المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المنسدح



محمود سعيد
05/01/2007, 10:50 AM
المنسدح
محمود سعيد.

سألها قبل أن يفتح عينيه:
- أسمعت صوت جرس؟
- نَم.. إنه آذان.
- كم الوقت الآن؟
- نَم.. لا تُطِر النوم من أعيننا.
لفت رأسها باللحاف، أدارت ظهرها، تقوفعت، بينما جاء صوت المؤذن بعيداً متحشرجاً.
- الصلاة خير من النوم.
- غريب؟..لم تتجاوز الخامسة..أي آذان هذا؟..لا شك أنه متوهم..
- نَم ..قلت لك آذان..آذان الشافعي..هكذا مبكر قبل كل الخلق..نَم ودعني أنام..
تأوه، لف رأسه، رن جرس الباب مرة أخرى، دفع اللحاف عن وجهه، قال:
- أقول لك جرس..تقولين آذان الشافعي ..
أنارت الضوء: من في هذه الساعة؟ اعتدلت، ظل واجماً برهة ثم نهض، بينما كان غشاء النعاس الصلب يتكسر تعباً على تقاطيعه، فيما
قدحت عيناها من الرعب، هتفت وهي تكاد ترجف:
- لا تنزل..لا تفتح الباب.
- أهذا حل؟
- أرجوك ..دعهم..أستر علينا..لا تنزل..
- كيف لا أنزل؟ سيظلون يدقون..سيظنون البيت خالياً فيقتحمونه..يقتلوننا..
تناول مبذله، أحكم لفه، فتح المجر، أخرج المسدس، ارتعبت عيناها: أ تعرف تستعمله؟
- ضغطة على الزناد فقط..هكذا علمنا أبو خالد..ليس بعلم؟
- سأجيء معك..لا تسرع..قد تقع..على كيفك..أنت في الستين..
كانت أخف منه حركة، لكن خطواته كانت أكثر ثباتاً، قالت:
- لن تفتح الباب..قتلوا ,,بيت،، أم سامي بعد أن فتحوا الباب..
- أعرف..
- كيف نعرف أنهم لم يتسلقوا السياج ويختبئوا وراء السيارة، في الممرات؟ كما فعلوا مع الصائغ أبو أمير وذبحوه هو وأهله.
من دون شعور، تحسس المسدس، كان ثقيلاً، ألا يوجد أخف منه يا أبا خالد؟ يوجد مسدسات بنصف حجمه ووزنه، هكذا بحجم
الكف،جئتني بمسدس من زمن العصملي..بطول رأس الجحش، كيلوين، صحيح يا دكتور..ثقيل بس مضمون..قال:
- سأنزل لأضيء الممرات، وعليك أن تنظري من الشبابيك كلها إلى الممرات والكراج وخلف السيارة..
- لن تفتح الباب قبل مجيئي..لا تسرع.
فتح باب الغرفة، أضاء نور الطابق العلوي، وفي لحظات كان الكراج والحديقة وممراتها مضاءة كلها، ثم سمع خطواتها تنزل، فتح الباب
الخشبي الداخلي، فلفحه برد كانون الثاني كالزمهرير، وشرعت أنفاسهما تكون ضباباً يحيط وجهيهما ما يلبث أن يتبدد، وأحس برطوبة الهواء تدخل إلى عظامه فانحنى وهو يسد طرفي المبذل على رقبته بيده اليسرى، والمسدس يلمع في يمناه، في الوقت الذي كان صوت الآذان يتقطع هادئاً عميقاً في قرارة الظلام، حي على خير العمل.
كانت تحاذيه مكفهرة، وهي تتساءل مع نفسها بصوت خفيض عمن يأتي في مثل هذه الساعة، وقبل أن يقتربا من باب السياج الحديد العالي كانت قد فرزت مفتاحه ومفتاح القفل الضخم من حلقة المفاتيح، تجمدت أصابعه وهو يفتح قفل الباب، لكنه أبقى على السلسلة الضخمة وقفلها، دفع إحدى صفحتي الباب فانفرجت فتحة بضعة سنتمترات، استطاع أن يرى من خلالها رجلاًً في الأربعينات، معطف عسكري، عينان سوداوان، ابتسامة واسعة لم تستطع محو تعب مغروس في ملامح مرهقة، سيارة مار سيدس سوداء، اقترب من الفتحة: أهلاً وسهلاً.
