المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من أجل نحو عربي جديد خليل كلفت



أحمد محمد عبد الفتاح الشافعي
02/04/2009, 09:35 AM
من أجل
نحو عربى جديد




خليل كلفت













المحتويات

مفهوم النحو (مقدمة عن العلاقة بين العلم وموضوعه) .......................
1: تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية ـ ازدواج غريب وخاطئ ................
2: المسند إليه والمسند .................................................. ......
3: المسند إليه .................................................. .............
4: المسند إليه: بعض تجلياته أو أشكال تحقيقه ..................................
5: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر أ: الأفعال المسماة بالناسخة ....................
6: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر ب: الحروف المسماة بالناسخة ................
7: المسند أو ما يسمى بالخبر ...............................................
8: المسند (الخبر) ومتعلَّق الجارّ والمجرور .....................................
9: المسند أو الخبر: تحليل لعناصره المكونة ..................................
10: الإعراب: خطيئة تمحور النحو حول الإعراب ..............................
11: الإعراب: وظيفته كأداة من أدوات النحو .....................................
12: الإعراب وعناصر الجملة .................................................. ..
13: الإعراب المحلى والإعراب التقديرى .....................................
14: وقفة عند من ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية ...............
15: ما يسمى بمنصوبات الأسماء بين عناصر الجملة والإعراب ................
16: من التمحور حول الإعراب إلى التحليل النحوى والمنطقى ..................
17: محاولة مجمع اللغة العربية ووزارة المعارف المصرية لإصلاح النحو العربى فى 1945

ملاحق

الملحق 1: جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية ....................................
الملحق 2: هل الخبر مرفوع؟ .................................................. ....
الملحق 3: لويس عوض والبحث عن أصل اللغات: حول مقدمة فى فقه اللغة العربية ....
الملحق 4: النحو العربى بين شريف الشوباشى .. وسيبويه .............................
الملحق 5: 3 أعمدة فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون بعنوان "لغة" .........................

مفهوم النحو
(مقدمة عن العلم وموضوعه (


يجرى التفكير فى النحو عادة على أنه يساوى تماما علم النحو، بنفس الطريقة التى يجرى بها التفكير فى الظواهر اللغوية الأخرى وكأن كل ظاهرة منها تساوى العلم الذى يدرسها ضمن العلوم اللغوية الأخرى. ويمكن القول إن هذا النحو من التفكير فى النحو والعلوم اللغوية الأخرى أفضى ويفضى وسيفضى دائما إلى أخطاء علمية وعملية قد تكون فادحة. ويمكن القول أيضا إن الخطأ الأول (وهو مصدر كل الأخطاء الأخرى) يتمثل فى أن هذا النوع من التفكير ينطلق من تجاهل حقيقة بسيطة يعرفها الجميع وهى أن اللغة موجودة قبل ظهور العلوم اللغوية وأن أصول هذه العلوم اللغوية موجودة فى اللغة وعندالناطقين بها قبل أن تظهر هذه العلوم، التى انطلقت على أساس استقرائى حيث أخذت تعمل على "جمع" كل ما اشتملت عليه هذه اللغة أو تلك من "تصنيفات" وهى تصنيفات قائمة فى وعى جماعة الناطقين بها، هذه الجماعة التى هى ليست فقط واعية بهذه التصنيفات بل إنها هى التى ابتدعتها بصورة جمعية تاريخية منذ ظهور الإنسان الكرومانيونى (أىْ الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف homo sapiens sapiens أو الإنسان كما نعرفه اليوم) منذ قرابة مائة ألف سنة وفقا لإحدى النظريات، أو أكثر أو أقل وفقا لنظريات أخرى، بالاستناد بالطبع إلى تاريخ طويل أسبق صنع فيها الإنسان نفسه ولغاته السابقة على اللغة كما نعرفها اليوم.
وإذا كانت العلاقة بين اللغة والعلم اللغوى مماثلة من الناحية الجوهرية للعلاقة بين كل علم ومجال بحثه، مثلا بين الكيمياء وعلم الكيمياء، باعتبار أن هذا العلم الكيميائى يبحث هذه الظاهرة الكيميائية تماما كما يبحث هذا العلم اللغوى هذه الظاهرة اللغوية، فإن هناك اختلافا جوهريا بدوره بين العلوم التى تدرس الطبيعة وتلك التى تدرس الحياة الاجتماعية والفكرية واللغوية إلخ... للبشر. ويتمثل هذا الاختلاف فى أن ظواهر الطبيعة خالية من الوعى وبالتالى خالية من التصنيف الذاتى لمختلف نواحيها وعناصرها. ولهذا يستقرئ العلم ظواهر الطبيعة معتمدا على أدواته وحدها لدراسة طبيعة غير واعية بذاتها. إن الطبيعة لا تمنح العلم أسرارها وتصنيفاتها لأنها لا تعى بها وليست هناك لغة مشتركة بينها وبين العلماء. غير أن العلم تطورىّ، فهو يعتمد إذن على تاريخ طويل من محاولات العلم فى مختلف مراحل تطوره. وهذه الأسرار والتصنيفات والمفاهيم التى تدور حول الكيمياء أو الفيزياء أو البيولوچيا أو الرياضيات يكتشفها البشر بالتدريج، حتى منذ مراحل بدائيتهم، ويرثها جيلٌ بعد جيل، ويبرز بينهم أشخاص يرتبط ذكاؤهم ببحث هذه الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية أو تلك، ببحث الفيزياء أو الكيمياء أو المجتمع، ليشكلوا تاريخا تطوريا يستغرق آلاف السنين وعشرات آلاف السنين ومئات آلاف السنين. وعندما نشأت العلوم بألف لام التعريف، أىْ العلوم دون أوصاف أخرى، فى الآلاف الأخيرة من تاريخ البشر، فقد انطلقت من وراثة تلك الجهود العلمية التطورية الطويلة للبشر و"للعلماء" منهم، بالاعتماد على ممارسة البشر طوال التاريخ وما قبل التاريخ وما قبل ما قبل التاريخ. وفى الآلاف الأخيرة من السنين هناك علم العصور القديمة، وعلم العصور الوسطى، وعلم العصر الحديث، أىْ العلم الحديث. وعلى هذا فإن العلم الحديث لم يقف أمام الطبيعة وظواهرها، أمام فيزيائها وكيميائها إلخ...، عاريا، مجردا من كل الأدوات باستثناء ذكائه المباشر. ذلك أن هذا الذكاء المباشر، الذى تسلح به العلم الحديث، ليس إلا الثمرة الناضجة لتاريخ وما قبل تاريخ العلم. وقد تسلَّح بكل ثمار ذلك التطور الطويل، منطلقا من تصنيفاته ومفاهيمه واستنتاجاته كفرضيات للبحث.
وباختصار فقد تسلَّح العلم الحديث بمنجزات ماقبل تاريخه ولكنْ أمام الطبيعة وظواهرها العمياء الصماء البكماء التى لا تقول شيئا بنفسها وإنْ كانت تعرض نفسها للفهم أمام الممارسة وأمام البحث العلمى، وبدون هذا الفهم، بدون فهم الإنسان العادى للطبيعة فى ممارسته التطورية وبدون فهم العلم للطبيعة من خلال بحثه التطورى، تستحيل كل ممارسة بشرية، أىْ كل حياة بشرية بكل جوانبها، ويستحيل كل علم.
ورغم تماثل العلاقة الجوهرية بين الطبيعة والعلم مع العلاقة الجوهرية بين اللغات (وغيرها من ظواهر الحياة البشرية من حيث هى كذلك) والعلوم اللغوية (وغير اللغوية) التى تدرسها، فإن الأمر يختلف تماما، بعد ذلك. فالبشر يعيشون حياتهم واعين بها، بكل جوانبها، بما فى ذلك الوعى بلغاتهم، وإنْ كان كل هذا وعيا مشروطا تاريخيا؛ إذْ تقرره مرحلة التطور الاجتماعى التى جرى بلوغها، وتحفزه أو تشوهه الأيديولوچيات، وتزرع فيه صراعات المصالح الاجتماعية المتعارضة تناقضاتها.
ولا مجال هنا لمناقشة قضية: الوجود الاجتماعى والوعى الاجتماعى أيهما أسبق؟ ويكفى هنا أن أشير إلى أن الوجود الاجتماعى مستحيل بدون الوعى الاجتماعى مهما كان نوع أو مستوى أو مرحلة هذا الوجود أو هذا الوعى، ذلك أن الإنسان الذى هو بحكم التعريف كائن لا يفارقه وعيه الصحيح أو الناقص أو المشوَّه أو الزائف، وهو يصنع وجوده الاجتماعى ووعيه بالنفس والمجتمع والكون، ويصنع بكل وعى حياته بكل جوانبها بمنجزاتها وتناقضاتها وكوارثها، فى إطار الطبيعة التى تواجهه كمعطى ليس من صنعه إلا أنه يعطى نفسه لتفاعل الإنسان معه لاستخدامه لمصلحة حياته، وفى إطار المجتمع الذى يواجهه – رغم أنه من صنعه بصورة تاريخية – كشرط كأنه طبيعى يتفاعل معه ويغيِّره ويحوِّله ولكنْ لا يسيطر عليه لمصلحة الإنسان إلا فى المجتمع المتقدم اجتماعيا والمتقدم تكنولوچيًّا، إلا فى المجتمع اللاطبقى، كما أن الإنسان يصنع كل علومه ومنها العلوم الإنسانية واللغوية فى الإطارين المذكورين، الطبيعة والمجتمع، كما يصنع لغته أو لغاته ضمن هذه الشروط الموضوعية ولكنْ القابلة دوما للتعديل والتحويل وفقا لهذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الإنسان.
ورغم الاشتراك مع كل ظاهرة وكل علم فى علاقة العلم بمجال بحثه، باعتبارها علاقة تبدأ بالبحث الاستقرائى، ورغم الاشتراك مع ظواهر الحياة الاجتماعية وعلومها فى الوعى الذى يجعل هذا الاستقراء لا يبدأ من الصفر، بل يبدأ بمنجزات استقراء الممارسة و"العلم" طوال التاريخ وما قبل التاريخ، إلا أن اللغة تختلف أيضا حتى عن العلوم الإنسانية الأخرى.
وسأضرب الآن مثلا لإيضاح خصوصية العلوم اللغوية، وبالأخص علم النحو، فى هذا المجال. عندما يدرس عالم الذرة فى العصر الحديث الذرة أو نواة الذرة أو الپروتون أو الجزيئ فإنه لا يملك لغة للتخاطب مع هذه العناصر أو مع الظواهر الكيميائية ككل، فهى جميعا بكماء، وهذا العالم لا يبدأ من الصفر بل يبدأ من منجزات العلوم عند الإغريق والعرب وغيرهم قبلهم وبعدهم، وقد منحته هذه المنجزات أحدث أدوات بحثه، ولا مجال هنا لوعى غير وعى العلم طوال تاريخه ووعى الممارسة اليومية للبشرية طوال تاريخها. وهنا يتعامل الوعى العلمى مع الظاهرة الكيميائية غير الواعية بنفسها وغير القادرة على الحديث عن خصائصها وعناصرها رغم استعدادها لمنح أسرارها كما سبق القول لأدوات البحث. ورغم أن العلم يعتمد هنا على الوعى التراكمى بالظاهرة الكيميائية، أىْ على وعى البشر بها، إلا أن الوعى ليس عنصرا ماثلا فى جوهر الظاهرة، ولم يسهم فى صنع الظاهرة، على العكس من الظواهر الاجتماعية والفكرية واللغوية التى يشكل الوعى عنصرا ماثلا فى صميمها وليس فى مجرد الوعى بها، فالاقتصاد من صنع أشياء منها الوعى، والوجود الاجتماعى بأكمله من صنع أشياء منها الوعى، وكلها من صنع الإنسان بوعيه الصحيح والزائف فى إطار معطى من الطبيعة والمجتمع. أما الظاهرة اللغوية فهى من صنع الإنسان بوعيه، وبالطبع بأشياء أخرى، منها المخ البشرى، ومنها الفيزياء أىْ الوسط الذى تنتقل فيه الأصوات اللغوية للبشر، ومنها الحياة الاجتماعية التى تعبر عنها اللغة، فاللغة إذن من صنع الإنسان، والوعى ماثل فى صميمها، ففيم تختلف عن الظواهر الاجتماعية الأخرى التى يسهم الوعى فى وجودها وتطورها؟
تختلف اللغة عن غيرها من الظواهر الاجتماعية فى أنها أداة التعبير عن كل مناحى الحياة، من الحياة اليومية، إلى الأدب، إلى العلوم الاجتماعية، إلى العلوم الطبيعية التى تصل مستوياتها المعقدة إلى لغة الرموز المشتقة بطبيعة الحال من اللغة الطبيعية (أىْ اللغة كما ننطقها ونكتبها ونقرأها). ولأن اللغة هى لغة الحياة ولغة كل علم فقد كان من المنطقى أن تكون المسافة بين خصائصها الموضوعية واستيعابها من جانب الناطقين بها أقصر من المسافة بين كل علم طبيعى ومجاله، وحتى كل علم اجتماعى ومجاله. أىْ أن مدى وضوح المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة الطبيعية (الموضوعية، الجمعية) يجعل المسافة بين العلم (اللغوى) وموضوع بحثه (اللغة) مسافة قصيرة للغاية، وهى مسافة قصيرة ليس فى العلم فقط، بل حتى فى ممارسة الحياة اليومية بين الناطق العادى بلغة وبين مفاهيمها وتصنيفاتها. ذلك أن اللغة تغدو مستحيلة، كما يغدو التفاهم مستحيلا، إذا لم تكن مفاهيمها وتصنيفاتها واضحة وبديهية وجاهزة لدى كل ناطق بلغة من اللغات. وإذا كانت اللغة تتكون من كلمات موجودة فى المعجم الجمعى الموضوعى وتتكون من جمل تتكون من تلك الكلمات بطريقة معلومة لبناء الجملة، فإن المعرفة الواضحة بالكلمات وطرق بناء الجمل منها شرط ضرورى للتفاهم بين أفراد كل جماعة بشرية فى كل نواحى حياتهم وبصورة متواصلة (ربما باستثناء حالة روبنسون كروزو فوق جزيرته). فإذا لم يعرف الناطق بلغة معانى الكلمات التى يستخدمها ولا طريقة بناء جمل منها فإنه سيكون عاجزا عن التعامل، وبالتالى عن الحياة، مع البشر، وإذا عجزت الجماعة اللغوية بأسرها عن فهم الكلمات وبناء الجمل فقد عجزت عن الحياة. غير أن اللغة ليست مجرد كلمات (يدرسها علم الصرف وعلوم أخرى) وليست مجرد بناء للجمل (يدرسه علم النحو بالمعنى الدقيق syntax) بل هناك أسلوبيات وبلاغيات وخصائص لا حصر لها تدرسها علوم لغوية لاحصر لها، غير أن الناطقين بلغة يدركونها بمستويات تتناسب مع مراحل التاريخ ومع قدرات الأفراد. على أن البحث اللغوى قد يرتفع إلى مستويات قد لا يفهمها إلا علماء اللغة ودارسوها، وهذا يصدق على كل علوم اللغة بدرجات مختلفة ومنها النحو ذاته، أو النحو بالذات.
ولنقارن الآن باستخدام مثلين بسيطين بين الاقتصاد والنحو، كما يتعامل معهما مجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة بالغة النضج من مراحل تطوره، ولم يصل بعد بالتالى إلى العلم البالغ النضج.
فى اقتصاد سلعىّ (وليكن قديما وسابقا على الرأسمالية) يفهم كل إنسان ما هى السلعة ويتعامل فى السوق مع السلع، غير أن المسافة بين فهمه سواء أكان شخصا عاديا أم باحثا اقتصاديا للسلعة وبين مفهومها العلمى الصحيح لن تكون مسافة يمكن تجاهلها أو اعتبارها قصيرة بحال من الأحوال. والآن: يستخدم شخص عادى جملة من فعل وفاعل ومفعول، فهل تـُراه يخلط بين الفاعل والمفعول، أو يخطئ فى معرفة زمن الفعل أو لزومه أو تعديه؟ إن المسافة بين تصور هذا الشخص العادى للفاعل مثلا وبين المفهوم الصحيح قد تصل إلى الصفر. لماذا؟ لأنه بدون هذه المفاهيم والتصنيفات الأولية لن يستطيع هذا المرء الكلام مع أحد ولا حتى مع نفسه. وهنا يحدث تطابق حقيقى بين العلم ومجاله، بين المفهوم وواقعه، وإلا ضاعت اللغة وضاعت معها إمكانية التعبير عن مختلف نواحى الحياة وكذلك إمكانية التعبير عن مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية. ورغم المسافة القريبة بين اللغة وعلم اللغة إلا أن هذا لا يعنى أن العلم غير ضرورى، بل إن من الضرورى أن يحاول العلم دوما أن يقطع هذه المسافة التى تظل على قربها قائمة ومفتوحة. وتظل هناك حاجة دائمة إلى قيام العلم بتطوير المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة والتى يعرفها كل ناطق بها. إن العلم يرفع وعى الجماعة اللغوية بلغتها إلى مستويات أخرى جديدة من الصقل والتمفصل واكتشاف العلاقات الأكثر تعقيدا، بالإضافة إلى ما لا يمكن أن تصل إليه جماعة لغوية من وعى، وهو الوعى بالعلاقات بين اللغات، والوعى بالأصول المشتركة بينها، والوعى بالخصائص العامة للـُّغة والتى لا يمكن رؤيتها عند البقاء داخل نطاق لغة واحدة أو داخل مجموعة صغيرة من اللغات. كذلك فإن العلم هو الذى يصون ويطور الذاكرة اللغوية للجماعة اللغوية بدراسة ظواهرها من حيث تطورها التاريخى، ونشأتها من لغات أخرى، ومختلف المؤثرات اللغوية التى استقبلتها، والمراحل التى مرت بها، واتجاهاتها المستقبلية المحتملة، وباختصار فإن العلم يقوم بإحلال الوعى العلمى محل الوعى التلقائى، وبدون إحلال الوعى العلمى وتطويره بصورة متواصلة تستحيل أشياء كثيرة ليس أقلها شأنا فى هذا العصر تهيئة اللغات لتقنيات معالجة المعلومات حاسوبيًّا.
لقد أشرت منذ قليل إلى أن مفهوم الفاعل مثلا فى الوعى النحوى التلقائى يتطابق أو يكاد مع المفهوم الصحيح الذى يمكن أن يقدمه علم النحو الناضج. كما أن هذا الوعى التلقائى أو الجمعى هو المعيار الذى يساعد علم النحو على معرفة صدق أو زيف مفاهيمه. غير أن العلم يجرى إنتاجه ضمن شروط اجتماعية وتاريخية قد تكون مواتية وقد تكون غير مواتية لتوفيقه ونجاحه. ورغم أن المسافة بين الوعى قبل العلمى والوعى العلمى قد تصل، كما سبق القول، بالنسبة لبعض المفاهيم اللغوية، فى النحو على وجه الخصوص، إلى الصفر، فإن من المفارقات أن تؤدى الشروط الاجتماعية لإنتاج النحو إلى تخلف هذا العلم فى كثير من الأحيان عن الوعى النحوى قبل العلمى. وعندما يستقرئ عالم النحو مكونات الظاهرة النحوية فإن استقراءه قد يكون غير مكتمل، ولأن الاستقراء لا يكون منفردا فإن هناك مجالا واسعا لتدخـُّل الأفكار المسبقة التى قد تسير بالاستقراء فى اتجاهات بعيدة عن الصواب. إن العالم النحوى لا يذهب للبحث عن الحقيقة النحوية طارحا عنه كل فكر مسبَّق بل يذهب باستنتاجات سابقة وبتصورات وأيديولوچيات قد تكون غريبة على علم النحو، وقد تكون غريبة على كل علم. وكما مرّ علم الكيمياء بمراحل سيميائية باحثا عن حجر الفلاسفة، وكما طمست علوم اجتماعية حقائق الاجتماع البشرى وقدمت تفسيرات أسطورية فى كثير جدا من مراحل العلم إلى يومنا هذا، مرّت العلوم اللغوية، والنحو بالذات، بمراحل شهدت ضغوطا أيديولوچية لا نهاية لها على الاستقراء واستنطاق الظواهر اللغوية العينية. وبدلا من أن يخلع عنه كل فكر مسبَّق، تسلـَّح علم النحو، فى كثير من اللغات، فى كثير من الأحيان، إلى جانب أدوات البحث الحقيقى، بأوضاع وأفكار وأيديولوچيات ونظريات أقحمها على العلم، وكانت النتائج المنطقية منجزات علمية حقيقية تشوِّه الكثير منها أنواع وأشكال من الوعى الزائف تعكس مقتضيات المصالح الاجتماعية والأيديولوچيات والفلسفات وليس مقتضيات البحث العلمى. ومن المنطقى بالتالى، كما نرى فى تاريخ النحو العربى، أن تتحقق خطوات كبرى إلى الأمام مطعونة بخطوات أخرى إلى الوراء. وهى خطوات إلى الوراء ليس فقط بالقياس إلى طموح العلم الجديد بل أيضا بالقياس إلى المنطق الكامن فى النحو الجمعى، الذى هو فى نهاية المطاف المعيار الحقيقى والمرجع النهائى. ذلك أن اللغة كما تستخدمها الجماعة اللغوية هى الأصل والمرجع، وهى بالتالى معيار قياس نجاح العلم اللغوى أو فشله.
ولكى أميِّز فى هذا السياق النجاح من الفشل من جانب علم النحو العربى مثلا بالنسبة لبعض مفاهيم هذا النحو، سأشير باختصار إلى أمثلة قليلة وإنما سيأتى أوان النقاش التفصيلى فى تضاعيف فصول الكتاب. فلنأخذ مفهوم الفاعل الذى أشرنا إليه منذ قليل، وهو مفهوم بسيط مباشر فى استخدام الجماعة اللغوية، فهو من ناحية "مَنْ قام بالفعل أو قام به الفعل" (كما علـَّمنا النحو العربى) وهو من ناحية أخرى مَنْ/ ما جرى إسناد الفعل إليه، وبدون هذا ما كان هناك تفاهم، فربما أعدموا المقتول الميت ودفنوا القاتل الحىّ لو لم يكن مفهوم الفاعل واضحا جليا بسيطا مباشرا، فماذا فعل النحو العربى؟ أولا اكتشف مفهوم الفاعل أو أعاد اكتشافه أو أقرّ هذا المفهوم عند الناس، وكل هذا فضل لهذا العلم، غير أنه سرعان ما قام بتشويه كل ذلك إذ قال النحاة إن الفاعل يتقدمه فعله، وهكذا فبعد أن كان "القاتل" فى جملة من فعل وفاعل ومفعول به، مهما كان ترتيب هذه العناصر أو الوظائف النحوية، هو الفاعل فى كل الأحوال، سواء تقدمه فعله أو تأخر عنه أو سبقه ناسخ، جرى تعقيد مفهوم الفاعل فالقاتل (الفاعل هنا) يكون فاعلا إذا تقدمه فعله، ويكون المبتدأ إذا سبق القاتل الفعل، ويكون اسما للناسخ، وهنا جرى اختراع مسميات متعددة تشكل القسم الأكبر مما يسمى بمرفوعات الأسماء لمن قام بالفعل حقا وصدقا بدلا من المسمى الوحيد الجدير به، وليكن المسند إليه، وليكن الفاعل، وليكن ما يكون. ليس هذا فقط بل كانت هناك خطوة أخرى بدت منطقية: التمييز بين جملة بدأت بالاسم وأخرى بدأت بالفعل، وبالتالى الخطأ النحوى الذى انفرد به النحو العربى والنحو فى بعض اللغات التى تأثرت به كالقبطية والفارسية وهو تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية دون أىّ سند من اللغة العربية كما استخدمتها الجماعة اللغوية. ومع جملة مثل "الكتاب مفيد" لم يقدم النحو الجمعى قبل العلمى ما يفيد أن كلمة "مفيد" خبر للمبتدأ؛ إنه مرفوع حقا ولكنْ هل هو الخبر؟ أجاب علم النحو العربى بأنه هو الخبر دون غيره، وهنا ضاع مفهوم الخبر، وبخطوة أخرى جرى اختراع أنواع من الخبر، وبخطوة ثالثة قيس ما يسمى برفع الخبر بكل "أنواعه" على رفع ما يسمى بالخبر المفرد، وبخطوة رابعة جرى اختراع ما يسمى بالرفع المحلى لغير ما يسمى بالخبر المفرد. وهذه ظاهرة خاصة بفعل الكينونة بالذات وفى المضارع المثبت بالذات، كما سوف نرى، وبالتالى فإن فعلا واحدا فى حالة واحدة ضلـَّل النحو العربى فقاده إلى اختراع رفع الخبر، واختراع أنواع للخبر، واختراع الرفع المحلى، ونتج عن هذا التمييز بين المبتدأ والفاعل اختراع ما يسمى الضمير المستتر وتقديره ورفعه رفعا محليا أيضا. وليس هذا فقط: لأن الجملة "بدت" دون فعل عمليا ولأن كلمة "مفيد" ماثلة هناك، ولأنه "يبدو" أن المنطق يقول إن ما يسمى بالجملة الاسمية تتكون من مبتدأ وخبر، فقد جرى زعم أن كلمة "مفيد" خبر، واستطاع هذا المفهوم الخاطئ للخبر أن يسود وأن يهمِّش ويسحق مفهوما رائعا من مفاهيم النحو العربى هو مفهوم "مُتعلـَّق الجارّ والمجرور" الذى يقول بأن هناك محذوفا يصنع الخبر مع كلمة "مفيد"، وكان من شأن صقل وتطوير مفهوم "مُتعلـَّق الجارّ والمجرور" أن ينقذ مفهوم الخبر ومفهوم الجملة ليس فى النحو العربى وحده بل كذلك أيضا فى النحو الأوروپى (الإنجليزى والفرنسى مثلا) من مفاهيم ظلت خاطئة بشأن الخبر إلى وقت قريب جدا، أىْ إلى أن اكتشفت الثورة النحوية الجديدة فى العقود الأخيرة فى النحو الإنجليزى مثلا أن الخبر هو كل ما يرد فى الجملة من غير المسند إليه، وهذا ما يجعل الخبر مفهوما غير قابل للإعراب أصلا، لأنه لا يكون كلمة واحدة إلا إذا كان فعلا واحدا غير رابط، كما سنرى. أىْ أن النحو العربى توصَّل فى وقت ما إلى مفهوم نحوى ناجع عن الخبر كان من شأنه أن يفيد النحو فى اللغة العربية وغيرها من اللغات، غير أن الاتجاه النحوى السائد سحق هذا المفهوم. كذلك فإن نشأة النحو فى زمن ساد فيه اللحن الإعرابى، والخوف منه ومن سقوط الإعراب الذى أدى إليه على اللغة والدين، أفضت إلى رفع الإعراب من أداة ضرورية لكل نحو فى أىّ لغة، وليس فى اللغة العربية فحسب، فى بعض مراحل تطورها، إلى مستوى النحو ذاته وبالتالى النظرة الخاطئة التى جعلت النحو علما لأحوال الإعراب (وهذا هو ما يردده النحو العربى ومجمع اللغة العربية بالقاهرة وغيره من مجامع اللغة العربية إلى يومنا هذا) بدلا من أن يكون النحو علم بناء الجملة، يبحث الجملة من حيث ما تشتمل عليه من وظائف وعناصر نحوية هى لبنات بنائها. ويعنى هذا أن النحو العربى يدور حول إحدى أدواته الفرعية المتمثلة فى الإعراب، رغم أهميته التى لا جدال فيها إلا فى حالة إسقاطه من جانب الجماعة الناطقة باللغة العربية، وفى حدود هذا الإسقاط (القرن الثانى الهجرى فى الأمصار والقرن الرابع الهجرى فى البادية)، مع الاحتفاظ بالإعراب فى مجال الثقافة الرفيعة والعلوم والدين إلى يومنا هذا.
ورغم المفهوم الخاطئ عن النحو باعتباره علم أحوال الإعراب فإنه لا أحد يستطيع أن ينكر منجزات النحو العربى باعتباره علم بناء الجملة. فقد بلور هذا النحو وطور مفهوم الجملة، رغم خطأ تقسيمها إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ورغم خطأ إعراب ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية والجملة الفعلية وما يسمى بالخبر شبه الجملة، وبلور هذا النحو وطور مفهوم المسند إليه باعتباره مَنْ/ ما أسند إليه الفعل، رغم أنه أغرق مفهوم المسند إليه لينجرف تحت فيض مما يسمى بمرفوعات الأسماء أىْ المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم إن وأخواتها واسم كان وأخواتها واسم أفعال المقاربة والشروع، ورغم أنه فصل بين الفاعل ونائب الفاعل فى المبنى للمجهول رغم أنه يدخل ضمن مفهوم المسند إليه، مع أخذ خصوصيات كل من هذه "المرفوعات" فى الاعتبار من حيث الإسناد بين تقدم الفعل على المسند إليه أو تأخره عنه، ومن حيث إن الفاعلية النحوية للمسند إليه لا تعنى الفاعلية الحقيقية بل يمكن أن يكون المتأثر بالفعل هو المسند إليه أو الفاعل رغم أنه بمثابة المفعول به من حيث المعنى مثل فاعل الفعل اللازم "غَرِقَ" أو نائب فاعل الفعل المبنى للمجهول "قُتِلَ". والنحو العربى هو الذى بلور وطور مفهوم الخبر رغم أن أخطاءه فيما يتعلق بالخبر فاقت كل أخطائه الأخرى ليس فقط بالقول بإعراب الخبر، بل أيضا من حيث تحديد مفهوم الخبر، وبالتالى اعتبار ما يسمى بالخبر المفرد خبرا فى جمل الكينونة المحذوفة فى المضارع المثبت مع أنه حَذْف يعود إلى نوع من الاقتصاد اللغوى اعتمادا على حالة الكون العام، ومع أن المحذوف جزء من الخبر، كما أن هذا النحو أخطأ فى تقدير "أنواع الخبر" أىْ الخبرالجملة وشبه الجملة فلم يعرف أين يكون الخبر حقا فى هذه الجمل ومن هنا أدخل الإعراب المحلى أو قام بتوسيعه، ولم يأخذ هذا النحو بفكرة أن كل ما تشتمل عليه الجملة من غير المسند إليه هو الخبر وفتح الباب أمام تصورات غريبة مثل العمدة والفضلة والمتعلقات، وهذه الفضلة هى التى صارت مكملات لدى مجمع اللغة العربية بالقاهرة حتى فى عهده الذهبى بقيادة طه حسين برعايته للبحث الحر وإبراهيم مصطفى من الناحية النحوية، هذا المجمع الذى أخذ فكرة الفضلة من النحو العربى وفكرة المكملات، أىْ نفس الشئ، من النحو الفرنسى الذى ارتكب تاريخيا نفس خطأ النحو العربى. كما بلور النحو العربى وطور مفهوم الفعل ولزومه وتعديه وأزمنته، رغم ما قيل من أن الإعراب أصل فى الأسماء فرع فى الأفعال كما أن الصرف أصل فى الأفعال فرع فى الأسماء، وذلك لأن عدد حالات تصريف الفعل الواحد يفوق كثيرا عدد حالات تصريف الاسم الواحد، وهذا هو ما يخصّ الصرف، ولأن إعراب الفعل يكاد يكون غائبا ويكاد يكون لا معنى له لأنه لا يؤثر فى المعنى. غير أن هذا التصور ساعد على ابتعاد النحو عن الدوران حول الفعل لأن لزومه أو تعديه إلى مفعول أو مفعولين بالإضافة إلى خصائص أفعال مثل كان وأخواتها هى أساس بناء الجملة وأساس تحديد نماذجها: مثلا نموذج جملة كان وأخواتها أىْ نموذج المسند إليه مع كان وأخواتها مع إضافة متمم المسند إليه، ونموذج جملة الفعل اللازم، ونموذج جملة الفعل والمسند إليه والمفعول به، ونموذج جملة أعطى وأخواتها أىْ نموذج المفعولين، ونموذج جملة ظن وأخواتها أىْ نموذج المفعول به الواحد مع إضافة متمم المفعول المباشر، ونموذج جملة أعلم وأرى وأخواتهما أىْ نموذج المفعولين (أعطى وأخواتها) مع إضافة متمم المفعول المباشر، وفقا لخصائص الأفعال، وهنا ظهرت أساطير مثل اعتبار أن أفعال ظن وأخواتها تتعدى إلى مفعولين لمجرد أنها يمكن أن تنصب لفظتين إحداهما المفعول به، ومثل اعتبار أن أفعال أعلم وأرى وأخواتهما تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل رغم أن هذه الأفعال هى ذات أفعال أعطى وأخواتها مع إضافة "منصوب ثالث" يمكن القول إنه متمم المفعول به المباشر تماما كما أن "المنصوب الثانى" مع أفعال ظن وأخواتها هو متمم المفعول به الوحيد فى هذا النموذج وهو مفعول به مباشر (وسيأتى الحديث عن متمم الفاعل أو المسند إليه ومتمم المفعول به المباشر فى المكان الملائم من هذا الكتاب). كذلك فإن النحو العربى هو الذى بلور وطور مفهوم المفعول به (المباشر) والمفعول به (غير المباشر) الذى هو "مستلِم" المفعول به المباشر (ويقابل تعبير "المستلِم" فى النحو العربى، تعبير recipient فى النحو الإنجليزى)، فعندما يعطى محمود عليًّا كتابا فإن "كتابا" هو المفعول به المباشر و "عليًّا" هو المفعول به غير المباشر، "مستلِم" أو recipient المفعول به المباشر، وهذا رغم أن هذا النحو لا يتعرَّف على المسند إليه فى هذا المفعول به عندما يتحول إلى نائب الفاعل فى المبنى للمجهول.
وإذا اعتبرنا أن عناصر الجملة هى المسند إليه (أو الفاعل)، والفعل، والمفعول به المباشر، والمفعول به غير المباشر (ويمكن أن نسميه أيضا المفعول له)، ومتمم المسند إليه، ومتمم المفعول به المباشر، فإن النحو العربى هو الذى اكتشف وجود هذه العناصر فى النحو العربى الجمعى قبل العلمى كما أنه بلورها وصقلها وطورها استقرائيا رغم التشويه الذى لحق بالكثير منها، وهذا ما يقرّ به كثير من النحاة المحدثين الذين حاولوا إصلاح هذا النحو.
وهذا يعنى باختصار أن النحو العربى بالمعنى الدقيق كان منذ الخليل ابن أحمد، وعلى أيدى كل علماء النحو، علم بناء الجملة العربية وليس علم أحوال الإعراب كما قيل، وهذا رغم الأخطاء التى شوهت مفاهيم عناصر بناء الجملة ومفهوم الجملة ذاتها، وكذلك رغم دوران علم النحو العربى حول الإعراب بحكم ظروف نشأته التى ساد فيها اللحن الإعرابى والخوف من نتائجه على اللغة والدين كما سبق القول.
على أن دوران النحو حول الإعراب كانت له، رغم منجزاته فى مجال بناء الجملة، أضرار فادحة على مدى التركيز على الجملة وعناصر بنائها بصورة أدت إلى ضمور هذا البحث النحوى الذى هو جوهر النحو، كما أدى تقديس نحو النحاة إلى استعباد علماء النحو جيلا بعد جيل، فلم يكن أمامهم سوى تسويد جبال من الورق ببحار من الحبر ليكرروا بصورة متواصلة، جيلا بعد جيل، نفس ما قيل فى القديم دون اجتهاد حقيقى. فالنحو الذى نشأ باعتباره مدافعا عن اللغة والدين وحارسا لهما ضد اللحن وأخطاره كان من المنطقى أن يفرض ديكتاتوريته وديكتاتورية علمائه، هذه الديكتاتورية التى كانت بحاجة لكى تتواصل إلى أن تمنع الاجتهاد وأن تستعبد علماء النحو أنفسهم، كما يفعل كل منع للاجتهاد، وكل قمع لحرية البحث العلمى. وهكذا فلكى يستمر العلماءُ، سدنةُ النحو، سادةً للنحو كان لا مناص من أن يرتضوا بأن يكونوا عبيدا للنحو، وصارت مهمتهم حراسة نحو النحاة بعيدا عن النحو الحى فى اللغة الحية بل ضد هذا النحو رغم أنه الأصل الحقيقى والمرجع النهائى لنحو النحاة.
وكانت النتيجة المنطقية لكل ذلك هى انفصال النحو عن الحياة، وعن لغة الحياة (وأنا لا أقصد ما يسمى بالعامية ولا أعنى إسقاط الإعراب بل اللغة بكل مستوياتها كما تستخدمها الجماعة الناطقة بها)، ويؤدى انفصال النحو عن لغة الحياة وتعاليه عليها مع إقفال كل باب للاجتهاد إلى خلق وَهْم مؤداه أن النحو علم علوىّ لا يتصل بالجماعة اللغوية ولا يحتاج إلى العودة المتواصلة إليها.
ويحتاج علم النحو إلى العودة النحو الجمعى لسببين على الأقل، من ناحية لتصحيح مفاهيمه الأصلية كلما أدرك علم النحو أن هناك ما يدعو إلى إصلاح أسسه ومفاهيمه أو حتى فرعياته وتفريعاته، لأن علم النحو هو ابن زمانه ويدعوه تقدم العلم بوجه عام إلى تطوير نفسه لأن من الصعب تماما أن "يبدأ" علم النحو بمفاهيم صحيحة بصورة مطلقة. ومن ناحية أخرى، وهذا هو السبب الآخر، لا تقف اللغة فى مكانها ولا يقف النحوالجمعى، المنطق الفعلى لتلك اللغة، فى مكانه. وعلى هذا يمكن أن نتصور أن يعمل علم النحو على متابعة واستيعاب التغيرات النحوية التى لا مناص من حدوثها إنْ لم يكن فى الأصول فعلى الأقل فى الفروع.
ولنتصورْ، رغم صعوبة هذا التصور، أن النحو العربى بدأ كاملا مكتملا، كعلم نضج واحترق كما قيل قديما، ولنتصورْ أن نضجه هذا كان باعتباره علم بناء الجملة وأنه توصل إلى مفهوم صحيح للجملة وإلى مفهوم صحيح عن عناصر أو مكونات الجملة وعن مرونة ترتيب عناصر الجملة فى نسق الإعراب وتقييد هذا الترتيب فى حالة إسقاط الإعراب (وهو البديل المنطقى والتاريخى الوحيد للإعراب فى كل لغة وليس فى اللغة العربية وحدها)، ولنتصورْ أنه توصل إلى اكتشاف كامل لأشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة وأنه اكتشف بالتالى الخريطة الكاملة النهائية لكل نماذج الجمل الممكنة.
فى هذه الحالة يمكن أن نتصور أن علم النحو لن يحتاج إلى إعادة النظر فى نفسه، فى أسسه ومفاهيمه، وأنه سيحتاج فقط إلى متابعة واستيعاب التطور النحوى فى الفروع والفرعيات. لماذا؟ لأن النحو الجمعى السليقى وعلم النحو المتطابق معه يتصفان بأنهما باقيان على حالهما ما بقيت اللغة على حالها وما بقى بناء الجملة على حاله. وهذه السمة المتمثلة فى البقاء الطويل الأمد للنحو ترجع إلى بساطة النحو وعلم النحو بالمقارنة مع الظواهر والعلوم اللغوية الأخرى. فالنحو هو أبسط نواحى اللغة، كل لغة، ومن هنا بقاؤه الطويل الأمد. والنحو الجمعى لا يتغير من الناحية الجوهرية، أىْ من حيث الجملة وعناصر بنائها، لأنه "محاكاة" مباشرة للحياة البشرية واللغة التى تعكسها، ومن هنا فإن النحو العلمى حقا لن يحتاج إلى تغيير نفسه متى تجسدت علميته فى بساطته وفى تطابقه مع النحو الجمعى. وفى بساطة النحو يكمن سرّ من أهم أسراره وهو أنه واحد فى كل اللغات، وكما قلت فى كتابات سابقة لى فإن النحو واحد كالبحر الواحد الوحيد على كل الأرض الذى نسميه بالبحر الأبيض هنا وبالبحر الأحمر هناك وبالبحر الأسود فى مكان ثالث وفى غيره بالمحيط الهادى وفى غيره ببحر العرب وفى غيره ببحر الصين. ومهما تحدثنا عن نحو عربى أو إنجليزى أو صينى فإن النحو فى كل اللغات واحد وحيد، فهو يتمثل دائما فى الجملة وبنائها من عنصر المسند إليه وعناصر المسند وهذا المسند قد يتكون من معظم أو بعض العناصر المستعملة فى بناء الجملة غير المسند إليه وهى عناصر الفعل، والمفعول به المباشر، والمفعول به غير المباشر، ومتمم المسند إليه (مع الفعل الرابط copula)، ومتمم المفعول به المباشر (مع أفعال ظن وأخواتها أو مع أفعال أعلم وأرى وأخواتهما وهى أفعال أعطى وأخواتها ذاتها بإضافة المتمم).
وهذه العناصر حتمية فى اللغات ولهذا فإن نماذج الجمل أو نماذج الأفعال كما تسمى أيضا تظل هى هى فى كل اللغات فيما يبدو وفى اللغات القريبة منا كالأوروپية بكل تأكيد. صحيح أن أشكال تحقيق كل عنصر قد تختلف فى بعض الفرعيات غير أن الحقيقة هى أن النحو واحد وحيد فى كل اللغات بل فى كل لغة بشرية متطورة ممكنة فى كل عالم من العوالم الممكنة فى هذا الكون الشاسع.
لماذا؟ لأن الحياة البشرية المتماثلة تعبر عنها لغات بشرية متماثلة تشتمل على نحو واحد، رغم المفردات المختلفة للأسماء المختلفة لهذا النحو وللجملة وعناصرها باختلاف اللغات.
فهل تحتاج وحدة حياة البشر، أو تماثلها، بقدر ما تنعكس فى اللغات، إلى محاولة إثبات؟ لا أعتقد هذا ولكننى سأوضح الآن ما أعنيه.
يعيش البشر حياة مترابطة النواحى والحلقات وتواجههم حياتهم ببيئتها الطبيعية والاجتماعية بآلاف وعشرات الآلاف من الأشياء: المأوى الذى يعيشون فيه ، والجبل الذى قد يكون خلفه، والبحر أو النهر الذى قد يجرى أمامه أو على مبعدة منه، وهناك بشر وحيوانات ونباتات وحشرات، وهناك نجوم فى السماء وشمس وقمر، وهناك حرّ وبرد. هناك صفات من ألوان من الأصفر والأخضر والأحمر وغير ذلك ومن الأطوال والأحجام والكبروالصغر ومن الطباع من شراسة ووداعة. إذن هناك أشياء لا حصر لها وصفات لا حصر لها. ويسمى الناس هذه الأشياء بأسماء هى كلمات ويعطون للصفات كلمات ويأخذون فى اعتبارهم النوع والعدد وغير ذلك، وهم يمارسون أنشطة كما يرون ما يقع للأشياء، فهم يأكلون ويشربون ويرون ويعرفون ويجهلون وهم يرون الماء يجرى والشمس تشرق وتغيب والنجوم من بعيد تلمع ويرون الطير يطير والزواحف تزحف. ويدرك الناس أن لديهم أسماء للأشياء والمشاعر وأن لديهم صفاتٍ وأوصافا تتميز من الأسماء، ويدركون أن للكلام أو الكلمات أقساما ويعرفون أن الاسم غير الضمير وأن هناك أدوات متمايزة للعطف والتعريف والتنكير، ويدركون أن أنشطتهم أفعال. والإنسان كنوع يأكل ويشرب ويقرأ ويكتب ويحب ويكره ويضرب ويقتل كما أنه يدرك تمايز هذه الأفعال. وهو يدرك أن الأشياء والحيوانات والنباتات تحدث منها أو لها أو تقع عليها أحداث ويدرك أن هذه الأحداث أيضا أفعال.
والمهم أن الناس جميعا وفى كل البيئات يفعلون نفس الأشياء. وإذا فكرنا فى المجتمعات الموجودة فى مناطق وأقاليم الوطن العربى نفسه أو تلك التى رأيناها أو قرأنا أو سمعنا عنها سنجدها عاشت نفس الحياة، أكلوا وشربوا وقتلوا وأحبوا وعبدوا وأدركوا أن هذه الأنشطة أفعال وأن لها تصنيفات وأدركوا أنهم، بلغتهم، استخرجوا من هذه الأفعال حجما ضخما من أسماء مصدرية ومشتقة وصفات مشتقة فى معاجمهم الحية. ولهم جميعا إدراك بالجهات وبفوق وتحت وأمام وخلف ويمين ويسار وماض وحاضر ومستقبل، وتعبر لغاتهم جميعا عن هذه الأشياء. وهذه الحلقات المترابطة فى الحياة واللغة منها الضروريات المستمرة ومنها خصوصيات الزمان والمكان. هناك تغيرات مع التقدم أو التراجع الاجتماعى غير أن صفاتهم البيولوچية تجبرهم على الدوام على الغذاء والإخراج والنمو والرؤية والتفكير والإحساس والإدراك، كما أن أوضاعهم الاجتماعية تجعل التعاون والتضامن والتفاهم والتباغض والحرب والحب والكراهية والاضطهاد والقهر والطموح وغير ذلك أشياء لا تفارقهم، وقد تخلو بيئة من النهر والشجر وقد تكون بيئة ما مدارية أو معتدلة وقد تختلف أشياء عديدة، غير أن هناك حياة مترابطة النواحى تعبر عنها لغة متمفصلة الحلقات. وإذا عبرنا عن هذه الحقائق اجتماعيا لقلنا إن حياة البشر متماثلة جوهريا فى نفس مسار التطور الاجتماعى حتى إذا انعزل جانب من البشر كهنود أمريكا إلى أن اكتشفهم العالم القديم. لقد بنوا حتى الأهرامات فى عزلتهم كما فعل العالم القديم فى عصوره القديمة. ويمكن القول إن الحاجات البيولوچية والجغرافية (على تنوعها) والاجتماعية (التى يصنعونها بأنفسهم ولكنْ تواجه كل جيل جديد منهم كمعطى موضوعى) تدفعهم إلى حياة متماثلة ومن هنا وحدة الإنسان وعالميته. ويتمثل ما يوجِّه كل هذا المسار فى وحدة طبيعة الإنسان التى تتمثل فى الانفتاح الدائم على التطور والرقى والتقدم.
وإذا عبرنا عن كل هذا لغويا فإننا سنجد أننا أمام معاجم حية غير مكتوبة (قبل ظهور معاجم العلماء وبالطبع بعد ظهورها أيضا). وهذه المعاجم الحية بمختلف اللغات تسمى نفس الأشياء، نفس الشمس ونفس القمر ونفس النجوم، نفس البحر والنهر والجبل (رغم اختلاف البحار والأنهار والجبال)، نفس الحيوانات والنباتات والحشرات حتى إنْ اختلف الكثير جدا منها باختلاف المناطق الجغرافية، ونفس المشاعر من حب وكره، ونفس الإدراك من علم وجهل، ونفس الجوع ونفس الشبع، ونفس الخبز ونفس الماء. وعندما ظهر العلم المعجمى وظهرت المعاجم اتضحت كل هذه الحقائق، وعندما ظهرت المعاجم الثنائية اللغة اتضح أنها كلمات مختلفة موضوعة لنفس الأشياء واتضح أن قابلية الترجمة من لغة إلى أخرى آية من آيات وحدة البشر والحياة البشرية واللغة البشرية، ومع تقدم الإحصاءات المعجمية وتقدم علم الآثار أخذ يتضح أن الإنسان الكرومانيونى، أىْ إنسان أرسطو الناطق، أو الإنسان كما نعرفه اليوم، نشأ فى منطقة واحدة بلغة واحدة ثم انتشر على وجه الأرض، حيث قضى على الإنسان النياندرتالى فى كل مكان ونشر لغته التى هى لغة الإنسان الجديد المنتصر حيث اختفت لغة الإنسان النياندرتالى مع اختفائه.
وفى الزمن الطويل المنقضى إلى الآن تمايزت اللغات فى مناطق عزلتها وبدا الأمر وكأنها لا تنتمى إلى أصل واحد. ومثلما يتصور الطفل منا، أو الجاهل الملتصق ببيئة بدائية، أن لغته هى اللغة الوحيدة فى هذه الدنيا إلى أن يكتشف فيما بعد وجود لغات أخرى، اكتشفت العلوم اللغوية المعنية أولا ما هو مشترك بين مجموعة من مجموعات اللغات، واكتشفت فيما بعد أن لهذه المجموعات بدورها أصولا مشتركة، أىْ أنها تنتمى إلى مجموعات قليلة أشمل منها، واكتشفت فى وقت لاحق، أو أن عليها أن تكتشف بصورة شاملة، أن كل هذه اللغات بكل مجموعاتها تنتمى فى الأصل إلى لغة واحدة ما زالت أصداؤها تتردد عبر عشرات الآلاف من السنين فى الكثير من اللغات إلى يومنا هذا.
فإذا صحت هذه النظرية ذات النفوذ الكبير اليوم عن نشأة الإنسان الكرومانيونى فى منطقة واحدة فإن اللغات الحية حاليا وتلك المنقرضة ترجع جميعا إلى أصل واحد، إلى لغة واحدة. أما إذا صحت النظرية الأخرى ذات النفوذ أيضا عن نشأة الإنسان الكرومانيونى فى عدد من المناطق بصورة متزامنة فإنها ترجع إلى أصول قليلة العدد. وهناك بالطبع النظرية الثالثة التى تقول باندماج الإنسان الكرومانيونى مع الإنسان النياندرتالى ونشوء اللغات الهجينة من أصول لغات كرومانيونية ونياندرتالية. ومهما يكن من شئ فإن وحدة النحو لا تتوقف على وحدة نشأة الإنسان فى منطقة واحدة بلغة واحدة بل تنتج عن تماثل الحياة البشرية التى تعبر عنها اللغات جميعا.
وكما سبق القول فإن النحو واحد فى كل هذه اللغات. وفى كل لغة يكون النحو الجمعى هو الأصل والمرجع لنحو النحاة. ويدعونا هذا إلى وقفة وجيزة عند هذا التمييز بين النحو وعلم النحو، وعند مغزى وفائدة هذا التمييز، وهذا فى كل اللغات وليس فى لغتنا العربية وحدها.
لقد صار الآن واضحا جليا أن الوعى النحوى، الشامل والدقيق، موجود لدى الجماعة الناطقة باللغة، لدى كل أفرادها الأصحاء العقل، ولا التباس لديهم فى قواعد هذا النحو، ونظرا لظهور النحو كعلم لغوى متميز فى مرحلة تأتى بعد عشرات وعشرات الآلاف من السنين (فى حالة اللغة كما نعرفها اليوم)، نستطيع القول إذن إننا إزاء نوعين من النحو فى كل لغة: النحو الموضوعى، الجمعى، السليقى، النحو باعتباره منطق وعناصر وقواعد بناء الجملة، لدى الجماعة الناطقة باللغة، بكل أفرادها من ناحية، والنحو الوضعى، العلمى، أىْ نحو النحاة من ناحية أخرى. وينظر، أو ينبغى أن ينظر، نحو النحاة إلى النحو الموضوعى الجمعى السليقى باعتباره الأصل والمنبع والمرجع دوما، وعليه بالتالى أن يتعلم منه ويصحح ويطور نفسه بالرجوع إليه كلما أبرز تقدم المجتمع أو تطور الفكر أو تغير اللغة ضرورة ذلك التطوير.
وعلى هذا فإن علم النحو يجد نفسه، عند نشأته، إزاء مصدرين ينهل منهما مفاهيمه وتصنيفاته وأسسه وقواعده الأولى. إنهما النحو الموضوعى الذى تحدثنا عنه، كما تحقق فى وعى كل أفراد المجتمع، وكما تجسد أيضا فى وعى هؤلاء الرواد لعلم النحو أنفسهم، أىْ علماء النحو، مبدعى نحو النحاة، باعتبارهم من أبناء نفس اللغة وحاملين لنفس الوعى النحوى الجمعى السليقى. أما المصدر الثانى فهو تاريخ من الاجتهاد النحوى الذى يختص به أفراد تيسروا لهذا النوع من الاهتمام اللغوى طوال تاريخ طويل. وهذا الاستيعاب النحوى الشفاهى المتميز من جهة من النحو الجمعى ومن جهة أخرى من نحو النحاة، من النحو المكتوب هو المصدر الثانى لرواد علم النحو وهو الجسر الوطيد الموصِّل بين النحو الموضوعى والنحو الوضعى. وينطبق الشئ ذاته على الإعراب السليقى، الأصلى، الجمعى، الموضوعى، والإعراب باعتباره مجموع دراسات وأبحاث واستقراءات وتفسيرات النحاة الخاصة بالإعراب (للتمييز أساسا بين الفاعلية والمفعولية كما يقول ابن جنى).
ولكنْ ما أهمية أو مغزى أو فائدة هذا التمييز رغم أنه لا غبار عليه فى حد ذاته؟ وأقول بإيجاز إن هذا التمييز ضرورى جدا لتطوير نظرة علمية حقا إلى علم النحو، نظرة تجرده من أوهامه عن نفسه وتحرر أفراد الجماعة اللغوية من تقديسهم لهذا العلم بغثه وسمينه، بمنجزاته الحقيقية وبإخفاقاته المروِّعة، وبالتالى من أجل فتح الطريق أمام تطوير علم النحو، وحلّ مشكلاته، وتهيئته لجعل المعالجة الآلية للمعلومات بلغتنا أمرا ممكنا حقا. فاليوم لم يعد بوسع جماعة من البشر أن تواصل مجرد البقاء بدون اللحاق بالحضارة الرأسمالية الحاضرة (رغم طابعها العبودى والضرورة التاريخية لتخطيها اجتماعيا). كذلك فإن هذه الجماعة البشرية لن تكون قادرة على مجرد البقاء أيضا بدون تطوير علومها اللغوية وبالأخص علم النحو الذى صار أداة لا غنى عنها لهذه الحضارة أو لتجاوزها إلى مجتمع إنسانى حقا.
وعندما وضع أبو الأسود الدؤلى علم النحو، وقيل بإشارة من على، فقد نهل هو ومن تبعه من المصدر الأول أىْ النحو الموضوعى الجمعى السليقى غير أنهم تعلموا أيضا من المصدر الثانى أىْ النحو الشفاهى (غير المكتوب والسابق على ظهور الكتابة، وكان هذا حال كل العلوم، فحتى علم العروض الذى أنشأه الخليل ابن أحمد الفراهيدى لم يكن أول كلمة تقال فى هذا العلم، بل كان استمرارا لعلم العروض الشفاهى الذى كان موجودا قبله بزمن طويل طول زمن وجود الشعر ذاته. وهذا ما نجده فى كل علم طبيعى أو اجتماعى أو لغوى).
ولا يهدف هذا الكتاب، وليس من حقه أن يهدف، إلى تغيير حقائق وقواعد اللغة العربية أو النحو العربى الجمعى أو الإعراب الجمعى السليقى، بل يريد أن يعيد النظر بعمق فى نحو النحاة، فى النحو الوضعى، ليس باعتباره نحوا تتمثل مشكلته الوحيدة فى أنه نحو صحيح تماما غير أنه معقد يحتاج إلى تبسيط وتيسير وتسهيل، بل باعتباره ابن زمانه ويحتاج بالتالى إلى التجديد والتصحيح والتطوير، للعودة به إلى بساطة منبعه الحقيقى، إلى اللغة العربية ومنطقها الداخلى، إلى البساطة التى لا مبرر لتعقيدها، إلى البساطة التى هى سمة النحو بالذات فى كل اللغات، بالطبع فى مفاهيمه وتصنيفاته الأكثر ضرورية للاستخدام السليم للـُّغة من جانب كل أفراد الجماعة اللغوية، مع الاعتراف بوجود جوانب قد يختص بها علماء النحو ودارسوه وطلابه على أعلى المستويات باعتباره استقصاءً تفصيليا لا تستوعبه إلا ذاكرة المتخصصين، ومع الإقرار بأن تطويع هذا النحو للمعالجة الآلية للمعلومات إنما هو فرع علمى معقد يجمع بين علوم اللغة ومنها النحو وعلم الكمپيوتر، وليس من المتصور أن يستوعبه كل أفراد الجماعة اللغوية مهما استفادوا بثماره.
ولن أستعرض تتابع موضوعات فصول الكتاب، ويكفى إلقاء نظرة على فهرس المحتويات لمعرفتها. وسأكتفى بالإشارة إلى فصل من فصوله الأخيرة يعرض عرضا نقديا أعظم محاولة فى القرن العشرين لتجديد النحو العربى، وقد قام بهذه المحاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف العمومية، وتجسدت فى القرار التاريخى للمجمع المذكور فى عام 1945 كما تجسدت فى كتاب "تحرير النحو" الذى صار مقررا على طلاب المدارس الإعدادية فى مصر فى منتصف الخمسينات، وهى المحاولة التى قضى عليها أعداء تطوير النحو العربى، كما سهّل عليهم القيام بهذه المهمة ما كانت تنطوى عليه تلك المحاولة من نقاط ضعف سوف نتناولها فى الفصل المعنىّ، إلى جانب مآثرها ومنجزاتها التى ستظل منارة يستضيئ بها ويسترشد كل من يتطلع حقا إلى تطوير النحو العربى، بدلا من دعاوى تجديد النحو الملصقة على كتابات وكتب هى استمرار مباشر لمسار التكرار المتواصل البدائى الطابع لما سبق قوله تقديسا لعلم النحو والنحاة كوسيلة لفرض القيود الثقيلة على حرية البحث العلمى فى مجال النحو العربى، ولمنع كل اجتهاد فيه.


























