتلقي كما تفصح عن المحور الرئيسي الذي تدور حوله الحكاية وهو موت أبي سلمة ، ولكن هل هذا هو المحور الأساسي فعلاً في النص؟ .
إن هذه الحكاية ليست إلا واحدة من مجموعة الحكايات التي وضعها التنوخي في باب من ألجأه الخوف إلى هرب واستتار فأبدل بأمن ومستجد نعمة ومسار .
وتنبئ الحكاية عن ان من هرب واستتر هم بنو العباس إذ لجأوا الى أبي سلمة فقام بإخفائهم ، ثم بدا له أن يغدر بهم عازما على جعل أمر الخلافة شورى بين ولد علي والعباس ليختاروا من أرادوا .
ولنعد إلى العنوانين اللذين بدأ بهما النص ولنحاول إيجاد رابط بينهما ، العنوان الضمني للقصة (عنوان الباب ) يشير إلى أن الشخصيات الممثلة ببني العباس كانت مختفية في السرداب وسط الشعور بالخوف والغياب ، الاختفاء في السرداب كان تغييبا للفعل وهو من جانب موت للروح وموت للقدرة في حين أن الجسد باق ، السرداب (المكان المغلق) كان طريقا للحياة والموت معا في حين أن أبا سلمة كان سلم النجاة للخروج من السرداب ووصلة الأمل باتجاه الحياة ، وتظل هذه الشخصيات متمسكة بخيط الأمل حتى تكتب لها النجاة .
أما العنوان الثاني فهو ينبئ عن صراع بين الموت والحياة كذلك ، فأبو سلمة بعد انكشاف أمره يكون في حال من الخوف حول ما ينتظره وفي محاولاته لدفع الموت عنه يتذرع بأنه أخَر خروج بني العباس حتى يهلك مروان بن محمد وكانت هذه الذريعة هي وسيلة أبي سلمة للخلاص من العقاب ويتحقق له ذلك وتكتب له النجاة .
إن هذين العنوانين كحال الشخصيات بل كحال الكتاب كله يقومان على ثنائية ضدية هي الموت والحياة والشدة والفرج .
ولكن .. كيف عبَر التنوخي عن هذه الرؤية للواقع من خلال بناء قصته ، ثم هل هي مجرد رؤية فردية يريد القاص أن ينقلها وأن يقنع غيره بها .
النص الذي بين أيدينا ينقل لنا حكاية كاملة لها بداية ونهاية ،وهي تقوم على علاقة مكونة من ثلاثة أبعاد ، هي الطلب ثم المنع ثم الانفراج والخروج من المأزق ، عبَر الكاتب عن هذه العلاقة من خلال عنوان الكتاب الأحداث التي تقود الى الشدة ثم يتبعها الفرج وإذا كانت كل حكايات الكتاب مبنية وفق هذه العلاقة فأين المتعة التي يحققها هذا التكرار والنهاية المتوقعة دائماً .
إذا نظرنا للحكايات على هذا النحو فليس ثمة متعة حقبقة ولذة يمكن أن يجدها القارئ ، فحكاية مقتل أبي سلمة ليست سوى إشارة إلى خيانة الرجل لمن وثق به وائتمنه على حياته فكان مصيره الموت ، إن مضمون هذه الحكاية يتكرر في أكثر من موضع بين دفتي الكتاب ، فما الذي أراد الكاتب تقديمه على مستوى الرؤية وهل الحكاية مجرد حديث عن جزاء الخائن والخيانة أم أنها صورة لحركة المجتمع وحركة الفرد وصورة للصراع بين الخير والشر والتعبير عن موقف الانسان من القضايا المتناقضة والتي تظهر جليا في الصراع بين الحياة والموت .
يعتمد صوت الخطاب السردي في النص على راو كلي العلم استعان بالوثيقة (المستندات النصية المعلنة) ، لنقل حكايته فهو في مطلع السرد يقول " ذكر في في بعض كتب الدولة " ثم يسرد لنا ما قرأه من خلال الخطاب المحول والخطاب المستحضر فنقل لنا كلام الشخصيات الى الأسلوب غير المباشر والأسلوب المباشر وبرز دور الراوي العليم من خلال سبر أعماق الشخصيات واستقصاء بواطنها فهو يرصد لنا حديث أبي جعفر حين سئل " أيكـم معه العلامـة " فقال أبو جعفر " فعلمت أني قد أخرجت من الأمر، لأنـه لـم يكـن معـي علامـة "، والحوار المضمن في النص هو امتداد للسرد والوصف يستخدمه وسيلة للإبلاغ وأحياناً يحل الحوار مكان السرد الحكائي بشكل تام فيتخذ المتحاورون مظهراً يعتمد السرد المستمر.
ويبدو القص في جانب منه على شكل خطابات لغوية متقطعة لا ترتقي الى مستوى السرد ، ولكن تشكيل السرد يعتمد مبدأ السببية التي تجعل كل سبب يحيل الى نتيجة وكل حدث يفضي الى آخر .
ولنعد الى بناء الحكاية ولنتعرف الى نمو الحدث وتطوره نجد الحكاية تبدا بالطلب من خلال استدعاء أبي سلمة لبني العباس أو لجوئهم هم إليه طالبين حمايتهم ،ثم تتطور الأحداث الى المنع حيث يعمد أبو سلمة الى تأخير إخراج بني العباس حتى بعد انتصارهم على الأمويين ويمثل ذلك ذروة التأزم في الموقف ثم ليأتي الانفراج بعد ذلك من خلال الانحراف الذي ظهر في سلوك الشخصيات فأبو سلمة كاتب مجموعة من العلويين فتأخروا عنه ،تبع هذا التأخر "وساء ظن بني العباس به" ، ولم يملك بنو العباس بعد ذلك إلا أن أخذوا زمام المبادرة وحاولوا التخلص من الحبس لمعرفة ما يجري في الخارج ، ولتحقيق الانفراج تتم الاستعانة بعوامل مساعدة منها المولى الاسود الذي خرج يستطلع الأخبار ويبدو هنا كيف ان الفرج جاء على يد مولى أسود في محاولة للربط بين لبس السواد ورفع الرايات السود إيذاناً ببدء الدعوة للدولة العباسية ومجيء الفرج من هذا المولى الأسود ، وكان يمكن أن يروى الخبر على هذا النحو " أخرجوا مولى لهم" دون ذكر كلمة أسود ، لكنه يؤكد عليها في موضع آخر فه يشير الى احضار ابني قحطبة فيقول " فجاء حتى ولج الدار وأراه الأسود السرداب" فلم يذكر كلمة مولى في هذا الموضع .