- افتح..لا تخف..
- من حضرتك؟
- من مجلس ديوان الرئاسة.
كيف اندفع من قلبه ذلك النسغ الدموي الساخن الحاد الذي مرق كالسهم بسرعة الضوء لينغرز في صدغه، اختفى البرد، طفق يعرق، التصقت به لتقضي على الرجفة التي كادت تؤدي بها، ومن دون شعور حشرت عينيها في فتحة الباب لترى من يتكلم، رددت وهي تتشبث بسلسلة القفل كي لا تتهاوى، بينما أخذ فمها يبلع مخارج الكلمات: مجل ..ســ.. رئأســ
وجاء صوت العسكري من وراء صفحة الباب الحديد المثلجة مع ابتسامة مطمئنة:
- لا تخافوا..لا يوجد شيء..إن هي إلا دقائق..تفضل معنا.
- أين ..؟
- إلى ديوان مجلس الرئاسة!
نبرت بصوت عاد إلى طبيعته لكنه مازال يرتجف:
- لماذا لا في الصباح.
كادت ابتسامة العسكري تتشظى لولا إصراره على إكمال مهمته على خير وجه، ضغط على نفسه، تصنع الابتسامة، قال:
- السيد الرئيس بنفسه طلبه..
جمد في مكانه، حدق بالعينين السوداوين من وراء فتحة الباب، ثم نقل نظره إلى زوجته، فغامت عيناها، كادت تبكي، لكنها تمالكت أعصابها، سأل:
- لماذا؟
- خمس دقائق فقط..لا أكثر.
وخيل إليه أنه أمضى فترة طيلة وهو يفكر فيما عساه يفعل، وأن تأخراً كهذا يشعر الطرف الآخر بتردد يفسر في مواقف مماثلة على أنه شك مرفوض، فهذا العسكري الذي يقف أمامه في هذه الساعة من الليل المتجمد لا يعرف غير التنفيذ، وأنه لابد أن يفقد صبره بعد حين، قال ببطء فرضه عليه الخوف والتداعي :
- انتظر..أغير ملابسي.
- على كيفك.
توجه نحو الداخل، أحس بالبرد فجأة، تحركت قبله، سبقته وهي تنتفض من الغيظ، تداعت بعصبية، قالت ما أن أغلقت الباب:
- أهذا ما تريد؟..من يعرف ماذا سيفعل بك؟ لابد أنهم كانوا يراقبوننا..رأوا الدكتور إبراهيم عندنا البارحة، والآن استدعوك، ابن عمه ووالد زوجة ابنه الأكبر يموت بين يدي دكتور والدكتور لا يعاقب؟ من يصدق؟ أنحن نعيش في أوربا؟ في الأحلام؟
- لماذا يعاقبونه؟ ماذا فعل؟ حكى لي القصة كلها غير مرة، من الألف إلى الياء، حكاها أمامك، كنت تضحكين، عندما جاؤوا براكان محقان مزبان كان قد مضى على العضة أربعين يوماً كاملة..ماذا كان بوسعه أن يفعل، قضى الفايروس على جهازه العصبي! ماذا كان بإمكانه أن يفعل؟
صوت الدكتور إبراهيم، تقاطيعه وهو يروي الحادثة، تفاعل وديعة روجته معه، كل تلك أمور لا تنسى: ظننت ذلك موجة قصف جديد، أبواق سيارات الحرس.. واع ويع، واع ويع تصم الآذان، أشبه بصفارات الإنذار ، المسلحات، قلت مع نفسي متى يخلصنا الله من القصف..كل ربع ساعة موجة؟ طوقوا المستشفى، اندفع الجنود كالزنابير ببيرياتهم الحمراء ورشاشات الكلاشنكوف.. بلحظات ملؤوا المستشفى، السيد راكان محقان مزبان، الرفيق راكان محقان مزبان، الفريق الركن راكان محقان مزبان.