1

تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية
ازدواج غريب وخاطئ

يميز النحو العربى بين نوعين من الجمل: الجملة الاسمية والجملة الفعلية. ولا تخرج جملة عربية عن هذا النوع أو ذاك من وجهة نظر هذا النحو. وللجملة الاسمية ركناها الأساسيان وهما: المبتدأ والخبر. وللجملة الفعلية بدورها ركناها الأساسيان وهما: الفعل والفاعل. وتتميز الجملة الاسمية من الجملة الفعلية بأن الأولى تبدأ باسم، بينما تبدأ الثانية بفعل.
وللوهلة الأولى يبدو هذا التصنيف للجمل موضوعيا للغاية، ووصفيا للغاية، وغير قابل للجدل. فهذه جملة بدأت باسم؛ فما وجه الخطأ فى تسميتها كما بدأت جملة اسمية، وفى أن نسمى ما بدأت به المبتدأ بحكم بداهة الابتداء به؟ فلا بأس إذن بالجملة الاسمية والمبتدأ والخبر. وتلك جملة بدأت بفعل؛ فما وجه الخطأ فى أن نسميها كما بدأت جملة فعلية، وفى أن نسمى فاعل الفعل فاعلا؟ فلا بأس إذن بالجملة الفعلية والفعل والفاعل والمفعول به.
وما دمنا نسمع أو نقرأ جملة تبدأ باسم وأخرى تبدأ بفعل، فلا مجال لإنكار أن الجملة تبدأ من الناحية العملية بفعل أو اسم. ولكننا نسمع ونقرأ جملة تبدأ بحرف، وجملا أخرى تبدأ بأشياء أخرى. ومن شأن تطوير فهم النحو العربى لأقسام الكلام، بدلا من الاقتصار على الاسم والفعل والحرف، أن يبين أن هذه الأشياء إنما هى من أقسام الكلام كالاسم والفعل والحرف، وأن يبين أن الاسم فى النحو العربى مفهوم فضفاض ينطوى على أقسام كلام أخرى (الضمير، الصفة، الظرف)، بالإضافة إلى التقسيم الواجب للحرف نفسه إلى أقسام كلام متمايزة: حروف أو أدوات الجر والنصب والعطف والتعجب. فإلى أين ينتهى بنا تقسيم الجمل حسب أقسام الكلام التى تبدأ بها؟!
وقد يبدو أن النحو العربى اختار البدء بالاسم والفعل دون غيرهما معيارا لتقسيم الجملة، ليس فقط لأن الاسم والفعل قسمان من أقسام الكلام، بل لأن الفعل ـ إلى جانب كونه من أقسام الكلام ـ مفهوم نحوى أساسى يمكن أن نسميه بالاصطلاح الحديث عنصرا من عناصر الجملة وهى: 1: الفاعل (أو المسند إليه) 2: الفعل 3: المفعول به 4: متمم الفاعل أو المفعول به 5: الظرف، ولأن الاسم ـ إلى جانب كونه من أقسام الكلام ـ هو "المبتدأ"، فهو بالتالى عنصر أساسى من عناصر الجملة لأن مفهوم المسند إليه ينطبق عليه.
وإذا كان هذا يصح على "الفعل" فهو فى المعجم قسم من أقسام الكلام، وهو فى النحو عنصر من عناصر الجملة؛ فإنه لايصح على "الاسم" فهو فى المعجم قسم من أقسام الكلام(وإنْ كان مفهوما فضفاضا ينطوى بداخله على عدد من أقسام الكلام الأخرى)، غير أنه فى النحو ليس عنصرا من عناصر الجملة. فالاسم لا يأتى "مبتدأ" فقط، بل إن الجملة المسماة بالاسمية لا تبدأ فقط "بالمبتدأ" فقد تبدأ أيضا "بالخبر" أى المسند. و"الخبر" (المسند) ليس عنصرا من عناصر الجملة (إلا فى الحد الأدنى "للخبر"، وحسب مفهوم بعينه "للخبر") بل قد يشتمل "الخبر" على عدد من عناصر الجملة، وقد تبدأ الجملة المسماة بالاسمية بعنصر منها كالمفعول به، أو متمم الفاعل أو متمم المفعول به، أو الظرف.
ومعنى هذا أن تسمية الجملة بما تبدأ به من أقسام الكلام ستضيف إلى الجملة الاسمية والجملة والفعلية أنواعا أخرى من الجملة؛ كجملة الحرف، والجملة الضميرية، والجملة الظرفية، وجملة الصفة، إلخ00 إذا طوّرنا ووسّعنا ـ كما ينبغى ـ مفهوم أقسام الكلام فى النحو العربى. كما أن تسمية الجملة بما تبدأ به من عناصر الجملة ستضعنا أمام تسميات أخرى جديدة إلى جانب الجملة الفعلية؛ كالجملة الفاعلية (أو جملة المسند إليه)، والجملة المفعولية (أو جملة المفعول به)، وجملة متمم الفاعل أو متمم المفعول به، والجملة الظرفية.
وليس هناك مانع مبدئى من الاحتفاظ بالتصنيف الحالى أو من توسيعه فى هذا الاتجاه أو ذاك، بشرط أن يكون له مغزى نحوى حقيقى، حتى رغم ما ينطوى عليه هذا التصنيف من ازدواج ومن تعقيدات لا أول لها ولا آخر. غير أن العلاقات النحوية بين كلمات أو عناصر أو مكونات الجملة لا تتغير فى لغة تقوم على الإعراب ومرونة ترتيب عناصر الجملة بالبدء بهذه الكلمة أو تلك، بالاسم أو بالفعل، بالفاعل أو بالمفعول، الأمر الذى يستبعد أى مغزى نحوى لهذا التصنيف المزدوج للجملة العربية على أساس ما تبدأ به من اسم أو فعل.
والحقيقة أنه لا مجال لتقسيم الجمل بصورة تنطوى على مغزى نحوى حقيقى، إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولا إلى غيرهما، لا فى لغة تقوم على الإعراب ومرونة ترتيب عناصر الجملة ولا فى لغة تقوم على إسقاط الإعراب وتقييد ترتيب عناصر الجملة. وذلك لأن لغة مرونة الترتيب تعنى بالبداهة حرية التقديم والتأخير لعناصر الجملة (مع أخذ الترتيب الإلزامى لبعض الكلمات فى الجملة فى الاعتبار، مثل: حرف الجر قبل المجرور) دون أن تتأثر العلاقات النحوية بين هذه العناصر، لأن هذه العلاقات إننما تتأثر بمورفيمات وعلامات الإعراب فى أواخر الكلمات (أو فى أوائلها أو حتى بأحوالها الصفرية فى بعض اللغات). أما لغة تقييد الترتيب فتعنى بالبداهة أيضا تثبيت الكلمات التى تمثل العناصر النحوية المحورية للجملة فى أماكن بذاتها، فى ترتيب بذاته، وكثيرا ما يقوم ترتيب هذا النظام لعناصر الجملة على أسبقية الفاعل للفعل وهذا للمفعول، إلا فى أحوال كالنفى أو الاستفهام أو لأغراض بلاغية، مع مرونة بعض العناصر، فى بعض أحوالها، من حيث مكانها فى الجملة.
والنتيجة أن تصنيف النحو العربى للجمل إلى جملة اسمية وجملة فعلية يضعنا أمام عالمين للجمل يقوم بينهما سور صينى عظيم. وتنفرد الجملة الاسمية بركنين أساسيين ينفردان بلقبيهما الخاصين وهما المبتدأ والخبر، اللذين لا ينبغى أن يختلطا بالركنين الأساسيين اللذين تنفرد بهما الجملة الفعلية، واللذين ينفردان بدورهما بلقبيهما الخاصين وهما الفعل والفاعل.
ومن مبادئ هذا التصنيف أنه لا يجوز النظر إلى المبتدأ فى الجملة الاسمية على أنه فاعل الفعل الذى يليه رغم إسناده إليه وتصريفه معه، كما لا يجوز، وفقا له، النظر إلى الفاعل فى الجملة الفعلية على أنه مبتدأ تأخر عن خبره، ولا إلى فعل الجملة الفعلية على أنه خبر تقدم، وهكذا.
والجملة المسماة بالفعلية، فى أبسط أشكالها أى فى الجملة المسماة بالمستقلة، وهى أحد نوعى الجملة المسماة بالأصلية أى المقتصرة على الإسناد دون الدخول فى تركيب؛ مثل: ظَهَرَ الحقُّ ، جملة بلا تعقيدات، غير أنه عندما يغدو "الفعل" ... "خبرا" فى الجملة المسماة بالاسمية (وهنا يسمون ذلك الفعل مع فاعل يفترضون أنه ضمير مستتر جملة فعلية خبرا فى محل رفع) تبدأ التعقيدات، أما الجملة المسماة بالاسمية فهى المجال الطبيعى، حتى فى أبسط صورها أى فى الجملة المسماة بالبسيطة وهى النوع الثانى من الجملة المسماة بالأصلية؛ مثل: العلمُ نورٌ ، لتعقيدات لا أول لها ولا آخر.
فكيف أقيم هذا السور العظيم؟ وما منشأ هذا الازدواج؟ وما كل هذا التعقيد بلا مبرر حقيقي؟ وهل هناك وسيلة أو وسائل نحوية لهدم هذا السور، وإزالة هذا الازدواج، وتبسيط هذا التعقيد؟
وينبغى أن نلاحظ قبل كل شيء أن هذه المفاهيم والتصنيفات لأنواع الجمل، ولأركان كل نوع منها، إنما هى من ابتداع علم النحو، فهى تنتمى جميعا إلى النحو الوضعى أو العلمى، وهو نحو النحويين أو النحاة. فلسنا إذن إزاء عناصر متنافرة فى اللغة العربية ذاتها، ولا فيما تنطوى عليه من منطق داخلى فى تكوين الجمل، وفى تحديد العلاقات النحوية بين كلماتها أو مكوناتها أو عناصرها، أى النحو الموضوعى أو الطبيعى أو الجمعى، الماثل دوما فى صميم كل لغة تنطق و/أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية (العرب فى حالتنا). وإنما نحن إزاء تناقضات مفاهيم نحو النحاة. فلا مناص إذن من محاولة قطع تلك المسافة بل الهوة القائمة دوما بين النحويْن، الموضوعى والوضعى، ذهابا وإيابا، إلى أن نهتدى إلى إدراك واضح لطبيعة وأبعاد وأضرار هذا الازدواج ولسبل إزالته.
وينبغى أن يكون واضحا أن ازدواج التصنيف للجملة العربية الواحدة، إلى جملة اسمية وجملة فعلية، إنما يرتبط بصفة خاصة بقاعدتيْن نحويتين خاطئتين من وضع النحاة تكفى كل قاعدة منهما لخلق هذا الازدواج ويكفى اجتماعهما لتأبيده.
والقاعدة الأولى هى قاعدة تقدُّم الفعل على فاعله. وبهذا فإن المبتدأ (أو المفعول به ـ لفعل سابق ـ أو المنصوب بأحد حروف إن وأخواتها أو المجرور) الذى يليه فعل مسند إليه ومصرَّف معه، ومتطابق معه فى النوع والعدد، لا يكون مع ذلك فاعله. وعندما يأتى بعد ما يسمى بالمبتدأ فعل فلابد من البحث له عن فاعل يتقدمه هذا الفعل، ولا بد من العثور على هذا الفاعل إما فى صورة أو بالأحرى فى "شبح" ضمير مستتر تقديره كذا يعود على المبتدأ، وإما فى صورة ما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل، تاركين على كل حال ذلك الفاعل الحقيقى الذى أسند إليه الفعل من الناحية العملية، والذى هو فاعله دون شك، والذى لا مناص من ربط الفعل به بضمير مزعوم، بارز أو مستتر، يعود عليه فى نهاية الأمر.
وبالإضافة إلى هذه القاعدة التى تنطلق من الجملة الفعلية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة اسمية (نتيجة تأخير الفعل عن الفاعل)، هناك القاعدة الأخرى التى تنطلق من الجملة الاسمية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة فعلية (نتيجة لتقديم الفعل على المبتدأ).
وتحت عناوين، مثل: وجوب تأخير الخبر، وجوب تقديم الخبر، جواز تقديم الخبر وتأخيره، نجد موجبات حقيقية مقنعة لا أمل بدون مراعاتها فى منع التباس المعانى. غير أننا نجد بين أسباب وجوب تأخير الخبر سببا غريبا للغاية. فالفعل الذى يلى المبتدأ واجب التأخير فلا يجوز تقديمه. فهذا الفعل المتأخر، الذى يصنع مع فاعله الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل المزعوميْن ما يسمونه جملة فعلية هى خبر المبتدأ، لا يجوز تقديمه لأنه إنْ تقدَّم يغدو فاعلا وليس مبتدأ. فوجوب التأخير يرجع إلى خشية الالتباس بين المبتدأ والفاعل. وسبب تأخير الفعل وجوبا هنا غريب حقا لأنه لا يزيل التباسا فى فهم معنى الجملة، أى فى اللغة ذاتها من حيث هى لغة، وهو التباس غير قائم أصلا، بل يزيل الالتباس النحوى بين مفهومين نحويين من وضع النحاة أنفسهم وهما المبتدأ والفاعل. فالخوف من الالتباس ليس على اللغة أو المعنى، بل على علم النحو كما وضعه هؤلاء العلماء! وهكذا نعرف من صاحب معجم النحو السبب الثانى الموجب لتأخير الخبر وهو:
أن يُخاف التباس المبتدأ بالفاعل نحو "على اجتهد"
وهاتان القاعدتان (قاعدة تقدم الفعل على فاعله، وقاعدة تأخير الفعل الذى يلى المبتدأ وجوبا) تصنعان ازدواج تصنيف الجمل وتؤبدانه، كما أنهما تأتيان من هذا الازدواج وتتغذيان عليه. والحقيقة أنهما غريبتان على اللغة العربية وعلى منطقها الداخلى، ذلك أن اللغة ذاتها ظلت على مرونتها حيث تتقدم عناصر الجملة أو تتأخر ما شاء الناطقون أو الكاتبون بها ذلك، بشرط أمن اللبس أو التشويش أو الاضطراب فى المعانى وليس بأى شرط غريب على اللغة. أما تقييد هذه المرونة فلا أساس له إلا فى تصورات ونظريات وأوهام ومزاعم علماء النحو الذين لا يقيدون مرونة اللغة، ولا يريدون أصلا تقييدها، وإنما يقيدون فى الحقيقة أدوات الاستيعاب النحوى النظرى لهذه المرونة فى اللغة عن طريق مفاهيم نحوية متحجرة.
وبطبيعة الحال فإن هاتين القاعدتين تجدان مكانهما ضمن نسق كامل من المفاهيم النحوية التى تصنع وتؤبد تعقيدات نحوية لا تحصى ولا تعدّ. والحقيقة أن إلغاء هاتين القاعدتين يكفى (مع إعادة النظر فى النسق بكامله) لإعادة الوحدة للمفهوم النحوى للجملة العربية بعيدا عن الجملتين الاسمية والفعلية. وبهذا وحده يمكن إزالة السور والازدواج والتعقيد فى آن معا .
وأكتفى هنا بإشارة موجزة إلى تصنيف آخر للجملة العربية إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ليس على أساس الابتداء بالاسم فى الأولى والابتداء بالفعل فى الثانية، بل على أساس أن الجملة الفعلية هى تلك التى تشتمل على فعل مهما كان مكانه فيها، وأن الجملة الاسمية هى تلك التى لا تشتمل على أى فعل مطلقا. وهذا التصنيف المزدوج لا ينطوى بدوره على مغزى نحوى حقيقى من حيث العلاقات النحوية بين عناصر الجملة بافتراض وجود جُمل تشتمل على الفعل وأخرى لا تشتمل عليه. على أننا سنعود إلى هذه النقطة فى الفصل الثانى لنبحث مسألة: هل هناك أصلا جملة لا تشتمل على فعل؟ وهى نفسها مسألة: هل هناك مسند (أو خبر) لا يشتمل على فعل؟ وذلك عندما نبحث مسألة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
ويعنى كل هذا بطبيعة الحال ضرورة الاكتفاء بالمفهوم النحوى الأساسى المتمثل فى الجملة وإلغاء التصنيف المزدوج إلى جملة اسمية وجملة فعلية، وكذلك ضرورة أن يحل محل مفهوم الركنيْن الأساسيين لكل نوع منهما (المبتدأ والخبر فى الأولى والفعل والفاعل فى الأخرى) مفهوم ركنين وحيدين للجملة مهما كان ما تبدأ به. وهذان الركنان الوحيدان اللذان استخدمهما علماء النحو القدماء أنفسهم (على الأقل منذ الخليل بن أحمد الفراهيدى وسيبويه) ولكن جنبا إلى جنب (أو بصورة ثانوية أو فرعية) مع التصنيف المزدوج إلى جملتين اسمية وفعلية وبركنين "أساسيين" لكل منهما (وليس بالطبع بركنين وحيدين لجملة عربية واحدة وحيدة) وبكل ما يترتب على هذا التصنيف من مذاهب مضللة، واللذان أحياهما ثم أماتهما من جديد علماء محدثون نتيجة للحدود الضيقة لتصوراتهم عما يسمونه بتيسير النحو، وكذلك نتيجة لقوة أعداء كل تجديد حقيقى للنحو فى مصر والعالم العربى، ..... هذان الركنان الوحيدان للجملة هما: المسند إليه والمسند، ولا يميز بينهما ابتداء ولا تقدُّم فعل بل يميز بينهما المعنى فى المحل الأول.
وكان يجدر بنا أن نكتفى بالإشارة إلى الجملة العربية "الواحدة" بركنيها الوحيدين أى المسند إليه والمسند (بعيدا عن مفهوم الفضلة فى النحو العربى وعن مفهوم التكملة فى النحو الفرنسي)، فى سبيل الانطلاق إلى الموضوعات الحقيقية لهذا البحث، غير أن واقع سيادة التصنيف المزدوج للجملة، وما يترتب على هذا من تصنيفات أركان الجملتين، يرغمنا على تعميق المناقشة لإنقاذ المفاهيم الأصيلة، إدراكا منا لحقيقة أن عمق تأصيل هذه المفاهيم هو الأساس الحقيقى المتين للتغلب نهائيا على هجوم أعداء تجديد النحو العربى.



























