المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أتصمت العصافير ؟ - 10-



خليف محفوظ
27/03/2009, 02:17 PM
الفصل الخامس


قالت نوارة :
- آن لأولاد الحجلة أن يطيروا عن أمهم .

لم نفهم ، نظرنا في وجوه بعضنا ، ابتسامة عسيرة ارتسمت على وجهها ، و بدت كأنها ستبكي ، فأسرعت تقول :

-ستنقلون إلى الجناح المجاور ، سيشرف عليكم زملاء آخرون . انتهت مهمتي معكم .

ووجمنا ساكنين ، لم نكن نتوقع ذلك ، كنت سأبكي فداهمني شعور بالخجل . كان رأسي يدور ، و بدا للحظة أنها ليست نوارة التي تخاطبنا ، إنما هو حلم من الأحلام المزعجة ، و أن نوارة ستبقى معنا كما وعدت ، و لا يمكن أن يفصلونا عنها .

و غمرني الشعور بالخجل ثانية ، أدركت أننا نكبر ، لم نعد أفراخا بحاجة إلى أمهم . وهذا صديقنا أحمد قد أخذ الشعر ينبت واضحا على شاربيه ، و غلظت شفتاه في صورة توحي بالشراهة و قوة النهش ، فلا ينبغي لنا الآن أن نظل تحت رعاية امرأة ...
و انتبهت على كف نوارة تلامس شعري ، و تردني من شرودي :
-لن أقطع صلتي بكم ، سأظل أزودك بالكتب .

صارت نوارة تشرف على المفطومين في جناح آخر ، و جاء المركز مدير جديد ، قيل عن الأول إنه عزل لفضيحة مالية ، و هذا الثاني يشبه الأول ، له هو الأخر كرش متضخم ، وله رأس أصلع كبطيخة نضجت ثم أشرفت على التلف . ولقد أوحى له رأسه الأصلع أن يحرمنا من الخروج إلى المدرسة
بأن يفتح لنا جناحا داخل المركز تابعا لإكمالية نجهل موقعها .

نقلونا إلى جناح المراهقين حيث نظام الحياة غير الذي عودونا عليه ، و حيث قاعة كبيرة للرياضة تملأ فراغنا خارج أوقات المدرسة .

صار يشرف علينا رجل متين البنية ، خفيف الحركة ، لا نراه إلا بملابس الرياضة ، يمضغ العلك و ينتظرنا حتى إذا دق الجرس استقبلنا بأنف مفلطح و عينين لا تقران على شيء ، يقودنا إلى المطعم نشرب قهوة المساء ، يستعجلنا ، يبدو دائما في عجلة من أمره ، يدخل بنا قاعة الرياضة ، يرهقنا حركة ، يمارس معنا ما تيسر و تعسر من من أنواع الرياضة ، جيدو ، كراتي ، ملاكمة ، قفز عال و طويل ، رفع الأثقال ، رمي الكرة الحديدية ، عدو ، جمباز ...
كانت القاعة مجهزة بوسائل عجيبة أثارت تساؤلنا من أين للمركز بها و كان مديره لا يكف يشكو قلة الميزانية ؟ و كان ذو الأنف المفلطح لا يبتسم أبدا ، يمضغ العلك ، ينفذ التمارين البيانية في رشاقة عجيبة ثم يستقيم واقفا ، لا يرمي علكه ، يبلع ريقه و يشير إلى أحدنا :
- هه ، حاول أنت .

لا يرضى أبدا .
- مهما أوتيت من حركة فهناك افتراض الأحسن منها ، يجب أن تتجاوز نفسك ، أن تفجر الكامن فيك .

كان يرهقنا ، كأنه يعدنا لأمر ما ، حتى كأن الرياضة هي هدفنا الأول قبل الدراسة ، سألناه ، علق باقتضاب :
- البنية الجسدية أولا ، العقل السليم في الجسم السليم .
ذكرني كلامه بما قاله لي الشيخ مسعود ذات مرة يحثني على الأكل ، الرجل بحاجة إلى جسم قوي ، فالمرء يصافح صاحبه يشد يده يهزه ، بينما هو في الواقع يسبر مدى قوته .

لأي شيء يعدنا هؤلاء ؟؟؟

سؤال صار يلح ، يخرق الذهن ، يوقظ عشرات الأسئلة .
ولم يكن يجيبنا عليه أحد في المركز ، كانوا يعيدوننا بمستقبل مضمون ، ثم يمضون في إرهاقنا رياضة و أشغالا .