- أسمعت به من قبل؟
ضحك الكل:
- لا والله.
- ولا أنا..من أين طلع علينا هذا المزبان؟
- لم يسمع به أحد..يقال راعي ووصل إلى رتبة فريق..
- انفتح الباب برفسة قدم كادت تخلعه، دخل مقدم قوات خاصة مدجج بالسلاح، كنت أفحص مريضة عجوز، أخذ ينظر إلي بتحدٍ، لم أدر ماذا أفعل! تركت المريضة، لا يوجد أي مجال في الممرات يمكن أن يتحرك به ممرض أو ممرضة..فقط جنود، قبل أن أرى راكان محقان مزبان قلت للمقدم: شُف ..لا نستطيع أن نفعل أي شيء ما لم يخرج الجنود من المستشفى، فتشوا جيداً ثم اخرجوا.
كان منتهِ رواله يتساقط، عيناه حمراوان، حرارته عالية يكاد جسده يلتهب، كانوا يخافون منه، قالوا لي إنه كان يعض كل من يقترب منه، ما خلّى واحداً: زوجته، ولدين من أولاده، ابنته ثم التفت إلى الحيوانات..عضّ كلبه ثم حصانه من أذنه، حبسوه في غرفة حتى سقط على الأرض من الإعياء، ثم جاؤوا به بعد أن همد، عزلناه، ذهبت بنفسي إلى مزارع الرئاسة التي لا تغيب عنها الشمس، حيث مملكته العظمى، رأيت أغنام وماعز وأبقار تسد الأفق..كان يشرف على ماشية لا يمكن أن تحصى، إن قلت ملايين فأنا لا أبالغ، جلبنا مصل التطعيم بالهليكوبتر من الأردن، طعمنا زوجاته الأربع، أولاده وأحفاده السبعة والثلاثين، رعاته الذين يزيدون على المئة، قلت لهم سيقضي في خلال يومين، يجب حجزه في الكرنتينة، قالوا لا يجب أن نُخرجه من المستشفى، ليس الأمر بيدنا، على مسؤوليتكم؟ نعم على مسؤوليتنا، وقعوا! أين؟ هنا. أخرَجوه، عندي توقيع أبنائه، خدَّروه، وأخذوه..
- لكنهم سينتقمون من الدكتور إبراهيم وسترى..
- لماذا تبالغين؟ اليوم اتصل بي الدكتور إبراهيم من المستشفى..روى لي أكثر من نكتة ..ضحكنا ..
- لماذا إذاً يستدعونك وفي هذه الساعة؟
- أأعرف الغيب؟
- تعرف أو لا تعرف..أنت مقصر..هذه عشر سنوات أتوسل بك أن نلحق بأولادنا في الخارج، نخلص من هذه الحياة، كل يوم نموت ألف مرة!..نصبّح و,,نتشاهد،، نمسّي و,,نتشاهد،، ألا تقول لي ماذا يوجد هنا لتبقى؟ أولادك، أصدقائك، كل معارفك خرجوا إلا أنت! فقط قل لي لماذا نحن هنا؟
- هذه قضية أخرى..خمسون مرة قلت لك إنني سأبقى، سأموت هنا، هنا ولدت وهنا أموت..لن أخرج..تريدين السفر سافري.. الهجرة هاجري..الزيارة اذهبي..أنا لا..
طفق يرتدي ملابسه بهدوء، أختار ربطة حرير فيها خطوط حمر نارية مع زرقة سماء صافية تتناسب وبذلته الكحلية الغامقة، رش على وجهه عطره المعتاد، بينما طفقت تبكي:
- ماذا سيعلون بك؟
ثم مسحت دموعها قبل أن تخرج لتوديعه، لم تشعر ببرودة الهواء القارس الذي لفحها في المرة الأولى لكنها استغرقت وقتاً طويلاً في إغلاق قفل السلسلة الكبير المتجمد وراءه، لم تعد تملك القوة التي أودى بها التجمد والاضطراب، بصعوبة كبست القفل، ثم تسمرت واقفة والوحدة تتحول في حدقتيها إلى رعب.