ونلحظ في النص تلك المفارقة بين بداية الحكاية وخاتمتها فأبو سلمة هو الذي استدعى بني العباس حرصاً منه عليهم وعمل على حمايتهم حتى تنجلي الغمة عنهم لكنه في النهاية يفكر في خيانتهم وتسليمهم الى العلويين ليجعل الأمر شورى بين المسلمين بل ويراسل العلويين الذين يرفضون رأيه ، وتذكر لنا الحكاية موقف العلويين إذ أن جعفراً قال لعبدالله "فلا تمنين نفسك الأباطيل فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم".

ولا تبدو هذه الأحداث متوافقة مع حال أبي سلمة الذي أنفق الكثير من الأموال في سبيل الدعوة العباسية وكان يحمل الرسائل من الحميمة الى خراسان وكان الدعاة يؤمرون بقصده إذا ظهروا وغلبوا على الكوفة ليعرفهم الإمام، وهو الرجل الذي اختاره بنو العباس لحمايتهم ، فهل كان سيضحي بكل ما خطط له وهل كان من الجهل بحيث يخفى عليه ما كان عليه حال انصار العلويين من ضعف ، اظن أن الحكاية تحتاج الى المزيد من التحري لا سيما وان كتب التراجم تذكر في موت أبي سلمة أن أشخاصاً كمنوا له ليلاً ووثبوا عليه فقطعوه بأسيافهم وقيل إن أبا مسلم الخراساني دسهم له لشحناء بينهم .
ولا تحاول الحكاية أن تكشف لنا عن خفايا موت أبي سلمة بل اكتفى الكاتب بممارسة دور الراوي الإبعادي فاستعان بكل الأحداث التي تلصق صفة الخيانة بأبي سلمة ، ومهما يكن فالحكاية تروي أحداثاً يفترض أنها وقعت في زمن ما .
وعلى الرغم من أن الحكاية قامت على تسلسل الأحداث تسلسلاً منطقياً إلا أن ذلك لا يعني أن النص لم يستعن بتقنيات لكسر الزمن وخلخلة الأحداث ، من ذلك استخدامه للمنولوج أو تسريع الأحداث أو الإضمار في أحداث أخرى كقوله " استدعى بني العباس فصيرهم في منزله في الكوفه "(20) ، وقوله " فلما أوقع قحطبة بابن هبيرة " . ومن الأساليب التي يستخدمها أسلوب الاسترجاع استخدمه الكاتب حين أراد أن يذكر بمعرفة ابني قحطبة للعلامة التي تميز الإمام.

والنص عامة يظل فقيراً من حيث تعدد وظائف السرد ومفتقراً الى الوصف ، لكنه يقدم لنا صورة عن واقع المجتمع، ويمكننا أن نفتح النص على عدة احتمالات للتأويل على الرغم من أن الكاتب حاول أن يجعله نصاً منغلقاً على نفسه من خلال توجيه القص واستخدام صيغة السارد كلي العلم .