صرنا نغسل ثيابنا بمفردنا ، ننظف مراقدنا ، نطوي أفرشتنا . و إذا خلونا إلى أنفسنا في الليل كان تعب الرياضة قد استنزف قوانا فنغرق في نوم عميق نفيق منه على جرس يعوي ذئبا جائعا .

بدا واضحا أنهم يحرصون على أن يستغرقوا كل وقتنا في الدراسة و الرياضة و الأشغال الخاصة ، كأنهم يعمدون إلى ألا يتيحوا لنا فرصة مواجهة أنفسنا وقد كبر فينا السؤال : من نكون نحن المتشابهين هنا يكرر الواحد منا الآخر في الصباح و المساء ؟ إلى أية جهة نولي وجهنا يوم ينفض المركز يديه و يقول : اليوم أكملت لكم مهمتي ؟؟؟

ليس هناك فسحة للتفكير . لكن للسؤال – مهما قمع – لحظات يتسلل فيها موجعا عند إغفاءة الجسد بعد طاولة الطعام في النادي ، في قاعة الدرس ، في نهايات الأسبوع ، في أحواض المغسل إذ نغرق أصابعنا في رغوة الصابون و ثنايا الثياب و يغرق الذهن سحيقا في غياهب مستقبل جهم ، و في عتمة ماض لا نملك منه شيئا .

أحسبنا هنا تماما مثل تلك الكباش التي كان يعدها الشيخ مسعود للبيع ، يعزلها في الزريبة عن بقية القطيع ، لا يخرج بها إلى المرعى ، يأتيها بالماء و الكلأ ، شهورا ، تمتلئ لحما ، تكتنز شحما ثم يدفع بها إلى سكين الجزار .

و إننا هنا لنمتلئ ... ننفتل ، نأكل بشراهة ، صاحبنا أحمد يطحن الخبز بأضراس تكسر الحجر ، و يلوكه بمشافر جمل .

في قاعة الرياضة نلعب بعنف ، نندفع بنا رغبة عارمة في التحطيم ، تحطيم أي شيء ، شيء ما ، مثل الكباش إذ تجري مع المنحدر . أحدق في وجهي : الشعر أشقر و العينان سودوان ، يخطر في بالي أني لا أملك من تعريف في الوجود إلا هذا الوجه المبقع بالنمش . أي دم يجري في عروقي ؟ يخونني وجهي و تأتأة لساني ، أشعر بالخجل ، أريد أن أحطم خجلي بقوة الرياضة ، أستغرق طاقتي في الحركة ، يلاحظ المدرب ذلك ، يشجعني :

-هناك دائما طاقة كامنة في الذات إذا تمكنت من تفجيرها أبدعت العجب .

وليس هناك ما أبدعه أكثر من أن أعرف من أنا ؟

سؤال يغفو رابضا في زوايا القلب ، ثم يطل بعين مفتحة ثعبانا زاحفا يلتف حول عنقي يشد علي الخناق ، أهرب من المرآة قبل أن أحطمها و أهشم وجهي الطالع من زواياها جائعا ، أختبئ في الرياضة ، أتوارى في المطالعة ، أشتاق إلى نوارة أحدق في مصباحها اليدوي بخزانتي الحديدية ، لم يعد الجسد المرهق بالرياضة يقوى على المطالعة ليلا ، أستلقي على السرير فيشدني إليه كثيرا ، أغوص عميقا منهكا من تعب المساء و كآبة الغروب الموحش و ضيق الأفق المضروب حولنا بسور من الاسمنت الكالح ، وسور آخر غير مرئي : انعزالنا في هذه البقعة المشبوهة المسماة مركز الطفولة المسعفة ، الكلاب الضالة ، انفصالنا عن المدينة و شوارعها و ناسها خبيثهم و طيبهم ، يتعاقبون علينا يبتسمون مخلصين أو متكلفين ، يكشرون يصرخون أو لا يبالون ، يتعاقب الليل و النهار ، و الشمس تجري إلى مستقر لها ، وأنا حبيس السؤال من أكون ؟

تملأني الرغبة في اختراق السور ، في الارتماء في أحضان المدينة التي تلفظنا في هذة الزاوية المهمشة من ناحيتها الغربية ، تخجل بنا ، و نخجل من أنفسنا ، نحنق على أماتنا اللائي قذفننا في لحظة تعيسة من الزمن . تتأجج في الشهوة اللجوج ، أتأرجح ، أتشهى ثم أخجل ، تلمع الضرس المذهبة في الذاكرة كبرق يخطف البصر ، ثم يتوارى في العتمة الكتوم ، كما أحسني أتوارى دائما ، بعضي يتوارى في بعضي ، أتوارى في رفاقي الذين يشبهونني ، يكرر الواحد منا الآخر كما يكرر الليل الليل ، أتوارى في المركز الموسوم بالفضيحة ، ثم أتوارى في السؤال الدوامة ، من أكون ؟

