محمد التهامي بنيس
21/03/2009, 02:11 PM
فاس وفأس القهر
حال الأحياء القديمة
بقلم . محمد التهامي بنيس
ما أن استأنس بالوضع وألف ما عليه الحال لأنه يدرك أن ذلك جزء من ثقافة الأحياء القديمة , تذكر منها ساحة العشابين و سأل عن سينما الهلال التي حضنت مرحلة من صباه , وما أن وصل إلى بابها حتى هاله مصيرها وما آلت إليه , فقد تحولت إلى ما ليس دكانا وليس مقهى وليس إسطبلا وليس خما للدجاج , بل هي كلها في واحد , العفن والوسخ والضيق , فتذكر ما قالته زوجته عن فاس بعد زيارتها العائلية قبله بشهور : إنك سترى ما لا تحب أن تراه في حياتك , وها هو يرى بعضا مما لا تسر رؤيته
فلم تكن رغبته في رؤية هذه القاعة , إلا مدخلا أملته ذكريات الصبا , أما الهدف من الزيارة فهو استطلاع مشاهدة ومعرفة مآل 3144 بناية عتيقة مهددة بالانهيار وتتفاوت درجات خطورتها , إن بعضها تم ترحيل الأسر منه بالفعل بدعوى أنها لم تعد قابلة لأي إصلاح أو أي ترميم , ولكن ما هو التغيير الذي لحق 19 بناية ذات القيمة التاريخية والمعمارية وتقطنها عشرات الأسر , كما يستغل حرفيون ومهنيون أخرى , لا تقل أهمية عن أنها تراث إنساني وتستعمل للسكن والامتهان التقليدي وعددها حوالي 53 بناية , فالزيارة لمختلف الأحياء أكدت أن ما تم إنقاذه هو معلمة دارعديل والمدرسة البوعنانية والبرج الشمالي الذي أصبح متحفا رائعا والبرج الجنوبي الذي تستغله شرفات فاس في أنشطة سياحية موسمية ونادرة
يريد صديقي أن يلمس المجهود الحقيقي لتأهيل المدينة في شأن إنقاذ أرواح مواطنين أبرياء , لو كان لهم مأوى غير هذه المنازل الاضطرارية لما اختاروا المكوث فيها وشبح الموت يلاحقهم متحالفا عليهم مع القهر والظروف الاجتماعية المتأزمة والإهمال , فهل سيبقى محكوم عليهم بالانتظار أو اللحاق بمن سبقوهم ممن انهارت عليهم بيوتهم , كما حدث عند انهيار منزل فوق سطح مسجد عين الخيل وانهيار منزل بالنواويل وعمارة في ظهر الخميس وقبل ذلك ظهر الريشة و . و . ..
انطلقت إذن وصديقي أرشده إلى بعض الدروب والأزقة , وكم كان يتردد خشية من دخول بعضها قناعة منه أن الركائز والأعمدة المنصوبة تحتها صارت عرضة للسرقة مما جعلها ناقوس خطر يؤجل حدوث كارثة في أية لحظة والتي - لا قدر الله – ستخلف مقبرة جماعية
في هذه الحال من بدء زيارة الرعب والرعشة والقلق و دخلنا زقاقا مدعما تنبعث منه أدخنة خفيفة , اخترق هواؤها أنفه برائحة الكباب فتذكر " الكواح الفواح " وانفتحت شهيته للأكل , وطلب ربع خبزة وست قضيبات كباب , ما أن دفع الثمن وقضم لقمة حتى خطف الخبز من يده شاب مشرد معتوه ونحيل , حاول الجري وراءه لبضع خطوات , لكنه ذهل أمام وقوف الشاب عند رأس شيخ هرم لا يقدر على الحراك واقتسم الربع معه , أخذت ضيفي الشفقة فعاد مهرولا عند صاحب دكان الكواح وطلب خبزة مملوءة بالكباب , وهرع إلى حيث الشيخ في زقاق يعج بما لم يلفت انتباهه من قبل , يعج بالمشردين والمتسكعين من مختلف الأعمار وبينهم نسوة , فامتدت إليه أيادي كثيرة لكنه لم يلب سوى حاجة أربعة, بعد تقسيم الخبزة أربعة أرباع , وطلب منهم اقتسام اللقمة مع آخرين لكن كلماته ضاعت وسط أصوات المستجدين وهم يصيحون : وأنا . الله يعطيك الخير . عشي وليداتي .الله يرزقك من عنده , وحيث أنه لا يستطيع مجاراة الطلبات تألم أكثر وأولاهم ظهره عائدا وتركهم يأكلون بعض الخبز مع أشباح وحدتهم وغربة زمانهم ومكانهم , وسألني أهذه حال فاس اليوم ؟ ثم استطرد متسائلا : ترى أيهم أصدق . واقع حال فاس ولو من خلال هذا الزقاق , أو الإحصائيات التي تدعي أنه لم يعد في فاس سوى 1500 امرأة متسولة ومشردة و 1400 طفل مشرد وما لا يزيد عن 700 متسول ؟ إذا كانت هذه حال بقية أحياء فاس فإن العدد سيكون أضعافا . فعدد أزقة فاس القديمة وحدها هو 9600 زقاق وفي كل زقاق أكثر من مشرد . هل انعدمت وسائل معالجة هذه الظاهرة الاجتماعية التي ما لبثت تتفاقم بهذا الشكل المثير ؟ ما ذا تفعلون في مجلس المدينة ؟ ألم يدع شباط وهو رئيس يرتاح للقب العمدة . أن للمجلس فائض وأن وجه المدينة تغير وأن الذي ينكر ذلك إما أنه جاحد أو غير مبصر , هل تراه يقول ذلك بوعي أو لأنه هو الذي لا يبصر ؟
قطعنا مسافة ابتعدنا فيها عن المكان , وأنا ألفت انتباهه إلى بعض المعروضات التي تزين الدكاكين وقد حولت الأحياء من حالة هدوء إلى حالة صخب دائم وحلت محل عدة صناعات يدوية اندثرت رغم أنها مصنفة ضمن التراث الإنساني العالمي كالحدادة والجواية " صناعة أغشية الخناجر ", والقبابة والخراطة لم يبال صديقي لحديثي مكتفيا في أحسن الأحوال بإيماءة من رأسه , لأن الابتعاد عن المكان لم ينسه المشهد وقد أخذت منه حالة التقزز نفسيا , وطلب مني الانتقال إلى حيث يقل الازدحام والضجيج , واقترح تناول أكلة خفيفة في حي يذكره جيدا , قريب من ظهر المهراز . كثيرا ما كنا نتناول فيه وجباتنا أيام الدراسة بالجامعة
محمد التهامي بنيس
يتبع
حال الأحياء القديمة
بقلم . محمد التهامي بنيس
ما أن استأنس بالوضع وألف ما عليه الحال لأنه يدرك أن ذلك جزء من ثقافة الأحياء القديمة , تذكر منها ساحة العشابين و سأل عن سينما الهلال التي حضنت مرحلة من صباه , وما أن وصل إلى بابها حتى هاله مصيرها وما آلت إليه , فقد تحولت إلى ما ليس دكانا وليس مقهى وليس إسطبلا وليس خما للدجاج , بل هي كلها في واحد , العفن والوسخ والضيق , فتذكر ما قالته زوجته عن فاس بعد زيارتها العائلية قبله بشهور : إنك سترى ما لا تحب أن تراه في حياتك , وها هو يرى بعضا مما لا تسر رؤيته
فلم تكن رغبته في رؤية هذه القاعة , إلا مدخلا أملته ذكريات الصبا , أما الهدف من الزيارة فهو استطلاع مشاهدة ومعرفة مآل 3144 بناية عتيقة مهددة بالانهيار وتتفاوت درجات خطورتها , إن بعضها تم ترحيل الأسر منه بالفعل بدعوى أنها لم تعد قابلة لأي إصلاح أو أي ترميم , ولكن ما هو التغيير الذي لحق 19 بناية ذات القيمة التاريخية والمعمارية وتقطنها عشرات الأسر , كما يستغل حرفيون ومهنيون أخرى , لا تقل أهمية عن أنها تراث إنساني وتستعمل للسكن والامتهان التقليدي وعددها حوالي 53 بناية , فالزيارة لمختلف الأحياء أكدت أن ما تم إنقاذه هو معلمة دارعديل والمدرسة البوعنانية والبرج الشمالي الذي أصبح متحفا رائعا والبرج الجنوبي الذي تستغله شرفات فاس في أنشطة سياحية موسمية ونادرة
يريد صديقي أن يلمس المجهود الحقيقي لتأهيل المدينة في شأن إنقاذ أرواح مواطنين أبرياء , لو كان لهم مأوى غير هذه المنازل الاضطرارية لما اختاروا المكوث فيها وشبح الموت يلاحقهم متحالفا عليهم مع القهر والظروف الاجتماعية المتأزمة والإهمال , فهل سيبقى محكوم عليهم بالانتظار أو اللحاق بمن سبقوهم ممن انهارت عليهم بيوتهم , كما حدث عند انهيار منزل فوق سطح مسجد عين الخيل وانهيار منزل بالنواويل وعمارة في ظهر الخميس وقبل ذلك ظهر الريشة و . و . ..