2

2

المسند إليه والمسند


تشمل مرفوعات الأسماء كما تسمَّى فى النحو العربى: المبتدأ، والفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان وأخواتها (بما فى ذلك أسماء أفعال المقاربة وأفعال الرجاء وأفعال الشروع)، إلى جانب خبر المبتدأ (وخبر إن وأخواتها).
وقد تعمدتُ تأخير الخبر فى العبارة السابقة للإشارة إلى أن من الواضح تماما أن الخبر يختلف عن بقية مرفوعات الأسماء فى أمر جوهرى هو أن الفعل إنما يُسند إلى هذه المرفوعات ويجرى تصريفه معها دون الخبر، الذى يُسند هو ذاته إلى المسند إليه فيما يُعْرَف بالمبتدأ. ولهذا فإن مفهوم المسند إليه يشمل كل هذه المرفوعات دون "الخبر"، فيما يندرج هذا الأخير تحت مفهوم المسند الذى يشمل، إلى جانب "الخبر"، الفعل المتقدم على المسند إليه، وهذا فى أبسط أشكال المسند.
ونقرأ فى لسان العرب، لابن منظور، فى مدخل "سَنَدَ" هذا الاقتباس الطويل إلى حد ما عن المسند إليه والمسند:
قال: وقول سيبويه هذا باب المسند والمسند إليه؛ المسند هو الجزء الأول من الجملة، والمسند إليه الجزء الثانى منها، والهاء من إليه تعود على اللام فى المسند الأول، واللام فى قوله والمسند إليه وهو الجزء الثانى يعود عليها ضمير مرفوع فى نفس المسند، لأنه أقيم مُقام الفاعل، فإنْ أكّدْتَ ذلك الضمير قلتَ: هذا باب المسند والمسند هو إليه. قال الخليل: الكلام سَنَدٌ ومُسْنَدٌ، فالسند كقولك عبد الله رجل صالح، فعبد الله سَنَدٌ، ورجل صالح مُسْنَدٌ إليه .
ويعلّق الأستاذ عبد الله على الكبير،أحد محققى لسان العرب، على ذلك بقوله فى الهامش:
هكذا فى الأصل. والمعروف أن المسند هو الفعل فى الجملة الفعلية والخبر فى الجملة الاسمية. والمسند إليه هو الفاعل أو نائبه فى الجملة الفعلية، والمبتدأ فى الجملة الاسمية .
ورغم حديث سيبويه فى "الكتاب" عن المسند والمسند إليه فقد ظل يحتفظ، كما احتفظ مَنْ بعده، بمفهومى المبتدأ والخبر، بل شاع وساد هذان الأخيران واحتلا مكان الصدارة. ويقول سيبويه فى مؤلفه "الكتاب":
هذا باب المسند والمسند إليه – وهما لا يغنى [أو: لا يستغنى ـ المحقق] واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدا. فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبنى عليه [يعنى الخبر ـ المحقق] .
ويقول أيضا:
هذا باب الابتداء ـ فالمبتدأ كل اسم ابتدئ به ليُبنى عليه كلام. والمبتدأ والمبنى عليه رَفْعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبنى عليه. فالمبتدأُ الأولُ والمبنى ما بعده عليه فهو مسند ومسند إليه .
وتعريف "المعجم الوسيط"، الذى أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مدخل: "جَمَلَ"، للجملة هو ما يلى:
الجملة (عند البلاغيين والنحويين): كل كلام اشتمل على مسند ومسند إليه .
وهنا نتخلص من التمييز الذى تتضمنه عبارة سيبويه، ومَنْ بعده، ومنهم الأستاذ عبد الله على الكبير، بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وكذلك بين الفاعل (ونائبه) من ناحية والمبتدأ من ناحية أخرى. على أنه تخلُّص مؤقت ذلك أن هذا المعجم كان متأثرا بطبيعة الحال بقرارات الدورة الحادية عشرة للمجمع ومنها إلغاء التمييز بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وبين المبتدأ والفاعل، وغير ذلك، وهذا ما تراجع عنه المجمع فيما بعد كما رأينا وكما سنرى. وفى سياق هذا التطور المؤقت جاء تعريف "المعجم الوسيط" (فى مدخل: سَنَدَ) للمسند والمسند إليه كما يلى:
المسند (فى العلوم العربية): المحكوم به. والمسند إليه: المحكوم عليه .
وتختفى لفظة "المبتدأ" من مدخل "بدأ"، ويختفى المعنى النحوى الاصطلاحى للفظة "الخبر" فى مدخل "خبر"، مع بقاء هذا المعنى للفظة "الفعل" و"الفاعل" فى مدخل "فعل" فى المعجم المذكور، بطبيعة الحال .
فهل هناك معنى نحوى حقيقى لإدراج كل تلك المرفوعات المتنوعة (ما عدا المسند أو الخبر) فى مفهوم واحد وحيد هو المسند إليه؟
قلنا منذ قليل إن المسند إليه يشمل كل هذه المرفوعات (بالاستثناء المذكور) لأن الفعل يُسند إليها ويُصرَّف معها (كما يُسند إليها "الخبر") وهذا معنى نحوى مشترك لا سبيل إلى الشك فى أهميته الجوهرية. غير أن الأمر يحتاج إلى المزيد والمزيد من الإيضاحات.
ونبدأ بالاختلاف البادى بين المبتدأ وبقية أنواع المسند إليه.
وهناك، أوَّلا، الواقع اللغوى الصرفى المتمثل فى أن إسناد الفعل يختلف حسب تقدمه على المسند إليه أو تأخره عنه. ويظهر هذا الاختلاف عند تصريف الأفعال مع ضمائر الغائب (فى المثنى بنوعيه والجمع بنوعيه) فى الماضى كما فى المضارع. فعندما يتقدم الفعل فاعله (وينطبق هذا على كل المرفوعات التى تندرج تحت اسم المسند إليه باستثناء ما يُسمى بالمبتدأ)، يكون تصريف الفعل فى المفرد المذكر مع كل مذكر (مفرد أو مثنى أو جمع)؛ وفى المفرد المؤنث مع كل مؤنث (مفرد أو مثنى أو جمع). وعندما يتأخر الفعل عن فاعله (أى ما يُسمى بالمبتدأ) تظهر كل نهايات التصريف فى الماضى وبوادئ ونهايات التصريف فى المضارع (وهى النهايات التى يزعم النحو العربى أنها ضمائر الرفع البارزة المتصلة، والبوادئ التى يسميها حروف المضارعة) وفقا للنوع والعدد.
ويتضح هذا الاختلاف من الأمثلة التالية:
الفعل قبل الفاعل الفعل بعد الفاعل
المثنى المذكر: تفوق/ يتفوق التلميذان التلميذان تفوقا/ يتفوقان
المثنى المؤنث: تفوقت/ تتفوق التلميذتان التلميذتان تفوقتا/ تتفوقان
جمع المذكر: تفوق/ يتفوق التلاميذ التلاميذ تفوقوا/ يتفوقون
جمع المؤنث: تفوقت/ تتفوق التلميذات التلميذات تفوقن/ يتفوقن
والحقيقة أن هذا الاختلاف فى الإسناد إلى الضمائر المذكورة بين ما يسمى بالمبتدأ وبقية أنواع المسند إليه، لا يمكن أن يبرر بحال من الأحوال الاحتفاظ بازدواج/ تعدد مفاهيم المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم كان وأخواتها وأسماء أفعال المقاربة والرجاء والشروع، بل يكفى إيضاح هذا الاختلاف فى الإسناد (التصريف) بين الفعل الذى يتقدم على فاعله والفعل الذى يتأخر عن فاعله فهو الفاعل فى الحالين مهما اختلف التصريف مع أربعة ضمائر من أصل ثلاثة عشر ضميرا، وحتى بافتراض اختلاف التصريف مع كافة الضمائر. ذلك أن العلاقة النحوية بين الفعل المسند والفاعل المسند إليه لا تختلف بهذه الاختلافات فى تفاصيل (وليس فى جوهر) التصريف والإسناد.
وبطبيعة الحال فإن من النتائج الإيجابية لإلغاء هذا التمييز بين المبتدأ وبقية أنواع المسند إليه حقيقة أننا نتخلص بذلك من افتراض وجود فاعل بعد الفعل الذى يلى المبتدأ يعود على هذا الأخير (فى هيئة ضمير مستتر) أو يربطه بالمبتدأ (فى هيئة ضمير رفع بارز متصل كما يسمونه وذلك مع كافة ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب باستثناء ضمير الغائب المفرد بنوعيه)، ونتخلص بالتالى مما يسمى بالخبر الجملة الفعلية.
ولعلنا نلاحظ هنا أن هذا الفعل الذى "تأخر" عن المبتدأ قد "تقدَّم" فى الوقت نفسه على الفاعل المزعوم (الضمير المستتر أو البارز المتصل) وأن الإسناد يعامله على أساس "تأخره" على المبتدأ وليس على أساس "تقدمه" على الفاعل المفترض الذى لا وظيفة له سوى تعقيد النحو والإعراب.
وهناك، ثانيا، الواقع اللغوى النحوى الإعرابى المتثل فى أن الفاعل الذى يتقدم عليه فعله مرفوع دوما (إلا فى حالات قليلة يعتبرون فيها أن الفاعل مجرور، فى محل رفع، بحرف جر زائد، مثل: "وكفى بالله شهيدا" )، أما الفاعل الذى يتأخر عنه فعله (أى ما يسمى بالمبتدأ) فهو مرفوع ما لم يسبقه ناصب أو جارّ، وهذا كثير لأن "المبتدأ" قد يأتى منصوبا بعد حرف ناسخ أومفعولا به منصوبا لفعل سابق وقد يأتى مجرورا بحرف الجر أو الإضافة.
ومرة أخرى فإن هذا الاختلاف الإعرابى بين الحالة التى يتقدم فيها الفاعل والحالة التى يتقدم فيها الفعل لا يبرر بحال من الأحوال ذلك التمييز النحوى التقليدى بين المبتدأ وبقية أنواع المسند إليه، بكل التعقيدات التى يجلبها ذلك التمييز ويفتعلها افتعالا. ويكفى أن نعرف أن الفاعل (المسند إليه) الذى يتقدمه فعله مرفوع دوما (بالاستثناء النادر المذكور أعلاه)، وأن الفاعل الذى يتأخر عنه فعله مرفوع إنْ لم تسبقه عوامل/ أسباب/ مؤثرات نصب أو جر لفظية أو معنوية يخضع لها بدلا من الرفع الذى يمثله وضعه الإعرابى الأصلى كفاعل ينبغى تمييزه بالرفع من المفعول به المنصوب على قاعدة المخالفة النحوية الإعرابية.
وهناك، ثالثا، اختلاف يبدو فى البداية بالغ الأهمية بين ما يسمى بالمبتدأ وبقية أنواع المسند إليه. فالفاعل يُسند إليه الفعل دوما (إذا وضعنا الحذف جانبا)، بينما المبتدأ لا يُسند إليه الفعل بالضرورة فهذا لا يحدث إلا فى حالة ما يُسمى بالخبر الجملة الفعلية حيث يأتى المبتدأ يليه الفعل. وهنا يبدو من السخف التام أن نجمع فى مفهوم واحد هو المسند إليه، بين الفاعل الذى لا يستغنى عن فعل قبله والمبتدأ الذى قد يستغنى عن فعل بعده فلا يحتاج إليه إلا فى نوع واحد من ثلاثة أنواع من الخبر (أعنى الخبر الجملة الفعلية) حسب مذاهب أو مزاعم النحو العربى.
فهل تكمن الحقيقة فى هذا الذى "يبدو"، أم أن هناك "مسافة" ينبغى أن يحاول العلم "دوما" أن يقطعها بين ما يبدو وبين الحقيقة؟
وهناك، من الناحية العملية، جمل لا تحصى ولا تعد، نسمعها أو نقولها، نقرأها أو نكتبها، فلا نجدها تشتمل على الفعل أصلا. وهذا ينطبق على كل "جملة اسمية" لا يكون خبرها "جملة فعلية". فهل هناك حقا جملة خالية من الفعل فى اللغة العربية؟ وما دام المبتدأ ليس فعلا ولا يفترض فيه أن يكون فعلا (إلا فى مثل قولنا: يأكل فعل مضارع)، وما دام الخبر هو الذى يشتمل أو لا يشتمل على الفعل، فمن المنطقى أن نتوقع أن التحليل الدقيق المعمق لما يسمى بالخبر هو الذى سيقودنا إلى الإجابة عن السؤال المذكور آنفا عن حقيقة وجود أو عدم وجود جملة خالية من الفعل، ومن المنطقى أيضا أن ينقلب السؤال إلى: هل هناك خبر خال من الفعل؟
وهنا يحضرنى أن المرحوم الدكتور مهدى علام، النائب الأسبق لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، أشار ذات مرة، ضمن تقديمه لكتاب لا أذكر الآن ماذا كان، إلى أن الجملة الاسمية لا ينبغى أن تشمل تلك التى خبرها جملة فعلية لأن هذه الجملة البادئة بالاسم تشتمل مع ذلك على الفعل، وإنما الجملة الاسمية، فى اعتقاده، هى تلك الخالية من الفعل تماما، بينما الجملة الفعلية هى تلك التى تشتمل على الفعل مهما كان مكانه داخل الجملة. وأضاف أن الجملة الاسمية الخالية من كل فعل لا وجود لها فى لغة كالإنجليزية التى لا تعرف سوى الجملة الفعلية بمعنى الجملة المشتملة على فعل مع أن مكانه ليس، نموذجيا، فى بداية الجملة.
ولا يسعنى إلا أن أتفق مع الدكتور مهدى علام فى نقطة أن مكان الفعل (فى أول أو وسط أو آخر الجملة) لا يهم "نحويا"، فلا يبرر بالتالى تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية. لكننى أبادر إلى إبداء الشك العميق فى أن الجملة العربية، أية جملة عربية، يمكن أن تخلو من "الفعل"، اللهم إلا فى إطار مفهوم "الحذف"، وهذا مفهوم واسع لا يقتصر على الفعل بل يمتد ليشمل المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل (تحت مسمى الضمير المستتر)، وكل مفهوم من هذه المفاهيم يحمل لقب "عُمدَة"، كما يمتد من باب أولى من "العمدة" إلى "الفَضْلـَة" كالمفعول به وغيره.
وشبيه برأى الدكتور مهدى علام رأى المستشرق ج. برجشتراسّر Bergstraesser فى كتابه "التطور النحوى للغة العربية"، إذ يقول:
والجملة مركبة من مسند ومسند إليه فإن كان كلاهما اسما أو بمنزلة الاسم فالجملة اسمية، وإن كان المسند فعلا أو بمنزلة الفعل فالجملة فعلية .
وفيما كنت أتصفح بسرعة كتاب "المرجع فى قواعد اللغة القبطية" لأعرف ما إذا كان النحو القبطى يعرف هذا التمييز الغريب بين جملة اسمية وجملة فعلية، لفت نظرى أن أجد فكرة الدكتور مهدى علام موجودة فى هذا النحو. ونقرأ فى الكتاب المذكور ما يلى:
تنقسم الجملة إلى جملة فعلية واسمية. والجملة الفعلية هى التى تحتوى على فعل يجيء فى أى صيغة من الصيغ، والجملة الاسمية هى التى لا تحتوى على فعل .
ونقرأ فيه أيضا:

الجملة الاسمية البسيطة هى التى لا تحتوى على فعل وإنما تحتوى على مبتدأ وخبر فقط. ويكون المبتدأ اسما أو ضميرا، أما الخبر فيكون اسما موصوفا أو جارّا ومجرورا. والجملة الاسمية تدل على حكم عام له دلالة الحاضر .
وأنا لا أعرف اللغة القبطية ولا النحو القبطى، ومن يعرفهما يمكن ان يعلق على هذا التصنيف للجملة فى تلك اللغة، غير أن اللافت للنظر هو أن الحديث يدور حول جملة اسمية من المبتدأ والخبر باعتبارها "تدل على حكم عام له دلالة الحاضر"، وهو كل ما يمكن أن يقال عن الجملة المسماة بالاسمية فى النحو العربى (باستبعاد "الجملة الاسمية التى خبرها جملة فعلية") لأن الجملةالاسمية التى لها "دلالة الحاضر"، هى الجملة التى تعطى دلالة المضارع دون أن يكون هناك فعل ظاهر صريح (منطوقا أو مكتوبا)، وهذا ما لا يحدث إلا فى حالة الفعل الرابط المحذوف فى المضارع المثبت، لأن دلالة الزمن لا تأتى دون فعل، ولأن ظهور دلالة زمنية للجملة بدون ظهور الفعل، أى: بدون فعل صريح، إنما يعنى وجود فعل محذوف تظهر حقيقته بالمقارنة مع صياغة الماضى والمستقبل والنفى للمعنى الذى تتضمنه نفس الجملة، مع ملاحظة أن المضارع هو قبل كل شيء، وفى لغات عديدة على الأقل، هو زمن التعبير عن الحقائق العامة.
ورغم أن الإسراف فى تقدير الأشياء المستترة والمحذوفة وما إلى ذلك، كما يفعل النحو العربى، تعقيد غير مقبول، ويقوم بصفة عامة على الوهم، إلا أن هناك ما يدعو إلى افتراض فعل محذوف فى الجمل الخالية عمليا من فعل ظاهر صريح. والمحذوف هو الفعل الرابط فى المضارع المثبت.
والاستنتاج العام هو أن الجملة العربية التى تخلو من فعل غير فعل الكينونة تشتمل على هذا الأخير ظاهرا صريحا فى الماضى والمستقبل المثبتين والمنفيين، وفى المضارع المنفى، وفى بعض صور المضارع المثبت، وتنطوى عليه غير صريح، أى: محذوفا فى المضارع المثبت، وهذا مع ما يسمى بالخبر المفرد، والخبر الجملة الاسمية الخالية من فعل تام، والخبر شبه الجملة. ومن الجلى بطبيعة الحال أن هذا الاختفاء أو الحذف لفعل الكينونة فى المضارع المثبت، وبالأحرى فى أكثر أحواله شيوعا فى المضارع المثبت، إنما يرجع إلى الاقتصاد اللغوى.
وهنا يتضح بجلاء أن ما يسمى بالخبر المفرد، وهو المرفوع عمليا فيما يسمى بالخبر، والذى قيس عليه رفع الخبر كله، بكل أنواعه، "رفعا مَحلّيا"، ليس فى الحقيقة سوى ما يسمى بخبر كان ( كما يتضح من الماضى والمستقبل مثبتين ومنفيين ومن المضارع منفيا وحتى مثبتا فى بعض الأحوال)، ولم يصبح مرفوعا إلا بصورة عرَضية وظاهرية وعشوائية لأن أصله النصب بعد كان، وعندما تم حذف هذا الأخير فى المضارع المثبت، اختفى بالتالى السبب اللفظى الصريح للنصب وصار ما يسمى بالخبر المفرد مرفوعا، فى سياق أشبه ما يكون بما يسمى بنزع الخافض المؤدى إلى النصب بعد سقوط حرف الجر، فهنا يؤدى "نزع" الناصب إلى هذا الرفع الظاهرى العشوائى.
والخلاصة أن كل مبررات تقسيم الجملة العربية إلى اسمية وفعلية تبدو ضعيفة واهية، بالإضافة إلى أن هذا التقسيم كان ولا يزال بالغ الضرر على النحو العربى، وبالتالى فإن أركان الجملتين: الاسمية (المبتدأ والخبر)، والفعلية (الفعل والفاعل) ينبغى أن تترك مكانها لمفهوم سليم لكل من المسند إليه والمسند.
ويتعارض هذا المفهوم السليم بطبيعة الحال مع الاحتفاظ إلى جانب المسند إليه والمسند بكل المسميات على التقسيم من الجملة الاسمية والجملة الفعلية، والمبتدأ والخبر والفعل والفاعل كأركان أساسية لهما، وتقدم الفعل وجوبا على فاعله، وتأخر الفعل وجوبا عن المبتدأ؛ كما يفعل الكثيرون؛ من سيبويه والنحاة القدامى، إلى العقيد الركن أنطوان الدحداح ، إلى الدكتور مهدى المخزومى، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الرياض .
على أن بلورة المفهوم السليم لكل من المسند إليه والمسند ما تزال بحاجة إلى المزيد من النقاش، وسنبدأ بالمسند إليه.















3
المسند إليه

رأينا من قبل أن مرفوعات الأسماء كما يسميها النحو العربى، وهى تشمل إلى جانب بقية المرفوعات ما يسمى بالخبر (أى: المسند)، تختلف جميعا عن هذا الأخير فى واقع أن الأفعال إنما يتم إسنادها إليها، وتصريفها معها، الأمر الذى يجعلها جميعا، باستثناء المسند، متطابقة مع مفهوم المسند إليه، أى تلك الأسماء، والضمائر، إلخ.. التى يتم إسناد الأفعال إليها وتصريفها معها.
وبعد ذلك رأينا أن مايسمى بالمبتدأ يختلف عن بقية أنواع المسند إليه فى تفاصيل بذاتها فى تصريف الأفعال معه مع بعض ضمائر الغائب، وفى الإعراب، وفى مجيء ما يسمى بالمبتدأ دون أن يليه فعل على الإطلاق فى أنواع الخبر المسماة بالخبر المفرد، والخبر شبه الجملة، والخبر الجملة الاسمية. وانتهينا إلى أنه لا سبيل إلى الشك فى أن ما يسمى بالمبتدأ هو فى الحقيقة نوع من أنواع المسند إليه، وإلى أنه لا ينبغى أن يستقل الفاعل عندما يتقدم على فعله بلقب خاص كالمبتدأ الذى لم يدخل مفهومه إلا من باب ذلك التمييز المبدئى المبالغ فيه بين مسند إليه يتقدمه فعله ومسند إليه يليه فعله، فى ارتباط وثيق بتقسيم الجملة العربية الواحدة إلى جملة اسمية وجملة فعلية.
والخلاصة هى ان المسند إليه مفهوم ينطبق على "مرفوعات" الأسماء، باستثناء المسند المسمى بالخبر. والمسند إليه والمسند هما الركنان الوحيدان للجملة العربية (دون تمييز بين جملة اسمية وجملة فعلية)، وسنرى أنهما كل شيء فى الجملة، فكل شيء فى الجملة غير المسند إليه هو المسند، وكل ما فيها غير المسند هو المسند إليه.
على أن المسند إليه يواجهنا من جديد ببعض التناقضات التى ينطوى عليها مفهومه النحوى. صحيح أنه هو ما نسند إليه الفعل ونصرّفه معه حسب عدده ونوعه، وصحيح أنه هو المرفوع من حيث المبدأ على قاعدة المخالفة مع نصب المفعول به، وصحيح أنه هو موضوع الحديث، والمحدَّث عنه، والمحكوم عليه، وأننا نحكم عليه بالمعنى المثبَت أو المنفى الذى يتضمنه المسند الذى هو الركن الآخر للجملة، أى المحكوم به، أو المحمول، أو المتحدَّث به.
غير أننا نواجه مع ذلك مجموعة من التناقضات. وإذا استعدنا حقيقة أن المسند إليه هو فاعل الفعل، وأن لفظ "الفاعل" ربما كان بديلا موفقا عن (وحتى أفضل فى كثير من الأحوال من) تعبير "المسند إليه"، يواجهنا فى الحال ذلك السؤال الملح عن معنى "الفاعلية" وكيف تنطبق هذه الكلمة بدلالاتها اللغوية المعروفة على الفاعل ونائب الفاعل؛ باعتبار هذا الأخير فاعلا للفعل المبنى للمفعول أو المسند إلى المفعول والمصرَّف معه، وكيف تنطبق الفاعلية على فاعل كل من الفعل المتعدى والفعل اللازم، وكيف تنطبق مع الإرادة وانعدامها، مع الدلالة على الحدث ومع الدلالة على مجرد الربط (فعل الكينونة بصفة خاصة)؟ وكيف نطبق مفهوما كالمسند إليه بمعنى الفاعلية على "محمود"، على قدم المساواة، فى جمل مثل: "قَتَلَ محمودٌ اللصَّ بعد مطاردة رهيبة"، و"قُتِلَ محمودٌ فى الحادث"، و"غَرِقَ محمودٌ"، و"كان محمودٌ شاعرًا كبيرًا"؟؟!!
ولا شك فى أن الأفعال بكل أحوالها المشار إليها (التام والناقص، المتعدى واللازم، المبنى للمعلوم والمبنى للمفعول)، وبكل الدلالات المعجمية للأفعال وبكل دلالاتها فى أبنية مجرد الثلاثى والرباعى ومزيداتهما، إنما يتم تصريفها مع المسند إليه بمختلف أنواعه، غير أن السؤال يظل مطروحا فيما يتعلق بطبيعة العلاقة الدلالية القائمة بين المسند إليه وفعله، فالفاعلية فى الأفعال التى تدل على أحداث، غير الكينونة فى الأفعال التى تدل على مجرد الكينونة أو على أوقات الكينونة، بالإضافة إلى حقيقة أن نائب الفاعل إنما هو الفاعل بالمعنى النحوى الذى هو المسند إليه من حيث الإسناد الصرفى (تصريف الفعل المبنى للمفعول مع المسند إليه وتسميته نائبا للفاعل)، ومن حيث الإعراب (فهو مرفوع كما ينبغى للمسند إليه أو الفاعل أن يكون) ولكنه فى الوقت نفسه مفعول به فى المعنى، إذ يدل بناء الجملة على وجود فاعل محذوف أحدث ما أحدث فى هذا المسمى بنائب الفاعل والذى لا يمكن أن نتصور عقلا أن ينوب عن الفاعل؛ اللهم إلا فى حالات نادرة فى مثل قولنا: "أنيب محمودٌ عن رئيسه" فمحمود هنا نائب عن الفاعل (أى: عن رئيسه) إذا كان رئيسه بنفسه هو الذى أنابه عنه.
وربما ألقى ضوءًا باهرا على هذا الالتباس واقع أن الأفعال بكل الأبنية ذات الدلالات المتباينة، وبكل أحوالها من حيث التعدية واللزوم أو البناء للمعلوم أوالمجهول؛ إلخ.....، تحمل جميعا، مع كل هذا، لقب "الفعل"، ولهذا فإن التباين الدلالى لمفهوم الفعل ذاته يقود بيسر إلى فهم وتفسير التباين الدلالى لمفهوم الفاعل.
على أن تعريف الفاعل، وهو مقتصر أصلا على المفهوم الأصلى للفاعل، أى بدون بقية المسند إليه، بدون المبتدأ، وبدون نائب الفاعل، وبدون أسماء "كان وأخواتها"، يقدِّم حلا سليما لتناقضات الفاعلية كما يطرحها الفاعل بمفهومه الأصلى، فالفاعل هو مَنْ (أو: ما) قام بالفعل، أو قام به الفعل، أو اتصف بالفعل، أو أسنِد إليه الفعل (طبعا بشرط أن يكون مبنيًّا للمعلوم وهو شرط يستبعد نائب الفاعل، وأن يكون فعلا تاما وهو شرط يستبعد الأفعال الناقصة وبالتالى اسم "كان وأخواتها"، وأن يتقدم على فاعله وهذا شرط يستبعد المبتدأ). ويتمثل الحلّ فى أن الفاعل بالمعنى النحوى لا يتصف بالضرورة بالدلالة اللغوية للفاعلية. وإذا قلنا: "يجرى الماء فى النهر"، فالفاعل هنا لا يقوم بفعل إرادى، وإذا قلنا: "غرق فلان فى البحر"، فالفاعل هنا ضحية الفعل وموضوعه وليس فاعله الحقيقى (وربما كان الفاعل الحقيقى هو البحر)، وإذا قلنا: "عَظُمَ فلانٌ"، فإن المقصود هو أن الفاعل عظيم، فهو لم يفعل شيئا بل اتصف به، أى: بالعَظَمَة.
كل هذا مقبول كفاعل، ومن السهل للغاية أن يمتد هذا المعنى النحوى للفاعلية إلى المبتدأ بالذات، لأن الفاعل والمبتدأ لا يختلفان فى الحقيقة إلا فيما فرضه عليهما النحاة من تقديم وجوبى للفعل على الفاعل وتأخير وجوبى للفعل على المبتدأ انطلاقا من نظرياتهم وليس من واقع اللغة العربية ذاتها. فلا صعوبة إذن فى إدراك أن "المبتدأ" الذى يليه فعل تام، مبنى للمعلوم، إنما هو الفاعل بعينه. وهكذا نجد أن المبتدأ والفاعل بمفهوميهما الأصليين أقرب إلى بعضهما (وهما فى الحقيقة نفس الشيء) من الأنواع الأخرى للمسند إليه، لأن كل ما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر من حيث "معنى" الفاعلية.
أما نائب الفاعل فمن الجلى أنه ذو طبيعة مزدوجة. فهو مسند إليه من حيث الإسناد والتصريف والإعراب: كفاعل يسبقه فعله المبنى للمفعول [للمجهول]، أو كمبتدأ يليه فعله المبنى للمفعول (وهو فى الحالين "فاعل" لفعل مبنى للمفعول) لأن هذا الفعل يُسنَد إليه ويُصَرَّف معه كما يقوم إعرابه بالرفع كفاعل على إسناد هذا الفعل إليه. غير أنه من ناحية أخرى [من ناحية المعنى] ليس فاعلا، فهو بالأحرى مفعول به لأنه المقتول وليس القاتل فى جملة: "قُتِلَ فلانٌ". غير أن فاعل الفعل المبنى للفاعل [للمعلوم] قد يكون بدوره ضحية للفعل الذى أُسنِد إليه بصورة لا تقلّ عن هذا المفعول الذى بُنِى له الفعل فصار نائب فاعل وفقا للنحو التقليدى. وفى جُمَل: "ماتَ فلانٌ"، أو "فلانٌ ماتَ"؛ أو: "غَرِقَ فلانٌ"، أو: "فلانٌ غَرِقَ"؛ أو: "تاهَ فلانٌ"، أو: "فلانٌ تاهَ"؛ يظلّ الفاعل هو "فلانٌ" (إذا وضعنا ما يسمى بالمبتدأ جانبا) فهو الميت، وهو الغريق، وهو التائه، وهناك فاعل مفترض، معلوم يُخْشَى منه أو عليه أو مجهول، وغير مذكور عادةً، هو الذى أماتَ (وقد يكون عزرائيل)، وأغرقَ (وقد يكون البحر أو الموج أو الدوار أو عدم إتقان السباحة)، وأتاهَ (وقد يكون الطريق أو الجهل بمسالكه). فلا فرق إذن من ناحية الفاعلية بين الفاعل لأفعال كثيرة (بحكم طبيعة هذه الأفعال) ونائب الفاعل، فهما من حيث المعنى مفعولان وليسا فاعليْن. غير أنهما يصلحان كلاهما للإدراج تحت مسمى المسند إليه أو الفاعل بالمعنى النحوى للكلمة.
فلا يبقى إذن سوى ما يُسمى اسم "كان وأخواتها" (وأفعال المقاربة والرجاء والشروع). وتدل هذه الأفعال على الكينونة، والتوقيت بالصباح أو الضحى أو النهار أو المساء أو الليل، وبيان المدة، والتحول، والنفى، والاستمرار (كان وأخواتها بالمعنى الضيق)، أو على قرب وقوع "الخبر" (أفعال المقاربة)، أو على رجاء (تَمَنِّي) وقوع "الخبر" (أفعال الرجاء)، أو على "البدء" فى وقوع "الخبر" (أفعال الشروع).
غير أن هذه الأفعال بدلالاتها المذكورة لا تزيد ابتعادًا عن الدلالة اللغوية للفاعلية عن كثرة من الأفعال اللازمة ولا عن الأفعال المبنية للمفعول. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأفعال لا تقوم بالربط فقط بين المسند إليه والمسند، بل تضيف معانى الاستمرار، أو الوشوك، أو الصيرورة، أو النفى؛ إلخ. إلخ.. إلى بقية المسند من أفعال وغيرها. والأهم من كل هذا أن فعل الكينونة بالذات يتجاوز الربط إلى تكوين عدد من الأزمنة المركبة مع الأفعال الأخرى فى اللغة العربية تماما كما يفعل فى الإنجليزية والفرنسية وكثرة من اللغات الأوروبية [بل ينفرد فعل الكينونة فى لغتنا بأنه يقوم فى مجال تكوين الأزمنة المركبة بما يقوم به فعل الكينونة وفعل الملكية معًا فى هذا المجال فى كثرة من اللغات الأوروپية].
ومعنى هذا أن الاسم الحقيقى لما يسمى باسم كان وأخواتها بكل أنواعها هو المسند إليه أو الفاعل. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نظرة النحو العربى إلى أفعال "كان وأخواتها" على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر تواجهنا بمشكلة جديدة. ذلك أنه عندما يُزاح مصطلحا المبتدأ والخبر جانبا تحتاج كل "نواسخهما" المزعومة هذه من أفعال ترفع المبتدأ وتنصب الخبر (كان وأخواتها وأفعال المقاربة والرجاء والشروع)، أو تنصب المبتدأ والخبر على أنهما مفعولان، كما يدعى هذا النحو (ظن وأخواتها: أفعال القلوب وأفعال التصيير)، ومن حروف تنصب المبتدأ وترفع الخبر (إن وأخواتها) إلى إعادة نظر شاملة.
على أن الجانب الأكبر من إعادة النظر الشاملة هذه، بعد النظر كمسند إليه (كفاعل) إلى اسم "كان وأخواتها"، أو اسم "إن وأخواتها"، الذى تليه كان الصريحة أو المحذوفة أو أخواتها [تختلف أفعال "ظن وأخواتها" فى أن لها فاعلا أصلا قبل ما يسمى بدخولها على المبتدأ والخبر ونصبهما كمفعوليْن فيما يزعم النحاة]،إنما يتجه إلى المسند (الخبر)، مع ملاحظة أن ما ينطبق على ما يسمى بخبر المبتدأ ينطبق أيضا على ما يسمى بخبر "كان وأخواتها" أو ما يسمى بخبر "إن وأخواتها"، مع فارق مهم هو أن الفعل "كان" يأتى صريحا فى حالة "كان وأخواتها"، وهنا يأتى ما يسمى بخبر "كان" منصوبا، ويأتى صريحا مع "إن وأخواتها" وهنا يأتى ما يسمى بخبر "كان" منصوبا أيضا وهنا يتكون من فعل "كان" مع الفاعل المزعوم بعده من ضمير مستتر أو ضمير رفع بارز متصل، فيما يزعم النحاة، خبر "إن" وهو من النوع المسمى عند هؤلاء بالخبر الجملة الفعلية، وقد يختفى فعل "كان" محذوفا بعد "إن وأخواتها" وفى هذه الحالة الأخيرة يأتى ما يسمى بخبر "إن" مرفوعا إنْ كان مفردا؛ فى غياب الناصب الصريح.
ومعنى هذا أن "كان وأخواتها" و"إن وأخواتها" لا تمثلان عالميْن مختلفيْن متباعديْن بينهما سور صينى عظيم، بل هما متداخلتان تماما، ذلك أن "إن وأخواتها" لا تستبعد أخوات "كان" صريحة ولا فعل "كان" صريحا أو "محذوفا" (فى حالة المضارع المثبَت) بعد المسند إليه بعد "إن وأخواتها"، إلا إنْ كان الفعل المسند فعلا آخر غير "كان وأخواتها". ذلك أن بوسعنا أن نقول: "إن الليل كان طويلا"، أو: "إن الليل سيكون طويلا"، أو: "إن الليل طويل"؛ وفى الجملة الأخيرة نفترض حذف "كان" قبل "طويل" تماما كما نفترض فى جملة: "الليل طويل" حذف "كان" قبل أو بعد "الليل"، وهذا الأخير هو المسند إليه أو الفاعل فى الحالين.
وقبل أن نقف وقفة متأنية عند العبارات والتراكيب اللغوية التى يمكن أن يتحقق من خلالها المسند إليه (أو: الفاعل)، نتوقف قليلا لمقارنة عابرة مع "نحو" لغة أخرى، هو "نحو" اللغة الإنجليزية، لنرى كيف أمكن لنحو تلك اللغة، وهو بالمناسبة نحو متطور للغاية، خاصة بفضل الثورة التى شهدها فى العقود الأخيرة، أن يقرر أن الفاعلية بالمعنى النحوى متحققة بلا أدنى شك فى أشكال شتى للمسند إليه (الفاعل) وفى أنواع وأشكال ودلالات وأحوال شتى للأفعال التى يجرى إسنادها إليه.
ونعتمد هنا على كتاب: A University Grammar of English [قواعد النحو الإنجليزى للجامعات] من تأليف راندولف كويرك Randolph Quirk، الأستاذ بجامعة لندن، وسيدنى جرينباوم Sidney Greenbaum، الأستاذ بجامعة ويسكونسين (والكتاب حديث نسبيا فهو صادر فى 1988) .
والمسند إليه (الفاعل) subject هو عادة مجموعة اسمية a noun phrase (اسم أو ضمير مع أو بدون صفة أو اسم موصول مع أو بدون صلة الموصول)، أو مجموعة جُمْلِيَّة (= "جُمَيْلَة" ) a clause (بادئة ﺒ "أنَّ" that-clause) ذات وظيفة اسمية a nominal function.
* والدور الدلالى الأكثر نموذجية للمسند إليه هو أنه فاعل agentive [أداتيّ] أى: مَنْ يقوم بحدث، وهو الكائن الحى الذى يُحْدِثُ الحدث الذى يدل عليه الفعل، مثل ما بين القوسين:

(چون) فتح الرسالة.