تحركت سيارة المرسيدس، ثم تحركت وراءها سيارتان عسكريتان أخريان لم تدرِ أين كانتا مختفيتين، انقبض قلبها، طفقت تبكي من جديد، بينما كانت ملامحه ونظرته المستفزّة وهو يلتفت نحوها، يبتسم ويؤشر بيمناه قبل أن يركب خلف السائق آخر ما انطبع في ذاكرتها لأنها اكتشفت أن زجاج السيارة كان أسود شديد الإظلام، أأشر إليها ليطمئنها أم ليودعها؟ يا لمصيبتها؟ فقط لو علمت ماذا كان إحساسه؟ قلب الصادق دليله، إن كان مطمئناً فلن يصيبه أذىً، أليس هذا ما كان يردده أمامها؟ لهذا ابتسم، ابتسم بثقة، أشر بيده ليخبرها بأنه سيعود، كان متأكداً من العودة، سيرجع، اقتنعت بذلك وكان هو أيضاً متأكداً، لذا ابتسم عندما طلب منه العسكري أن يربط الحزام، وحينما اعترض: ,,لكننا في الخلف،، أجاب العسكري: أوامر..ولم يزد.. بعد ذلك أخرج عصابة سوداء من جيبه، رجاه بلهجة حرِص أن تكون بالغة التهذيب، أن يسمح له بربط عينيه، دق قلبه لكنه استبعد مخاوفه عندما وجدهم لم يقيدوأ يديه من الوراء، ماداموا لم يفعلوا ذلك فالأمر ليس بمهم، لم يشعر بالخوف على نفسه بقدر ما كان قلقاً عليها، وحدتها، رعبها، ابتعادها عن أولادها، ضياعها في حالة اختفائه! يا لتعقيدات الحياة! أي فخ مظلم ينتظر الإنسان ما أن تلده أمه؟ يا لضعفه وهشاشته وسخفه! قبل ساعات كان صاحب ومدير أرقى إحدى ثلاث مستشفيات في البلد، لكنه الآن معصوب العينين لا يملك من مصيره إلا ما تملكه الشاة وهي في طريقها إلى الذبح، طفق الخوف يسيطر عليه، لا بل أحس برعب حقيقي عندما شرعت السيارات الثلاث تتسابق بأقصى سرعة مستغلة خلو الشارع وأصوات فراملها القوية تنتهك بفظاظة هدوء الليل، عندئذ أدرك لماذا أصر العسكري على تثبيت الحزام بالرغم من أنه كان في الخلف، طفق رغماً عنه يتمايل ذات اليمين وذات اليسار في كل انحناءة للسيارة، يصطدم بالباب مرة وبالعسكري الجالس إلى يمينه مرة أخرى، وأدرك أن ما يجري سنة متبعة لا محيد عنها فلطالما شاهدهم يمرقون كالصواريخ من دون مراعاة للسرعة المقررة في الشوارع محطمين سياراتهم وسيارات الآخرين وأحياناً كثيرة أرواحهم وأرواح من يلقيهم الحظ في طريقهم.
وخيل له أنه يسير مرغماً بطريق لن ينتهي إلا بالمرارة والفجيعة فاستسلم للقدر، ليُرِحْ أعصابه فالمقدر يجب أن يجري إن لم يكن على أيديهم فبالقصف اليومي، أو بجريمة يرتكبها أحد الجائعين، أو باصطدام السيارة وهي تطير فوق الشارع، كل الطرق تؤدي إلى الموت، أراد أن يضحك عندما نبت على لسانه بيت الشعر الذي حفظه قبل نصف قرن: من لم يمت بالسيف مات..كأن الشاعر يعيش معه! ليُرِحْ أعصابه مهما يحدث فطيط..انزلق إلى الأمام، أسند رأسه على المتكأ، ثبت يمناه بظهر مقعد السائق وشد يسراه على اليدة الموضوعة فوق زجاج الباب ليتفادى قدر الإمكان الاندفاعة التي ستقذف جسمه إلى الأمام في ردة الفعل إذا حدث الاصطدام المتوقع، لم يدر كم استمرت تلك الرحلة المرعبة، لكنه عندما أزال العسكري العصابة السوداء من فوق عينيه، نظر إلى الساعة فوجد أن الطريق لم يأخذ سوى ثلث ساعة فقط، زفر بارتياح تبدد وهو يسمع صفارات الإنذار تنعق من بعيد، فحدق بالعسكري، لكن هذا أغضى نظره، ليشعره بأنه في مكان أمين لا يطاله التهديد والخوف والرعب، قال له قبل أن ينزل:
- أي كلمة ممنوعة مع أي شخص تشوفه، كل شيء ينقل بالصورة والصوت..دير بالك..أنصحك.
