المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فينوس



ظلال
04/10/2006, 09:30 PM
[size="5"]فينوس( )
بجانب النافذة هنالك في خلف الستارة أختلس النظر كاللص، أحاول ترسيخ صورته في ذاكرتي، أَرسمها على ورقة وأحفرها كالنقش في قلبي، أراه جالساً هناك على مقعدٍ خشبي بوقارٍ ممسوحٍ بشيءٍ من الجرأةِ. أرى وجهه يرسلُ إليّ الشرارات تخترق الستائر والزجاج وقضبان الحديد والهواء المعشق برائحة الطّيب، تخترق كل هذا وتجرح قلبي لتدخل الأعماق وتستقر بين الأوردة والشرايين. يذكرني وجهه بقصيدة عابرة كتبتها، بدأتها بسؤال ولم أعرف الجواب: سيدي من أنت؟ سيدي من أين جئت؟
(ديما، يا ديما، هيّا أسرعي اقترب موعد إقلاع الطائرة، والدك ينتظر في السيارة)، (ها قد انتهيت يا أُمي).
أخذتنا طريق المطار معها إلى أن وصلنا باب الطائرة، عندها ودّعت عمّان ودّق جرس فرح في قلبي يُرنّم: سأعود بعد أسبوعين فانتظريني يا عمّان. قابلتني على باب الطائرة وجوه بشوشة اعتدتُ على رؤيتها في كل مرة أسافر فيها، (16 D) كان رقم مقعدي، سرقتني الحيرة برقم المقعد من عالمي إلى عالم الصدف الغريب، فللمرة الثالثة يكون لي نفس رقم المعقد، حلقت الطائرة وحلقت عيناي على أجنحتها تتفحص بكلّ دقة الغيوم ومن ثم مساحات الأرض الشاسعة محتضنة بيوتاً بحجم بيوت النحل، أضحك في سرِّي وأقول، إذا كانت الأرض هكذا من بعد مئات الكيلومترات، فكيف هي من مركبة فضائية عن بعُد ملايين الكيلومترات. (ديما، أتودين شرب القهوة)، (نعم يا أمي، أشكرك).
(أنا وشادي لعبنا على التل...) آه، ما أروعك يا فيروز، وما أروع صوتك الملائكي الذي يخترق الأعماق.
(بابا ديما، اخفضي صوت السماعة، صوتها مرتفع وهو يضر بصحة أذنيك). (حسناًً بابا، أنا آسفة).
(ضاع شادي... عشرين مرة إجا وراح الثلج). ثلاثة أيام ويصبح عمري عشرين ربيعاً وعندها أغني يا فيروز(عشرين مرة إجا وراح الثلج).
(الساعة الآن العاشرة وأربعون دقيقة خمسة دقائق ونكون في مطار بيروت الدولي، الجو في العاصمة بيروت معتدل، درجة الحرارة ثمانٍ وعشرون..الخ) التقرير المعتاد من كابتن الطائرة.
ها هي بيروت تبتسم، ها هي بيروت ترحب بي فاتحةً ذراعيها لتضمني، وأخيراً وللمرة الأولى انتعش لرؤيتها وشم رائحة هوائها الطيب الذي يبعث في نفسي عبارات الترحم على إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران، عمالقة الأدب العربي. قديماً، في رحلة الزمان الغابر، في طفولتي كنت أحلم بالسفر إلى بيروت لهدف كان في نفسي كالنشوة، هدف فاق أحلام الأطفال وخيالهم الواسع، هو رؤية وسماع صوت عمالقة الأدب إيليا وجبران، وكحال كلّ الصغار تمنيت أن يتحقق حلمي، لكن الصدمة كانت حين نسيت الطفولة خلفي بسنين وعلمت بخسارة ساحة الأدب لهم، فتحسرتُ على نفسي وتمنيتُ لو أنني عشت في زمن العشرينيّات والثلاثينيّات لأكحل عينيّ برؤيتهم وأزين أفكاري بنقدهم.
في فندق (بيركلي) في شارع الحمرا رتبت أشيائي بسرعة، لم أكن بحاجة إلى شيء في تلك اللحظة غير السير في الشوارع متأملة الناس والمقاهي والمحلات التجارية، أبي وأمي نائمان في الفندق، ليلة السفر تعبوا كثيراً بتجهيز الحقائب، فقررت التجول وشراء بعض الحاجيات وحدي، في المصعد نزل معي شاب بهي الطلعة في مثل عمري، طويل القامة، عيناه بنيتان حادتان كالسيف، شعره مائل إلى الشقار، ووجهه ملفوح بشمس الشاطئ التي أكسبته اللون الأسمر، تقاسيمه توحي بالغموض، أسئلة كثيرة في عينيه ولا أجيب عليها، ويبقى هو صامتاً.