* وبالإضافة إلى وظيفته الفاعلية يكون للمسند إليه عادة دور مساعد أو مؤثِّر، أى أنه يعبر عن السبب المادى غير المقصود (غير الحى عادة) لحدث، مثل ما بين القوسين:

(الانهيار الجليدي) دمر منازل عديدة.

* ومع الأفعال اللازمة يكون للمسند إليه عادة دور متأثر affected، وهو الدور النموذجى للمفعول به، مثل ما بين القوسين:

(چاك) وقع على الأرض.
(القلم) كان موضوعا على المنضدة.

* ويمكن أيضا أن نمدّ الوظيفة الأخيرة إلى الأفعال التوكيدية intensive verbs، مثل ما بين القوسين:

(القلم) كان على المنضدة.

* ويغدو من الممكن الآن أن نلاحظ وجود علاقة منتظمة، من حيث وظيفة " المجموعة الجُمْلِيَّة " clause function، بين الصفات أو الأفعال اللازمة والأفعال المتعدية التى تناظرها والتى تعبِّر عن معنى سببى causative، مثل ما بين القوسين:

المسند إليه الفعل المسند إليه الفعل المفعول به
متأثر فاعل/ مؤثر متأثر

(الباب) انفتح (چون/ المفتاح) فَتَحَ الباب
(الزهور) ماتت (الجليد) (الزهور) ماتت (الجليد) قَتَلَ الزهور

*** ***
متأثر المتمم فاعل/ مؤثر متأثر

(الطريق) صار أضيق (هُمْ) ضَيَّقوا الطريق
(أنا) (أنا) صرتُ غاضبا (سلوكه) أغضبـــــنى

*** ***
فاعل فاعل متأثر

(كلبي) كان يتنزه (أنا) كنتُ أنَزِّه كلبي

* ويمكن أن يكون للمسند إليه أيضا دور [وظيفة] المتلقِّى recipient مع أفعال مثل: "يملك"، مثل ما بين القوسين:

(سميث) يملك جهاز راديو............. [اشتراه أو باعه له أبوه]

* وقد تكون للمسند إليه وظيفة بيان المكان أو الزمان، مثل ما بين القوسين:

(هذا الطريق) يَعُجُّ بالنمل.
(يوم الجمعة) سيكون عيد ميلادى.

* وهناك المسند إليه الدال على ترتيب أو نشاط متفق عليه، مثل ما بين القوسين:

(الحفل الموسيقي) سيكون يوم الخميس.

وهكذا، فبفضل تراثنا النحوى الذى أعطى لفاعلية المسند إليه (الفاعل) دلالة نحوية دقيقة: قيامه بالفعل، أو: قيام الفعل به، أو: اتصافه بالفعل، وكذلك بالاستفادة بهذه المقارنة مع النحو الإنجليزى الذى شهد ثورة عميقة خلال العقود الأخيرة، نعود مطمئنين أكثر إلى إحلال مفهوم الفاعل أو المسند إليه محل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء المسند (الخبر)، والحقيقة أن هذا الأخير ما كان ينبغى إدراجه أصلا ضمن مرفوعات الأسماء كما سوف نرى.
ويمكننا الآن أن ننتقل إلى بعض تجليات المسند إليه (الفاعل) للإلمام بها، ولمحاولة حلّ عدد من المشكلات التى تتعلق بالمسند إليه، فى الأقسام الثلاثة التالية قبل أن ننتقل إلى المسند (الخبر).




























4



4
المسند إليه
بعض تجلياته أو أشكال تحقيقه


فى "معجم النحو"، الذى وضعه الشيخ عبد الغنى الدقر، نقرأ التعريف التالى "للفاعل":
هو اسم، أو ما فى تأويله، أُسند إليه فعل تام أو ما فى تأويله، مقدَّم عليه، أصلى المحلّ والصيغة .
وأما ما فى تأويل الفعل فهو ما يعمل عمل الفعل، ويشمل الصفة (وهذه تشمل اسم الفاعل، وأمثلة أو صيغ المبالغة، والصفة المشبَّهة، واسم التفضيل) والمصدر واسم الفعل والظرف (كمايقول فى المتن والهامش) . غير أننا لن نقف عند ما يعمل عمل الفعل لأننا نركز المناقشة، طوال هذا البحث، من خلال حصرها فى حدود الفعل دون المؤوَّل به.
وكذلك لن نقف عند عبارة "مقدَّم عليه، أصلى المحلّ والصيغة" لأن المقصود بها، كما ورد فى الهامش ، هو استبعاد المبتدأ والفعل المبنى للمجهول. فقد سبق أن ناقشنا مسألة أن المسند إليه (الفاعل) هو ذاته المبتدأ، وهو ذاته نائب الفاعل، وهو ذاته اسم كان وأخواتها" (بما فى ذلك أفعال المقاربة وأفعال الرجاء وأفعال الشروع).
وإنما يهمنا الآن "الاسم، أو ما فى تأويله" لأننا نتجه الآن إلى مناقشة العلاقة بين المسند إليه من ناحية، وأنواع الكلمة أو الكلمات أو العبارات أو التراكيب التى تكون، أو تصلح لأن تكون، المسند إليه من ناحية أخرى.
والمقصود بالاسم هنا هو الاسم الصريح الظاهر، أو ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة (وهذه الأخيرة ليست فى الحقيقة ضمائر والتقدير السليم لها هو أنها نهايات تصريف الأفعال)، أو ما يسمى بالضمير المستتر (وهذا ليس سوى وهم)، أو الاسم الموصول. أما ما فى تأويله فهو التراكيب المصدرية، مثل ما بين القوسين فى الآية: "أو لم يكفهم (أنَّا أنزلنا)" ، أو فى الآية: "أو لم يأن للذين آمنوا (أنْ تخشع قلوبهم)" .
وهذا لا يختلف من الناحية الجوهرية عن تعريف المبتدأ، فى المعجم المذكور، وهو:
المبتدأ اسم صريح، أو بمنزلته، مجرد من العوامل اللفظية، أو بمنزلته، مُخْبَرٌ عنه، أو وصف رافع لمكتفٍ به .
والمقصود بالاسم هنا هو الاسم الصريح الظاهر، وكذلك ضمير الرفع البارز المنفصل، واسم الإشارة، والاسم الموصول، وأما الذى بمنزلته فهو ما بين القوسين فى الآية: "و(أن تصوموا) خير لكم" .
والمقصود بالمجرد من العوامل اللفظية (الأصلية) هو ما لم تسبقه مثلا حروف جرّ (أصلية) تخرج به عن أن يكون المبتدأ؛ مثل: إلى، على، عن، وأما الذى بمنزلة المجرد من العوامل اللفظية فهو المجرور ظاهريا بحرف جرّ زائد مثل "مِنْ" و"الباء" .
ومن الجلى أن الاسم (الصريح أو الضمير) أو الذى بمنزلته، والمجرد من العوامل اللفظية الأصلية أو الذى بمنزلته، أشياء تنطبق على الفاعل كما تنطبق على ما يسمى بالمبتدأ، فهى كلها تصلح إذن للمسند إليه، أو تكون كلها المسند إليه.
والحقيقة أن التجريد من العوامل اللفظية (الأصلية أو غير الأصلية؟!) لا ينبغى أن يكون شرطا للمسند إليه بأى نوع من أنواعه، وإنما هى نظرة النحو العربى التقليدى الذى لا يتصور مفعولا لفعل وفاعل سابقين قبل أن يصير فاعلا لفعل آخر "جديد" فى الجملة نفسها، والذى لا يتصور مجرورا بحرف جر أصلى أو بالإضافة فاعلا فى الوقت ذاته لفعل يأتى بعده، مع أنه يتصور "ازدواجات" أخرى عديدة إعرابية أو نحوية وإعرابية مثل اللفظة الواحدة منصوبة بعد "إن وأخواتها" مع أنها المبتدأ أو المسند إليه مثلا، أو مثل اللفظة الواحدة التى هى مضاف إليه باعتبار ما قبلها ومضاف باعتبار ما بعدها، مثل لفظة "حجرة" فى جملة: "بابُ حجرةِ الدراسة مفتوح"، فهى مضاف إليه بعد "باب" ومضاف قبل "الدراسة".
أما الوصف الواقع مبتدأ، والذى يستغنى عن خبره بمرفوعه الفاعل (مثل: أَمُرْتَفِعٌ البناءُ؛ ومثل: ما مُكْرَمٌ الجبانُ) حيث البناء فاعل، والجبان نائب فاعل ، بينما احتاج كل من الوصفين إلى فاعل أو نائب فاعل؛ مُرْتَفِعٌ (اسم فاعل) إلى الفاعل، ومُكْرَمٌ (اسم مفعول) إلى نائب الفاعل، فإنه فى نظرى ظاهر التكلف، ويؤكد هذا شرحُهم ذاته وفحواه أن:
بعض أنواع الوصف يُشبه الفعل فى أنه يرفع بعده فاعلا أو نائب فاعل؛ وذلك بشروط معينة ... .
وإذا كان الوصف "مرتفع" ... "يُشبه الفعل"، ويحتاج بالتالى إلى فاعل هو "البناء" ـ فلماذا لا يعتبرونه نوعا من الفعل والفاعل؟ أو بالأحرى ـ وببساطة ـ خبرًا متقدما (مرتفع) ومبتدأً متأخرا (البناء)؟ ولا يغير من هذا فى شيء واقع أن الجملة استفهامية (أمرتفع البناء؟ = أالبناء مرتفع؟ = هل البناء مرتفع؟) أى أننا إزاء المسند إليه (الفاعل) وهو "البناء" وما يسمى بالخبر المفرد المرفوع وهو "مرتفع"، حسب طريقة النحاة، وسوف يتأكد لنا أن هذا المسمى بالخبر المفرد المرفوع ليس خبرا (مسندا) وليس مرفوعا (بل هو ما يسمى فى النحو العربى التقليدى بخبر كان "= متمم الفاعل فى المصطلح النحوى الحديث" بعد حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبَت).
والحقيقة أن هذه الجملة من المبتدأ الوصف والمرفوع الفاعل (أو بإيجاز: هذه الجملة من المبتدأ والفاعل) تمثل ذروة الاضطراب فى نحوهم الذى يفترض، كما يقول ابن عقيل، أن:
المبتدأ على قسمين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له فاعل سدّ مسدّ الخبر .
أما عبارة "مخبر عنه" فهناك بالطبع المسند (الخبر)، وهو الفعل أو الفعل وما صحبه، وبإطلاق التقديم والتأخير فى ترتيب عناصر الجملة لن يكون هناك فرق نحوى حقيقى بين الفاعل (المسند إليه) وما يسمى بالمبتدأ، كما رأينا من قبل.
وهكذا نجد أننا فى الحالين إزاء، أو إزاء ما يصلح لأن يكون، المسند إليه (الفاعل). فما هى الكلمة أو الكلمات أو العبارات أو التراكيب التى تصلح لذلك؟
وبطبيعة الحال فإن الحديث عن الكلمات أو العبارات التى تصلح أو لا تصلح لأن تكون المسند إليه (الفاعل) ينطبق بحذافيره تقريبا على كل المسميات الأصلية التى تندرج تحت مفهوم المسند إليه (من فاعل، ونائب فاعل، ومبتدأ، واسم "كان وأخواتها") كما ينطبق أيضا على المفعول به الذى يكون أيضا اسما صريحا (أو ضميرا بارزا منفصلا أو "متصلا" أو اسما موصولا) أو ما فى تأويل الاسم. على أن "التجرد من العوامل اللفظية التى قد تصنع الازدواج النحوى أو الإعرابي" ينطبق على بعض أنواع المسند إليه أكثر من غيرها، كما يكون انطباقه على المفعول به أقل بما لا يقاس من انطباقه على المسند إليه.
وينبغى أن يكون واضحا على وجه الخصوص أن هذا الحديث لا ينطبق على المسند (الخبر). فالمسند يختلف جوهريا عن المسند إليه فى حقيقة أن هذا الأخير عنصر من عناصر الجملة (مهما تعددت كلمات هذا العنصر) أما المسند فقد يتكون من مجموع كافة العناصر الأخرى للجملة (الفعل، والمفعول به، ومتمم الفاعل ومتمم المفعول به، والظرف). والحد الأدنى للمسند (الخبر) هو الفعل اللازم. ولأن المسند (الخبر) هو قبل كل شيء الفعل، مع أو بدون عناصر أخرى، فهو جزء من الجملة يختلف عن المسند إليه بكل أشكاله، ولا يُعقل الحديث عن كلمات أو عبارات تصلح أو لا تصلح لأن تكون المسند (الخبر) وإنما يكون الحديث النحوى المنطقى الحقيقى عن عناصر الجملة التى تشكل المسند (الخبر) وأولها الفعل. على أن من المنطقى بعد ذلك أن نلتفت إلى الكلمات أو العبارات أو التراكيب التى تصلح لأن تكون "التحقيق المباشر" لكل عنصر من عناصر الجملة التى يتشكل منها المسند. ومن هذه العناصر: "الفعل" وهو معروف ومتميز، والمفعول به وينطبق عليه بوجه عام ما ينطبق على المسند إليه من حيث تحقُّقُه بالاسم أو ما فى تأويله، وهناك تراكيب خاصة متنوعة لكل من العنصرين الباقييْن: الظرف، ومتمم الفاعل ومتمم المفعول به.
وليس من الوارد هنا بطبيعة الحال أن نستقصى كافة الكلمات أو تراكيب أومجموعات الكلمات التى تصلح أو لا تصلح لأن تكون المسند إليه (الفاعل)، أو لأن تكون عناصر أخرى. ذلك أن التركيز هنا ينصبّ على نقاط بذاتها فى سبيل تطوير النحو ولا يمكن فى مثل هذا السياق التفكير فى الإلمام بكل أبواب النحو أو فى تقديم عرض منهجى منتظم للنحو الجديد المقترح. وعلى هذا فإننا سنقف بإيجاز عند عدد من الكلمات أو أقسام الكلام أو العبارات أو التراكيب أو الصيغ التى تُستعمل عادة فى تحقيق أشكالٍ للمسند إليه (الفاعل).
وقد أشرنا، منذ قليل، إلى "الاسم"، ويمكن أن نضيف إلى الاسم ما يمكن أن يحلّ محلّه كالضمير أو اسم الإشارة المستعمل ضميرا، واسم الموصول، وكذلك التراكيب المصدرية التى يمكن تأويلها بالاسم أو القابلة للقيام بوظيفة اسمية.
على أنه ينبغى النظر إلى "كل لفظة" على أنها تصلح للاستعمال مسندا إليه (فاعلا) فى سياقات بذاتها، وبصفة خاصة فى سياق "التعريف"؛ مثل ما بين القوسين:

(الأسدُ) اسمٌ.

(يَذْهَبُ) فعلٌ.

(إلى) حرفٌ.

فالكلمات المستعملة بين قوسين هنا مستعملة وكأنها "أسماء" بتضمين معنى: "كلمة كذا" (= [كلمة "إلى"] حرف).
على أن الاسم وما فى معناه وما يحلّ محلّه هو المسند إليه (الفاعل). وهنا يمكن الحديث عن المجموعة الاسمية والمجموعة الفعلية. والمجموعة الاسمية تتضمن اسما وحدّها الأدنى هو هذا الاسم. والمجموعة الفعلية تتضمن فعلا وحدّها الأدنى هو هذا الفعل. والمجموعة الاسمية بحدّها الأدنى يمكن أن تكون: أسد، بنت، تلميذ، حسام، فرنسيون. غير أن هذا الحد الأدنى "قابل" للتوسيع بالتحلية ﺒ "ال"، أو بالوصف بكلمة أو أكثر، أو بإضافات متنوعة (بما فى ذلك تحويلها إلى مجموعة اسمية تحتوى على عناصر جملة متعددة دون أن تفقد حقيقة أنها مجموعة اسمية قابلة للقيام بوظيفتها الاسمية)، وهذه المجموعة الاسمية قابلة للاستعمال كمسند إليه لكن أيضا كمفعول به كما أنها صالحة لبعض العناصر الأخرى للجملة.
أما المجموعة الفعلية فيمكن أن تكون، فى حدها الأدنى، فعلا من الأفعال، مثل: أكل، قرأ، فهم، يستقبل. ولكنها أيضا قابلة للتوسيع بالنفى، أو بتكوين المجموعة من كلمات يتمثل رأس المجموعة فيها فى فعل.
وإلى جانب المجموعة الاسمية والمجموعة الفعلية هناك المجموعة الجُمْلية (= الجُمَيْلة) وتسمى هذه المجموعة (الجُمْلية) بالإنجليزية clause وبالفرنسية proposition وهى تتكون من مجموعة اسمية noun phrase (بالإنجليزية) أو groupe nominal (بالفرنسية) ومجموعة فعلية verb phrase (بالإنجليزية) أو groupe verbal (بالفرنسية). وتصلح المجموعة الجُمْلية ذات الوظيفة الاسمية للمسند إليه وللمفعول به، وتبدأ هذه المجموعة الجُمْلية ذات الوظيفة الاسمية بالأدوات: أَنْ، أَنَّ، ما.
والحقيقة أن تمحور النحو العربى حول الإعراب (منذ نشأته المتمحورة حول الإعراب بالذات ضد ظاهرة اللحن الإعرابى الذى كان يشكل خطرا على الإعراب فى مسار تاريخى انتهى بإسقاطه فى لغة الحياة اليومية وفى دوائر واسعة من لغة الكتابة والثقافة) أدَّى إلى تضحية النحاة فى كثير من الأحوال بالمفهوم السليم للمسند إليه كعنصر من عناصر الجملة لصالح اللفظة المفردة التى تحمل علامة الرفع (كما ظلوا يفعلون مع حالات الإعراب الأخرى كذلك)، مما أدَّى بهم إلى اعتبار المسند إليه هو اللفظة التى تحمل علامة الإعراب اللهم إلا فى حالات الإعراب المحلى والجمل التى لها محل من الإعراب، وفقا لمصطلحاتهم الشهيرة.
وعلى سبيل المثال ففى جملة: "سيأتى (معلِّم) المدرسة وليس (معلِّم) السوق"، يعتبر النحاة ما بين القوسين أى كلمة "معلِّم" هو المسند إليه بعد كل من "يأتي" و"ليس"، على حين يتمثل المنطق النحوى السليم فى أن المسند إليه هو "معلم المدرسة" فاعلا للفعل "يأتي" و"معلم السوق" فاعلا للفعل "يأتي" المنفى ﺒ "ليس"، مع إيضاح لا مناص منه هو أن اللفظة الأولى هى التى تأخذ إعراب المسند إليه (أى: الرفع، وعلامته هنا أى: الضمة) دون لفظة المضاف إليه المجرورة بالإضافة رغم أنها "جزء لا يتجزأ"، كما يُقال، من المسند إليه (الفاعل).
وعلى هذا سنورد مجموعة من الجمل وضعنا المسند إليه (الفاعل) فى كل منها بين قوسين، أما ما يرد خارج القوسين فهو المسند سواء جاء "قبل" المسند إليه أو "بعده"، أو جزء منه "قبله" وجزء آخر منه "بعده":
1: (هي) تعزف على الپيانو.
2: (هذه الفتاة الجميلة) تعزف على الپيانو.
3: (تلك الفتاة الجميلة ذات الحسب والنسب) تعزف على الپيانو.
4: (تلك الفتاة الجميلة ذات الحسب والنسب التى غضبت منى أمس عندما تحدثت معها بعصبية لم أقصدها أبدا والله العظيم) تعزف على الپيانو.
5: (هذه) تعزف على الپيانو و(تلك) على الكمان.
6: (صديقى الحميم) سيأتى معه.
7: سيأتى (صديقى الحميم) معه.
8: (أنَّك أتيتَ) كان جميلا منك.
9: (واقع أنَّك أتيتَ) كان جميلا منك.
10: كان جميلا منك على كل حال(واقع أنَّك أتيتَ).
11: (أنْ تعتذر) خير من أن تعاند وتستكبر.
12: (ما تسبب فى انقطاعه المفاجئ) ما يزال غير مفهوم.
13: "و(أنْ تصوموا) خير لكم" .
14: "أوَ لم يكفهم (أنَّا أنزلنا)" .
15: "عزيز عليه (ما عَنِتُّمْ)" .
16: "قل أُوحى إلى ( أنه استمع نفر من الجن)" .
ويمكن بطبيعة الحال مضاعفة المسند إليه (الفاعل) بالعطف مثل ما بين القوسين فى جملة: "(فلان وعلان) قاما بكذا"، أو بإضافة بدل له: "(عبد السلام، صديقى الذى حدثتك عنه أمس،) سيأتى لزيارتنا اليوم"، كما يُحذف المسند إليه (الفاعل) مع فعل الأمر، وكذلك عند تعدد الأفعال المسندة إليه فهو لا يتكرر مع كل فعل جديد.
ونعود هنا إلى نقطة بالغة الأهمية، ألمحنا إليها من قبل، فيما يتعلق بالمسند إليه (الفاعل) ويمكن أن نصوغ هذه النقطة فى شكل السؤال التالى: هل يمكن أن يكون المسند إليه (الفاعل) شيئا آخر فى الوقت ذاته، بمعنى "نحوي" أى أن يكون عنصرا آخر من عناصر الجملة بالإضافة إلى كونه مسندا إليه (فاعلا)، وبمعنى "إعرابي" بمعنى أن يكون منصوبا أو مجرورا رغم أن حكمه الرفع على أنه المسند إليه على كل حال؟
ونحن نعلم أن النحو العربى يميز بطبيعة الحال بين المسند إليه الذى يتقدمه الفعل (وهو الفاعل ونائبه واسم "كان وأخواتها") والمسند إليه الذى يتأخر عنه الفعل "وجوبًا" (وهو المبتدأ). وما يتقدمه الفعل مرفوع دائما إلا إذا جَرَّهُ "ظاهريًّا" حرف جرّ "زائد"، ويأتى الفاعل بمفهومه فى النحو العربى التقليدى مجرورا بعد "مِنْ" الزائدة، كما فى الآية: "وأن تقولوا ما جاءنا من بشير" ، أى: "جاءنا بشيرٌ"؛ أو بعد "الباء" الزائدة، كما فى الآية: "وكفى بالله شهيدا" ، أى: كفى اللهُ؛ وهذا على كل حال قليل.
أما المبتدأ فيختلف. فهناك ما يسمى بنواسخ الابتداء أو نواسخ المبتدأ والخبر. ويصبح المبتدأ هنا اسمًا منصوبا للناسخ مع "إن وأخواتها"، ويظل مع ذلك المبتدأ أو المسند إليه. وهناك حروف الجر الزائدة، التى تجر المبتدأ بدوره ظاهريا دون أن تغير طابعه النحوى باعتباره المبتدأ أو المسند إليه. فهو مبتدأ مجرور (فى "محل رفع" طبعا) بعد "مِنْ" الزائدة، كما فى الآية: "هَلْ مِنْ خالقٍ غيرُ اللهِ" ، أو بعد "الباء" الزائدة، فى "بحسبك درهمٌ"، أو كما فى الآية: "بأيِّكم المفتون" .
وهنا يأتى الشرط الخاص بأن المبتدأ مجرد من العوامل اللفظية الأصلية (وليس منها بالطبع حروف جرّ بالذات شاءت لهم براعتهم النحوية أن يسموها زائدة).
أما العوامل اللفظية الأصلية التى تعمل عملا غير الرفع فهى غير متوقعة عندهم مع الفاعل بالمفهوم التقليدى، إلا فى إطار ما يسمونه بحرف الجر الزائد الذى قد يسبق الفاعل، كما رأينا منذ قليل. ومن شأنها، من ناحية أخرى، أن تحوِّل "المبتدأ" إذا سبقه فعل وفاعله إلى "مفعول به"، أو أن تنحرف بالمبتدأ عن معناه أو أن تدمر أصلا كل معنى للجملة (إذا سبقته حروف جر أصلية؛ مثلا: إلى، على، فى، إلخ.).
ونخرج من هذا بأن النحاة يقبلون أن يسبق المسند إليه (الفاعل أو المبتدأ) حرف جر "زائد" لا يخرج به عن مفهومه كعنصر من عناصر الجملة، مع أنه مجرور (فى "محل رفع" بطبيعة الحال). وهم يقبلون نصب (أو رفع) "المبتدأ" بالنواسخ غير أنه يصير عندئذ اسما لهذا الناسخ أو ذاك (اسم "إن" فى النصب أو اسم "كان" فى الرفع).
غير أن هناك حالة، لم يطرحوها أصلا، للتجرد من العوامل اللفظية الأصلية، وهى حالة أن يتقدم المسند إليه (المبتدأ أو الفاعل) فعل ينصبه كمفعول به فتزدوج صفته ازدواجا جذريا بالمعنى النحوى: المسند إليه (الفاعل) لفعل سيكون مفعولا به أيضا لفعل آخر وفاعل آخر، وبالمعنى الإعرابى: المسند إليه (الفاعل) سيكون هنا فى "محل رفع" غير أنه سيكون فى الوقت ذاته منصوبا نصبا حقيقيا بعامل لفظى أصلى. على أن هذا النحو لا يقبل الازدواج الذى يصل إلى حد المرفوع بعامل أصلى والمنصوب فى الوقت ذاته بعامل أصلى أيضا من الناحية الإعرابية، أو إلى حد الفاعل والمفعول به فى لفظة واحدة فى آن معا، من الناحية النحوية. أما حقيقة أن نواسخ المبتدأ والخبر من حروف وأفعال عوامل لفظية أصلية فلا مناص من الالتفاف حولها "بحيل" لا حصر لها ولا حدود لبراعتها. فالألقاب الجديدة: اسم أو خبر "إن" أو اسم أو خبر "كان"، تتكفل بتغطية الفجوة بين الحالة الواحدة التى يريد النحاة أن يفرضوها نحويا وإعرابيا على اللفظة الواحدة وبين طبيعة الحياة ذاتها التى لا تمنع المفعول به من أن يكون فاعلا أو العكس.
والحقيقة أن التحليل الإعرابى النحوى التقليدى يتسم بنفاق لا حد فى هذه النقطة. فالفاعل الضمير المستتر يعود على (أو ضمير الرفع البارز المتصل يربط بـ) ما سبق الفعل من مبتدأ، او اسم ناسخ، أو المجرور، أو المفعول به. ويعود الضمير المستتر فاعلا "فى محل رفع" على ما قبله مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا. وتدل هذه العودة على أنهم يقبلون أن يستند المرفوع ("محليا") إلى المرفوع أو المنصوب أو المجرور، بما فى ذلك أن يستند الفاعل ("المرفوع محليا") إلى المفعول به المنصوب (مثل: رأيتُ المدرسَ يشرح موضوعا معقدا بسهولة لا تُصدّق)، فالنحو العربى التقليدى، الذى لا نملك غيره، يجعل فاعل "يشرح" ضميرا مستترا يعود فى "محل رفع" على "المدرس" أى المفعول به المنصوب، بدلا من أن يقبل فكرة أن "المدرس" هو المفعول المرئى لمن رآه والفاعل الشارح لموضوعه المعقد!!
ونضرب بعض الأمثلة مع التحليل النحوى الإعرابى المختصر للنقطة التى تهمنا فى كل منها:
1. السمك يعيش فى الماء.
(يزعمون أن فاعل "يعيش" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على المبتدأ المرفوع: "السمك" = المرفوع يعود على المرفوع = الفاعل فى المعنى وهو المبتدأ = السمك هو الذى يعيش).
2. أعتقد أنّ الحبَّ يقتلُ أحيانا.
(يزعمون أن فاعل "يقتلُ" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على اسم "أنّ" المنصوب: "الحبَّ" = المرفوع يعود على المنصوب = الفاعل فى المعنى هو اسم "أنَّ" = الحب هو الذى يقتل).
3. مررتُ برجلٍ يكلمُ نفسَه.
(يزعمون أن فاعل "يكلمُ" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على المجرور بحرف الجر: "رجل" = المرفوع يعود على المجرور = الفاعل فى المعنى هو المجرور = الرجل هو الذى يكلم نفسه).
4. رأى فلانٌ مناما يدورُ فى عالم غريب.
(يزعمون أن فاعل "يدور" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على المفعول به المنصوب: "مناما" = المرفوع يعود على المنصوب = الفاعل فى المعنى هو المفعول به = المنام هو الذى يدور).
ويتضح من التحليل الموجز السابق لبعض الجمل أن النحو العربى كان يمكن أن يريح نفسه وعلماءه ودارسيه ومستعمليه لو أنه اعتبر "ما يعود عليه الضمير المستتر المُتَوهَّم أو ما يربط به ضمير الرفع البارز المتصل المعلـَن أنه فاعل مع أنه مجرد نهاية تصريف للفعل"... "فاعلا" للفعل الذى يليه، قابلا، بالتالى، هذين الأمرين المترابطين:
1. المسند إليه (الفاعل) قد يخضع لتأثير عامل لفظى أصلى (غير عامل رفعه كمسند إليه) فينصبه أو يجره مع أن حقه الرفع.
2. المسند إليه (الفاعل) يمكن أن يكون بالإضافة إلى كونه هذا العنصر المحدد من عناصر الجملة عنصرا آخر فى الوقت ذاته، وبالأخص أن يكون مفعولا به لفعل وفاعل سابقين (تحليليا وليس مكانيا بالضرورة) بالإضافة إلى كونه المسند إليه (الفاعل) لفعل لاحق (قد يتعدى بدوره إلى مفعول به أو إلى مفعولين).
ومعنى هذا أن يقوم تحليلنا النحوى الإعرابى، فيما يتعلق بالمسند إليه (الفاعل)، بالبحث عن كل "فعل" فى الجملة، وأن نبحث عن فاعله الذى تم إسناده إليه وتصريفه معه، قبله أو بعده، سواء كان هذا الفعل ناقصا أو لازما أو متعديا، أو مبنيا لفاعل الفعل أو مفعوله، وهنا نرفع هذا المسند إليه (الفاعل) ما لم يكن مجرورا أو منصوبا بعامل من العوامل اللفظية من أدوات أو أفعال أو غيرها.
ومن الجلى أن اعتبارنا لاسم "كان وأخواتها" فاعلا (المسند إليه) يجعل هذا الأخير فاعلا لفعلين يتلوانه أو يسبقانه أو يسبقه أحدهما ويتلوه آخر، بفاصل بينه وبين الفعل، قبله أو بعده، أو بدون فاصل، ففى الجمل:
كان (مراد) يقرأ.
(مراد) كان يقرأ.
كان (مراد) وحده يقرأ.
"مراد" هو المسند إليه (الفاعل) لكل من الفعلين: "كان" و"يقرأ". على أن المسند فى كل الأحوال هو "كان يقرأ" (مع ضم "وحده" إليهما فى الجملة الأخيرة). فنحن إذن إزاء فعلين تم تصريف كل منهما مع المسند إليه (الفاعل) غير أنهما يشكلان معا "مجموعة فعلية" من نوع خاص تضيف فيها أفعال "كان وأخواتها" (وكذلك أفعال المقاربة والرجاء والشروع) دلالاتها المتنوعة إلى دلالة الفعل "التام" معها، وبصفة خاصة فإن فعل الكينونة بالذات يشترك مع الأفعال الأخرى فى تكوين الأزمنة المركبة فى اللغة العربية.
































5




5
ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر
أ: الأفعال المسماة بالناسخة