أحس بنوع من الاطمئنان، في الأقل هذا الكلام يعني أنه غير متهم، ترجل من السيارة فكاد يقتلعه تيار هواء جليدي ينفذ إلى الداخل، تيار بارد كالسيف يقطع العظام، لم تستطع الرطوبة أن تخفف من حدته، من أين يأتي هذا الهواء؟ لم يلتفت ليتفادى سوء التفسيرات، وجد نفسه في كراج، إسمنت رمادي كريه مسود، أنوار صفراء خافتة، انقبضت روحه، مئات السيارات المتراصة من جميع الموديلات، حديثة، جديدة،لم تتأثر لا بالحرب ولا بالحصار، كان مازال يرتجف من الزمهرير بينما انحنى العسكري على بعضه بالرغم من معطفه الثقيل، وخيل إليه إنه إن بقي في الكراج خمس دقائق فسيقتله الزمهريز، وتساءل مرة أخرى مع نفسه من أين يأتي الهواء؟ ولماذا هو هنا بمثل تلك القوة؟ لابد أنهم خارج المدينة! لكن أين؟ أشار إليه العسكري أن يسير أمامه وهو يسرع ليتوقف بعد بضع عشرة خطوة قرب باب مصعد من الصفيح الرمادي اللامع، ضغط على زر فانفتح الباب لينقذهما من جنون الريح القطبي، غرفة المصعد دافئة كبيرة أنيقة حديثة، لم يدر لماذا أحس أنها مألوفة لديه، تتسع لأكثر من عشرة أشخاص، تنفس بارتياح مرة أخرى، أين رآها؟ واجهتان من المرايا، وواجهتان من خشب الساج على كل واجهة صورتان من آثار المتحف القديمة البارزة، أشبه بغرفة مصعد فندق فاخر أقام فيه منذ سنين، أين؟ يا للذاكرة الميتة! أخذ المصعد ينزل بسرعة قياسية، ربما ثانية أو بعض ثانية، وعندما توقف فتح من الجهة المقابلة على ممر طويل، تُزين جدرانه المصبوغة باللون التبني لوحات زيتية منقولة لعباقرة الفن العالمي، بينما كانت الأرض مفروشة ببساط حديث من نفس لون الحائط، مرة أخرى أحس بأن المكان مألوف لديه، أين؟ تفضل، صوت العسكري نبهه، مد يده أمامه، في الممر وجد رجلا قصير القامة أصلع ممتلئاً حليق الذقن والشارب يضع على عينيه نظارة سوداء، يرتدي ملابس الجيش الشعبي الخضراء بعلامتها المميزة على الكتفين:
الدكتور؟ قال الرجل ذلك بلهجة سؤال وصوت رفيع حاد ووجهه جامد يتجه نحو نقطة واحدة معينة كصنم نحت في مكانه على هذه الوقفة منذ الأزل، فأدرك للتو أن الذي أمامه أعمى، أجاب: نعم.