انطلقت إذن وصديقي أرشده إلى بعض الدروب والأزقة , وكم كان يتردد خشية من دخول بعضها قناعة منه أن الركائز والأعمدة المنصوبة تحتها صارت عرضة للسرقة مما جعلها ناقوس خطر يؤجل حدوث كارثة في أية لحظة والتي - لا قدر الله – ستخلف مقبرة جماعية
في هذه الحال من بدء زيارة الرعب والرعشة والقلق و دخلنا زقاقا مدعما تنبعث منه أدخنة خفيفة , اخترق هواؤها أنفه برائحة الكباب فتذكر " الكواح الفواح " وانفتحت شهيته للأكل , وطلب ربع خبزة وست قضيبات كباب , ما أن دفع الثمن وقضم لقمة حتى خطف الخبز من يده شاب مشرد معتوه ونحيل , حاول الجري وراءه لبضع خطوات , لكنه ذهل أمام وقوف الشاب عند رأس شيخ هرم لا يقدر على الحراك واقتسم الربع معه , أخذت ضيفي الشفقة فعاد مهرولا عند صاحب دكان الكواح وطلب خبزة مملوءة بالكباب , وهرع إلى حيث الشيخ في زقاق يعج بما لم يلفت انتباهه من قبل , يعج بالمشردين والمتسكعين من مختلف الأعمار وبينهم نسوة , فامتدت إليه أيادي كثيرة لكنه لم يلب سوى حاجة أربعة, بعد تقسيم الخبزة أربعة أرباع , وطلب منهم اقتسام اللقمة مع آخرين لكن كلماته ضاعت وسط أصوات المستجدين وهم يصيحون : وأنا . الله يعطيك الخير . عشي وليداتي .الله يرزقك من عنده , وحيث أنه لا يستطيع مجاراة الطلبات تألم أكثر وأولاهم ظهره عائدا وتركهم يأكلون بعض الخبز مع أشباح وحدتهم وغربة زمانهم ومكانهم , وسألني أهذه حال فاس اليوم ؟ ثم استطرد متسائلا : ترى أيهم أصدق . واقع حال فاس ولو من خلال هذا الزقاق , أو الإحصائيات التي تدعي أنه لم يعد في فاس سوى 1500 امرأة متسولة ومشردة و 1400 طفل مشرد وما لا يزيد عن 700 متسول ؟ إذا كانت هذه حال بقية أحياء فاس فإن العدد سيكون أضعافا . فعدد أزقة فاس القديمة وحدها هو 9600 زقاق وفي كل زقاق أكثر من مشرد . هل انعدمت وسائل معالجة هذه الظاهرة الاجتماعية التي ما لبثت تتفاقم بهذا الشكل المثير ؟ ما ذا تفعلون في مجلس المدينة ؟ ألم يدع شباط وهو رئيس يرتاح للقب العمدة . أن للمجلس فائض وأن وجه المدينة تغير وأن الذي ينكر ذلك إما أنه جاحد أو غير مبصر , هل تراه يقول ذلك بوعي أو لأنه هو الذي لا يبصر ؟
قطعنا مسافة ابتعدنا فيها عن المكان , وأنا ألفت انتباهه إلى بعض المعروضات التي تزين الدكاكين وقد حولت الأحياء من حالة هدوء إلى حالة صخب دائم وحلت محل عدة صناعات يدوية اندثرت رغم أنها مصنفة ضمن التراث الإنساني العالمي كالحدادة والجواية " صناعة أغشية الخناجر ", والقبابة والخراطة لم يبال صديقي لحديثي مكتفيا في أحسن الأحوال بإيماءة من رأسه , لأن الابتعاد عن المكان لم ينسه المشهد وقد أخذت منه حالة التقزز نفسيا , وطلب مني الانتقال إلى حيث يقل الازدحام والضجيج , واقترح تناول أكلة خفيفة في حي يذكره جيدا , قريب من ظهر المهراز . كثيرا ما كنا نتناول فيه وجباتنا أيام الدراسة بالجامعة
محمد التهامي بنيس
يتبع