يقرر النحو العربى أن نواسخ المبتدأ والخبر كما يسميها تدخل على جملة أصلها المبتدأ والخبر فتنسخهما أى تغيِّر إعرابهما. فهل هى حقا نواسخ للمبتدأ؟ وهل تنسخ الخبر حقا؟ وهل تدخل حقا على جملة اسمية أو على جملة أصلها المبتدأ والخبر؟
لقد حاولت المناقشة السابقة تمهيد السبيل أمام إلغاء تقسيم الجمل إلى اسمية وفعلية، وإلغاء مفهوم المبتدأ ليكون مجرد نوع من أنواع المسند إليه (أى: الفاعل)، وإلغاء إعراب المسند (الخبر) وإخراجه من مرفوعات الأسماء، باعتبار أن ما يسمى بالخبر المفرد (وهو مرفوع "عمليا" دون شك لكنه رفع ظاهرى عشوائى كما رأينا وكما سنرى) ليس خبرا لأنه لا يكون خبرا إلا مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت، وباعتبار أن المفهوم السليم للمسند (الخبر) يشمل كل ما هو غير المسند إليه فى الجملة، ولا يُعقل التفكير فى إعراب مجموعة من العناصر النحوية المتنوعة حتى فى حالة إقرار ما يُسمَّى بالإعراب المحلى (فالإعراب المحلى يتعلق على كل حال بالعنصر الواحد من عناصر الجملة سواء أكان مبنيا أم متعدد الألفاظ وليس بعنصرين أو أكثر من هذه العناصر النحوية معا)، وباعتبار أن قياس رفع الخبر على هذا الرفع "العملي" العشوائى "للخبرالمفرد" إنما هو قياس فاسد ظاهر الفساد.
وفى ضوء هذه المناقشة نشعر بأن نواسخ الابتداء هذه تغدو معلقة فى الهواء، بقدر ما يهتز اقتناعنا بمفاهيم الجملة الاسمية والفعلية والمبتدأ والخبر وإعراب (رفع) الخبر.
وإذا نحن تأملنا جملة مثل: "إن الله يغفر الذنوب"، فإننا نجد أن الحرف الناسخ "إن" يمكن استخدامه لتوكيد جملة: "الله يغفر الذنوب" أو لتوكيد جملة: "يغفر الله الذنوب". وفى الحالين لا يمكننا أن نستنتج سوى شيء واحد وهو أن المسند إليه (الفاعل) فى الجملة البادئة بالاسم أو الجملة البادئة بالفعل هو الذى نأتى به بعد الحرف الناسخ "إن"، كما أن التأثير الإعرابى لهذا الأخير يقتصر على المسند إليه (الفاعل) بالنصب.
وبطبيعة الحال فنحن نقرأ أو نكتب، نسمع أو نقول، الجملة التى تشتمل على "النواسخ"، وقد صيغت بالنواسخ ومعها وبافتراض الدلالات اللغوية والبلاغية والنحوية لهذه النواسخ وكذلك بافتراض آثارها الإعرابية. ويبدو من العبث بالتالى بأن نبدأ بتجريد هذه الجمل من النواسخ التى كانت ماثلة فى صميم الجمل المعنية منذ البداية.
والنواسخ على كل حال متنوعة، وينبغى الحديث عن كل نوع منها على حدة وبما يتلاءم مع خصائصه. ونقرأ فى "النحو الوافي" للأستاذ عباس حسن مايلى:
النواسخ بحسب التغيير الذى تحدثه ثلاثة أنواع: نوع يرفع اسمه وينصب خبره فلا يرفع فاعلا ولا ينصب مفعولا؛ مثل: "كان - وأخواتها"، ونوع ينصب اسمه ويرفع خبره، مثل "إن - وأخواتها"، ونوع ينصب الاثنين، ولا يستغنى عن الفاعل؛ مثل: "ظن - وأخواتها" .
ونبدأ ببحث "كان وأخواتها" بالمعنى الضيق (أى بدون أفعال المقاربة والرجاء والشروع التى سنتناولها بعدها مباشرة).
وأفعال "كان وأخواتها" هى ما يلى:
أ: أفعال التوقيت بزمن: 1: كان 2: أصبح 3: أضحى 4: ظل 5: أمسى 6: بات.
ب: أفعال الاستمرار: 7: زال 8: برح 9: فتئ 10: انفكّ. (وهى لا تعمل عمل "كان" إلا إذا سُبقت بحرف نفى = ما زال، لا زال، لم يزل، وهكذا مع باقى هذه الأفعال).
ج: فعل الصيرورة أو التحول: 11: صار.
د: فعل النفى: 12: ليس.
ه: فعل الدوام أو بيان المدة: دام (بشرط أن يُسبق بما: ما دام).
وهى تختلف من حيث العمل:
أ: ما يعمل عمل "كان" مطلقا: 1: كان 2: أصبح 3: أضحى 4: ظل 5: أمسى 6: بات 7: صار 8: ليس.
ب: ما يعمل عمل "كان" بشرط أن يتقدمه نفى أو نهى أو دعاء: ما، لا، لم، وهى: 9: زال 10: برح 11: فتئ 12: انفكّ.
ج: فعل يعمل عمل "كان" بشرط تقدم ما المصدرية الظرفية: (وهو "دام") 13: ما دام.
كما أنها تختلف من حيث تصرفها من عدمه:
أ: أفعال لا تتصرف: 1: ليس 2: دام.
ب: أفعال تصرفها ناقص: 3: زال 4: فتئ 5: برح 6: انفكّ (لا يُستعمل منها أمر ولا مصدر).
ج: أفعال تصرفها تام: وهى باقى الأفعال.
وقبل أن نطرح على هذه الأفعال تلك الأسئلة التى تصدَّر بعضها هذا الفصل، نقرأ هذه الجمل:
كان العبء ثقيلا.
كان ثقيلا العبء.
العبء كان ثقيلا.
العبء ثقيلا كان.
ثقيلا كان العبء.
ثقيلا العبء كان.
ونلاحظ أوُلا أن هذه التنويعات كلها صحيحة ومستعملة فى اللغة العربية، لأغراض بلاغية أو عروضية أو لمجرد التلاعب بالألفاظ فى سياق يستدعيه.
والمسند إليه (الفاعل) فى كل هذه الأحوال هو "العبء" أما المسند (الخبر) فهو فى كل الأحوال أيضا "كان ثقيلا". وليس هناك شرط من أى نوع (اللهم إلا فى مزاعم النحاة) يحتم أن يتقدم فعل "كان" المسند إليه أو يليه.
وفى كل الأحوال لم ينسخ فعل "كان" شيئا على الإطلاق. و"العبء" ليس اسم "كان" بل هو فاعل "كان". و"ثقيلا" ليس خبر "كان" بل هو منصوب لأن فعل "كان" تم إسناده إلى "العبء" قبله أو بعده (مباشرة أو حتى فى وجود لففظة تفصل بينهما: "ثقيلا" كما فى بعض الجمل السابقة)، و"ثقيلا" متمم للمسند إليه (مع الأفعال الرابطة، والحقيقة أن الأفعال التى تعمل عمل "كان" أوسع عددا فى المعجم من هذا العدد الضئيل الذى يذكره النحاة)، وهذا المتمم للمسند إليه منصوب ولا يكون مرفوعا إلا عند حذف "كان" فى المضارع المثبَت، كما سبق القول.
ومن الجلى أن قاعدة إلغاء اسم وخبر "كان" ليحلّ محلهما المسند إليه (الفاعل) والمسند (وهذا الأخير أى المسند "الخبر" يتركب من: الفعل "كان" + متمم المسند إليه "المنصوب") تنطبق على كل أخوات "كان"، ولا ينفرد فعل "كان" بينها إلا بقاعدة متمم المسند (خبر المبتدأ أو خبر "إن وأخواتها" فى النحو العربى التقليدي) فى حالة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبَت.
فهل يجوز أن نقول، بعد كل هذا، إن فعل "كان" .. "لا يرفع فاعلا ولا ينصب مفعولا" (كما يردد الأستاذ عباس حسن وغيره قول النحاة القدماء أو النحو القديم)؟
بالعكس، "فالعبء" مرفوع لأنه فاعل (ويقول النحاة تشبيها بالفاعل!) و"ثقيلا" منصوب (ويقول النحاة تشبيها بالمفعول به!).
ونقرأ أيضا هاتين الجملتين (ونكتفى بهما اختصارا بدلا من التنويعات والبدائل الممكنة):
كان التلميذ يذاكر.
التلميذ كان يذاكر.
"فالتلميذ" هو المسند إليه (الفاعل) أما المسند (الخبر) فهو "كان يذاكر". و"التلميذ" مرفوع لأنه الفاعل، و"يذاكر" فعْل، فلا علاقة برفعه أو نصبه أو جزمه بفكرة نصب متمم الفاعل (المسند إليه) وكذلك متمم المفعول به (المباشر) بعد "كان وأخواتها"، أما القول بأن "يذاكر" فى محل نصب فإنه يتوقف على الموقف مما يُسمَّى بالإعراب المحلى ككل، وهذا أمر سنناقشه فى المكان الملائم.
إذن لا جملة اسمية (ولا فعلية)، ولا مبتدأ، ولا خبر، ولا اسم "كان"، ولا خبر "كان"، ولا نسْخ من أى نوع، بل نحن إزاء الفاعل المرفوع لفعل "كان" أو "أخواتها"، وإزاء نصب متمم الفاعل (المسند إليه) بعد تصريف أفعال "كان وأخواتها" معه. فلا ينبغى إذن أن نسمى "التلميذ" اسم "كان" أو "يذاكر" خبر "كان"، فالحقيقة أن "التلميذ" و "يذاكر"، على الترتيب، الفاعل (المرفوع) لهذا الفعل ومتمم الفاعل (المسند إليه) وهو منصوب فى بعض أشكال تحقيق هذا المتمم (شكل اللفظة المعربة المفردة التى قد يتبعها النعت أو المضاف إليه، إلخ.) وفى "محل النصب" فى حالة إقرار الإعراب المحلى، ولا يكون مرفوعا إلا فى حالة حذف فعل الكينونة بالذات فى المضارع المثبَت بالذات.
وهناك، كما نعلم، حروف تعمل عمل "كان" وبالأحرى عمل "ليس"، وهى "النافيات المشبهات بليس": 1: ما 2: لا 3: إنْ 4: لاتَ ، ومن أحكامها:
1: "ما": لا تعمل فى لغة بنى تميم وتعمل بشروط فى لغة أهل الحجاز.
2: "لا": لا تعمل فى لغة بنى تميم وتعمل بشروط فى لغة أهل الحجاز.
3: "إنْ": لا تعمل فى مذهب البصريين وتعمل فى مذهب الكوفيين.
4: "لاتَ": مذهب الجمهور أنها تعمل عمل "ليس" فى لفظ "الحين" عند بعضهم، وكذلك فيما رادفها كالساعة وغيرها أيضا عند بعضهم الآخر.
ولنقرأْ الأمثلة التالية أوّلا بافتراض عمل هذه الحروف:
1: "ما": ما زيدٌ قائمًا.
"ما هذا بشرًا" .
ما الشجاعُ خوّافًا.
2: "لا": لا رجلٌ غائبًا.
لا طائرٌ موجودًا.
3: "إنْ": إنْ المرءُ ميتًا.
إنْ هو مستوليًا على أحد إلا على أضعف المجانين.
4: "لاتَ": "ولاتَ حينَ مناصٍ" .
ولاتَ ساعةَ مندمٍ.
وإذا نحن قرأنا أمثلة "ما"، و"لا"، "إنْ"، بدون إعمالها، فلن تكون أمامنا فى كل حالة (على سبيل المثال: "ما زيدٌ قائمٌ") سوى جملة تتكون من المسند إليه (المرفوع) والمسند (الخبر) الذى سقط منه فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبَت، فهو مرفوع "عمليا" رفعا عشوائيا باعتباره ما يسمى بالخبر المفرد لغياب العامل اللفظى المباشر للنصب وهو فعل "كان" المحذوف: "ما الشجاعُ خوافٌ"، "لا رجلٌ غاضبٌ"، "إنْ المرءُ ميتٌ". أما إعمال هذه الحروف فقد "فاجأنا" ببقاء النصب رغم حذف الناصب وهو فعل "كان".
أما إذا أردنا الماضى أو المستقبل فلا مناص من ظهور فعل الكينونة ولا مناص من نصب متمم الفاعل؛ مثلا:
ما كان الشجاعُ خوّافًا.
لا رجلٌ كان غاضبًا.
وليس لكل هذا معنى سوى أننا لسنا إزاء عمل أو عدم عمل "ما"، أو "لا"، أو "إنْ" النافيات بل إزاء عمل أو عدم عمل فعل "كان"، إلا أن المفاجأة كانت (بالقياس إلى ما يسمى بخبر المبتدأ وخبر "كان وأخواتها") بقاء النصب رغم حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبَت فى حالة ما يسمى بإعمال هذه الحروف مع أن الرفع العشوائى هو القاعدة كما سبق أن رأينا، وهذا الرفع العشوائى هو الذى نلقاه فى الحالة المسماة بعدم إعمال "ما" و"لا" كما هو منسوب إلى لغة بنى تميم وعدم إعمال "إنْ" كما هو منسوب إلى مذهب البصريين.
والاستنتاج العام فيما يتعلق بهذه الأحرف الثلاثة هو أنها لا تعمل عمل "كان" لا فى لغة بنى تميم ولا فى لغة أهل الحجاز، وكل ما يميز هذه الأحرف هو أن حذف فعل "كان" معها فى المضارع المثبَت يؤدى كعادته إلى الرفع العشوائى لمتمم الفاعل عند قوم أو مذهب، ولا يؤدى إلى ذلك بل يجعل النصب قائما بشروط رغم الحذف عند قوم أو مذهب. وقد لاحظنا من قبل أن نفى الجملة التى تشتمل على مسند مرفوع عشوائيا يُظهر فعل الكينونة مهما كان الزمن الذى ننفى فيه. فالجملة: "الكتابُ مفتوحٌ" يمكن نفيها فى عدة أزمنة بصيغ منها: "لم يكن الكتابُ مفتوحًا"، "لن يكون الكتابُ مفتوحًا"، "لا يكون الكتابُ مفتوحًا"؛ وهنا، أى فى حالة النفى وظهور فعل الكينونة بالتالى يكون ما يسمى بالخبر المفرد (أى: "متمم الفاعل") منصوبا. فلعلنا نلاحظ أن نصب هذه الأحرف "النافيات المشبهات بليس" إنما أتى مع النفى أيضا فى هذه الحالة المفاجئة (حالة النصب رغم حذف فعل الكينونة) فكأن حذف فعل الكينونة اقتصادًا رغم النفى كان المبرر الموضوعى فى لغة قوم، أو المبرر الوضعى فى مذهب نحوى، لإعمال "كان"، فتصوَّر النحاة أن ما جرى إعماله هو هذه "النافيات" وليس "كان".
والدليل على أن هذه الحروف "النافيات المشبهات بليس" لا تعمل عمل "كان" (أو عمل "ليس" إلا من حيث النفي) هو الحاجة إلى ماضى ومستقبل فعل الكينونة لتغيير الزمن، بالإضافة إلى أن إدخال مضارع "كان" لا يتناقض مع وجود هذه الحروف، الأمر الذى يتسق مع كل نفى لمثل هذه الجمل محذوفة الكينونة، والمنطق وراء هذا الحذف هو الاقتصاد اللغوى فى أسلوب خاص يستند إلى منتهى الإيجاز.
أما "لاتَ" فهى: "حرف نفى بمعنى ليس، مختص بالوقت" ، وهى (وفقا للمعجم الوسيط): "كلمة معناها [ليس]، تقع على لفظ الحين خاصة عند سيبويه، فتنصبه. وهى تعمل عمل ليس، ولكن لا يُذكر بعدها إلا أحد المعمولين. والغالب أن يكون المحذوف هو المرفوع" ، وهى (وفقا للمعجم الوسيط أيضا): "أداة نفى. وهى عند جمهور النحاة كلمتان: لا النافية والتاء لتأنيث اللفظ، تعمل عمل ‘ليس‘ وفى الأزمان غالبا، ولا يُذكر بعدها إلا أحد المعمولين. والغالب أن يكون المحذوف اسمها" ، وتختص "لات" إذن: "بأنها لا يُذكر معها الاسم والخبر معًا" ، فنلقى فى: "ولاتَ حينَ مناصٍ" تقدير حذف الاسم وبقاء الخبر، فيكون التقدير: "ولاتَ الحينُ حينَ مناصٍ"، فالحينُ "اسم لاتَ" مرفوع وحينَ "خبر لاتَ" منصوب. أى أن "لات" هى "ليس" ذاتها مع خصوصية حذف "اسمها" فهى إذن أخت من أخوات "كان" ومن هنا تختلف تماما عن النافيات الأخرى "المشبهات بليس".
ويشتمل ما يسمى بخبر أفعال المقاربة والرجاء والشروع على فعل مضارع، وعندهم أن هذه الأفعال لا ترفع فاعلا ولا تنصب مفعولا، بل تنسخ المبتدأ فترفعه اسمًا لها وتنسخ خبر المبتدأ فتجعله خبرا لها فى "محل نصب" لأنه فعل مضارع.
وتدلّ أفعال المقاربة على قرب وقوع المسند، وهى: 1: كادَ 2: كَرَبَ 3: أوشكَ (ويكون المضارع مسبوقا "بأنْ" المصدرية مع "أوشك" وغير مسبوق بها مع "كادَ" و"كَرَبَ").
وتدلّ أفعال الرجاء على رجاء ("تَمَنِّي") وقوع المسند، وهى: 1: عَسَى 2: حَرَى 3: اخلولق (ويكون المضارع مسبوقا "بأنْ" المصدرية معها جميعا).
وتدلّ أفعال الشروع على البدء فى حدوث المسند، وأشهر هذه الأفعال: 1: شرع 2: أنشأ 3: طَفِقَ 4: أخذ 5: عَلِقَ 6: جعل 7: قام 8: هبَّ (لا يكون المضارع مسبوقا معها "بأنْ" المصدرية).
ونقرأ قليلا من الجمل:
1: الرجال كادوا يبكون.
2: الرجال أوشكوا أن يبكوا.
3: الرجال عسى أن يصمدوا.
4: الرجال أخذوا يضحكون.
وفى الجملة (1) تم تصريف الفعلين "كادوا" و"يبكون" مع فاعلهما أى: الرجال، والمسند هو: "كادوا يبكون". وينطبق الشيء نفسه على الجملة (4). وعبارة "أوشكوا أن يبكوا" هى المسند فى الجملة (2)، وقد تم تصريف الفعلين "أوشكوا" وأن "يبكوا" مع فاعلهما أى: الرجال. وتختلف الجملة (3) فى أنه فيما يتعلق بفعلى "عَسَى" وأن "يصمدوا" فى عبارة المسند "عَسَى أن يصمدوا"، تم تصريف "يصمدوا" مع المسند إليه (الفاعل) أى: الرجال، أما "عَسَى" فهو غير متصرف سواء جاء قبل الفاعل أو قبل المصدر المؤول، أى: "أن يصمدوا".
والأفعال المستعملة مع أفعال المقاربة والرجاء والشروع تنحصر فى المضارع، مثلا: "كاد الجو يعتدل"، أو: "لم يكد الجو يعتدل"، والمصدر المؤول (فى صورة: أنْ + المضارع)، مثلا: "أوشك الجو أن يعتدل"، أو: "عَسَى الجو أن يعتدل". والمسند فى كل هذه الجمل خارج الإعراب ككل مسند. أما الإعراب الداخلى لمكونات المسند فإننا نكتفى هنا بالإشارة إلى أن هذا البحث لا يركز على إعراب الفعل، وقد نقف مع ذلك فى مكان ملائم عند مثل هذه التركيبات الفعلية.
ومهما يكن من شيء فإننا لسنا إزاء جملة اسمية، أو مبتدأ، أو خبر، أو نسخ من أى نوع، بل نحن إزاء الفعل والفاعل المرفوع، أما المسند (الخبر) فهو يتكون من فعلين يسبقان المسند إليه، أو يليانه، أو يضعانه بينهما، وهو خارج الإعراب كما ينبغى للمسند أن يكون فلم يحدث له نسخ أو تغيير. ولا مبرر إذن لتسمية المسند إليه (الفاعل) مع أفعال المقاربة أو الرجاء أو الشروع اسما لهذه الأفعال ولا لتسمية الفعل الآخر المصرَّف مع هذه الأفعال خبرا لنواسخ الابتداء المزعومة هذه. والحقيقة أن هذه الأفعال إنما هى أفعال تسبق أفعالا preverbs فتضيف إليها معانى اقتراب أو وشوك أو تمنِّى أو ترجِّى أو بدء حدوثها؛ ومن الصعوبة بمكان اعتبارها نواسخ.
وقبل أن نتناول ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر من الحروف، أى الحروف المسماة بالناسخة، من الأفضل أن نواصل هنا مناقشة بقية الأفعال المسماة بالناسخة، ونعنى أفعال "ظن وأخواتها". وهذه المجموعة الأخيرة من الأفعال وثيقة الصلة بمجموعتين أخريَيْن من الأفعال. مجموعة أفعال "أعطى وأخواتها"، ومجموعة أفعال "أعلمَ وأرى وأخواتهما". ويمكن تلخيص هذه الصلة فى أن هناك أفعالا تتعدى إلى مفعوليْن ditransitive verbs (بالإنجليزية)، وهى موجودة فى كل اللغات، ويمكن أن نقول فى لغة إعراب كاللغة العربية إن هذه الأفعال "تنصب مفعوليْن". وأفعال "أعطى وأخواتها" هى التى تأخذ أو تنصب مفعوليْن، وأحد هذين المفعولين مفعول مباشر والآخر مفعول غير مباشر وتعريفه هو أنه متلقِّى أو مستلم أو مستقبِل أو recipient (بالإنجليزية) المفعول المباشر. ففى جملة: "أعطى الأستاذُ التلميذَ كتابًا": المفعول به المباشر هو "كتابًا"، ومتلقيه، أى: المفعول به غير المباشر، هو "التلميذَ". ولأن النحاة توهموا أن أفعال "ظن وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن أصلهما المبتدأ والخبر، لأنها تدخل على الجملة الاسمية فى اعتقادهم فتعمل هذا العمل، فقد ميزوها من أفعال "أعطى وأخواتها" أو هذه من تلك بالقول بأن أفعال "أعطى وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن ليس أصلهما المبتدأ والخبر. مع أن الفارق الحقيقى كما سنرى بعد قليل هو أن "أعطى وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن (فى مختلف اللغات وليس فى اللغة العربية وحدها)، على حين أن أفعال "ظن وأخواتها" لا تأخذ أو تنصب مفعوليْن، وصحيح أن لها منصوبيْن غير أن أحدهما مفعول به والآخر شيء آخر لا يُعقل أن يكون مفعولا به بل هو متمم المفعول به (المباشر). أما أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" فإنها ترتبط بأفعال "ظن وأخواتها" لاعتقاد النحاة أن تعدية بعض أفعال "ظن وأخواتها" (المتعدية أصلا إلى مفعوليْن كما زعموا) بالهمز أو التضعيف تعطينا أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" المسماة بالمتعدية إلى ثلاثة مفاعيل. والحقيقة أن هذه المجموعة الأخيرة من الأفعال، شأنها فى هذا شأن أفعال "أعطى وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن لا ثالث لهما. أما المنصوب الثالث الذى يظهر معها فهو يظهر أيضا مع أفعال "أعطى وأخواتها" وهو ليس سوى متمم المفعول به المباشر.
وأفعال "أعطى وأخواتها" هى: 1: أعطى 2: سألَ 3: منحَ 4: منعَ 5: كسَا 6: ألبَسَ، وهى، بلغة النحاة، تنصب مفعوليْن ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
وهناك عدة ملاحظات ينبغى أن نكتفى بها فى هذا المجال الذى يضيق بأى توسُّع فى النقاط التى لا تُعَدّ محورية من وجهة نظر هذه المناقشة المحددة.
وأولى هذه الملاحظات هى أن أفعال "أعطى وأعلمَ وأخواتهما" (كما تنبغى التسمية لإزالة الالتباس الحالي) أى: الأفعال التى تتعدى إلى مفعوليْن، تصل إلى عشرات الأفعال فلا تقتصر أبدا على ستة أفعال فى مجموعة "أعطى" وسبعة أفعال فى مجموعة "أعلمَ"، والمجموعتان هما فى الحقيقة مجموعة واحدة وحيدة من حيث التعدى إلى (أو: أخْذ، أو نصْب) مفعولين.
والملاحظة الثانية هى أن ما يجعل هذه الأفعال قابلة للتعدى إلى مفعوليْن هو معناها الذى يفترض مفعولا به غير مباشر تلقَّى مفعولا به مباشرا (والمعنى مشترك بين كافة اللغات، ذلك أن المحسن يعطى "السائلَ" "مالا" مهما كانت اللغة).
والملاحظة الثالثة هى أن هذه الأفعال قابلة للاستعمال بأخذ مفعول واحد (حسب نموذج واحد للجملة) وبأخذ مفعوليْن (حسب نموذج آخر للجملة). ويصدق هذا على مجموعتى "أعطى" و"أعلمَ" فهما كما قلنا مجموعة واحدة. وهناك بطبيعة الحال حقيقة أن عشرات الآلاف من الأفعال التى تتعدى إلى مفعول واحد ـ وتسمى بالإنجليزية monotransitive verbs ـ يمكن استعمالها لازمة، أى بدون مفعول به صريح أو حتى محذوف، مع تغيير دلالة الفعل بطبيعة الحال، وعلى سبيل المثال يمكنك أن تستعمل الفعل "يأكل" متعديا: "أكل ضيوف الوجبة" ولكنك تستطيع أن تستعمله لازما فتقول: "الإنسان يأكل"، بمعنى أن هذا الفعل من خصائص وسجايا الإنسان. وعلى هذا يمكن استعمال الفعل المتعدى إلى مفعوليْن متعديا إلى مفعول واحد وحتى لازما أى: بدون مفعول به.
والملاحظة الرابعة هى أن التركيز على الإعراب هو الذى جعلهم يتحدثون عن "نصب مفعوليْن". والواقع أن النحو أوسع من الإعراب، ويتحقق المفعول به بأشكال منها التعدى بالنصب المباشر ومنها التعدى بحرف الجر (المفعول به المجرور)، وبأشكال منها ما يستدعى عندهم فكرة الإعراب المحلى. وينبغى أن نتعرف على المفعول به غير المباشر فى مختلف الأشكال الممكنة بما فى ذلك شكل المفعول به المجرور.
والملاحظة الخامسة، وهى التى ينبغى أن ننتقل إلى مناقشة تفاصيلها، تتمثل فى أن أفعال "ظن وأخواتها" تنتمى إلى عشرات الآلاف من الأفعال التى تتعدى إلى مفعول به واحد، غير أنها قابلة مثل أفعال كثيرة أخرى منها مجموعة "أعطى" و"أعلمَ" لاستعمال متمم المفعول به المباشر، وهذا الأخير هو ما ظنه النحاة القدامى واللاحقون (بالتبعية) مفعولا به ثانيا فى حالة مجموعة "ظن وأخواتها"، ومفعولا به ثالثا فى حالة مجموعة "أعلمَ وأخواتها"، ولم يتصوروا وروده "منصوبا ثالثا" مع مجموعة "أعطى وأخواتها" (مثلا: أعطى الأستاذُ التلميذَ الكتابَ جديدًا)، أو مع أفعال أخرى من غير هذه الأفعال التى ذكروها فى مجموعات "الأخوات".
على أن كون الأفعال لازمة أو متعدية إلى مفعول أو مفعوليْن (مع قبولها للاستعمال لازمة) أو كونها قابلة "للمنصوب" الذى نسميه متمم المفعول به المباشر (كعنصر إجبارى فى جملة نموذج "ظن")، أو متمم المفعول به المباشر (كعنصر إجبارى فى حالة استعمال هذا المتمم فى أحد أشكال نموذج "أعطى" و"أعلمَ") لا يُلغى تصنيفات للأفعال لا حصر لها يمكن وينبغى إجراؤها من نواح عديدة منها ما هو دلالى ومنها ما هو نحوى. وعلى سبيل المثال فإن ضم الأفعال المسماة بالناسخة، بكل أنواعها، إلى بقية الأفعال جميعا، من حيث أن لكل فعل منها فاعلا، لا يعنى عدم تصنيف الأفعال من حيث قبولها دائما أو فى دلالات بالذات للاستعمال فى نماذج بذاتها للجمل.
ومن هذه التصنيفات قبول أفعال "كان وأخواتها" (وهى أكثر من 13 فعلا يذكرها النحاة) لنموذج فى للجملة يقتضى الفعل والفاعل ومتمم الفاعل(مهما كان شكل تحقيق هذا الأخير)، ولنموذج آخر للجملة يقتضى الفعل والفاعل والظرف (مهما كان شكل تحقيق هذا الأخير أيضا)، وهذان التصنيفان يقومان على عناصر إجبارية فى كل نموذج من نموذجى الجملة المذكوريْن. ومن هذه التصنيفات نموذج جملة: الفعل والفاعل والمفعول (وهذا ينطبق على كل فعل متعدٍّ يُستعمل مع مفعول واحد حتى إنْ كان قابلا للتعدى إلى مفعوليْن)، ونموذج جملة: الفعل والفاعل والمفعول به ومتمم المفعول به (وهذا ينطبق على كل فعل مستخدم مع مفعول واحد، مثل: "ظننتُ الخبرَ يقيناً"، أو "أعطيتُ الكتابَ جديدا"، أو "أعلمتُ الخبر يقينا"، وفى كل من الجملتين الأخيرتين فعل يتعدى إلى مفعولين غير أنه مستخدم هنا مع مفعول واحد مع متممه). وهناك بالطبع نماذج أخرى؛ نموذج: الفعل والفاعل والمفعول غير المباشر والمفعول المباشر، ونموذج: الفعل والفاعل والمفعول غير المباشر والمفعول المباشر مع متممه، ونموذج: الفعل اللازم او المستعمل لازما وهو لا يقتضى سوى الفعل والفاعل. وإذا كانت تلك النماذج تشتمل على عناصر إجبارية (أى ضرورية للنموذج من حيث هو نموذج مهما كان مدى قبول الفعل الواحد للاستعمال فى عدة نماذج للجمل)، فهناك عناصر جملة اختيارية قابلة للاستعمال (دون تغيير خصائص النموذج) مع أى نموذج من النماذج المذكورة.
وتنقسم أفعال "ظن وأخواتها" وهى من الأفعال المسماة بالناسخة للابتداء إلى قسمين:
1. أفعال القلوب.
2. أفعال التحويل أو التصيير.
وتنقسم أفعال القلوب إلى قسمين:
أ. ما يدل على اليقين: 1. رأى (وقد تُستعمل للظن) 2. عَلِم 3. وجد 4. دَرَى 5. تَعَلـَّمْ (وهى التى بمعنى اعلمْ).
ب. ما يدل على الرجحان: 1. خالَ (وقد تستعمل لليقين) 2. ظن (وقد تستعمل لليقين) 3. حسب 4. زعم 5. عَدّ 6. حَجا 7. جعل (الذى كاعتقد وليس بمعنى صيّر من أفعال التحويل أو التصيير) 8. هَبْ.
وأفعال التحويل أو التصيير هى:
1. صيَّر 2. جعل 3. وهب 4. تخذ 5. اتخذ 6. ترك 7. ردّ.
فهل تنصب هذه الأفعال المسماة بالناسخة مفعولين (أصلهما المبتدأ والخبر) حقا؟ ولنضع مسألة الجملة الاسمية والمبتدأ والخبر جانبا. فأين المفعولان؟ الحقيقة أن هذه الأفعال لا تنصب مفعولين بحكم بداهة أنه يتم استعمالها مع "منصوبين" يصلحان كمسند إليه ومسند. فالمفعولان لفعل واحد إنما يكون أحدهما مفعولا مباشرا ويكون الآخر مفعولا غير مباشر، أى متلقيا لهذا المفعول المباشر (مثلا: أعطى المدرسُ التلميذَ كتاباً)، وهذا لا يصلح مع المسند إليه والمسند. وإذا قلنا: "الهرم عريق" فلا مجال لتصور أن يتلقى المسند إليه "الهرم" المسند "العريق"، أو العريق الهرم، ولهذا لا يصح أن نقول: "أعطيت الهرمَ العريقَ"، كما أننا لا يصح أن نقول "أعطيتُ التلميذَ يذاكر"، فالحقيقة أن "التلميذ" (المسند إليه فى الجملة الاسمية الأصلية المفترضة) و"يذاكر" (المسند فى الجملة الأصلية ذاتها) لا يبدو أحدهما ملائما لتلقى الآخر.
ولنأخذ بعض أمثلة نصب أفعال "ظن وأخواتها" لمفعولين من كتاب "تجديد النحو" للدكتور شوقى ضيف، الرئيس السابق لمجمع اللغة العربية بالقاهرة:
1. رأى عمرو (السماءَ ممطرةً).
2. حسب زيد (الشمسَ طالعةً).
3. جعل على (زيداً متفوقاً).
4. ظن خالد (الجوَّ حارًّا).
5. رأيتُ (عمرًا يقرأ).
6. حسبت (خالداً يحاضرُ) .
فالمنصوبان الموضوعان بين قوسين فى كل من الأمثلة من 1 إلى 4، وكذلك المنصوب والفعل بعده ( فى "محل" نصب) والموضوعان بين قوسين فى كل من المثالين 5، 6، يرى النحو العربى أنهما مفعولان لأفعال "ظن وأخواتها". ويمكن للقارئ أن يتأكد من أقل تدقيق، من أن المنصوب الأول مفعول به دون شك، ومن أن المنصوب الثانى لا يمكن أن يكون مفعولا به بحال من الأحوال، فإنما هو فى الحقيقة متمم للمفعول به، فالألفاظ المنصوبة "ممطرةً"، و"طالعةً"، و"متفوقاً"، و"حارًّا"، إنما هى أوصاف متممة للمفعول به. فالجملة الأولى لا تريد الاكتفاء بمعنى أن عمرا رأى السماء، بل تريد بالذات معنى أنه رآها ممطرة، وهكذا فى الباقى، وهذا ينطبق بوجه عام على الفعلين "يقرأ" و"يحاضر".
بل يذهب هذا النحو إلى حد اعتبار أن: "أن" واسمها وخبرها "سدت مسد مفعولى ظن وعلم وأخواتهما" فى جملة "ظننتُ أنَّ زيداً مسافرٌ" ، مع أن من الجلى أن "المجموعة الجُمْلية": "أنَّ زيداً مسافرٌ" مفعول به واحد، ذلك أن "سفر زيد" هو بالضبط ما ظنه المتكلم، بغض النظر عن الإعراب الداخلى "للمجموعة الجُمْلية"، وهى خالية على كل حال من أى مفعول به من أى نوع.
لسنا إذن إزاء مفعولين لأفعال "ظن وأخواتها"، كما يزعم النحو العربى، الذى لم ينتبه إلى أن ما يسميهما "المبتدأ والخبر" لا يصلحان مفعولين لفعل واحد فى الجملة، كما لم ينتبه إلى أن أفعال "أعطى وأخواتها" التى تأخذ مفعولين (لا شك فى أنهما كذلك) تحتاج إلى مفعولين ليس أصلهما "المبتدأ والخبر" بالذات، لأن هذين لا يصلحان مفعولين، لأن "المبتدأ" لا يصلح متلقيًا "للخبر"، ولا الثانى للأول، وهذا شرط تعدى الفعل الواحد (عن غير طريق العطف) إلى مفعولين، ليس فى اللغة العربية بل فى مختلف اللغات.
ويتمثل فى أحكام النحو العربى بشأن "أعلم وأرى وأخواتهما" خطأ لا يقل فداحة عن اعتبار منصوبى "ظن وأخواتها" مفعولين فى النحو العربى. فقد ظن النحو العربى أولا أن "المبتدأ والخبر" يصلحان مفعولين لأفعال "ظن وأخواتها"، ثم ظن أن بعض هذه الأفعال قابلة للمزيد من التعدية بالهمز أو التضعيف لهذا المتعدى المزعوم إلى مفعولين، ثم ظن أنه إزاء أفعال تتعدى بالتالى إلى ثلاثة مفاعيل، رغم أن هذه الأفعال وهى "أعلم وأرى وأخواتهما" (وهى: 1. أرى 2. أعلم 3. أنبأ 4. نبّأ 5. أخبر 6. خبّر 7. حدّث) "تنصب مفعولين" تماما مثل أفعال "أعطى وأخواتهما"، أما المنصوب الثالث فليس سوى متمم المفعول به المباشر مع مجموعة "أعلم" تماما كما مع مجموعة "أعطى".
والاستنتاجات التى نخرج بها من التحليل السابق لما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر من الأفعال يمكن إيجازها فيما يلى (مع إلغاء اعتبارها أفعالا ناسخة):
1: أفعال "كان وأخواتها" لها فاعل كباقى الأفعال ولا ينبغى أن يسمى "اسم كان"، أما ما يسمى "خبر كان" (وهو فى النحو العربى التقليدى كخبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها": مفرد، أو جملة اسمية، أو جملة فعلية، أو شبه جملة) فهو إما متمم للفاعل (صفة أو اسم أو جار ومجرور فى غير معنى الظرف أو أى شكل يتحقق به متمم الفاعل)، وإما ظرف (ومنه الجار والمجرور الدالان على الظرف). فهذه الأفعال تقدم إذن (بعد توسيع عددها وتدقيق دلالاتها) نموذجين للجملة، كما سبق القول، وهما نموذج: فعل + فاعل + متمم الفاعل؛ ونموذج: فعل + فاعل + الظرف.
2: أفعال "ظن وأخواتها" تتعدى إلى مفعول واحد وليس مفعولين، أما "المنصوب" الثانى فهو عند استعماله متممٌ للمفعول به. وهكذا يمكن استخدام هذه الأفعال مثل بقية الأفعال المتعدية إلى مفعول واحد، وحتى لازمة مثلها جميعا. فهى قابلة إذن للاستعمال فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى لمفعول + الفاعل + المفعول به، وفى نموذج الجملة: الفعل اللازم + الفاعل، غير أن النموذج الأمثل والأكثر شيوعا وتمييزا لهذه الأفعال هو نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعول + الفاعل + المفعول به + متمم المفعول به.
3: أفعال "أعطى وأخواتها" تتعدى إلى مفعولين وهى قابلة طبعا للاستعمال لازمة فى نموذج الجملة: الفعل اللازم + الفاعل، ومتعدية إلى مفعول واحد فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعول واحد + الفاعل + المفعول به، أو فى تموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعول واحد + الفاعل + المفعول به + متمم المفعول به، ومتعدية إلى مفعولين فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعولين + الفاعل + المفعول به غير المباشر + المفعول به المباشر، وكذلك فى نموذج الجملة الذى يضيف إلى هذه العناصر عنصر: متمم المفعول به المباشر.
4: أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما"، بكل خصوصياتهما الدلالية (المرتبطة بأفعال "ظن وأخواتها") جزء من أفعال "أعطى وأخواتها"، فهى جميعا، ويضم المعجم العربى عشرات منها وليس القليل الذى يذكره النحاة، أفعال تتعدى إلى مفعولين.
لقد توقفنا فى سياق هذا الفصل عند نماذج شتى للجملة العربية، فبالإضافة إلى المسند إليه (الفاعل) والفعل (مسند الحد الأدنى) واللذين لا تخلو منهما جملة، فهما الحد الأدنى للجملة، هناك عناصر إجبارية لا تقوم بدونها قائمة للجملة فى نماذج شتى منها. وإذا كان النحو العربى قد جعل من المسند إليه "عُمْدَة" ومن المسند "عُمْدَة"، بمعنى أن الجملة لا تستغنى عنهما، وإذا كان قد اعتبر المكونات الأخرى للجملة "فَضْلة" يمكن الاستغناء عنها أو التكملة بها، وإذا كان النحو الفرنسى التقليدى قد سمى تلك المكونات بدوره تكملات أو مكملات، فإن نماذج الجملة التى تجعل عناصر بذاتها إجبارية فى نموذج بذاته من حيث هو نموذج تجعل من الضرورى إلغاء مفاهيم العمدة والفضلة والتكملة (وهذه الكلمة الأخيرة هى التى استعارها مجمع اللغة العربية بالقاهرة من النحو الفرنسى التقليدى فى محاولته الكبرى مع وزارة المعارف لتيسير النحو، وهى المحاولة التى انتهت إلى الفشل الذريع للسبب المزدوج المتمثل فى ضعف المحاولة من داخلها وفى قوة أعدائها من خارجها، وقد ألصق أعضاء لجنة التيسير كلمة التكملة بالكثير من المفاهيم النحوية وذلك بحكم الثقافة الفرنسية لبعضهم وللدكتور طه حسين بالذات، ويبدو أن كلمة التكملة تتشبث بمكانها بعناد حتى فى أحدث ما أخرجته المطابع الفرنسية فى التسعينات حتى بالنسبة للمفعول به الذى لا يزالون يلصقون به كلمة التكملة).
ومهما يكن من شيء فإن علينا أن ننتقل إلى الحروف المسماة بالناسخة: "إن وأخواتها" و"لا النافية للجنس".














