المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تراجيدية المحكي في رواية خبز و حشيش و سمك للكاتب عبد الرحيم لحبيبي: محمد لمباشري



ابراهيم ابويه
29/03/2009, 12:56 AM
محمد لمباشري

تراجيدية المحكي في رواية
خبز و حشيش و سمك
للكاتب عبد الرحيم لحبيبي.

بداية نثمن عاليا المولود الأول للمبدع عبدالرحيم لحبيبي و المتمثل في خبز و حشيش و سمك، بما هو عمل روائي متميز يشكل إضافة حقيقية للمنجز الروائي المغربي المعاصر، و للتراكمات
الأدبية في المجال السردي، خاصة و أنها
رواية اضطلعت بتعرية الأوهام و
الميتولوحيات القابعة في العقليات المتحجرة، وإضاءة العنف و القسوة التي تجرعها
جيل بأكمله في سبيل الدعوة إلى التغـيير و التحويل الاجتماعي و الاقتصادي و
السياسي المراهن عليه.


ليس
الهدف من هذه القراءة التي نغامر بتقديمها في هذه
الجلسة، هو أن نأسر النص الروائي ضمن بوثقة تأويلية مفتعلة و ضيقة الأفق من
الناحية التحليلية ، و إنما غرضنا قائم على مساءلة الكاتب في درجة اقتناعه بلغة "كيركجاد"
بأننا نعيش جزءا كبيرا من حياتنا على
ما هو عادي و يومي [ خبز وحشيش وسمك]،
و هو ما
حاول الرجل ضمن ثنايا الفصول التي احتوتها الرواية أو الاوتوبيوغرافيا أن يشخصه
لنا في مسرح الحياة المعيشية.


و محاولة منا لبناء شبكة من الاستعارات
البيانية و الباطنية التي تفضي بنا الارتقاء إلى مكنــــون و منطوق العمل الإبداعي
الروائي الذي نحن بصدد حفر ألواح خشبه الصلبة، لا بد لنا من الأخذ بعين الاعتبار مختلف الأنظمة
الابستيمية المتشابكة التي تعمل على توحيد الأفكار الإرادية و غير الإرادية التي
يعبر عنها الرجل ضمن مساقات فكرية و مواقف سوسيووجدانية و أيديولوجية ذاتية مناهضة
للأيديولوجية المسيطرة، و ضمن وقائع
زمكانية تستمد حفرياتها من مقبرته السريـة،
بما هي خزان لتمثلات و ذكريات و استهامات نكوصية لفترات زمنية متخيلة و معيشة
موشومة في الذاكرة البعيدة المدى، و هي حدود
تظهر معالمها في عالم النص الواقـــــعي و المتخيل,


و
إن كان الكاتب تعمد على إخضاع الأفقية الزمنية للأحـــداث و الشخصيات المشكلة
للرواية أولا لزمن السرد المعاكس لتسلسل زمن الأحداث، ممارسا في نفس الوقت لعبة
فنية في لفعل الروائي، حيث يقدم و يؤخر في زمن ما يرويــه؛ ثانيا لحركية
البحر داخل مثلث دياكروني و ارتكاسي يتسم بهاجس التعسف على الزمن كحقب ممتدة من
جهة نحو الماضي و الحاضر و العكس صحيح، و مرتدة بشكل تقهقري و تداخلي نحو اللامتناهي كشكل من الاحتجاج على الوأد
المتعمد من طرف ممن يملكون حق التدوين للحقب بلغة الانوية الظرفية المحبوكـة و
المنسوجة في الظل، و ممن يحتكرون حق التوقيع بالعطف على مستقبل المجندلين؛


تصطلي هذه الرواية بزخات و آهات من المس
الوجودي و التراجـــــــــيدي و الاباحي الممزوج بعشق الذات في توحد مع الآخر ، و
لكن ليس كل آخر وددناه ليكون كما أراد الرجل أن يصطفي أخياره في تراتبية زمكانية محكومة للمعاشـرة و التعايش
القائم على اللذة المفعمة بأمل العيش البسيط مع جماعــــــــــة الرفاق و الوله
الليبيدي، و بمأساوية الحتف المختلق لهذه الشخصيات ضمن الفصول التي احتوتها
الرواية؛