فجأة أحس بالمصعد يختفي من ورائه هو والعسكري، احتار كيف يتصرف مع هذا الأعمى، كان وجهه يتجه نحو اليسار، مد يمناه، تفضل، فعلم أنه يجب أن يسير بمحاذاته، كان الجو أكثر من دافئ، تخلص من معطفه، وضعه على ساعده، لحظ ثمة نقاط عرق تلمع في صلعة الأعمى التي دهم الشيب ما تحتها من فودين وقذال، وعندما انحنى الممر بعد نحو عشرين متراً توقف الأعمى عند باب مصعد آخر، بحركة بارعة ضغط على الزر، أهو أعمى تدرب على هذه الحركة؟ أم مبصر يتصنع العمى؟ تفضل: انفتحت غرفة مصعد شبيهة بالأولى، نفس الصور الأثرية، نفس المواصفات، أيتعمدون إرباك القادم ليشعروه بأنه في مصعد واحد وغرفة واحدة؟ لماذا؟
نزل المصعد طابقاً آخر، ثم انفتح على الجهة الأخرى أيضاً ليستقبله أعمىً آخر؟ لولا أن الأعمى الثاني أطول من سابقه قليلاً لاتهم عقله، الملابس نفسها، الوجه الحليق، التقاطيع، ربما هما أخوان! لكنه كاد ينهار وهو ينزل خمس طوابق أخرى ليكرِّس النزول تكراراً يعيد العملية سبع مرات كاملات من دون زيادة أو نقصان، حتى إذ استقر في الطابق السابع تحت الأرض وجد بباب المصعد رجلاً نحيفاً مبصراً أسمر في الثلاثين، يرتدي زي ممرض، أشار له أن يتبعه، سار وراءه، بالنسبة إليه لم يتغير شيء بعد أن أوقف خليات عقله عن إلقاء الأسئلة، لماذا الانتقال من مصعد إلى مصعد؟ لماذا لا في مصعد واحد؟ ما مهمة العميان؟ لماذا اختيروا عميان بالذات؟..ألقى بعشرات الأسئلة التي تزاحمت في خليات الدماغ البطرانة في سلة المرحاض، أوقف ذهنه كلية عن التفكير، ليوطن نفسه على أنه نعجة..لم لا؟ مرة أخرى أحس بأن ممرات الفندق مألوفة وحميمة بالرغم من أنها بدت وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية، ثم بدأ ممر آخر تنتشر على يمينه وشماله أبواب غرف أحس أن وراءها من يراقب الممرات، لم تكن مسدودة، مواربة فقط، لا بل رأى أكثر من فوهة بندقية تتلصص من بعضها.
- تفضل.
فتح باب غرفة إلى اليسار، مغسلة فوقها مرآة كبيرة، سرير فحص، خزانتان، بضعة كراسي، منضدة عليها رزنامة وبضعة أوراق، طبيب، سماعة متدلية من رقبته، وجه باسم، عينان قهوائيتان واسعتان مرحتان، ملامح مألوفة لديه أيضاً كغرفة المصعد، كالممرات، لا ..بدأ عقله يختل! ما القضية؟ أكل ذلك حلم؟
- تفضل. .تفضل.
الممرض الشاب، ظل واقفاً وراءه، قال الطبيب وهو يدخل أصابعه في كفوف الفحص البلاستيكية:
- إنزع..
حدق به، ظل صامتاً ينظر إليه بذهول، كرر الطبيب:
- إنزع..أرجوك..
أخيراً وجد صوته:
- ملابسي؟
- نعم..
لم يتركه ليفكر..تقدم الممرض بحركة مدروسة سريعة، تناول معطفه بأدب، علقه على مشجب أنيق بلاستيكي أبيض، ثم تقدم منه بنفس الخفة وأمسك بسترته ليساعده على نزعها، ثم ابتسم وهو يفتح له ربطة عنقه، ويفك أزرار قميصه، فانيلتاه الاثنتان الصوفية والقطنية، ظهر صدره عارياً، شعر الصدر كله أبيض يختلف تمام الاختلاف عن الشعر الأسود للساعدين وما تحت الإبط، ثم أخذ الممرض يفتح حزام سرواله، دهش، نظر إلى الطبيب مستنجداً لكن هذا كان في عالم آخر، يحدق بتلفزيون مفتوح على برنامج عالم البحار، كوسج يتماوت لينقض على فريسة مخدوعة، وعندما لم يبق إلا سرواله الداخلي الصوفي ظن أن الموضوع انتهى لكن الممرض شرع بإنزاله مع اللباس، فمد يداه وتمسك بهما، لكن الطبيب ترك الكواسج، قال له ومع ابتسامة حميمة:
- كل شيء أستاذ.