6



6
ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر:
ب: الحروف المسماة بالناسخة


الحروف المسماة بالناسخة، على العكس من الأفعال المسماة بالناسخة، "ناسخة" حقا، ولكنْ بصفة جزئية، وبالأدق فهى "عوامل" نصب للكلمات المعربة التى تليها من غير الفعل.
ويعتبر النحو العربى "إن وأخواتها"، وكذلك "لا النافية للجنس"، حروفًا ناسخة للابتداء، "تدخل" على ما يسمى بالجملة الاسمية فتنصب "المبتدأ" .. "اسما لها" وترفع "الخبر" .. "خبرا لها".
وينبغى أن نضع حكاية الجملة الاسمية والمبتدأ والخبر جانبا، لكن بعد إشارة موجزة. ذلك أن الحرف من حروف "إن وأخواتها" لا يتخذ مكانه بحرية قبل أو بعد المسند إليه، كما تفعل الأفعال المسماة بالناسخة أو غيرها من الأفعال، بل يكون دائما قبله. والمسند إليه يكون اسما أو ضميرا؛ إلخ.. غير أن الاسم المعرب هو الذى يأتى بعد الحرف الناسخ الذى ينسخه ويغيّر إعرابه فينصبه. ويعنى هذا أن ما بعد الحرف الناسخ يبدو جملة بادئة باسم، هو "المبتدأ" فى "الجملة الاسمية". غير أننا رأينا من قبل أن الصواب هو أن نقول إن "التقاط" الحرف للاسم بعده يجرى بصرف النظر عن افتراض أن العبارة "الأصلية" كانت بادئة باسم أو فعل، ففى الحالين سنأخذ الاسم ونضعه بعد الحرف الناسخ ثم نأتى بعد ذلك بما نشاء لأن هذه الحروف لا تتبعها الأفعال مباشرة.
وسواء أكانت الجملة الأصلية المفترضة: "الله يغفر الذنوب" أم "يغفر الله الذنوب"، فلا مناص من القول: "إن الله يغفر الذنوب".
وحروف "إن وأخواتها" تنصب الاسم بعدها. ولابد أن نلاحظ أن هذا الاسم هو المسند إليه فى المجموعة الجُمْلية البادئة بحرف من هذه الحروف، وهى مجموعة جُمْلية دائما لأنها لا تخلو من فِعْل، حتى فى صورة الفعل المضارع المثبت المحذوف لفعل الكينونة. وهكذا فرغم أن "حقه" الرفع كفاعل (مسند إليه) إلا أن الحرف من هذه الحروف ينصبه.
والقاعدة بسيطة للغاية: تمامًا كما يجرّ حرف الجر الاسم بعده، مع إضافة هذا المعنى أو ذاك من معانى حرف بذاته من حروف الجر، تنصب حروف أو أدوات نصب الاسم هذا الاسم الذى يأتى بعد الحرف منها مع إضافة معنى خاص بهذا الحرف أو ذاك من حروف نصب الاسم. مع فارق هام هو أن المجرور قد يكون مسندا إليه، أى يليه مسند إليه، مثل: "مررت برجل يكلم نفسه"، وقد لا يكون مسندا إليه، مثل: "ذهبت الأسرة كلها إلى السينما". أما المنصوب بعد حروف نصب الاسم هذه ("إن وأخواتها") فهو مسند إليه دائما لمجموعة جُمْلية أى تحتوى على فعل "إجباري"، مع فارق بين "أَنَّ" وبقية هذه الحروف. وليس فى الكلام العربى شيء من قبيل: "نعرف أن الأستاذ" يحسن السكوت عليه، أى: يفيد معنى. أما فى جملة "يعرف التلاميذ أن أستاذهم يشرح الدروس جيدا"، فإن المجموعة الجُمْلية: "أَنَّ أستاذهم يشرح الدروس جيدا" هى المفعول به لفعل "يعرف" وفاعله "التلاميذ".
وهذه "الحروف" التى يمكن أن نسميها أدوات نصب الاسم (ونقصد بالاسم هنا غير الفعل والحرف من أقسام الكلام كنوع من الاقتصاد ولأن النحو العربى لم يبدأ بعد عملية واسعة من إعادة النظر فى أقسام الكلام)، وهى أدوات "إن وأخواتها" كما يسمونها (وهى: 1ـ إنَّ 2ـ أنًّ 3ـ كأنَّ 4ـ لكنَّ 5ـ ليتَ 6ـ لعلَّ)، تربط فى المجموعة الجُمْلية التى تشتمل عليها الجملة السابقة بين المسند إليه (الفاعل) أى: "أستاذهم" والمسند (الخبر) أى: "يشرح الدروس جيدا"، بمعنى خاص لهذا الربط: "أَنَّ" لمجرد الربط، "إنّ" للتوكيد، "كأنّ" للتشبيه، "لكنّ" للاستدراك، "ليتَ" للتمنى، "لعلّ" للترجِّى.
أما ما يسمى "بخبر إن وأخواتها" فإننا سنجده كعهده دائما، أى: مثل ما يسمى "بخبر المبتدأ"، والخبر شبه جملة (الظرف أو الجار والمجرور). وهذه الأشياء تظل كما هى من حيث الإعراب ومن حيث العنصر النحوى، مثل "خبر المبتدأ". ولا تمسّها حروف أو أدوات "إن وأخواتها" بشيء من تغيير، اللهم إلا التغيير الدلالى المتمثل فى إضافة معنى الحرف من هذه الحروف.
ولهذا فإننا لسنا إزاء حروف ناسخة للمبتدأ والخبر. ولا ينبغى أن نسمى هذين الأخيرين "اسم وخبر إن وأخواتها"، على الترتيب. ذلك أن ما يسمى "بخبر إن وأخواتها" لا يحدث له شيء على الإطلاق: لا النسخ المزعوم (وخبره المفرد مرفوع بالطبع مثل الخبر المفرد للمبتدأ، ويقيسون على إعرابه بالرفع إعراب باقى أنواع الخبر)، ولا كعنصرٍ نحوى.
وليس ما يسمونه "بالخبر المفرد" للمبتدأ أو الحروف "إن وأخواتها" سوى متمم الفاعل. أما "الخبر شبه الجملة" كما يسمونه أيضا، فمنه الظرف بما فى ذلك شكل الظرف المكوَّن من جارّ ومجرور، ومنه متمم الفاعل المكوَّن من جارّ ومجرور. وينبغى أن نتذكر أن الخبر المفرد والخبر شبه الجملة إنما يأتيان، باستثناء ما يسمى "بخبر كان وأخواتها"، بدون فعل، أى: مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت.
أما الخبر المسمى بالخبر الجملة الاسمية فإما أنه يحتوى على فعل "كان" ظاهرا أو محذوفا، وإما أنه يحتوى على فعل تام عادى وفاعله المضاف الذى يسبقه المضاف إليه الذى يعربونه المبتدأ الأول. وأما الخبر المسمى بالخبر الجملة الفعلية فإما أنه يحتوى على فعل "كان" ظاهرا، وإما أنه يحتوى على فعل تام عادى مع فاعل وحتى مع مفعوله.
وفى كل هذه الأشياء يتطابق ما يسمى "بخبر إن وأخواتها" مع ما يسمى "بخبر المبتدأ"، كما يتطابق فى كثير من هذه الأشياء مع ما يسمى "بخبر كان وأخواتها"، اللهم إلا فيما يتعلق بالربط البحت أو المقترن بدلالات بعينها لأدوات نصب الاسم كما رأينا منذ قليل.
ومع أننا سنتناول المسند (الخبر) فى فصول خاصة به، ونتوقف من جديد بالتالى عند الوضع الحالى لأنواع الخبر، فى إطار النحو التقليدى، وعند مصيرها فى إطار النحو الجديد، فلابد لغرض استكمال هذه المناقشة هنا من بحث أنواع "خبر المبتدأ"، وسيتطابق البحث وتتطابق النتائج ككلّ (بالاستثناء الدلالى المذكور) مع خصائص أنواع "خبر إن وأخواتها"، وفى نقاط تقاطع بذاتها: مع خصائص أنواع "خبر كان وأخواتها".
وخير وسيلة هى أن نبدأ بالخبر المفرد والخبر شبه الجملة، كما يسميهما هذا النحو، لأن فعل الكينونة محذوف معهما فى المضارع المثبت، وسنرتّب هذه الأمثلة مع عناصر جملة، مثل: متمم الفاعل، ظرف، إلخ..:
متمم الفاعل ـ اسم: هند (بنت): ما بين القوسين "خبر مفرد".
متمم الفاعل ـ صفة: هند (متفوقة): ما بين القوسين "خبر مفرد".
متمم الفاعل ـ جارّ ومجرور: هند (فى غاية الجمال): ما بين القوسين "خبر شبه جملة".
ظرف: هند (فوق سطح البيت): ما بين القوسين "خبر شبه جملة" (ظرف).
ظرف: هند (فى المكتبة): ما بين القوسين "خبر شبه جملة" (جارّ ومجرور).
ونلاحظ أن متمم الفاعل يتحقق بأشكال منها الاسم والصفة والجارّ والمجرور (اللذان لا يحملان معنى الظرف)، أما الجارّ والمجرور اللذان يحملان معنى الظرف فهما من الأشكال العديدة التى يتحقق بها الظرف كعنصر جملة.
والآن ماذا سيعنى أن نبدأ الجمل السابقة بأداة نصب الاسم "إن"، على سبيل المثال، لتوكيد معانى هذه الجمل؟ لن يتغير سوى نصب "هند" (وهى المسند إليه) فى كل الجمل، أما الكلمة التى بين القوسين من "خبر مفرد" أو "خبر شبه جملة" فستبقى فى كل الجمل كما هى تمامًا من حيث الإعراب الموضوعى الجمعى، أى أن ما يسمى بالخبر المفرد سيظل مرفوعا (رفعا عشوائيا)، فى حين أن ما يسمى بالخبر شبه الجملة سيظل ظرفا منصوبا وحده أو مع مضاف إليه مجرور بالإضافة، كما سيظل حرف الجرّ المبنىّ مع مجروره، على حالهما الآن. أما من حيث عناصر الجملة فسيبقى كل شيء على حاله كما هو الحال مع "خبر المبتدأ".
والآن ما الذى يحدث إذا أدخلنا فعل "كان" على الجمل المذكورة؟ ستبقى "هند" على الرفع (وهى المسند إليه) فى كل الجمل، أما متمم الفاعل ـ الاسم (بنت)، والصفة (متفوقة) فإنهما يصبحان منصوبين ويحتفظان فى النحو القديم بلقب الخبر المفرد مع نسبته إلى كان وأخواتها (خبر كان وأخواتها). أما "الخبر شبه الجملة" فيبقى على حاله، ويقيس النحاة نصبه مع "كان وأخواتها" على خبر كان المفرد المنصوب، كما يقيسون رفع بقية أنواع "خبر المبتدأ" و"خبر إن وأخواتها" على رفع "خبر المبتدأ" أو "خبر إن" المفرد، وكل هذا فى إطار ما يسمى بالإعراب المحلى.
وننتقل الآن إلى الخبر الجملة عندما تخلو الجملة من فعل ظاهر:
متمم الفاعل ـ اسم: هند صديقاتها (بنات).
متمم الفاعل ـ صفة: هند صديقاتها (مثقفات).
متمم الفاعل ـ جارّ ومجرور: هند صديقاتها (فى غاية الذوق).
ظرف ـ جارّ ومجرور: هند صديقاتها (فى القاهرة).
وليس هنا من تعقيد سوى فى المسند إليه (الفاعل) فالفاعل الحقيقى فى الجمل السابقة (صديقاتها) بمعنى (صديقات هند)، وقد تعرضنا لهذه المشكلة عند مناقشة المسند إليه. والآن فإن دخول "إن وأخواتها" لا يفعل سوى نصب "هند" ويبقى كل شيء على ما هو عليه. فماذا يفعل دخول "كان وأخواتها"؟ لن يحدث سوى "نصب" متمم الفاعل ـ الاسم: "بنات" فى جملة: "هندُ كانت صديقاتُها بناتٍ"، أو "هندُ صديقاتها كُنَّ بناتٍ"،، و"نصب" متمم الفاعل ـ الصفة: "مثقفات"، فى جملة: هندُ كانت صديقاتُها مثقفاتٍ"، أو "هندُ صديقاتُها كُنَّ مثقفات". ويبقى الجارّ والمجرور متمما للفاعل أو ظرفا على حالهما الآن.
ونكتفى الآن بقراءة جملتين "خبراهما" جملة تشتمل على فعل تام:
هند (تقرأ الأدب الرفيع منذ الصغر).
هند صديقاتُها (يقرأن الأدب الرفيع مثلها).
وهنا وضعنا المسند بين القوسين والمسند إليه خارجهما (قبلهما عمليا). ولن يفعل إدخال "إن وأخواتها" سوى نصب "هند"، كالعادة، ويبقى كل شيء آخر على حاله الآن. ولم يعد لدينا متمم للفاعل لأنه إنما يأتى مع أفعال "كان وأخواتها". أما التحليل النحوى والإعرابى للمسند فنجد فيه عناصر جديدة من عناصر الجملة. ففى الجملة الأولى، نجد: الفعل "تقرأ" (وهو عنصر جملة)، والمفعول به (وهو عنصر جملة) وهو "الأدبَ الرفيعَ" الذى يتكون من اسم وصفة (نعت)، كما نجد الظرف ـ "ظرف زمان" (وهو عنصر جملة) وهو "منذُ الصِّغَرِ" الذى يتكون من ظرف الزمان "منذ" ومجروره بالإضافة.
فماذا يفعل إدخال "كان وأخواتها" على الجملتين السابقتين؟ ستغدوان كالتالى:
هند (كانت تقرأ الأدب الرفيع منذ الصغر).
هند صديقاتها (كُنَّ يقرأنَ الأدب الرفيع مثلها).
فما هو الجديد؟ الجديد هو صيغة "كانت تقرأ" و"كُنَّ يقرأنَ". وأعتقد أن اعتبار "كان وأخواتها" أفعالا مساعدة عند استخدامها مع أفعال تامة أكثر صوابا من اعتبار هذه الأخيرة أشكالا خاصة "فعلية" لتحقيق متمم المسند إليه (الفاعل) مع كان وأخواتها. وبهذا تكون صيغة "كانتْ تقرأ" أو كُنَّ يقرأنَ" مجموعة جُمْلية أو مجموعة فعلية كشكل من أشكال تحقيق الفعل باعتباره عنصرا من عناصر الجملة (راجع مسألة عناصر الجملة وأشكال تحقيقها).
والاستنتاج العام إذن هو أننا لسنا إزاء حروف ناسخة للمبتدأ والخبر كما يسميها النحاة، بل إزاء أدوات نصب للاسم تماما مثل حروف أو أدوات جرّ الاسم.
وتستقل "أَنَّ" عن بقية أدوات نصب الاسم ("إِنَّ وأخواتها") بأن هذه الأدوات تستخدم مع الجملة ككل بينما تُستخدم أداة الربط الناصبة للاسم: "أن" لتكوين مجموعة "أنَّ" الجُمْلية that-clause وهى عبارة تبدأ "بأن" وتحتوى على فعل، وهى ليست جملة لأنها لا تعطيك معنى مفيدا. وفى جملة "الأستاذ يَعْلَمُ (أَنَّ تلاميذه يحبونه)"، نجد المجموعة الجُمْلية الموضوعة بين القوسين، وهى "أنّ تلاميذه يحبونه"، لا يمكن القول إنها جملة فهى لا تكفى وحدها لمعنى مفيد رغم أنها تشتمل بعد أداة الربط الناصبة للاسم: "أنَّ"، على فعل: "يحبون"، وفاعل: "تلاميذه"، ومفعول به: "الهاء" فى "يحبونه"، وهذه العبارة كلها مفعول به لفعل: "يعلم"، وفاعله: "الأستاذ".
وجدير بالذكر أن المجموعة الجُمْلية البادئة "بأَنَّ" تصلح مسندا إليه (فاعلا)، كما تصلح مفعولا به، كما تصلح عناصر أخرى فى الجملة.
وينبغى أن يكون واضحا أن الأداة "أن" رابطة (أداة ربط) وليست للتوكيد الذى تختص به أداة التوكيد والنصب "إِنَّ". والنظر إلى "إنَّ" وأَنَّ" وكأنهما لفظة واحدة تُكسر همزتها فى مواضع وتُفتح فى مواضع أخرى خطأ جسيم، فهما كلمتان مختلفتان تماما، ولا تشتركان إلا فى كونهما من الأدوات الناصبة للاسم، ولا ينبغى الالتفات إلى مجيء صوت الهمزة وبعده صوت النون فى هاتين الكلمتين المختلفتين نتيجة اختلاف صوت الحركة (الكسرة هنا والفتحة هناك). إنهما كلمتان مختلفتان اختلاف كلمة "مِنْ" (حرف جر) مع كلمة "مَنْ" (الاسم الموصول) رغم اشتراك الأصوات أو الحروف.
ولشقيقى على كلفت اجتهاد مهم، مكتوب منذ سنوات طويلة، لكنه غير منشور إلى الآن. وهو يدور حول: "إِنَّ" و"أَنَّ" متحديا ما حفظناه منذ الصغر من أن: "إنّ" و"أن" للتوكيد، ثم يتركز اجتهاده أو إحياؤه للصحيح فى النحو على كسر وفتح الهمزة. وكم أتمنى أن يخرج ذلك البحث إلى النور، ليقرأه المهتمون بدلا من هذه الإشارة المبتسرة التى اضطررت إليها هنا اضطرارا لكى لا يظن أحد أن بعض تأكيداتى الخاصة بحرفى أو أداتى: "إنّ" و"أنّ"، من اجتهادى الشخصى، مع أننى مسئول عن صياغاتى المستقلة فى كثير من الأحيان. وربما حررنا نشر اجتهاد على كلفت من المراجعين الذين يعتقدون دون مبرر من لغة أو نحو أن ما يسمونه بكسر همزة "إنّ" مطلق بعد القول، فلا يقتصر على المحكى بالقول كما كان ينبغى أن يفهموا.
أما أدوات نصب الاسم الأخرى فهى لأغراض مختلفة غير مجرد الربط، بالإضافة إلى استعمالها مع الجملة ككل:
إِنَّ: أداة نصب للاسم تفيد التوكيد، ولا تستخدم إلا للتوكيد، وتؤكد كافة مواضع استعمالها أنها تأتى فى أول الجملة، ولا ينال من هذا: القول أو القسم أو غيرهما لأنك فى كل الأحوال تؤكد كل معنى الجملة، كما تؤكد استعمالاتها أن غرضها بلاغى بحت، فلا يصحّ أبدا استعمالها للربط على الإطلاق، فأداة الربط ضرورة نحوية لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن أن تقوم فى نفس الوقت بدور بلاغى هو التوكيد، فما العمل إذا عدلنا عن غرض التوكيد مع بقاء أداة الربط كضرورة نحوية؟! والحقيقة أن أداة الربط "أَنّ" هى الأداة الوحيدة الإلزامية بعد القول وبعد أفعال القلوب ولا مجال على الإطلاق لاستعمال "إن" البلاغية التوكيدية فى مجال الربط.
كأنّ: أداة نصب للاسم تفيد التشبيه، وهى تستعمل مع الجملة بكاملها، مثل: "كأن الممرضة ملك رحيم" ، أو فى مجموعة جُمْلية تصلح للوصف والتشبيه أو كحال، مثل: "إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله كأنهم بنيان مرصوص" .
لكنّ: أداة نصب للاسم تفيد الاستدراك، ويبدو أنها منحوتة من "لا" النافية و"كأنّ" المركبة من كاف التشبيه وأداة الربط الناصبة للاسم "أَنَّ". وهى لاستدراك جملة كاملة من جملة كاملة أخرى، مثل: "قضية فلسطين عادلة ولكن الاستعمار يأبى حلها"( ).
ليتَ: أداة نصب للاسم تفيد التمنى، وهى تُستعمل مع الجملة بكاملها، مثل: "ليت وجه الاستعمار يختفى من العالم"( ).
لعلَّ: أداة نصب للاسم تفيد الترجى أو الرجاء، وهى تُستعمل مع الجملة الكاملة، مثل: "لعل النصر قريب"( )
وهناك تخفيف النون بتأثيره فى عمل الأدوات التى آخرها النون، وهناك أيضا "ما" الكافة عن العمل: إنما، أنما، كأنما، لكنما، ليتما، لعلَّما. غير أن المجال لا يتسع لمثل هذه الاستقصاءات فى التفاصيل.
ومن "أخوات إنّ": "لا النافية للجنس"، وهى التى يليها اسم نكرة، فتنفى المسند عن جميع أفراده نفيا عاما شاملا( ). وهى عند النحاة ككل حروف "إن وأخواتها" حرف ناسخ للابتداء، تنصب المبتدأ اسمًا لها وترفع الخبر خبرًا لها. والمسند إليه (ما يسمى الاسم هنا) منصوب: إذا كان نكرة، ومتصلاً بها غير منفصل عنها بفاصل، وإذا كانت "لا" غير مقترنة بحرف الجرّ. ويكون المسند إليه منصوبا غير منون فى حالة إفراد "لا"، ومنصوبا غير منون أو مرفوعا منونا فى حالة تكرارها. ويكون المسند إليه مرفوعا إذا فُصل بين "لا" النافية والنكرة. وإذا دخل عليها حرف الجر يتم جرّ ما بعد "لا" بحرف الجرّ وتصبح "لا" لمجرد النفى، مثلا: "يضلّ مَنْ يسير بِلا وَعْي"( ).
والاستنتاج العام الذى نخرج به من هذه المناقشة الموجزة حول "إن وأخواتها" هو أن أدوات نصب الاسم هذه، بتنوع دلالات هذه الأدوات (التوكيد، الربط، التشبيه، الاستدراك، التمنى، الرجاء، ونفى الجنس فى حالة "لا"، مع تعقيدات فى تفاصيل هذه الأخيرة) تنصب المسند إليه بعدها ولا تفعل شيئا فى المسند؛ فلا نسخ إذن ولا يحزنون. ويمكن الحديث عنها كأدوات لنصب الاسم تماما مثل حروف أو أدوات جرّ الاسم. وبالمناسبة فهذه الأخيرة أكثر عددا وكل أداة منها تتعدد دلالاتها، ومع ذلك فقد كانت أدوات النصب أوفر "حظا" من أدوات الجرّ، فهذه الأخيرة لم يصطنع لها أحد أدوارا ولم يخصص لها أحد أبوابا، وقد آن الأوان لانتهاء هذه التعقيدات التى لا مبرر لها من لغة أو منطق.

























7



7
المسند أو ما يسمى بالخبر

بعد أن أشار إلى المبتدأ، يقدّم الأستاذ عباس حسن، صاحب الموسوعة الشهيرة "النحو الوافي"، تعريف الخبر بقوله:
... وبعده كلمة تُتَمّم المعنى الأساسى للجملة: (أى: تتضمن الحكم بأمر من الأمور لا يمكن أن تستغنى الجملة عنه فى إتمام معناها الأساسى [....] ذلك أن الاسم يسمى: "مبتدأ" والكلمة الأخرى تسمى خبرا: "خبر المبتدأ"، وكلاهما مرفوع) .
فالخبر حكم على المبتدأ بشيء، وهو كلمة، وهو مرفوع. ولا شك فى أن المسند أو الخبر حكم، فالمسند إليه محكوم له والمسند محكوم به، والمسند إليه متحدَّث عنه والمسند متحدث به، والمسند إليه موضوع والمسند محمول. ولكن هل المسند كلمة (أى كلمة واحدة) وهل هو مرفوع؟
لقد أشرنا من قبل، مرارا وتكرارا، إلى ان ما يسمى بالخبر المفرد مرفوع، وإلى أن رفعه عشوائى، وإلى أنه فى الأصل "خبر كان" المنصوب، وإلى أن الاقتصاد اللغوى اتجه بالجماعة اللغوية العربية عبر قرون ما قبل عصر الرواية فى اتجاه حذف المضارع المثبت من فعل "كان" قبل الخبر المفرد (وبالطبع قبل ما يسمى بالخبر شبه الجملة، وقبل ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية التى خبرها مفرد أو شبه جملة)، وإلى أن قياس رفع الخبر بوجه عام، فى كل أنواعه ("رفعا محليا" بالتالي) على رفع الخبر المفرد قياس فاسد.
أولا: لأن ما يسمى بالخبر المفرد ليس خبرا أصلا إلا مع المضارع المثبَت المحذوف من فعل الكينونة قبله.
وثانيا: لأن هذا مجرد رفع عرضى، ظاهرى، عشوائى، لحذف العامل اللفظى لنصبه أى فعل الكينونة، فى إطار من الاقتصاد اللغوى حيث يظهر بكل جلاء زمن الجملة دون ذكر الفعل فى هذا الزمن، ولأن معناه أيضا واضح بدون ذكره لأنه يدل على الكون العام، فاجتمعت هنا ثلاثة أمور لابد من اجتماعها للحذف، فمعنى الكون العام لا يتيح الحذف إلا فى هذا الزمن وإلا فى حالة الإثبات، كما أن هذا الزمن، حتى فى حالة الإثبات، لا يتيح حذف فعل غير معنى الكون العام (إلا كاستثناءات تقوم على منتهى الإيجاز فى جوامع الكلم كما سنرى فى موضع لاحق).
وثالثا: وهذا هو الأكثر أهمية بما لا يقاس، لأن المسند (الخبر) قسم من الجملة خارج مسألة الإعراب أصلا فلا رفع له ولا نصب ولا جرّ ولا شيء من الإعراب على الإطلاق (أى لا شيء من الإعراب حتى فى حالة التبنى الكامل لفكرة الإعراب المحلى، لأن ما يخضع لما يسمى "بالإعراب المحلي" هو ما يخضع للإعراب أصلا أى العنصر الواحد من عناصر الجملة مهما كان شكل تحقيقه فى صورة لفظة مرفوعة أو مبنية أو عبارة متعددة الألفاظ).
على أن اكتشاف أو إثبات أن المسند أو الخبر غير مرفوع، لأنه خارج مسألة الإعراب أصلا، لن يتحقق إلا بأن نعرف أوّلا: ما هو الخبر؟ فهل الخبر حقا "كلمة" تتمم مع المبتدأ معنى الجملة؟
ووفقا للنحو العربى ينقسم الخبر إلى ثلاثة أنواع: الخبر المفرد، والخبر الجملة: الاسمية أو الفعلية، والخبر شبه الجملة: الظرف أو الجارّ والمجرور. وينطبق هذا على ما يسمى بخبر المبتدأ، وعلى ما يسمى بخبر "إن وأخواتها"، وعلى ما يسمى بخبر "كان وأخواتها" (وعلى ما يسمى بخبر المبتدأ الثانى عندما يكون الخبر جملة اسمية فى كل هذه الأنواع للخبر).
وكان لنا حديث طويل لم تعد بنا حاجة إلى تكراره: عن وحدة الجملة بدلا من تقسيمها إلى اسمية وفعلية، وعن إلغاء "ألقاب" المبتدأ والخبر، باعتبارهما ركنين للجملة الاسمية؛ والفعل والفاعل، باعتبارهما ركنين للجملة الفعلية، وعن التقسيم النحوى الضرورى المطلوب للجملة العربية إلى جزءيْن أو قسميْن أو ركنيْن هما المسند إليه (الفاعل) والمسند (الخبر)، وعن الأفعال المسماة بالناسخة والتى انتهينا إلى أنها أفعال لها فاعلون وأن القسم الذى يعتبره النحاة خبرا بدون "دخول" هذه الأفعال يظل هناك بأنواعه الثلاثة، رغم تغيرات إعرابية محدودة بالقياس إلى إعراب ما يسمى بخبر المبتدأ (وتنحصر هذه التغيرات الإعرابية فى "نصب" ما يسمى بالخبر المفرد مع الأفعال المسماة بالناسخة) ليس لأنها نسخت "الخبر" بل لأنها أفعال تأخذ بصفة إجبارية: عنصر الجملة المسمى بمتمم الفاعل، أو عنصر الجملة المسمى بالظرف، وكل منهما منصوب فى شكل من أشكال تحقيقه، أى فى شكل الكلمة المعربة، وعن الحروف المسماة بالناسخة ("إن وأخواتها") والتى انتهينا إلى أنها أدوات نصب للأسماء وغيرها من الكلمات المعربة من غير الفعل (تنصبها كما تجرها حروف أو أدوات الجر) بلا تأثير من أى نوع على إعراب ما يسمى بالخبر بأنواعه الثلاثة بالمقارنة مع ما يسمى بخبر المبتدأ أيضا.
وهكذا يمكننا الآن التركيز على مسألة: ما هو المسند (الخبر)؟ وهل هو كلمة (للحديث بالتالى عن إعرابها أو عن رفعها بالذات) أو هو كلمات متنوعة؟ وهل هو عنصر من عناصر الجملة ليجوز فيه الإعراب كما هو الحال مع المسند إليه (الفاعل) وهو مرفوع دون شك؛ أو هو مفهوم أوسع من مفهوم عنصر الجملة بحيث يقتصر على عنصر واحد أو يشتمل على أكثر من عنصر من عناصر الجملة؟
ولنبدأ بهذه الأمثلة للخبر بمفهومه التقليدى فى النحو العربى، وسنضع بين قوسين ما يسميه هذا النحو بالخبر:
1: خبر مفرد: أ: الكتاب (مفيدٌ).
ب: الكتاب (سلعةٌ).
2: خبر ظرف: الكتاب (فوقَ) المنضدةِ.
3: خبر جارّ ومجرور: الكتاب (على المنضدةِ).
4: خبر جملة اسمية خبرها مفرد: أ: الكتاب (غلافه "أزرقُ").
ب: الكتاب (غلافه "تحفة").
5: خبر جملة اسمية خبرها ظرف: الكتاب (غلافه "فوقَ") المنضدةِ.
6: خبر جملة اسمية خبرها جارّ ومجرور: الكتاب (غلافه "على المنضدةِ"). 7: خبر جملة اسمية خبرها جملة فعلية: الكتاب (غلافه "يلمعُ").
8: خبر جملة فعلية: الكتاب (يفيدُ) القارئَ.
وكما هو واضح هناك خبر "1" من كلمة واحدة هى أ: صفة ب: اسم، وخبر آخر "2" من كلمة واحدة هى ظرف، وخبر ثالث "8" من كلمة واحدة هى فعل (مع أن النحاة يعربون هذا الفعل جملة فعلية مع فاعله الضمير المستتر المزعوم)، وهناك أكثر من خبر: الأمثلة من "3" إلى "7"، كل خبر منها من أكثر من كلمة وهى كلمات ذات وظائف متنوعة منها الجارّ والمجرور (شبه جملة عندهم كالظرف أيضا) والجملة (الاسمية أوالفعلية). غير أن كل "خبر" يتمم مع الكتاب جملة مفيدة.
ومع هذا تصدمنا حقيقة أن هذا "الخبر" غير متجانس إلى هذا الحد: فكيف يكون "صفة" أو "اسمًا" ويكون "فعلا"، ويكون "مفردا"، ويكون "شبه جملة" ("ظرفا" أو "جارّا ومجرورا")، ويكون "جملة اسمية" تبدأ بمبتدأ جديد مرة مع "الفعل"، ومرة أخرى مع "الصفة" أو "الاسم"، ومرة ثالثة مع "الظرف"، ومرة رابعة مع "الجارّ والمجرور"؟
ونلاحظ أن لدينا، ضمن هذا التعداد، بعض عناصر الجملة كما حددناها من قبل، لدينا "الفعل"، ولدينا "الظرف"، ولدينا "المفعول به"، ولدينا ما أشرنا إليه باعتباره "متمم الفاعل أو المفعول به".
كما نلاحظ أن هذه العناصر تختلف للغاية من حيث الإعراب، فالفعل يختلف معنى إعرابه عن معنى إعراب غير الفعل ولعله مجرد بقايا لفظية من نظام قديم نجهل خصائصه. وهناك كلمات منصوبة كالظرف وأخرى مرفوعة كالخبر المفرد أو المبتدأ الثانى وكلها لعناصر (أو لأجزاء من عناصر) متباينة للجملة.
ويؤدى بنا أدنى تأمل فى كل هذه المفارقات إلى الشك العميق فى إعراب "الخبر" الذى يتضح أنه مجموع من الألفاظ أوسع من أن يقبل الإعراب. فما هو ذلك الإعراب الواحد للخبر الذى من شأنه أن يقبل هذه الإعرابات المتنوعة لمكوّنات الخبر ذاته؟! كما أنه يؤدى بنا إلى الشك العميق فى أن يكون الخبر عنصراً من عناصر الجملة كالمسند إليه أو كالمفعول به أو الفعل أو الظرف أو متمم الفاعل أو المفعول به، ما دام هو ذاته يشتمل على بعض أو كل هذه العناصر باستثناء المسند إليه (الفاعل).
ويمكن أن نلجأ إلى المعنى، معنى المسند (الخبر) فلعله يسعفنا. ولنقرأ هذه الجملة:
الفلاح يزرع القمح عندما يكون سعره مجزياً.
فما الذى نقوله عن الفلاح وهو المسند إليه (الفاعل) هنا؟ من الجلى أن "يزرع" لا يصلح بمفرده ولا مع "القمح" لأنْ يكون ما نريد أن نقوله عن الفلاح فى هذه الجملة، فما نريد أنْ نقوله ليس أنه "يزرع" فقط، وليس أنه "يزرع القمح" فقط، بل أنه ("يزرع القمح") فى حالة محددة أو فى ظرف محدّد، أى: "عندما يكون سعره مجزيا".
ويتضح أن كل باقى الجملة (باستثناء الفلاح) هو المسند (الخبر)، وأنه يشمل فعلا وهو "يزرع"، ومفعولا به وهو "القمح"، وظرف زمان وهو "عندما يكون سعره مجزيا"، وهذه العبارة الظرفية تتركب بدورها من عناصر عديدة من عناصر الجملة.
غير أننا، عندما نعود إلى الأمثلة السابقة للخبر بمعناه التقليدى فى النحو العربى، نجد أن "كل باقى الجملة" يكون أحيانا كلمة واحدة، وهذه الكلمة الواحدة ذاتها غير متجانسة: مرة لدينا "فعل"، ومرة لدينا "اسم"، ومرة لدينا "صفة"، بالإضافة إلى الجملة وشبه الجملة بكل مكوّنات كل منهما. ومعنى هذا أن "كل باقى الجملة" (أى غير المسند إليه أو الفاعل) قد يكون له حدّ أدنى من كلمة واحدة من عنصر واحد كما أنه قد يكون أكثر من كلمة وأكثر من عنصر من عناصر الجملة، أى أنه قد يكون عنصرا واحد أو عنصرين، أو ثلاثة أو أربعة عناصر (فقد استبعدنا عنصرا واحداً فقط هو المسند إليه أو الفاعل من أصل خمسة عناصر) مع احتمال تكرار بعض أو كل العناصر لاحتضان المعانى المتنوعة المحتملة فى جملة بسيطة أو مركَّبة أومعقدة.
فما هو الحد الأدنى الممكن للمسند (الخبر)؟
وإذا قلنا إنه كلمة (أو ما فى حكم كلمة) فكيف نهتدى إلى طبيعة العنصر النحوى الذى تمثله هذه الكلمة بغضّ النظر عما تمثله من دلالات كمدخل فى المعجم؟
وربما كان من المفيد أن نقوم بتقليب الجمل التى تحتوى على هذا الحدّ الأدنى على وجوهها لنصل إلى ما قد يكون مختفيا تحت سطحها. ونأخذ من الأمثلة التى أوردناها من قبل جملتين من هذا النوع هما:
1: الكتاب يفيد.
2: الكتاب مفيد.
ولا يفيد التقديم والتأخير فى إظهار ما يختفى. فرغم الاختلاف المحتمل أحيانا من الناحية البلاغية إلا أن المستوى النحوى (مستوى العلاقات النحوية بين العنصرين فى كل جملة) سيبقى على ما هو عليه بطبيعة الحال. فالجملة الأولى، مثلا، سيغدو مسندا (خبرا) وهو "يفيد" يتلوه المسند إليه (الفاعل) وهو "الكتاب" بدلا من وضعها الحالى: المسند إليه ("الكتاب") يتلوه المسند ("يفيد").
وتتمثل طريقة مفيدة فى أن ننظر إلى زمن الجملة. ومهما كانت الوسائل التى تعبر بها لغة عن الزمن فإنها ستضع الجملة نفسها فى الزمن المقصود. ومن المعروف أن الفعل هو الذى يدل على الزمن من خلال نظام صرفى نحوى بذاته. فما العمل إزاء جملة تخلو من الفعل من الناحية العملية؟
وفيما يتعلق بالجملة التى تحتوى على الفعل "يفيد" يمكننا أن نضعها فى الماضى: "الكتاب أفاد" أو: "أفاد الكتاب"، وفى المستقبل: "الكتاب سيُفيد" أو: "سيُفيد الكتاب". ويتأكد لنا بمزيد من الثقة أن المسند فى هذه الجملة بتقلباتها فى الزمن هو الفعل: "أفاد" أو: "يفيد" أو: "سيُفيد". وفى حالة النفى أيضا سيكون:"لم يُفد" أو: "لا يفيد" أو: "لن يفيد"، على الترتيب.
أما الجملة التى لا تحتوى على فعل ظاهر صريح فقد صار من الجلى أن زمنها هو المضارع، وأن الزمن فى كل الجمل المماثلة هو المضارع. والمقصود أن الجملة الخالية من الفعل موضوعة كجملة فى المضارع، ومن المفهوم أن المضارع هو زمن الحقائق العامة والعادات قبل أن يكون زمن التعليق اللفظى خلال الحاضر المراوغ الهارب دوما. وهذا بالضبط ما نفهمه عندما نقرأ أو نسمع جملة بدون فعل وهو بالضبط ما نقصده عندما نكتب أو نقول جملة بدون فعل. وسنقوم الآن بوضع هذه الجملة فى الأزمنة الأخرى، مثبتة ومنفية.