من هنا تبرز لنا حدة التوله و لم لا
التماهي بشخصيات واقعية و خيالية كان لها
تواجد قوي في تنشئة الرجل ـ سواء في حياته الواعية أو اللاواعية ـ كما هو ملموس في
المتن السردي الذي استفرد به في مجمل
ثنايا العمل الإبداعي؛ مشخصا لسماتها الجسدية و مقوماتها الفكرية و لحسها
الاجتماعي النفسي، و منتفضا و غاضبا على طريقة اغتصابهـــا و تعنيفها من طرف الآخر
سواء عبر العنف الرمزي الذي يفضي إلى ثقافة الصمت أو العدواني الذي يصطلي بلهيب
التعذيب و الإبادة؛


سرد العنوان المعطى من طرف الرجل
لعمله الإبداعي و المتمثل في خبز و حشيش و سمك، قد يكشف لنا أولا عن تطابق
واقع الشيء من حيث التسمية كدلالة استيضاحية لكنه الكلمة تلك كما هي مقروءة بالعين
المجردة، الشيء الذي قد يفضي بنا إلى الانحراف عن فهم القصد المعتمد من طرف الرجل
في اختياره للعنوان، و هذا أمر حذرنا منه "باختين"
كقارئين للأعمال الإبداعية، مقدما في ذلك مثالا حول تيمة الخبز، يقول في هذا الصدد : "كلمة
خبز هي اسم الخبز، و لكن قد تفارق الكلمة
واقع الشيء حين نحرفها في اتجاه الاستعمال الرمزي، كأن نستعمل كلمة الخبز بمعنى
القربان، بهذا المعنى تصير الكلمة علامة، و العلامة انحراف عن الواقع، بل العلامات
يمكن اعتبارها كونا أيديولوجيا". و هو أمر نسجله على الرجل في انتقاله من القول إلى المتخيل من خلال
بنية متحررة واقعية اعتمادا على شرائط من الكلمات الأدبية ذات صياغة دلالية
و الاستعارية



ثانيا
يتشكل العنوان المقترح من طرف الرجل من
ثالوث محرم صريح و ضمني، تتضح معالمه من فضح القول في مجمل فصوله عبر
الاشتغال على ثنائيــــــة الايروس و
التاناتوس،[أي الحياة و الموت، الحـب و الكراهية، اللذة و الألم]، حيث يكشف عبر
هذه الثنائيات جدلية الوله و التوله للذات في علاقتها بالآخر، رافضا في نفس الوقت أحكام القيمة مستعملا في
مناسبات عديدة قاعدة حكم الوجود و ليس حكم الآخر بفعل اختيار الوعي له لا لغيره
كشاهد تاريخي و اجتماعــــي، و تلك ناصيته في إحراج كل من عمد على ممارسة التأويل
المفتعل للعـــــــــنوان و لمضامين شاء
لها أن تمارس الفصيحة للواقع كما دعانا لذلك بول باسكــــون في المكون السوسيولوجي
و محمد شكري في المتن الليبيدي.........؛


الفحوصات الأولى لفصول الرواية تحيلنا
إلى شبكة من الاختراقـــــــــات و
الاستباقات المكشوفة لذوات مكلومة مجسدة في شخصيات واقعية و متخيلة، يفتح عبر
السرد المحبك جروحها و ثقوبها في صيغة غربال لا يحجب عنها المكنونات السرية حتى يفضحها،
و ذلك عبر تجليات المعيشي و السياســـــــي
و السوسيوثقافي و الجنسي، ينزفها و يستنزف
معها، يجرحها و يجرح ذاته معها، يعنفها و ينصهر ذاتيا في أشكال
تعنيفها، عبر تداعيات حرة لاستهامات شعورية و لاشعورية تحوم نحو الجنس المحرم و
الجنس المحلل، و التعبير الحــــر و التعبير الممنوع، و صدق القول و نفاق السلوك
الاجتماعي، خصوصا عندما يتجاوز الثوابت الطقسيـــة و المطقسة في نصه السردي
الداخلي.