أنسى موضوعه، أمشي وأُمتع نظري بما أرى، خطوة تتبع خطوة، لم أشعر بالتعب، ساعتان ولم أشعر بالتعب، لكن معدتي تنادي وتصرخ (ارحميني يا ديما، ضعي شيئاً فيّ). قررت تناول طعام الغداء، دخلت باب مطعم، جلستُ على طاولة، أحسستُ بوجود شخص يراقبني، وفعلاً ها هو ذلك الشاب، طاولته مُقَابل طاولتي وعيناه لا تملان التحديق، تناولت طعامي غير مكترثة وعدت إلى الفندق.
(ديما، أقلقتنا عليك، أين كنت)، (لا تقلقي يا أمي، كنت أتجول واشتريت بعض الملابس الرائعة، أنظري يا أمي) فتحت الحقائب ونثرت الأشياء على السرير، وبدأت أمي بتفحصها والسؤال عن ثمنها ولونها وسعرها والدكان الذي اشتريت منه ..و ..و ..و. ولم أسلم من تعليقات أبي المعتادة، وكما كانت وستبقى ردةُ فعلي دائماً كلمة واحدة (الموضة يا بابا، الموضة).
في المساء بعد أن لملمت الشمس أذيالها واختفت وراء الجبال، لملمت معها تعب السفر، فاستلقيت على السرير أطلبُ بعض الراحة، لكن السكون في جو الغرفة سرقني إلى رحلة أُخرى، رحلة ذاكرة الزمان، رحلة ذكرياتي في المدرسة، فقد كنت تلك الطفلة الشقية المفعمة بالحيوية والسذاجة، كل ذلك يمر أمام عينيّ المغمضتين كألبوم صور، وفجأة ظهرت تلك العيون وقطعت حبل أفكاري، تذكرتها تحدّق، رأيتها تتأمل، صمتها يتكلم ويعبر، بريقها يرسل الرسائل الخالية من الحروف والكلمات.
في صباح اليوم التالي، أفتح نافذة الغرفة، ها هو مرةً أخرى، يجلس على مقعد خشبي على رصيف الشارع، بيده فنجان، فنجان ماذا يا تُرى، قهوة أم شاي؟؟ أيشربها بسكر أم بدون سكر؟؟ ما اسمه؟؟ قد يكون اسمه رمزي أو الياس أو أدهم أو عدي، أو ... أو ... أو، قلبي بدأ بالخفقان، نظر نحو نافذتي، أحسّ بوجودي أراقبه، أزحت الستائر بحركة لا إرادية، ثم بدأت أختلس النظر من ورائها، محاولة ترسيخ صورته في شريط حياتي، ثم اختفى فجأة، لم أره طوال اليوم. في المساء (ديما العشاء جاهز)، (ماما، لا أشعر برغبة في تناول الطعام). (أيزعجك شيء، ماذا هنالك) (لا شيء، ماما لا شيء يزعجني).
حملتُ فنجان القهوة، نظراتي تسبقني إلى ذلك المعقد، لم يكن هناك، جلستُ وقلبي يرتجف، أحسست بوجود شخص يراقبني بحثت حولي ولم أجده، لم استطع تناول قهوة الصباح ولا حتى قطعة الشوكلاته المولعة بها، لكنني كنتُ أضع الفنجان على شفتيَّ وأعيده بلحظة بين كفيّ.
في اليوم الثالث شعرتُ بالنشوة تخترق مشاعري، لم أعلم لماذا! (سنة حلوة يا ديما) آه، كدت أنسى، اليوم عيد ميلادي وها أنا يا فيروز أُغني (عشرين مرة إحا وراح الثلج)، لم أره طوال اليوم، باقة ورد وبطاقة كتب عليها، (بجانب النافذة هنالك من خلف الستارة اختلس النظر كاللص أحاول ترسيخ صورتك في ذاكرتي، أرسمها على ورقة وأحفرها كالنقش في قلبي، أراك جالسةً هناك على مقعدي الخشبي، تبحثين حولك عن شيء، ولكنني آسف. أذكريني كلما دق جرس حزن في قلبك يودع بيروت).
مرّت الأيام ولم أره، عندما كان عمري عشرين ربيعاً وأربعة أيام، تركنا الفندق ونزلنا طرابلس، وعندما كان عمري عشرين ربيعاً وأحد عشر يوماً عدتُ إلى مطار بيروت، حلمتُ به ينتظرني في المطار، يودعني ويهديني باقة وردٍ أخرى، لكن باقة الورد في يدي بقيت يتيمة. صعدت الطائرة، أتماسك نفسي وأًحبسُ دموعي أبقيتها تترقرق بين جفنيّ، ودعتُ بيروت بنظرة أخيرة، دق جرس حزن في قلبي، فتذكرته، فغلبتني الدموع وأنحدرت بغزارة.
3/2/1999 ظلال عويس