الزمن الجملة الفعل

المضارع المثبَت: أ: الكتاب مفيدٌ ـــ
المضارع المثبَت: ب: الكتاب يكون مفيدًا يكون
المضارع المنفى: أ: الكتاب ليس مفيدًا ليس
المضارع المنفى: ب: الكتاب لا يكون مفيدًا لا يكون
الماضى المثبَت: الكتاب كان مفيدًا كان
الماضى المنفى: أ: الكتاب لم يكن مفيدًا لم يكن
الماضى المنفى: ب: الكتاب ما كان مفيدًا ما كان
المستقبل المثبَت: أ: الكتاب سيكون مفيدًا سيكون
المستقبل المثبَت: ب: الكتاب سوف يكون مفيدًا سوف يكون
المستقبل المنفى: الكتاب لن يكون مفيدًا لن يكون

ونلاحظ بكل سهولة أن الفعل ظهر فى كل الأزمنة المذكورة فى الإثبات والنفى، باستثناء حالة واحدة هى أكثر حالات المضارع المثبَت شيوعا فى اللغة العربية لفعل الكينونة. والفعل الذى ظهر فى كل الأزمنة، فى الإثبات والنفى، هو بلا استثناء فعل الكينونة (وفعل "ليس" لا يمثل استثناءً لأنه نفى للكينونة، ويبدو أن تاريخ هذه الكلمة يكشف عن نحت أدمج أداة النفى مع صورة قديمة لفعل الكينونة). وفى الحالة الوحيدة التى لم يظهر فيها الفعل وجدنا ما يسمى بالخبر المفرد مرفوعًا، وفى كل الحالات الأخرى التى ظهر فيها الفعل مثبَتًا أو منفيًّا وجدنا ما يسمى بالخبر المفرد منصوبًا.
وفى كل باقى أزمنة هذه الجمل (باستثناء المضارع المثبَت، أى: فى جملة تمثل حالة واحدة وحيدة فى اللغة العربية)، ظهر إذن "فِعْل"، وكان هذا الفعل هو "فعل الكينونة"، وفيها جميعا كان ما يسمى بخبر المبتدأ منصوبا باعتباره ما يسمى بخبر "كان" (وينطبق هذا على خبر "إن وأخواتها" فهو أيضا منصوب باعتباره خبر "كان" باستثناء المضارع المثبَت أيضا) مقابل خبر المبتدأ (وخبر "إن وأخواتها") فى المضارع المثبَت والذى يأتى بدون فعل ظاهر فى الحالة الأكثر شيوعا، كما يأتى مرفوعا فى هذه الحالة.
وما دام تغيير الزمن، والتغيير من الإثبات إلى النفى لا يأتيان، فى اللغة العربية، بفعل ليس فى الجملة فلا مناص من أن نستنتج بلا تردد عدة استنتاجات فيما يتعلق بالجملة الخالية من الفعل (والتى تتجسد فى هذه الحالة وحدها دون غيرها):
1: ما يسمى بالخبر المفرد، وهو مرفوع دائما، لا يأتى إلا فى الجملة الموضوعة فى المضارع المثبَت.
2: وهذا الخبر المفرد كما يسمى يسبقه فعل محذوف نستنتجه من الحالات الأخرى للجملة (الماضى إثباتا ونفيا، والمستقبل إثباتا ونفيا، والمضارع نفيا، والمضارع إثباتا أحيانا).
3: وهذا الفعل المحذوف هو فعل الكينونة (وليس تقديره الفعل: "استقرّ" ولا اسم الفاعل: "كائن" أو "مستقرّ" كما قيل قديما وكما سوف نرى).
4: وهذا الحذف لفعل الكينونة مصحوب برفع ما يسمى بالخبر المفرد، وهذا يعنى أن أصل هذا الأخير هو "خبر كان"، فهو إذن منصوب أصلا يُرفع عند حذف هذا الفعل.
5: وهذا الحذف ليس وجوبا، وليس لغرض بلاغى، بل هو نتيجة تراكمية فى الأمد الطويل لمبدأ الاقتصاد اللغوى.
والاستنتاج الأعم الذى لا يمكن تفاديه هو أن الجملة العربية لا تخلو من الفعل، وأن الحالة الوحيدة التى تخلو عمليا (أى من حيث هى حالة) من الفعل إنما تحتوى على فعل محذوف "فعل كان فى المضارع المثبَت" يعطى الجملة زمنها، كما يعطيها المعنى المقتصر على مجرد الفعل الرابط الذى يدلّ على الكون العام.
غير أنه يبقى سؤال: ما هو الخبر؟ وهل هو ما يسميه النحو العربى بالخبر؟
ولكى نتوصل إلى تصور واضح حول طبيعة الخبر ينبغى أن ندقق أوّلا فى مفهوم النحو العربى عن الخبر. ومن الأفضل أن ننتقل فى بحثنا واستقصائنا وتدقيقنا من الأقل صعوبة إلى الأكثر صعوبة، على الأقل فى البداية.
ولنبدأ بما يسمى بالخبر الجملة الفعلية. وفى جملة: "الكتاب يفيد" يتمثل الخبر فى نظر النحو العربى فى جملة "يفيد" التى تتكون فيما يزعمون من هذا الفعل وفاعله الضمير المستتر وتقديره هو ويعود فى محل رفع على المبتدأ "الكتاب". وقد سبق أن رأينا أن "الضمير المستتر" ليس سوى "شبح" وأن ضمائر الرفع البارزة المتصلة ليست سوى "نهايات تصريف أفعال" وأن الفاعل ليس فى الحقيقة سوى ما يسمونه بالمبتدأ.
فالخبر الجملة الفعلية فى زعمهم ليس إذن فى الحقيقة سوى فعل واحد هو فعل "يُفيد" وهو المسند الذى يأتى قبل المسند إليه (الفاعل) أو بعده. ويمكن بالطبع أن يأتى المفعول به: "القارئ" بعد الفعل: "يفيد". وكما أشرنا منذ قليل فإن المسند سيغدو مكوّنا من الفعل والمفعول به فى هذه الحالة، ولا مانع من إضافة متمم للمفعول به أو ظرف من أى نوع من أنواعه العديدة، ولا مانع من تكرار هذا العنصر أو ذاك فى نفس الجملة وضمن نفس المسند، كأن يكون هناك أكثر من مفعول به، أو أكثر من متمم للمفعول به، أو ظرف مكان مع ظرف زمان مع ظرف آخر من أى نوع، وهكذا، وسيكون كل هذا هو المسند (الخبر)، غير أن الاستنتاج هنا يتعلق بأن الحد الأدنى للمسند (الخبر) لا يمكن إلا أن يكون فِعْلا واحداً هو هنا "يُفيد". وسنرى أن هذا الحد الأدنى للمسند (الخبر) يتخذ شكله النموذجى فى صورة الفعل اللازم الذى لا يحتاج نموذجه (كنموذج أى كعنصر إجبارى فى النموذج) إلى أى عنصر جملة آخر مع المسند إليه (الفاعل)، مثل: "غرق فلان" أو: "فلان غرق"، مع أن نموذج الحدّ الأدنى هذا للجملة وللمسند (الخبر) لا يمنع ظرف الزمان والمكان وغيرهما فى أبسط أشكال مثل هذه الجملة؛ مثلا: "غرق فلان فى النيل فى الساعة العاشرة مساءً بتوقيت القاهرة".
ويعتبر النحو العربى هذا الفعل ("يفيد") جملة فعلية لأنه يفترض الفاعل الضمير المستتر، أو الفاعل ضمير الرفع البارز المتصل فى مثل: "يفيدون" أو "أفادوا". وبإلغاء الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل، كما سبق أن أوضحنا، يصبح الفعل مجرد فعل تم تصريفه مع المسند إليه (الفاعل) قبله أو بعده، فهو ليس إذن جملة من أى نوع. كما أن إضافة أية عناصر أخرى إلى هذا الفعل لا تجعله جملة لأن المسند إليه (الفاعل) منفصل أصلا عن المسند (الخبر)، ولا جملة بطبيعة الحال بدون اجتماعها بالإثبات أو النفى.
والاستنتاج الأشمل هو أن المسند (الخبر) لا يكون جملة فعلية، وإنما يكون "فعلا" بمفرده فى حالة مسند الحدّ الأدنى، أو مع بعض أو كل العناصر الثلاثة الأخرى التى قد يأخذها المسند إلى جانب الفعل وهى: المفعول به، والظرف، ومتمم الفاعل أو المفعول به (المباشر)، كعناصر "إجبارية" فى بعض النماذج الأساسية للجمل العربية، وعناصر "اختيارية" للإحاطة ببعض تنوعات معانى الجملة.
وننتقل مباشرة إلى ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية، وبالذات فى حالة من حالات هذا النوع من الخبر، أعنى حالة "الخبر الجملة الفعلية" .... "للخبر الجملة الاسمية" فى هذا النحو العربى التقليدى.
ففى جملة: "الكتاب غلافه يلمع" يزعم هذا النحو أن المبتدأ هو "الكتاب" وأن الخبر هو الجملة الاسمية "غلافه يلمع" وأن مبتدأ جملة الخبر أى ما يسمونه بالمبتدأ الثانى هو "غلاف" وأن الفعل "يلمع" مع فاعله الضمير المستتر خبر المبتدأ فى جملة الخبر.
ومن ناحية أخرى فإن تقديم "يلمع" يجعل الجملة: "الكتاب يلمع غلافه"، أى أنه الخبر المسمى بالخبر الجملة الفعلية وقد رأينا منذ قليل تهافت منطق الخبر الجملة الفعلية.
يبقى أن ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية (بكل أنواع خبر جملة الخبر هذه: الخبر المفرد، والخبر شبه الجملة، والخبر الجملة الفعلية) يأتينا بعنصر جديد بالغ الأهمية وهو ما يسمى بالمبتدأ الثانى، بما يثيره من إشكالية طبيعة أو حقيقة ما يسمى بالمبتدأ الأول، ولنقرأ مرة أخرى هذه الجمل:
1: جملة اسمية خبرها مفرد: أ: الكتاب (غلافه) أزرق.
ب: الكتاب (غلافه) تحفة.
2: جملة اسمية خبرها ظرف: الكتاب (غلافه) فوق المنضدة.
3: جملة اسمية خبرها جارّ ومجرور: الكتاب (غلافه) على المنضدة.
4: جملة اسمية خبرها جملة فعلية: الكتاب (غلافه) يلمع.
وعندهم أن "الكتاب" فى هذه الجمل هو المبتدأ الأول (أو بالتعبير الأدق: المسند إليه الأول، أو الفاعل الأول) وعبارة "غلافه" فى هذه الجمل هى المبتدأ الثانى (أى: المسند إليه الثاني). غير أن الغلاف (وليس الكتاب) هو الأزرق، وهو التحفة، وهو الذى فوق المنضدة، أو على المنضدة، وهو الذى يلمع. والمسند إليه الثانى (وليس المسند إليه الأول) هو الذى يتم إسناد الفعل إليه وتصريفه معه، مثلا:
الكتاب غلافه يلمع. أو الكتاب يلمع غلافه.
مصر رجالها استبسلوا. أو مصر استبسل رجالها.
هذه المرأة أعداؤها يكثرون. أو هذه المرأة يكثر أعداؤها.
والمسند إليه الثانى يرتبط بالمسند إليه الأول بضمير، مثلا: "غلافه"، "رجالها"، "أعداؤها".
على أن المسند إليه "الحقيقي" هو الثانى وليس الأول، سواء من حيث الإسناد عمليا إليه، أو التصريف عمليا معه، أو من حيث المعنى، فالتقدير السليم لمعانى الجمل السابقة هو:
(غلاف الكتاب) يلمع. أو يلمع (كتاب الغلاف).
(رجال مصر) استبسلوا. أو استبسل (رجال مصر).
(أعداء هذه المرأة) يكثرون. أو يكثر (أعداء هذه المرأة).
فالمسند إليه الأول ليس فى هذه الجمل سوى المضاف إليه والمضاف اللاحق هو المسند إليه الحقيقى.
وهناك جمل لا يصلح فيها إضافة المسند إليه المسمى بالثانى إلى ما يبدو أنه المسند إليه الأول؛ مثل: "النخل ثمره نأكله" أو: "النخل نأكل ثمره"، فالمضاف والمضاف إليه هنا وهما "ثمر النخل" هما المفعول به فى الحقيقة، أما ما يبدو أنه المسند إليه الثانى (وهو المسند إليه الحقيقى والوحيد) فهو الضمير "نحن" (كما نفهم من "النون" فى "نأكل" فالنون هنا حرف مضارعة من حروف "نأيتُ" كما تسمى وهى فى حقيقتها "بوادئ" تصريف الأفعال فى المضارع وينبغى التعامل معها مثل نهايات تصريف الأفعال فى الماضى والمضارع والأمر وهى التى يسميها النحو العربى التقليدى بضمائر الرفع البارزة المتصلة). والمعنى المقصود هو: "نحن نأكل ثمر النخل".
والواقع أن ما يبدو وكأنه المسند إليه الأول ليس فى الحقيقة مسندا إليه، لأن قاعدة المسند إليه ينبغى أن تتمثل فى البحث عن الفعل ثم البحث عن المسند إليه الذى تم تصريفه معه، وعندئذ يتضح أن المضاف الذى كان جديرا بأن يجرّه، إنْ تقدَّم كما ينبغى له فى وضعه النموذجى، تأخر وهو المسند إليه الحقيقى والوحيد.
فالمبتدأ الأول كما يسمونه (أو المسند إليه الأول كما جاء فى العبارات السجالية السابقة) ليس فى أصله سوى المضاف إليه المجرور بالإضافة والذى رفعه عشوائيا تأخُّر الجارّ أى المضاف، تماما مثلما قد يظل المفعول به مرفوعا إذا جرى الابتداء به (أو سبق ناصبه) وذلك لتأخر العامل اللفظى الناصب؛ فى مثل: "الولدُ ضربه أبوه" أو: "الولدُ أبوه ضربه".
ومثل هذه المرفوعات "العشوائية" ومنها ما يسمى بالخبر المفرد (مع المبتدأ أو "إن وأخواتها" أو كخبر فى جملة الخبر الاسمية) من شأنها أن تُربك وضع قاعدة بسيطة لإعراب الكلمات المعربة من غير الفعل ما لم نتقن معرفة مواضعها القليلة على كل حال.
ومهما يكن من شيء فإن ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية لا يشتمل عمليا على أى فعل فى عدد من الجمل، وقد رأينا أن غياب كل فعل فى المسند (الخبر) إنما يعنى أن فعل الكينونة محذوف فى المضارع المثبت. ويعنى هذا أن بقية أنواع خبر جملة الخبر الاسمية (باستثناء وحيد هو الفعل الذى يأتى خبرا للمبتدأ الثانى فى جملة الخبر الاسمية حسب مسميات النحاة) تشترك فى خلوّها من الفعل "الصريح" مع الخبر المفرد ومع الخبر شبه الجملة.
وينقلنا هذا مباشرة إلى استقصاء أحوال ما يسمى بالخبر المفرد والخبر شبه الجملة فى فصل مستقل.
























8



8
المسند (الخبر) ومتعلَّق الظرف أو الجارّ والمجرور

توصَّلنا فى نهاية الفصل السابق إلى استنتاج مؤداه أن المسند (الخبر) لا يكون جملة فعلية، لا خبرًا للمبتدأ أو لحروف "إن وأخواتها"، ولاخبرًاً للخبر الجملة الأسمية، كما يسمى النحو العربى التقليدى هذه الأشياء جميعا. على أن الأفعال المستعملة فى الأمثلة كانت أفعالا تامة (أعنى غير "كان وأخواتها")، بالإضافة إلى أننا لم نستقص أنواع هذه الأفعال من حيث اللزوم أو التعدى إلى مفعول أو مفعولين، باختلاف نماذج الجمل التى تُصاغ من كل ذلك.
غير أن ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية (مع المبتدأ، أو مع "إن وأخواتها"، أو مع ما يسمى بالمبتدأ الثانى فى الخبر الجملة الاسمية) يمكن أن تكون من الأفعال التامة كما يمكن أن تكون من الأفعال المسماة بالناقصة: أفعال "كان وأخواتها".
وفى هذه الحالة الأخيرة يهمنا، بصفة خاصة، فعل الكينونة لأنه كما سبق القول هو الفعل الوحيد الذى "يظهر" و"يختفي" فى الجملة ضمن قانون صارم ينبغى اكتشافه بعيدا عن الصور المألوفة لظاهرة "الحذف" للأفعال وغيرها، فى اللغة العربية وغيرها.
وعندما يظهر فعل الكينونة "صريحًا" فإننا نكون من جديد أمام ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية؛ وهو ما أصبحت طبيعته الحقيقية واضحة الآن تماما. فالخبر هنا قسم أو جزء من الجملة، ولا يكون جملة بحكم بداهة أنه بدون المسند إليه، والحدّ الأدنى للمسند (الخبر) هو الفعل، وحدّه الأقصى هو باقى عناصر الجملة باستثناء عنصر الجملة المتمثل فى المسند إليه (الفاعل).
غير أن فعل الكينونة يختفى أيضا. وعندما يختفى نكون إزاء ما يسمى بالخبر المفرد أو الخبر شبه الجملة أو الخبر الجملة الاسمية الخالية فى خبرها الجديد من "فعل" [فعل الكينونة أو غيره]، وكل هذا فى خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها" وخبر "كان وأخواتها"، وهى جميعا مسميات بحاجة إلى إعادة نظر جذرية (شكلا وموضوعا كما يقال).
وسيكون من الأفضل أن نُنْعم التفكير فى ظهور واختفاء (أو حذف) فعل الكينونة بعد أن نلقى نظرة فاحصة على الجُمَل التالية (والمسند إليه موضوع بين قوسين):


بحذف فعل الكينونة بظهور فعل الكينونة

1: خبر مفرد "اسم": (الرَّجُل) نجار. (الرَّجُل) كان نجارًا.
كان (الرَّجُل) نجارًا.
2: خبر مفرد "صفة": (الرَّجُل) ناجح. (الرَّجُل) كان ناجحًا.
كان(الرَّجُل) ناجحًا.

3: خبر جارّ ومجرور "بمعنى الوصف وليس بمعنى الظرف":
(الرَّجُل) فى غاية الذوق. (الرَّجُل) كان فى غاية الذوق.
كان (الرَّجُل) فى غاية الذوق.
4: خبر جارّ ومجرور "بمعنى الظرف":
(الرَّجُل) فى البيت. (الرَّجُل) كان فى البيت.
كان (الرَّجُل) فى البيت.
5: خبر ظرف: (الرَّجُل) فوق الجبل. (الرَّجُل) كان فوق الجبل.
كان (الرَّجُل) فوق الجبل.

* * *
6: خبر مفرد "اسم" لخبر جملة اسمية:
الرَّجُل (أصدقاؤه) نجارون. الرَّجُل (أصدقاؤه) كانوا نجارين.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) نجارين.
7: خبر مفرد "صفة" لخبر جملة اسمية:
الرَّجُل(أصدقاؤه) ناجحون. الرَّجُل (أصدقاؤه) كانوا ناجحين.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) ناجحين.

8: خبر جارّ ومجرور لخبر جملة اسمية "بمعنى الوصف وليس بمعنى الظرف":
الرَّجُل(أصدقاؤه) فى غاية الذوق. الرَّجُل (أصدقاؤه) كانوا فى غاية الذوق.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) فى غاية الذوق.
9: خبر جارّ ومجرور لخبر جملة اسمية "بمعنى الظرف":
الرَّجُل(أصدقاؤه) فى البيت. الرَّجُل(أصدقاؤه) كانوا فى البيت.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) فى البيت.
10: خبر ظرف لخبر جملة اسمية:
الرَّجُل(أصدقاؤه) فوق الجبل. الرَّجُل(أصدقاؤه) كانوا فوق الجبل.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) فوق الجبل.

ومن أبسط مقارنة لحالات حذف فعل الكينونة من الخبر المفرد، والخبر شبه الجملة، والخبر الجملة الاسمية، مع الحالات التى تناظرها مع ظهور فعل الكينونة، يتضح بكل جلاء ما يلى:
1: الخبر المفرد المرفوع (الاسم) "نجارٌ" يناظره .. "نجارًا": "كخبر مفرد" منصوب ﻟ "كان".
2: الخبر المفرد المرفوع (الصفة) "ناجحٌ" يناظره .. "ناجحًا": "كخبر مفرد" منصوب ﻟ "كان".
3: الخبر شبه الجملة (جارّ ومجرور بمعنى الصفة وليس بمعنى الظرف) "فى غاية الذوق": باق كما هو بعد "كان".
4: الخبر شبه الجملة (جارّ ومجرور بمعنى الظرف) "فى البيت": باق كما هو بعد "كان".
5: الخبر شبه الجملة (الظرف "ومجروره") "فوق الجبل": باق كما هو بعد "كان".
ونجد الشيء نفسه فى الجُمَل الخمس التالية 6 ـ 10. والجديد فى هذه الجمل الأخيرة هو أن المسند إليه (الفاعل) الحقيقى هو الموضوع بين قوسين، وليس بحال من الأحوال "الرجل" المذكور قبل "أصدقاؤه". والرجل مرفوع ولكنه ليس المسند إليه ما دام شرط هذا الأخير هو إسناد الفعل إليه وتصريفه معه، ومن الواضح هنا أن فعل الكينونة (الظاهر وكذلك المحذوف) مسندان إلى "أصدقاؤه" وليس إلى "الرجل" الذى ينبغى النظر إليه على أنه مضاف إليه مرفوع عشوائيا لأنه سبق المسند إليه المضاف بعده (= أصدقاء الرجل نجارون، إلخ.). وينبغى أن نتذكر أيضا ما سبق تأكيده من أن هذا المرفوع العشوائى المضاف إليه والذى يليه مضافُهُ أى المسند إليه الحقيقى ينبغى تمييزه عن المضاف إليه المرفوع عشوائيا والذى يرتبط بمضافه المفعول به بعده، فى جملة مثل: "المرأة قضيتها نحترمها ونقدّرها ونقف بصلابة معها". فالمرأة هنا مضاف إليه والضاف اللاحق هو "قضيتها" فالجملة إنما تعنى: "نحن نحترم قضية المرأة ونقدّرها ونقف بصلابة معها". ولا يمكن إضافة "المرأة" هنا إلى المسند إليه، بعكس "الرجل" فى الجمل من 6 إلى 10. على أن هناك المضاف إليه المرفوع عشوائيا والذى يرتبط بالمسند إليه (الحقيقي) بعده، ويرتبط فى الوقت نفسه بضمير المفعول العائد عليه، فى جملة مثل: "المرأة أصدقاؤها يحترمونها"، فإضافتها إلى المسند إليه بعدها قائمة مع أنها المفعول به فى حالة الفعل التام المتعدى: (= أصدقاء المرأة يحترمون المرأة = أصدقاء المرأة يحترمونها).
ومن الجلى أن المسند إليه الى من نوع "كان نجارًا"، أو "كان ناجحًا"، أو "كان فى غاية الذوق"، أو "كان فى البيت"، أو "كان فوق الجبل"، أو "كانوا نجارين"؛ إلخ. ... فى الجمل ا ـ 10 يعربه النحو العربى التقليدى على أنه "كان" و"خبر كان"، فلا ينتبه إلى حقيقة أن المسند (الخبر) هو فعل "كان" وما يليه أو يسبقه (مباشرة أو مع فاصل) من غير المسند إليه (الفاعل)، وللإنصاف فهذا خطأ شائع فى النحو التقليدى للغات عديدة وليس فى اللغة العربية وحدها وإلى وقت قريب جدا (وحتى إلى الآن فى كثير جدا من المراجع النحوية والمعجمية البالغة الأهمية) .
والاستنتاج الذى يفرض نفسه هنا هو أن المسند (الأخير) ليس ما يسمونه الخبر المفرد، وليس ما يسمونه بالخبر شبه الجملة "من ظرف أو جارّ ومجرور)، وليس ما يسمونه بالخبر الجملة الاسمية، وليس ما يسمونه بالخبر الفعلية (وهذا ما تبيَّن فى الفصل السابق)، وإنما هو، ولنكرر: كل ما هو غير المسند إليه فى الجملة. أما التحليل النحوى الداخلى للمسند فسوف يعطينا عناصر الجملة بأنواعها كعنصر الفعل (من لازم ومتعدّ وناقص)، وعنصر متمم الفاعل ومتمم المفعول به (ويأتى متمم الفاعل مع "كان وأخواتها" بما فى ذلك حالة حذف "كان" فى المضارع المثبَت، ويأتى فى شكل الاسم وفى شكل الصفة وفى شكل الجارّ والمجرور اللذين لا يدلان على ظرف المكان أو الزمان) وعنصر الظرف، وعنصر المفعول به.
ويمكن، بطبيعة الحال، تكوين جملة مفيدة من الفعل اللازم (أو المستعمل لازما حتى إنْ كان يتعدَّى إلى مفعول واحد أو مفعوليْن)، مثل: "غرق محمود" أو "محمود غرق". أما الفعل المتعدّى المستعمل متعدّيا فلا تتكون منه بمفرده مع المسند إليه جملة مفيدة فهو "يطلب" المفعول به أو المفعوليْن وربما متمم المفعول به أو الظرف حسب نموذج الجملة، إلا فى حالة استعماله لازما (مثل الفعل المتعدّى: "يقرأ" المستعمل لازما فى جملة مثل: "هذا الرجل يقرأ" بمعنى أنه يعرف القراءة). وأما أفعال "كان وأخواتها" (إلا عند استعمال القليل منها كأفعال تامة) فهى مسماة بالأفعال الناقصة لأنه لايمكن الاكتفاء معها بالفعل بمفرده مع المسند إليه (الفاعل)، وهى تجعل من الضرورى استعمال عنصر الجملة المتمثل فى متمم المسند إليه (الفاعل) مهما كان شكل تحقيقه (من اسم أو صفة أو جارّ ومجرور لا يدلان على الظرف) فى نموذج للجملة، أو استعمال عنصر الجملة المتمثل فى الظرف وهو ظرف مكان فى الغالب الأعم وظرف زمان فى القليل المحدود (كعنصر إجباري) ويتحقق الظرف فى هذين النوعين وغيرهما من أنواع عديدة من خلال أشكال متنوعة ومن هذه الأشكال الكثير جدا مما يعتبر جارّا ومجرورا فيما يسمى بالخبر شبه الجملة (فى خبر "المبتدأ" أو خبر"إن" أو خبر "كان").
وأعتقد أننا بدأنا الآن نقترب من الاطمئنان التام، من خلال تحليل الجمل الخالية من الفعل من الناحية العملية، إلى أن فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبَت ماثل فيها، كما تؤكد الدلالة الزمنية لمعنى مثل هذه الجمل، وكما يؤكد إخضاعها لعديد من الإجراءات والاختبارات النحوية والإعرابية، وإلى أن هذا الحذف إنما يحدث فى الإطار العام للاقتصاد اللغوى، وإلى أنه يؤدى إلى الرفع العفوى لما يسمى بالخبر المفرد المرفوع، وإلى أن المسند (الخبر) إنما يتكون من الفعل الظاهر أو المحذوف مع متمم الفاعل أو مع الظرف أو مع أية عناصر إجبارية فى نموذج للجملة (وبالطبع مع أية عناصر اختيارية واردة عمليا فى الجملة مهما كان نموذجها).
على أن هناك طريقا لم نسلكه إلى الآن سوف يوصلنا إلى نفس النتيجة، وبالذات إلى أن الجملة الخالية من الفعل من الناحية العملية تحتوى على فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبَت.
وهذا الطريق الذى ينبغى أن نسلكه الآن إنما هو "إحياء" ما نجده صحيحا، ولكنْ منزويا أو مهمَّشا أو غير سائد فى النحو العربى التقليدى، للاستفادة، بهذا "الإحياء" لأفكار نحوية صائبة، فى تصحيح الانحرافات الكبرى فى هذا النحو.
والمقصود هنا هو "إحياء" مفهوم مُتَعَلَّق المجرورات، ذلك المفهوم الذى لقى ـ على شهرته ـ من الإهمال أو الهجوم الضارى ما فرض عليه الانزواء، أمام سطوة ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع.
ولو جرى المزيد من تحليل وتعميق وتوسيع نطاق مفهوم "المتعلَّق" (بفتح اللام المشدَّدة) ليمتدّ من الظرف و/أو الجارّ والمجرور إلى ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع بالذات لما كان هناك مناص من تدمير تلك الأسطورة، ومعها أسطورة الجملة الخالية من كل فعل بما فى ذلك فعل الكينونة المحذوف فى حالة واحدة وحيدة قاطعة التحدد: حالة المضارع المثبَت.
ونقرأ فى ألفية ابن مالك:

وأَخْبَرُوا بظرفﹴ أو بحرف جَرّْ ناوين معنى "كائن" أو "استقرّْ"

وفى معرض شرحه لهذا البيت يقول ابن عقيل إن الخبر الظرف أو الجارّ والمجرور:
كل منهما متعلِّق بمحذوف واجب الحذف، وأجاز قوم ـ منهم المصنف ـ أن يكون ذلك المحذوف اسمًا أو فعلا نحو: "كائن" أو "استقرَّ" فإنْ قدّرت "كائنا" كان من قبيل الخبر بالمفرد، وإنْ قدّرت "استقرَّ" كان من قبيل الخبر بالجملة .
ويواصل ابن عقيل:
واختلف النحويون فى هذا؛ فذهب الأخفش إلى أنه من قبيل الخبر بالمفرد، وأن كلا منهما متعلِّق بمحذوف، وذلك المحذوف اسم فاعل، والتقدير "زيدٌ كائن عندك، أو مستقرّ عندك، أو فى الدار" وقد نُسب هذا لسيبويه .
ويواصل ابن عقيل:
وقيل إنهما من قبيل الجملة، والتقدير "زيدٌ استقرّ ـ أو يستقرّ ـ عندك، أو فى الدار" ونُسب هذا إلى جمهور البصريين، وإلى سيبويه أيضا .
ويضيف ابن عقيل:
وقيل: يجوز أن يُجعلا من قبيل المفرد، فيكون المقدر مستقرًّا ونحوه، وأن يُجعلا من قبيل الجملة؛ فيكون التقدير "استقرّ" ونحوه، وهذا ظاهر قول المصنِّف "ناوين معنى كائن أو استقرّ" .
ومن هذا يتضح أن النحو العربى القديم اهتم منذ البداية، أو منذ وقت مبكر جدا، بمسألة ما يربط بين المسند إليه من جهة والظرف أوالجارّ والمجرور من جهة أخرى، وأن اجتهادات النحاة فى هذه المسألة انتهت إلى افتراض أن ما يربط بينهما هو أن الظرف أو الجارّ والمجرور متعلِّق (بكسر اللام المشدَّدة):
1: بمحذوف يدل على معنى الكون والاستقرار.
2: واجب الحذف.
3: يرى بعض النحاة أنه "اسم" وهو اسم فاعل تقديره: "كائن" أو "مستقر"، وفى هذه الحالة يكون الخبر من قبيل الخبر بالمفرد.
4: ويرى بعضهم الآخر أنه "فعل" وهو فعل "استقر"، وفى هذه الحالة يكون الخبر من قبيل الخبر بالجملة.
5: وقيل إن من الجائز تقدير "الاسم" فيكون الظرف أو الجار والمجرور من قبيل المفرد، أو تقدير "الفعل" فيكون كل منهما من قبيل الجملة.
ولنبدأ فى تحليل هذه الاجتهادات حول متعلَّق (بفتح اللام المشدّدة) الظرف أو الجار والمجرور.
ويتفق هؤلاء النحاة على وجود "محذوف" قبل ما يسمى بالخبر الظرف أو الجار والمجرور. وهذا صحيح وسليم غير أن من المؤسف أنهم لم يمدوا هذا التصور إلى الخبر المفرد، وهذا يدل على أن بحثهم كان يركز على حذف عامل الظرف والجار والمجرور فى علاقته بالخبر وغير الخبر كما سوف نرى، على حين أنهم لم يفكروا فى البحث عن عامل يؤثر فى الخبر المفرد المرفوع لأن عامل رفع الخبر (وغيره رفعا محليا) كان يتمثل فى رأيهم فى المبتدأ (وفى الابتداء أيضا عند بعضهم) الذى رفع هنا الخبر أو فى "الترافع" المتبادل بين المبتدأ والخبر.
أما قولهم إن هذا المحذوف واجب الحذف فيدلّ على أن استقصاءهم لم يكن كاملا، ولهذا لم يعرفوا أن المحذوف إنما يقع فى زمن للجملة دون زمن، وبالأحرى يقع فى زمن واحد من الأزمنة المتعددة للجملة، وفى حالة الإثبات فقط فى هذا الزمن الوحيد، وليس فى كل حالات هذا الزمن الوحيد حتى فى حالة الإثبات. ومن المؤسف أن هذا الاستقصاء لم يتم وإلا لأدركوا ليس فقط أن ما يعتبرونه واجب الحذف إنما يذكر أو يحذف حسب الزمن، وأن ما يسمونه بالوجوب إنما هو نتيجة تراكمية للاقتصاد اللغوى فى حالة بذاتها حيث يمكن فهم زمن الجملة بدون فعل الكينونة فى هذه الحالة. بل لكان بوسعهم أن يدركوا أن المحذوف "فعل" وليس "اسما"، وأنه بالذات "فعل الكينونة"، وكان يكفى أن يأتوا بالماضى والمضارع والمستقبل فى الإثبات مرة وفى النفى مرة أخرى ليعرفوا على وجه اليقين أن المحذوف هو فعل الكينونة دون سواه.
وكان يمكنهم، بمزيد من الاستقصاء، أن يتفادوا افتراض أن الفعل المحذوف هو "استقرَّ" أو "يستقرُّ"، لأن هذا الفعل مستعمل فى اللغة دون حذف واجب مزعوم.
أما قولهم إن الخبر سيكون فى حالة تقدير الفعل "استقرَّ" أو "يستقرُّ" من قبيل الخبر بالجملة (الفعلية بالطبع) فيرجع إلى تصورهم عن فاعله المستتر أو فاعله ضمير الرفع البارز المتصل (وقد سبق أن رأينا حقيقة هذين الفاعلين المزعومين)، حيث تكون الجملة من هذا الفعل المُقدّر وفاعله المتوهم فى "محل رفع" خبرا.
كما كان بوسعهم، بمزيد من الاستقصاء، أن يتفادوا افتراض أن المحذوف اسم أو اسم فاعل هو "كائن" أو "مستقر"، لأن "تقليب" الجملة بتقديرها الجديد على بقية الأزمنة كان من شأنه أن يوضح لهم أن هذا الخبر بالمفرد، كما قالوا فى هذه الحالة التى لم يروا فيها محذوفا بحكم تصورهم عن الخبر المفرد المرفوع، سيحتاج إلى "تقدير" أو افتراض محذوف من جديد، وأن هذا المحذوف سيكون فعل الكينونة بالذات بالضرورة:
زيد عندك. زيد (كائن) عندك.
زيد (يكون كائنا) عندك.
زيد (كان كائنا) عندك.
زيد (سيكون كائنا) عندك.
زيد (لا يكون كائنا) عندك.
زيد (ما كان كائنا) عندك.
زيد (لم يكن كائنا) عندك.
زيد (لن يكون كائنا) عندك.
وينطبق نفس الشيء على اسم الفاعل الآخر: "مستقر"، فإنه سيحتاج بدوره إلى: "يكون"، أو "كان"، أو "سيكون"، أو "سوف يكون"، أو "لا يكون"، أو "ليس"، أو "لم يكن"، أو "ما كان"، أو "لن يكون"، كما احتاج كائن إلى كل ذلك حسب ضرورات استيعاب دلالات الزمن والإثبات والنفى.
على أن الرأى المنسوب "إلى جمهور البصريين، وإلى سيبويه أيضا"، بأن المحذوف "فعل" وأن مثل هذا الخبر من قبيل الخبر بالجملة ("وإن قدرت "استقر" كان من قبيل الخبر بالجملة" وهذه صياغة للشارح استنادا إلى النحاة أفضل من صياغته الأخرى، استنادا إليهم أيضا: "إنهما من قبيل الجملة" أو "وأن يجعلا من قبيل الجملة"، والمقصود بهما: الظرف والجار والمجرور، لأن الصياغة الأولى تضم الفعل إلى الخبر أو تجعل الفعل هو الخبر بصورة مباشرة وواضحة) – هذا الرأى يضعنا مباشرة أمام حقيقة أن هؤلاء النحاة اكتشفوا، تحت الجملة المجردة من الفعل، ذلك الفعل المحذوف، وأثبتوا بذلك أنه لا يمكننا أن نتصور الخبر الذى ليس فعلا أو الذى لا يشكل الفعل مكوّنه الإجبارى الذى لا يستغنى عنه.
ويتضح هذا أكثر من تعليق هام للمحقق الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد:
...اختلف النحاة فى الخبر: أهو متعلَّق الظرف والجار والمجرور فقط أم هو نفس الظرف والجار والمجرور فقط، أم هو مجموع المتعلَّق والظرف أو الجار والمجرور؟ فذهب جمهور البصريين إلى أن الخبر هو المجموع؛ لتوقف الفائدة على كل واحد منهما، والصحيح الذى نرجحه أن الخبر هو نفس المتعلق وحده، وأن الظرف أو الجار والمجرور قيد له، ويؤيد هذا أنهم أجمعوا على أن المتعلَّق إذا كان خاصا فهو الخبر وحده، سواء أكان مذكورا أم كان قد حذف لقرينة تدلّ عليه، وهذا الخلاف إنما هو فى المتعلَّق العام، فليكن مثل الخاص، طردا للباب على وتيرة واحدة .
ورأى المحقق ("الخبر هو نفس المتعلَّق وحده") يتسق (عند اتخاذ المحذوف فى الاعتبار) مع الاتجاه العام فى النحو العربى فى إعراب الخبر الفعل (الخبر الجملة الفعلية) والخبر المفرد (اسم الفاعل هنا) فهذا أو ذاك هو الخبر ولا خبر غير ذلك (إلا ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية) فى هذا النحو.
وإذا تذكرنا الرأى الذى عبرنا عنه مرارا وتكرارا فى سياق هذا البحث، وهو أن المسند (الخبر) هو كل الجملة باستثناء المسند إليه (الفاعل)، يتضح أن أقرب رأى هو هذا الرأى المنسوب إلى جمهور البصريين وهو أن "الخبر هو المجموع"، مع ملاحظة أن "المجموع" عندهم هو مجموع الفعل "استقرَّ" أو "يستقرُّ" وفاعله المستتر والظرف أو الجار والمجرور، أما المسند (الخبر) بالمعنى النحوى السليم فهو، فى مثل هذه الجملة الخالية عمليا من الفعل، فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت مع الظرف أو الجار والمجرور، بالإضافة أية عناصر أخرى إجبارية او اختيارية ترد فى الجملة غير المسند إليه (الفاعل).
على أن النحاة يشيرون إلى أن الحذف لا يكون للكون العام فقط بل قد يكون للكون الخاص أيضا. ويذكر الأستاذ المحقق فى هامش آخر ما يلى:
وجعل ابن هشام فى المعنى من هذا الأخير [أى أن يكون المتعلَّق خاصا قامت القرينة الدالة عليه] قوله تعالى: "الحر بالحر والعبد بالعبد" أى الحر يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد .
ويقول فى هامش ثالث:
...الأصل عند الجمهور أن الخبر ـ إذا كان ظرفا أو جارا أو مجرورا ـ أنْ [كذا] يكون كل منهما متعلِّقا بكون عام، وأن يكون هذا الكون العام واجب الحذف، كما قرره الشارح العلامة، فإن كان متعلَّقهما كونا خاصا وجب ذكره [....] فإن قامت هذه القرينة جاز ذكره وحذفه، وذهب ابن جنى إلى أنه يجوز ذكر هذا الكون العام لكون الذكر هو الأصل .
ويتركز بحثنا هنا بطبيعة الحال على الكون العام أو الوجود المطلق الذى يدل عليه فعل الكينونة ولا يتعلق الأمر بالحذف بوجه عام (حذف الفاعل أو الفعل أو المفعول، إلخ.). وإنما يكفينا أن هؤلاء النحاة القدامى اكتشفوا المحذوف فى الجملة الخالية من الفعل، وأن اتجاها رئيسيا بينهم يرى أن المحذوف فعل، وأنه يدل على الكون العام حتى إن ربطوا هذا بفعل "استقر" وليس بفعل "كان" كما كان ينبغى، وأن هذا الفعل مع ما يليه هو الخبر.
وكل هذا يؤدى بنا إلى مزيد من الاطمئنان إلى فرضية أن الجملة لا تخلو من الفعل، وأن المسند (الخبر) لا يخلو من الفعل، وأنه المكان "الطبيعي" أو المنطقى لوجود الفعل، وأن الفعل هو الحد الأدنى لتحققه.
على أن المتعلَّق المحذوف عندهم ليس الخبر أو جزءا من الخبر فحسب بل يمتد إلى الصفة والحال والصلة (صلة الموصول). ويقول ابن عقيل:
وكما يجب حذف عامل الظرف والجار والمجرور ـ إذا وقعا خبرا ـ كذلك يجب حذفه إذا وقعا صفة، نحو: "مررت برجل عندك أو فى الدار"، أو حالا، نحو "مررت بزيد عندك، أو فى الدار" أو صلة، نحو: "جاء الذى عندك أو فى الدار". لكن يجب فى الصلة أن يكون المحذوف فعلا، والتقدير: "جاء الذى استقر عندك، أو فى الدار". وأما الصفة والحال فحكمهما حكم الخبر كما تقدم .
والحقيقة أن التحليل عن طريق زمن الكلام يؤيد صدق حدسهم. فمثلا إذا قلنا: "مررت برجل كان عندك، أو سيكون عندك، أو لم يكن عندك" فإن المحذوف يظهر بنفس وضوح ظهوره فى حالة "الخبر". وكان من شأن اعتبار المحذوف فعلا دون غيره بعيدا عن اسم الفاعل مثل "كائن" أو "مستقر" أو الضمير، وفعل الكينونة دون غيره بعيدا عن "استقرَّ" أو غيره، فى هذه الحالات جميعا، أن يُنقذ النحو العربى من اضطراب كبير يتعلق بالخبر وبغيره.
ومن هذا الاضطراب ما يؤكده الأستاذ عباس حسن من أن "الرفع المحلى للظرف والجار والمجرور" يرجع إلى أن:
الأصل أن يكون الخبر مفردا مرفوعا، إذ المفرد "بسيط" و"البسيط" أصل المركب فجاء الظرف والجار والمجرور وحلا فى محل ذلك الأصل (...) فلو قلنا: "ظرف منصوب خبر المبتدأ" أو: "جار مع مجروره خبر المبتدأ"؛ من غير أن نزيد شيئا ما حصل قصور، ولا وقعنا فى خطأ، ولكان مساويا فى صحته لقولنا: إن شِبْهَى الجملة متعلقان بمحذوف هو الخبر... لكن قد يكون الأخذ بالإعراب الأول أنسب؛ لأنه أوضح ظهورا، لمراعاة الأصل، والغالب فيه .
وهكذا يتساوى عند الأستاذ الكبير أن يكون الخبر هو المتعلَّق المحذوف أو الظرف (أو الجار والمجرور)، وكأن من غير المنطقى أن نهتم بمسألة: ما هو الخبر على وجه الدقة والتحديد؟ وكما رأينا فإن الأستاذ الكبير يفضل مع ذلك الرفع المحلى للظرف أو الجار والمجرور خبرا للمبتدأ، ويضيف الأستاذ عباس حسن:
فاعتبار الظرف هو الخبر من غير أن يتعلق بشيء آخر وكذلك اعتبار الجار الأصلى مع مجروره هو الخبر ـ مذهب قديم من عدة مذاهب (...) والأخذ به يريحنا من بحوث جدلية مضنية، وتقسيمات متعددة، لا نفع لها اليوم وليس فيها إلا العناء العقلى الذى تضيق به الناشئة .
وهكذا ينطلق علامة النحو الكبير، فى هذه النقطة، من تصوُّر مبسَّط عن تبسيط النحو، بعيدا عن ضرورة الفهم الصحيح الدقيق للنحو أولا قبل البحث الضرورى بعد ذلك عن وسائل وطرق وأساليب العرض "الذى لا تضيق به الناشئة". على أن الأستاذ الكبير يواصل عرضه لمذاهب وآراء متعددة لكى ينهل الدارسون المتخصصون من معرفته الموسوعية الواسعة ما يقفون عنده "وقفة الفاحص" لكن "لا للأخذ بها" كما يقول مع أن التمهيد للأخذ بالصحيح ينبغى أن يكون الهذف السليم للفحص العميق.
ولعلنا ننهل من العلم الغزير للأستاذ العلامة:
أن الخبر فى الأصل هو المحذوف (...) ويتعلق به كل واحد من هذين [أى: الظرف والجار والمجرور]. ولما كان كل منهما صالحا لأن يتعلق بالفعل المحذوف، ويدل عليه بغير خفاء ولا لبس ـ كان شبه الجملة بمنزلة النائب عنه، والقائم مقامه. والفعل مع فاعله جملة؛ فما ناب عنها وقام مقامها فهو شبه بها، لذلك أسموه: "شبه الجملة". وأوجبوا حذف متعلَّقه إن كان كونا عاما وقع خبرا، أو: صفة، أو: حالا..." وكذلك إن كان صلة لموصول .
وكذلك فى موضع سابق من نفس الهامش:
الظرف أو الجار الأصلى مع مجروره متعلق بمحذوف خبر؛ سواء أكان المحذوف فعلا مع فاعله (أى جملة فعلية؛ مثل: استقر، أو: ثبت، أو: "كان" التى بمعنى: "وُجد" وهى: كان التامة)، أم كان مفردا (أى: اسما مشتقا؛ مثل مستقر، او كائن المشتقة [كذا] من "كان" التامة ـ ، أو: موجود أو: شيئا آخر يصلح عاملا)... .
ويؤكد الكاتب العلامة أنه:
إنصافا للنحاة نذكر أن رأيهم فى وجوب تعلُّق شبه الجملة سديد، وأن حجتهم فى تحتيم ذلك قوية (...) فالظرف (...) لا يستقل بنفسه فى إحداث معنى جديد، لأنه وعاء ـ كالوعاء الحسى ـ لابد له من مظروف (...) وهذا المظروف هو ما يسمى: "المتعلَّق" وهو الذى لابد أن يقع فى الظرف، وإلا فسد المعنى بغيره تماما، وما يقال فى الظرف يقال فى الجار الأصلى مع المجرور، إذ لا فائدة منهما إلا بمتعلَّقهما .
غير أن من المؤسف أن كل هذا لا يكتمل بامتداد مفهوم "المتعلَّق" (بفتح اللام المشدَّدة) إلى ما يسمى بالخبر المفرد، ولا يكتمل بعناصر أخرى سبقت الإشارة إليها، ومنها عدم إدارك أن "المتعلَّق" هو فعل الكينونة من أفعال "كان وأخواتها" وليس "كان" التامة، لأن هذه الأخيرة تفسد المعنى وتربكه وتجعله يضطرب تماما.
وبهذه الطريقة نكون قد استفدنا من "إحياء" مفهوم "المتعلق" فى النحو العربى القديم مع إيقافه على قدميه بتصحيح انحرافاته، تماما كما استفدنا من "إحياء" السند والمسند المنسوبين إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى، أاو المسند والمسند إليه عند سيبويه، أو من "إحياء" مجمع اللغة العربية بالقاهرة لهذين المفهومين بطريقة مترددة أربكت النحو والنحاة، كما أربكت التعليم والمعلمين والمتعلمين، خلال عقود طويلة سابقة.
ويمكننا الآن أن نتجه مباشرة إلى تحليل العناصر النحوية الأساسية (عناصر الجملة) التى يشتمل عليها المسند (الخبر).






