و تلك حجة بارزة في استيضاحاته و تفسيراته للمتن المعرفي
المبنين في النص الروائــــــي، و ذلك بين اعتماد لغة التقعيد و اللغة المقدسة عبر التمثيل لهــــــا و ليس
الامتثال لها كنص قرآني، و بين اللغة المحكية الدارجة، المعبرة عن الوجدان الثواق
للغة الجسد المؤنسن الغير المفتعل لتضاريس الفكر الصاحــــــي و القائمة على قيم
الصـــــــدق و المصاحبة الحميمية غير الممزوجة بالنفاق السياسي و السوسيوثقافي
المتعارف عليه في الحكي الرسمي، و تلكم قصدية الكاتب في التلميح و التلويح "و
الفاهم يفهم"؛


و قد تبدو المسافة شاسعة بين الخطاب المقصود
في الرواية كمتن يحمل في ثناياه أحداث معيشية لساكنة مجندلة شاهدة على وضعها المأزمي
داخل فضاء المدينة المتماهي بها[ أسفي]، و بين المخاطبة كشكل من التشخيص للأزمنة
التاريخــية و المكانية المشدودة للغة المد و الجزر في تيمة البحر، ذاك الجلاء
المكرر في مجمل فصول الرواية، و كأني بالرجل يبحث عن حياة حقيقية لبحر يمنحه دور الحراك
الاجتماعي للتراتبية و القهر الطبقي، بوضوح و صفاء لونه حينا كمنصف للحق الطبيعي و
المكتسب، و اختلاط ألوانه المركبة أحيانا أخرى كرهان للتغيير المأمول، خصوصا عندما يعلن الرفض
للتنميط و التحقير و التهميش و الإزاحة المتعمدة
لساكنة لم تعد كائنة كما كانت و كما يجب أن تكون؛ و أن تكون ـ حسب تعبير جابريال
مارسيل ـ معناه أن تكون مع، أي مع
الآخر في أفراحـــه و مآسيه و محنه، و هو ما يبرز الطبيعة الانطولوجية للشخصيات
المقحمة في عمله الروائي.


نقرأ النص الثاوي باعتباره معاناة ظاهرية
عبره ينطلق بنا صاحبه من الطبيعة المجسدة في البحر و الماء و الخبز و الحشيش، إلى
الأفق المستبطن للتعاشــر و التعايش داخل فضاءات متواضعة[ حانوت دكان ، فضاء السطح
كمجال فيزيائي بلغة كورت ليفين] و الانصهار الجمعي مع الضمير الجمعي بلغة دوريكايـــــــــم [لقصارة مع الجماعة بما هي قمة التعايش في
المشتل الاجتماعي و الثقافي لأبناء الدرب]، و تلك قيم ذابت و انصهـرت و بُخِّست في زمن هيمنت عليه
الفردانية القاتمة التي أصبحت تنخر كياننا حتى العظم، و في وقت سادت فيه نواميس الفلسفة
الوجودية [أنا و الآخرون إلى الجحيم] ،و الرقميات و الصحون المقعرة و وسائل
الاعلام، قيما أخضعها الرجل لأحكام ناموس العلـــة و المعلول مشخصــة إياها و
بوثوقية تامة في شخصيات اباصطوف و كبـور
و العياشي و إدريس و جلال و الحامض كرموز للإقليمية و للوطنية و المواطنة و للقوميـــة و للحب المؤنسن
للذات و الآخر؛


لكن كيف لنا العودة الآن – مع الكاتب
- من الفردانية البشعة إلى التجمعن، من الانزياح و الانسحاب و التفردن إلى المعاشرة و التجمـهر و التكتل؟، و
من الحاشية إلى المدينة التي تصطلي بانسيابات البحر في مده المحتج إلى زجره المعترف بنا كذوات مؤنسة؟، كيف لنا الانتقال من
الوطنية إلى المواطنة؟ من الوطنية إلى القومية؟ من قيم الفردانية إلى القيم
الجمعية و التشاركيــــــــة و الاشتراكية بين قوسين؟؛


تلكم مسالك و دروب حاول الرجل تشخيص
أدوارها في مسرح الحياة الإنسانية بسخرية أحيانا و بتعقل و رزانة أحيانا أخرى مع جلال
و اباصطـــوف و العياشي و الحامض، شخصيات يستعيد من خلالها صرخة المعنى للعيش
البسيط، و للمعاشرة البريئة، و للحب الصادق للوطن و للمجندلين و المقهورين.