يأخذني الدوار و الحنين إلى تنورة نوارة و عطرها الضبابي يأخذ مجامع قلبي المظلمة ، هناك في أقصى العتمة أبحث عن نقطة ضوء ، نقطة ضوء تنبلج من الضرس المذهبة تلوح و تخفى ، أو تضيء بها بسمة نوارة الساحرة بحفرتي خديها البديعتين ، أركض واقفا من غير أن أبرح مكاني ، يعوي في الجسد المتفتح المقموع بالخجل ، أحن إلى لمسة أنثوية في هذا المجمع الذكوري ،،، إلى معصم ترن فيه أساور ،،، إلى نحر يبرق فيه عقد متوهج ،،، إلى خصلة تهفو مضمخة بالعطر ،،، إلى إيقاع خطوات متزنة تدق على البلاط فيدق قلبي ملهوفا لطلعة أية أنثى تشق بقامتها فضاء الأروقة و الممرات الموحشة والمدارات الحزينة ، تبهج المكان بعبيرها ، تضيء سديم قلبي ، الأنثى الخطيئة التي قذفتني إلى هذا الوجود ذات فجر تأخر فيه الليل ، يوشك يكون عندي يقين بأني ابن الخطيئة التي تلاحقني في هذه المسافات الضيقة عبر عمر هارب يفلت مني في سؤال حرج أتناساه فيخزني عنيدا وقحا ، فيخجلني ، أنثى عوى فيها الجسد فعضتني باللذة الآثمة .

من أنا ؟

أماه ،،، يبكي في طفل لم أعده ، و الجسد يصرخ في عنيفا ، سوته الرياضة فأقامته و ما عادت تسكته فتمرد على المكان يريد أن يخرق السور ،،، ينطحه ،،، مثل الكباش التي كان يعزلها في الزريبة فتنطح الجدران القصبية و تخرقها ، يسب و يبصق ، يجلب قصبا آخر جافا صلبا يسد به الخروق ، يتوعد ،،، :السبت القادم سيأكلكم السكين ،،، يبيع البعض ،،، و يخصي البعض الآخر ، يخصيهم حتى يكسر هياجهم و يسمنوا أكثر ، ،، يوثقه إلى جذه شجرة يضع له خصيتيه على الخشبة ، ثم يدق عليهل بمطرقة من خشب ، يرغو الكبش ، يصل فيه الألم إلى بداية الخلق و التكوين ، و هو يدق ، يدق ، و أنا أطل من خلف الجذع أتحسس ما بين فخذي .

ولقد شاع همسا بيننا أنهم في المطبخ يذرذرون مسحوقا ما في حليب الصباح يكسرون به شهوتنا ، يمنعون به انتشار العادة السيئة بيننا ، وما كانوا ليمنعوها ، فقد شب حريقها و تنافسنا فيها مسعورين ، أندفع معهم حتى لا يضحكوا علي ، ثم يأخذني الشعور الأثيم فيتعمق عندي الإحساس بالكبشية ، أي فرق بيننا و بين تلك الكباش التي عاشرتها زمن الوهم ؟

فها أنا الآن كبش أتشكل في فظاعة مريعة.

فايزة شرف الدين
27/03/2009, 10:55 PM
لقد سبرت روح هذا الطفل المسكين .. ومع مواصلتي قراءة فصول الرواية .. ثم عودة ابنتي من دار الأيتام بعدما أصبحت الآن مشغولة بالذهاب ورعاية من هم دون الثالثة من العمر .. أجدني أشعر بنوع كبير جدا من الكآبة .. خاصة أننا في دار الأيتام تساءلنا نفس سؤال الرواي في روايتك عن الأولاد الذين كبروا وما مصيرهم .. ثم بعد ؟؟
لقد تساءلت في نفسي وأنا أرقب الأولاد وقد بدت عليهم سيماء الرجولة ، عن تلك الرغبات المكبوتة لديهم .. وروادني خوف عليهم ومنهم .. فهم يمثلون قنبلة موقوتة .
لقد فجرت كل ما يمكن أن يقال في هذا الفصل وما سبقه من فصول .. إنها رواية اجتماعية من الدرجة الأولى .
مودتي