ما دام قال له أستاذ فهو تلميذ له، تأكد من ذلك، ما اسمه؟ متى درسه؟لم يكن ذلك مهماً، كان يشعر بأنه يغوص في حمأة خزي سيلطخه طيلة العمر، أصبح عارياً عرياً كاملاً، غطي ما بين فخذيه بكفيه والطبيب يبتسم، لماذا كل هذا؟ أهذه هي خمسة الدقائق التي وعد بها العسكري؟ أشار له أن يتمدد على السرير، فتقدم الممرض ونزع ساعته، تراجع إلى الوراء، تمدد على ظهره ويداه على وسطه، وقد تغضنت تقاطيعه، نظر إلى السقف وجد كامرتين، لماذا ثنتين؟ ألا تكفي واحدة؟ ربما لكي تنقل ملامح كلا المتكلمين، أغمض عينيه على صوت العسكري يحذره: أي كلمة ممنوعة مع أي شخص تشوفه، كل شيء ينقل بالصورة والصوت..دير بالك..أنصحك.. كاد يبكي، طلب منه أن يفتح فمه ويخرج أقوى صوت يقدر عليه، فأغمض عينيه كي لا ينظر إلى الكامرتين، ثم أحس بالطبيب ينقل سماعته بسرعة وكأنه يريد أن ينتهي من المهمة بأسرع وقت ممكن، لماذا يفحصونه وهو الطبيب؟
- انقلب..
انقلب وهو عارٍ..يا للخزي! الطبيب وحده يهون، لكن ما بال من يتفرج من خلال الكامرتين؟ كان يتوقع مكان انتقال السماعة قبل أن تتحرك حتى إذ ظن أن فحصه انتهى أراد أن ينهض ليرتدي ملابسه، لكن الطبيب ضغط على كتفه:
- لحظة أخرى.. أستاذ.
أحس بأصابع الطبيب تعبث في مؤخرته، اضطر بضع مرات ليفعل مثل ذلك مع ثقوب الآخرين، وضع بيده التحاميل لطفليه عندما كانا رضيعين وكانت تلك الوسيلة الوحيدة لتخفيض الحرارة، ووضعها لنفسه عندما أصيب بالأنفلونزا القاتلة في باريس قبل ربع قرن، وكان من المستحيل أن يشفى من دونها، لكن لماذا يفعل الطبيب به ذلك؟ ألا بد من فحص الدبر؟ ما الغرض؟
- انتهينا أستاذ.
قفز إلى الأرض، أراد أن يسأل فأسكته تحذير العسكري، هرع إلى المشجب ليتناول ملابسه الداخلية لكن الطبيب منعه:
- لا..
ولم يشعر إلا والممرض يلفه بصدرية قطنية بيضاء كالتي يرتديها هو، ثم ناوله سروالاً من نفس القماش، وحذاءً أبيض من المطاط، واقعي على الأرض يساعده على إدخاله في رجليه.
- تفضل..
خرجا من غرفة الفحص إلى الممر، سارا بضعة خطوات وتوقفا أمام باب زجاجي أدكن عريض من صفحتين سرعان ما انفتح، فأشار الممرض إليه أن يدخل وحده، بينما ظل هو واقفاً في مكانه، وما أن خطا خطوة واحدة حتى أغلق الباب وراءه آلياً، فتقدم بضع خطوات في قاعة متوسطة أنيقة لينفتح أمامه باب زجاجي آخر على قاعة كبيرة ينسدح في وسطها على كرسي هزاز رجل في منامة حرير خضراء دكناء، على بعد أربعة أمتار منه فقط، أمامه تلفزيون ضخم يعرض مصارعة حرة لعملاق ذي شعر طويل وآخر ذي جسم حديدي العضلات، كان المنسدح مغمض العينين، يتأرجح بتؤدة، لم يشخصه إلا بعد أن ارجع بصره، كادت دماؤه تتيبس، مرة أخرى في هذه الليلة يندفع نسغ الدم نفسه ساخناً حاداً من قلبه كالسهم وبسرعة الضوء لينغرز في صدغه، ويرفع حرارته، عاد السؤال المهم ينتفض في داخله، لماذا أنا هنا؟ استمر المقعد يهتز بالمنسدح، لم يفتح أجفانه، أسارير متعبة مرهقة، بشرة سمراء مصفرة تميل إلى الزرقة، سواد كثيف تحت العينين.. في صدر الغرفة سرير عريض، وإلى اليمين مكتبة كبيرة على طول الحائط الذي يتجاوز عشرة أمتار، في رفها العلوي بضعة كتب، أما الرفوف الأخرى فمليئة بالتحف النادرة والتماثيل الأثرية، بينما كانت الجهة اليسرى واجهة زجاجية لحوض ماء على طول الغرفة يبدي أسماكاً نادرة مختلفة الألوان والأحجام.