على هذا الأساس تستوضح ذاتية الرجل في
أفق البحث عن اللحظة الموضوعية ذات البعد الفلسفي المعيشي و ذات المنحى السياسي؛ و
إذا كانت السياسة في نظر السياسويين هي "فن الممكن" فإنها في نظر الرجل
هي فن الحمق بامتـــــــــــياز و جلاء، و هو ما حاول الكاتب تمثيله في الأدوار
الممنوحة للعياشي و الصديـق و جلال و
الحامض، شخصيات راهنت على الأفق المفتوح للغد المشرق، عن الهوية النفسية
الاجتماعية الصافية، لكنها اصطدمت باكراهات مخزنية اوتوقراطية برمجتــها و فبركتها لتعود من حيث بدأت و انتهت؛


إن هذه الانفعالية في وعي الرجل السياسي و
هو يطارح مورفولوجية الحدث السياسي في
تأزماته و انحساراته و قوالب صانعيه ممن عمدوا على التوقيع بالعطف على ضرورة رمد و تقبير كل من سولت له
نفسه قول لا في وجه من قالوا نعم بتعبير أمل دنقلن و بترميز مبدعنا ضمن
سياق بنيته الفنية الواقعية، تحيلنا هذه الانفعالية إلى مقولة إرادة الحكم و
التحكم للرجل، كشاهد و كمساهم في ايركولوجية
الفعـــل السائد و الفعل المضاد، و تراجيدية الحامض و جلال المنصهرة
في ذاتية الكاتب حتى العمق مؤشر بيِّن لإرادة القوة في البحث عن الهوية النفسية
الاجتماعية، و التحــرر و الانعتاق من الوعي المزيف كما هو مرجو من طرف كاتبنا.


لقد أراد السي عبد الرحيم ضمن مساقات فصول روايته بأحداثها الواعية و
المتخيـــلة و بشخصياتها المعيشية أو
المفتعلة، أن يربك حساباتنــــــا و تأويلاتنا، أن يحرجنا و يحرج نفسه معنا، أن
يشككنا في مواقفنا و يشك في نفسه من خلالنا، متخذا في ثنايا سرده مقاييس مطاطية و
حرجة أحيانا كتلك التي تواكب عادة الفلاسفة
عندما يقصدون فهم ماهية الأشياء و طرحها محط شك و ارتياب، و لنا في كلية النسق
الديكارتي ما يشفع للرجل حيرته هاتـــه، و بالأخص عندما يعترف ديكارت دفاعا عن منهجه قائلا: "غمرني
تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي أن امحوها من نفسي، و لا أجد مع
ذلك سبيلا إلى حلها، كأني سقطت فجأة في
ماء عميق للغاية، فهالني الأمر هولا شديدا ، حتى أنني لم أقدر على تثبيت قدمي في
القاع، و لا على العوم لتمكين جسمي فوق سطح الماء، رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي،
أيضا، في الطريق التي سلكتها البارحة، مبتعدا
عن كل ما قد يكون لدي شك فيه، كما لو كنت على يقين من انه باطل جدا، سأتبع السير في هذه
الطريق، حتى اهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك علمت علما أكيدا على الأقل
أنه لا يوجد في العلم شيء ثابت".


و
إذا كان ديكارت انطلاقا من المقولة أعلاه أراد تثبيت المعرفة على أساس ثابت
غير متحرك لا يدع مجالا للشك، فإن كاتبنا راهن عن رافعة ارخيميدس في أفق
تحويل المدينة من خريطتها من أجل صفاء الولادة الجديدة المحتملة لساكنتها بمواصفات
الشخصيات المحورية أو الهامشية المذكورة في فصول الروايــــــــــــة، و راهن أيضا
على تحويلها من مكانها إلى مكان ممتد آخر لا يمتلك ناصيته سوى جلال و الحامض
و آخرون ممن سهروا على تأسيس الأفق الزمكاني للفعل البراكسيسي، و على تفعيل فعل القول الصادق الذي يخترق و يتخطى
الذات لينصهر نحو التجمعن و الأنا الجمعي؛ و تلك مفارقة في المباطنة أو إقبال في الإدبار يثوق عبد الرحيم ضمن عمله الإبداعي هذا إلى التفوق فيه ذاتيــــــــــا
و بين ذاتيا، و أن يتحرر و يحرر أسراه
و ساكنته من تنميطــــات و منمطات الفكر المنغلق على نفسه. و
هو بذلك يستحق أن يبعث لعقبة ابن نافع اعترافاته في عدم شكه في بنية القول الأدبي
الواقعي الذي احتواه هذا العمل الإبداعي.
http://arabeagreg.ahlamontada.com/montada-f25/topic-t431.htm#496