لم يعد باستطاعته السيطرة على أعصابه إلا بصعوبة، وقدر أنه سينهار إن استمر الوضع بضع دقائق أخرى، لكن المنسدح نطق وبهدوء ومن دون أن يفتح عينيه:
- هل تنتقل عدوى الكَلَب بوساطة الهواء؟
لم يفهم السؤال، بالرغم من وضوح الصوت والكلمات، ماذا يقصد؟ ارتبك، لم يدر بماذا يجيب! كما لم يعرف كيف خرجت الكلمة من فمه:
- نعم؟
ظلت أجفان المنسدح مغلقة،لم ينظر إليه، لم ينظر إلى التلفزيون حيث العملاق ذو الشعر الطويل يمطل الرجل الحديد أرضاً ويشد ذراعيه، ولا إلى تلك السمكتين البنفسجيتين الرائعتين النادرتين تقبل الواحدة الأخرى بفمها قبلة طويلة حسدها عليها وهو في هذا الموقف، ظلت عينا المنسدح مطبقتين:
- هل تنتقل عدوى الأنفلونزا بالهواء؟
- تعتمد على البعد.
- كما في وضعنا..نفس البعد.
- نسبة عشرة بالمئة.
- والكَلَب؟
- ما به؟
- أ,,يعدي،، بالهواء؟
- لا ..
- بالمصافحة.
- لا.
- أأنت متأكد؟
- نعم.
فتح المنسدح عينيه مرة واحدة ثم أغلقهما، كانت كافية ليلحظ احمرارهما، لكنه لم يستطع أن يميز أكان ذلك الاحمرار مرضاً مزمناً أم من تأثير السهر والإرهاق؟ في تلك اللحظة كان عملاق التلفزيون ذو الشعر الطويل يقفز متراقصاً منتشياً على ظهر خصمه رافعاً يديه إلى الأعلى، بينما ابتعدت السمكتان البنفسجيتان عن الواجهة، أين ذهبتا في ذلك الحوض الكبير؟
لم يدر كيف أشعر المنسدح الآخرين أن المقابلة انتهت، فلقد فُتح الباب الزجاجي من خلفه، وسمع صوتاً قادماً من بعد:
- تفضل دكتور..تفضل.
فاستدار إلى الوراء، وعندما أصبح في الغرفة لم ير الطبيب، ولم يدخل الممرض ليساعده، لبس ملابسه وحده وبسرعة، وجاشت نفسه، وتمنى لو يستسلم للبكاء لولا الكامرتان اللتان تنقلان كل شيء، وفي اللحظة التي ربط فيه شريط حذائه، دخل الممرض:
- تفضل؟
- أين؟
- إلى البيت.
اعتدل، خطا إلى الخارج غير مصدق والرغبة بالبكاء مازالت تحشوَ صدره وأعماقه وتسيطر على كل جسده.
1999

عبلة محمد زقزوق
05/01/2007, 11:28 AM
مرور أولى للمصافحة .... لحرف وسرد ممتع
تقديري وإحترامي

ايمان حمد
05/01/2007, 02:27 PM
http://www.arabswata.org/forums/showthread.php?p=26181&posted=1#post26181

الترجمة الأنجليزية هنا

قد اكتشفت بعد قراءتها باللغة الانجليزية انها منشورة بالعربية ايضا