9



9
المسند أو الخبر: تحليل لعناصره المكونة

توصَّلْنا فى سياق مناقشة المسند إليه والمسند فى الفصول السابقة إلى أن المسند هو كل الجملة باستثناء المسند إليه، فهو كل ما نقوله عن هذا الأخير، وبعبارة أخرى فالمسند هو كل ما نثبته أو ننفيه عن المسند إليه.
وهكذا انقسمت الجملة إلى قسمين أو تجزَّأت إلى جزءين هما المسند إليه والمسند. وقد رأينا أن النحو العربى لا يقسّم الجملة هذا التقسيم. وحتى عندما يستعمل تعبيرى المسند إليه والمسند (إلى جانب كافة الألقاب الأخرى من مبتدأ وخبر للجملة الاسمية أو فعل وفاعل للجملة الفعلية ـ وهذا عند "كل" النحاة والمذاهب "تقريبا"، قديما وحديثا؛ أو بدلا من هذه التسميات جميعا فى حالة نادرة تمثلها محاولة فاشلة فى الثلاثينات والأربعينات والخمسينات لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف المصرية) ... حتى عند استعمال هذين التعبيرين يعتبرهما النحو العربى التقليدى (الذى لا نملك غيره) ركنين أساسيين وليس وحيدين، حيث تشتمل الجملة على غيرهما، تشتمل على المفعول به وعلى الظرف، وعلى الحال، وعلى أشياء لا حصر لها، حيث يضيِّق هذا النحو نطاق المسند إليه، وبالأخص نطاق المسند (الخبر) بأنواعه المزعومة المعروفة.
وهناك لغات أخرى لا يقسم نحوها الجملة بأكملها إلى قسمين كما نفعل هنا. وإذا حكمنا بكتاب ليس حديثا جدا (إذْ يرجع إلى 1975) وهو: "قواعد اللغة الفارسية" للدكتور عبد النعيم محمد حسنين، نجد النحو الفارسى يجعل أجزاء الجملة الفارسية (الأصلية) ثلاثة: المسند إليه والمسند والرابطة التى تربط بينهما، أما عندما يكون المسند فعلا، غير الرابطة والفعل الرابط، فإن الفعل يقوم مقام المسند والرابطة معا
وكان النحو الفرنسى لا يُدخل فعل الكينونة فى المسند إلى عهد قريب، مثلا: "معجم لا روس الصغير"، طبعة 1978 ، الذى كان لا يزال يخلط بين المسند وما نسميه هنا بمتمم الفاعل، غير أن أحدث المطبوعات الفرنسية (من معاجم لغة وكتب نحو) المنشورة فى التسعينات تدلّ على أن النحو الفرنسى أخذ يلحق بثورة النحو الإنجليزي فى العقود الأخيرة، وهذا النحو الأخير يتبنى التقسيم الثنائى للجملة بأكملها إلى المسند إليه والمسند، جاعلا هذا الأخير كل ما نثبته للأول أو ننفيه عنه، وهكذا يشكل الفعل اللازم أو المتعدى أو الرابط بكل ما يصحب كل نوع منها بصفة إجبارية فى نماذج بذاتها أو بصفة اختيارية جزءًا لا يتجزأ من المسند الذى يقتصر حده الأدنى على الفعل اللازم أو المستعمل لازما.
وكما سبق القول فإن المسند، بعكس المسند إليه، مفهوم فضفاض يشتمل على عناصر قد تتعدد من عناصر الجملة، فيما بين مسند الحد الأدنى، المكون من عنصر واحد هو الفعل، ومسند الحد الأقصى، المكون من أربعة عناصر هى الفعل والمفعول به والظرف والمتمم (متمم الفاعل أو المفعول به).
ولهذا، أى: بسبب اشتماله على عناصر ومكونات وتراكيب متعددة، يخرج المسند من دائرة الإعراب، ولكنه يخرج أيضا من دائرة المفاهيم النحوية التحليلية الفعالة التى ينبغى أن تكون أضيق نطاقًا، وهى التى ينطبق عليها مفهوم عنصر الجملة.
ولهذا فإن الحديث عن تقسيم الجملة إلى المسند إليه والمسند ينبغى ألا يكون أبدا موضوعا للاهتمام النحوى البالغ ولا موضوعا للتحليل الإعرابى أو النحوى المتواصل. بل تكفى الإشارة فى البداية، أو أحيانا كنوع من التذكير، إلى هذا المسند الذى ينبغى "إهماله" إلى أبعد حدّ بعد ذلك، على أن يتم الاحتفاظ بما يحتويه هذا الوعاء المسمى بالمسند من مكونات أو عناصر، إلى جانب المسند إليه لأن هذا الأخير عنصر جملة.
وقبل أن ننتقل إلى هذه المكونات أو العناصر ينبغى أن نشير إلى أن المسند يأتى بعد المسند إليه أو قبله، وقد تأتى كلمة أو كلمات منه قبله وكلمة أو كلمات منه بعده فى الجملة الواحدة، وفى الجمل التالية وضعنا المسند بين قوسين:
(تفوقت) عزة.
عزة (تفوقت).
(يتفوق) التلميذ المجتهد (لأنه يعتمد على نفسه).
(إن) حب الوطن (من الإيمان).
(كان) الناس (لا يرون بعضهم من كثافة الشبورة).
هذه المرأة أعداؤها (يكثرون).
ومن الجلى أن عبارة "هذه المرأة"، فى الجملة الأخيرة، ليست المسند إليه مقابل المسند الجملة (وريث الخبر الجملة الاسمية): "أعداؤها يكثرون"، والتى يعتبر أن المسند إليه فيها هو: "أعداؤها"، وأن المسند فيها: "يكثرون"، كما يفعل كتاب: "تحرير النحو العربي" السابق الذكر مع مثل هذه الجملة. والحقيقة أن المسند إليه دون غيره هنا هو "أعداؤها"، أما عبارة "هذه المرأة" فهى ما يمكن أن نسميه بالمضاف إليه لمضاف لاحق (فاعل هنا ومفعول به فى أحوال أخرى) ولفظة "المرأة" هنا مرفوعة رفعًا سبق أن أسميناه بالرفع العشوائى لأنها سبقت بالتقديم عامل جرّها بالإضافة.
وأفضل طريقة لمنع التقدير العشوائى للمسند إليه، كما يفعل الكتاب المشار إليه منذ قليل، وكما يفعل غيره، وكما يفعل النحو العربى كله، هى البحث أوّلا وقبل كل شيء عن الفعل أو الأفعال فى الجملة، ثم البحث بعد ذلك عن فاعل (مسند إليه) لكل فعل. وبهذا يمكننا أن نتفادى التقدير العشوائى للمفاهيم والعناصر النحوية، وإنْ كنا لا نملك إلا الاحترام الكامل والإذعان الكلى للإعراب العشوائى والرفع العشوائى (رغم حق النصب أو الجرّ)، فى حديثنا كما فى كتابتنا، لأن هذا النوع من الإعراب صار أصلا من أصول النحو الجمعى، واللغة، كما شاءت سليقة الجماعة اللغوية العربية، أى العرب.
والمسند إليه هو فاعل الفعل (بما فى ذلك الفعل المحذوف فى المضارع المثبت لفعل الكينونة أو فعل الأمر أو المضارع المنفى للنهى أو غير ذلك من حذف تحفل به كل لغة)، وهو المرفوع ولا مرفوع سواه اللهم إلا بصورة عشوائية وفى مواضع قليلة يمكن إتقان معرفتها.
ومن الجلى أن إعراب الفعل (من رفع ونصب وجزم) يختلف جوهريا عن إعراب الاسم (والاسم يرمز هنا لكل ما يعرب، من غير الفعل المضارع، كالصفة والظرف) لأن هذا الإعراب الأخير يقوم دون الأول بوظيفة تمييز الفاعلية من المفعولية، ومختلف العلاقات النحوية من بعضها، وتوابع هذا العنصر من توابع ذاك، وما إلى ذلك. ولا يرتبط إعراب الفعل بشيء من هذا رغم محاولات الاجتهاد فى مجال الربط بين الإعراب والمعنى، وبين الإعراب والزمن. وسيجد القارئ فصلا كاملا من كتاب: "اللغة والزمن" لمؤلفه مالك يوسف المطلبى، وهو الفصل الخامس وعنوانه "الزمن والإعراب" حافلا بالمناقشات حول هذه النقطة .
وعلى الجانب الآخر، منطقيًّا وتحليليًّا وليس مكانيًّا، نجد فى "قلب" دائرة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، وفى مقابل المسند إليه (الفاعل) مباشرة، المفعول به الذى يدخل مع المسند إليه فى علاقة مخالفة فى الوظيفة النحوية (ما يقوم بالفعل المتعدى وما يقع عليه ذلك الفعل أو المؤثر والمتأثر بالفعل المتعدى) وكذلك فى الاعتبار الإعرابى المتخالف بالتالى بينهما والمتمثل فى الرفع لأحدهما والنصب للآخر. فالذى يخالف المسند إليه (الفاعل)، وهو عنصر جملة، ليس المسند (الخبر)، وهو ليس عنصر جملة وإنما مجموع عناصر الجملة غير المسند إليه، بل هو المفعول به. وهذا هو المنصوب، عن كل حق فى النصب بحكم المخالفة النحوية، وبالتالى الإعرابية. وينبغى أن يكون واضحا أن ما يسمى بمنصوبات الأسماء إنما هى عناصر جملة تتحقق فى شكل من أشكالها بالنصب، لأنها تتحقق أيضا بالألفاظ المبنية أو بالتراكيب المتعددة الألفاظ والتى لا تقبلها ـ كتراكيب ـ علامات الإعراب بالتالى.
ويتبقى عنصران هما الظرف والمتمم (متمم الفاعل ومتمم المفعول المباشر).
ونصطدم هنا بحقيقة أننا أمام مهمة ليست باليسيرة تتمثل فى التوفيق وليس التلفيق بين ثلاثة عناصر من عناصر الجملة (المتمم والظرف والمفعول به) وكثرة من منصوبات الأسماء. وإذا تذكرنا أن المفعول به بالذات واضح تماما من حيث مفهومه الجوهرى الذى لن يقابلنا بمفاجآت بالاتساع لمنصوبات أخرى، اللهم إلا تلك التى يجرى فصلها عادة ضمن "أساليب" بذاتها، تأكد لنا أن المهمة أقلّ يسرا وأشدّ صعوبة لأن مفهومى الظرف والمتمم هما المرشحان النحويان الوحيدان لاستيعاب كل تلك الكثرة من منصوبات الأسماء.
على أن الوقت لم يحن بعد لهذه المحاولة التى ستأتى بعد وقفة متأنية، بعد هذا الفصل، عند الإعراب من حيث طبيعته، ووظيفته، وعلاقته بعناصر الجملة، ومبادئ وأساليب ووسائل تبسيط عرضه وتسهيل استيعابه، وكذلك النتائج التى تترتب، بصفة جوهرية، على مناقشتنا للنحو من ناحية وللإعراب من ناحية أخرى.
أما هنا فنواصل مناقشتنا لمكونات أو عناصر المسند (الخبر)، وهى ذاتها بالإضافة إلى المسند إليه (الفاعل) عناصر الجملة.
والمقصود بعناصر الجملة هى تلك العناصر التى يمكن تقسيم الجملة إليها من حيث العلاقات النحوية القائمة بين تلك العناصر فى الجملة. وهى العناصر التى تبنى منها أو بها الجملة، ولهذا فإنها تتناول مختلف جوانب الحدث أو المعنى الذى تتضمنه الجملة. فمن هو فاعل الحدث أو المعنى أو الفعل بالمعنى النحوى للفاعل؟ وهذا هو عنصر المسند إليه (الفاعل). وما هو الحدث الذى تتضمنه الجملة؟ وهذا هو عنصر الفعل الذى يربط بين دلالة الحدث وزمنه. ومَنْ الذى (أو ما الذي) وقع عليه الفعل؟ وهذا هو عنصر المفعول به. ويأتى عنصر الظرف ليوجّه أسئلة جديدة عن مكان الحدث أو زمانه أو سببه أو غايته أو نتيجته أو الطريقة أو الكيفية التى تم بها أو أشياء أخرى كثيرة سيأتى تفصيلها فى المكان الملائم.
وهناك عنصر المتمم (متمم الفاعل ومتمم المفعول به المباشر). وقد يكون صفة أو اسما أو ضميرا أو جارًّا ومجرورا.
ويأتى متمم الفاعل مع "كان وأخواتها"، أى مع ما يسمى بالأفعال الناقصة. وينبغى توسيع نطاق هذه الأفعال، والمعجم يحتوى على أكثر بكثير من التعداد الذى يقدمه النحو العربى التقليدى، وسنقف عند هذه النقطة عند مناقشة متمم الفاعل فى قسم خاص به أو بالمتمم ككل. ونكتفى هنا بأن المتمم كله من المنصوبات فى الأشكال التى تقبل علامة النصب من أشكال تحقيقه، باستثناء متمم الفاعل المرفوع بحذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
أما متمم المفعول المباشر فيأتى مع المفعول الواحد أو المفعولين، كما أنه قد يكون اسما أو صفة أو ضميرا أو جارّا ومجرورا.
ومتمم المفعول المباشر بعد مفعول واحد هو ذاته ما يسمى بالمفعول الثانى المزعوم مع أفعال "ظن وأخواتها". ومتمم المفعول بعد مفعول واحد أو مفعولين قابل للربط بالمفعول المباشر الذى يتممه بفعل الكينونة أو بغيره من أفعال "كان وأخواتها"، وهذا هو المعنى الجوهرى لقول النحاة إن أفعال "ظن وأخواتها" ... "تدخل" على جملة أصلها المبتدأ والخبر بعكس أفعال أعطى وأخواتها.
ومتمم المفعول به مع مفعولين هو ذاته المفعول الثالث المزعوم مع أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما"، هذه الأفعال التى يزعمون أنها تنصب ثلاثة مفاعيل، وأنها تأتى بتعدية الأفعال المتعدية إلى مفعولين (مع "ظن وأخواتها" فيما يزعمون)، بالهمز أو التضعيف، إلى مفعول ثالث ليس فى حقيقته سوى هذا المتمم للمفعول المباشر.
وتأتى أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" بمفعول جديد بالإضافة إلى المفعول به الحقيقى الذى تأتى به أفعال "ظن وأخواتها"، وبالإضافة إلى متمم المفعول به المزعوم مفعولا به ثانيا مع هذه الأفعال الأخيرة. والمفعول المباشر ومتممه هو الذى يمكن أن نطبّق عليه صيغة النحاة: "أصلهما المبتدأ والخبر"، بمعنى أنه يمكن الربط بينهما بالكينونة أو بالأفعال الناقصة.
على أن الحقيقة التى لا مراء فيها هى أن أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" ليست سوى قسم من أفعال "أعطى وأخواتها"، أو بالأحرى: من الأفعال المتعدية إلى مفعولين (وهى أكثر بكثير من تعداد النحاة). وكما يمكننى أن أقول: "أعلمتك الخبر"، يمكننى أن أقول: "أعطيتك الكتاب". وكذلك يمكننى أن أقول: "أعلمتك خبرا" أو "أعطيتك كتابًا". وكذلك: "أعلمتك الخبر يقينا" أو: "أعطيتك الكتاب جديدا". وفى كل هذه الأحوال ليس لدينا سوى مفعولين: الكاف و"الخبر"، والكاف و"الكتاب"، أو الكاف و"خبرا" والكاف و"كتابا". أما "يقينا" و"جديدا" فكل منهما متمم للمفعول المباشر أى "الخبر و"الكتاب" على الترتيب. ويأتى متمم المفعول نكرة مع المفعول "المعرفة" الذى يتممه، وإذا كان هذا الأخير نكرة فإن النكرة بعده ستكون "نعتا". على أن دقائق هذه المسائل ستتضح أكثر فى القسم الخاص بمتمم المفعول به.
ودون اشتراط أو استبعاد وجود عناصر الجملة جميعا فى جملة واحدة، ودون اشتراط أو استبعاد تكرار هذا العنصر أو ذاك، "إجباريا" (أى وفقا لنموذج) أو "اختياريا" (مهما كان النموذج)، ودون اشتراط أو استبعاد ترتيب بالذات لهذه العناصر فى الجملة (إلا بصفة جزئية قد توجبها مراعاة مقتضيات أولية للنحو ومنطقه، مثل حقيقة أن وجود مفعول أو مفعولين إنما يقرره نوع الفعل من حيث اللزوم أو التعدى إلى مفعول أو مفعولين)، يمكن إيجاز ما سبق فى عناصر الجملة التالية، وينبغى أن ندرك أن وجود المسند إليه فى كافة نماذج الجملة يعنى أن هذه الأخيرة إنما تتمايز بتمايز نماذج المسند (الخبر):


الجملة
المسند إليه (الفاعل) المسند (الخبر)

الفعل المفعول به الظرف متمم الفاعل أو المفعول


وكما سبق القول فإن المسند (الخبر) ينبغى أن يترك مكانه لعناصر الجملة التى يتكوَّن منها ويشكِّل مجموعها. وعندما نكفّ عن الوقوف طويلا أو كثيرا عند المسند (الخبر) بدلا من التحليل النحوى الإعرابى الأزلى القائم على المسند إليه والمسند أو المبتدأ والخبر، على أساس أن مجرد تحديد المسند إليه يعنى فى حد ذاته أننا حددنا المسند لأنه "كل الباقي" ولأن البحث عنه سيكون، بالتالى، سخيفا، تغدو عناصر الجملة، والأشكال التى تتحقق من خلالها، والأحكام الإعرابية للعناصر المعربة أو للأشكال المعربة من هذه العناصر، فى مكان الصدارة، لتصبح الموضوعات الحقيقية للتحليل النحوى الإعرابى للجملة، وكذلك أدواته الفعالة.
وأرجو أن يعذرنى القارئ على الازدواج الذى احتفظت به فى هذا الكتاب بين تعبير "المسند إليه" وتعبير "الفاعل"، وذلك رغبةً منى فى إحداث نوع من الملاءمة فى تسمية قسمى الجملة بالمسند إليه والمسند، وفى تسمية عناصر الجملة وبالذات الفعل والفاعل والمفعول، لأن العلاقة الاشتقاقية بين هذه الألفاظ الأخيرة توضح بسهولة نوع العلاقات النحوية فيما بين هذه العناصر من فاعلية ومفعولية عبْر توسُّط الفعل، مع التحذير من الفهم التقليدى للفاعل فهو يساوى عندى المسند إليه بكل أنواعه ذات الألقاب المتعددة فى النحو العربى التقليدى.
وعلى هذا يمكن التوصُّل إلى قائمة أولية بالنماذج الأساسية للجمل، والتى يؤدى أخذ أشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة فى كل نموذج منها فى الاعتبار إلى خريطة بالغة التعقيد، قد تحتوى على عشرات النماذج الفرعية، ويحتاج إعدادها إلى جهود مضنية لكوكبة من علماء أو باحثى النحو، الذين سيكون عليهم أن يدرسوا "كافة" أفعال المعجم العربى فى "كافة" استعمالاتها الحديثة والقديمة، وأن يدرسوا كل فعل من مائة زاوية، وليس فقط من زاوية الدلالات المعجمية المألوفة، أو من زاوية اللزوم والتعدى، وأن يكون استقراؤهم الشامل من كل ذلك هو الأساس لتوزيع نتائجه على أفعال المعاجم العربية بإيراد نماذج الجمل القابلة للتطبيق على كل استعمال لكل دلالة من دلالات كل فعل عربى، كما تفعل معاجم عديدة، منذ عقود، فى اللغة الإنجليزية.
فهذه إذن قائمة أولية بالنماذج الأساسية للجملة العربية، وهى تتكون من العناصر الإجبارية لكل نموذج، دون اعتبار للعناصر الاختيارية، ومع كل نموذج أساسى جملة واحدة (أو أكثر فى قليل من الأحوال) لإيضاح قليل من أشكال تحقيقه بكلمة واحدة أو بمجموعة من الكلمات:

1: فاعل + فعل ناقص + متمم الفاعل (اسم): حسينٌ كان رجلا.
فاعل + فعل ناقص + متمم الفاعل (صفة): حسينٌ كان طيّبًا.
فاعل + فعل ناقص + متمم الفاعل (جار ومجرور): حسينٌ كان من الأفذاذِ.
2: فاعل + فعل ناقص + ظرف مكان: عزةُ كانت فوق السفينةِ.
فاعل + فعل ناقص + ظرف مكان (جار ومجرور): عزةُ كانت فى المكتبةِ.
فاعل + فعل ناقص + ظرف زمان: الحفل سيكون الليلةَ.
فاعل + فعل ناقص + ظرف زمان (جارّ ومجرور): الحفل سيكون فى الساعة الثامنة.
3: فاعل + فعل لازم (أو مستعمل لازما): الطفل بكى.
4: فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر: عزةُ تحبُّ هندًا.
5: فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + متمم المفعول (اسم): عزت ظن محمدًا طبيبًا.
فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + متمم المفعول (صفة): عزت ظن محمدًا قادمًا.
فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + متمم المفعول (جار ومجرور): عزت ظن محمدًا من العباقرةِ.
6: فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + ظرف مكان: عزت ظن الحفل فى البيتِ.
فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + ظرف زمان: عزت ظن الحفل الليلةَ.
7: فاعل + فعل متعد إلى مفعولين + مفعول غير مباشر + مفعول مباشر: أعطى حسنٌ حسامًا الكتابَ.
8: فاعل + فعل متعد إلى مفعولين + مفعول غير مباشر + مفعول مباشر + متمم المفعول: أعطى حسنٌ حسامًا الكتابَ جديدًا.
9: فاعل + فعل متعد إلى مفعولين + مفعول غير مباشر + مفعول مباشر + ظرف زمان: أعطى حسنٌ حسامًا الكتابَ فى موعدِه.

وبطبيعة الحال فإن هذه القائمة الأولية بالنماذج الأساسية للجمل، والتى تحتوى تسعة نماذج، قابلة للزيادة قليلا أو للاختصار قليلا، غير أن الأهم من ذلك تطويرها إلى خريطة شاملة للنماذج الفرعية التى تتكون بإضافة أشكال تحقيق كل نموذج، وهذا بالطبع فوق طاقة كتاب، وفوق طاقة فرد.
ويمكن إدماج هذه القائمة مع شكل سابق لعناصر الجملة فى الشكل التالى:







الجملة

المسند إليه المسند
(الفاعل) (الخبر)

+ + + +
فعل فعل لازم فعل مستعمل فعل مستعمل
ناقص أو مستعمل لازما متعديا إلى مفعول متعديا إلى مفعولين

+ +
مفعول مباشر مفعول غير مباشر
+ مفعول مباشر
+ + + + + +
متمم ظرف متمم ظرف متمم ظرف
الفاعل المفعول المفعول
المباشر المباشر

(1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) (8) (9)

على أن تحليل المسند إليه (الفاعل) فيما يسمى بالخبر الجملة الاسمية كان قد كشف لنا من قبل أن الفاعل الحقيقى فى مثل هذه الجمل هو ما يسمى بالمبتدأ الثانى وهو فى الحقيقة مسند إليه (فاعل)، أما ما يسمى بالمبتدأ الأول فهو مضاف إليه لمضاف لاحق فاعل أو مفعول. وهذا المضاف إليه مرفوع عشوائيا، مثل: "السماءُ أمطارُها تسقط"، إنْ لم ينصبه ناصب، مثل: "إن السماءَ أمطارُها تسقط"، أو يجره جارّ مثل: "من السماء أمطارُها تسقط". فالفاعل فى كل الأحوال "أمطارُ السماء". وقد يكون المضاف إليه المرفوع عشوائيا لمضاف لاحق مفعول به، مثل: "النخلُ نأكل ثمرَه"، إنْ لم ينصبه ناصب، مثل: "إن النخل نأكل ثمره"، أو يجرّه جارَ، مثل: "من النخلِ نأكل ثمره"، فالمفعول به فى كل الأحوال: "ثمر النخل".
ولا ينبغى أن تُربكنا مثل هذه الجمل التى تحتوى على المضاف إليه لمضاف لاحق فاعل أو مفعول، أى ما يسمى المبتدأ الأول، أو المبتدأ الذى خبره جملة اسمية فى النحو العربى التقليدى، لأن ما يهمنا دائمًا فى نماذج الجملة هو عنصر الجملة الحقيقى، وبالتالى المسند إليه (الفاعل) الحقيقى.













10


10
الإعراب: خطيئة تمحور النحو حول الإعراب

نقرأ فى مادة "عَرِبَ" فى "المعجم الوسيط" (الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة) ما يلى:
الإعراب لغةً: الإفصاح والإبانة؛ والإعراب اصطلاحًا: الإتيان بالكلام وفق قواعد النحو وكذلك تطبيق قواعد النحو عليه، وهو تغييرٌ يلحق بأواخر الكلمات العربية من رفع ونصب وجرّ وجزم، على ما هو مبين فى قواعد النحو .
وفى مادة "نَحا" فى المعجم نفسه نقرأ:
النحو لغةً: القصد والطريق والجهة والمثْل والمقدار والنوع؛ والنحو اصطلاحًا: علم يُعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناءً .
وعبارة مادة "عَرِبَ": تتضمن معنيين للإعراب:
* الإتيان بالكلام وفق قواعد النحو، وكذلك تطبيق هذه القواعد عليه.
* "تغييرٌ" يلحق بأواخر الكلمات العربية من رفع ونصب وجرّ وجزم، على ما هو مبين فى قواعد النحو.
وهذا التعريف الثانى للإعراب سليم بوجه عام، لأنه يتضمن خصوصيته: تغيير أواخر الكلمات، ولأنه يربط هذا التغيير بقواعد النحو.
ولكن ما هى قواعد النحو؟ أو بالأحرى: ما هو النحو؟ وهنا تُسعفنا مادة "نَحا" بتعريف "المعجم الوسيط" للنحو وهو أنه: "علم يُعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناءً".
ويتضمن هذا التعريف أن علم النحو هو أساس معرفة أحوال أواخر الكلم، وأن هذه الأحوال لا تخص الإعراب فقط بل تشمل الإعراب والبناء معًا.
غير أن هذا التعريف يعانى عيبين جوهريين:
الأول: أنه يخلو من تحديد خصوصية النحو.
والثانى: أنه يحصر وظيفة النحو وقواعده فى معرفة أحوال الإعراب والبناء.
ويعنى كل هذا أن النحو العربى يعانى إلى يومنا هذا خلطا لا يغتفر بين النحو والإعراب، والحقيقة أنه ليس مجرد خلط، بمعنى: الأخذ بشيء من النحو مع شيء من الإعراب. فبالإضافة إلى أن هذا النوع من الخلط قائم إلا أن الأخطر منه هو أن التوازن مختل لحساب الإعراب على حساب النحو، مع أن الإعراب ليس فى الحقيقة سوى أداة من أدوات النحو الذى هو علم أوسع بما لا يقاس، وهو علم ضرورى فى اللغة التى تقوم على الإعراب مثلما هو ضرورى فى اللغة التى تقوم على أداة بديلة عن الإعراب.
وبطبيعة الحال فإن هذا الاختلال فى التوازن يأتى على حساب النحو غير أن هذا ليس لصالح الإعراب. ذلك أن الإعراب الذى تتضح طبيعته وأدواته بفضل المفاهيم النحوية الواضحة الفعالة ظل يعانى من غياب أو غموض مثل هذه المفاهيم فى كثير من الأحوال.
ورغم أن علماءنا القدماء طوّروا نحوًا بالغ العمق والنضج والتعقيد، خاصةً بمقاييس زمنهم، إلا أن التركيز البالغ على الميتا ـ إعراب، أو: ما وراء الإعراب، من جانب، وعلى الإعراب ذاته من جانب آخر، أهدر إمكانات المزيد من إنضاج المفاهيم العميقة التى توصلوا إليها.
والمقصود بالميتا ـ إعراب، أو: ما وراء الإعراب، هو ذلك البحث الذى يتسم بطابع علم الكلام والفقه والمنطق والفلسفة والميتافيزيقا عما وراء الإعراب من عوامل، والإسراف فى هذا البحث، والقياس المسرف للقاعدة من القاعدة، بدلا من التركيز الكلى على استقراء اللغة العربية واستخراج قواعدها وبحث المنطق وراء القواعد الموضوعية الجمعية التى تنطوى عليها هذه اللغة.
وأنا لا أتهم، ولا أجرؤ على أن أتهم، علماء اللغة العربية القدماء، الذين أُجلهم كل الإجلال، بالتواضع أو المحدودية أو القصور. لقد قدموا إنجازات علمية تحسدهم عليها إن جاز القول لغات أخرى عظيمة، ولا تزال تحتفظ بقيمتها العلمية ولا تزال كل دروسها بعيدة عن أن يكون قد تم استنفادها. وتدل معاجمهم وموسوعاتهم ونظرياتهم فى اللغة والبلاغة والنحو على عظمتهم. ولا سبيل إلى إنكار أن عظمة إنجازهم ارتبطت بالعمل الو صفى الواسع النطاق، والاستقراء الشامل لكلام العرب، والقياس عليه.
ولا يتجه نقدنا أبدا إلى إنجازاتهم العظيمة التى عجزنا نحن عن الحفاظ عليها وتطويرها، بل يتجه إلى أخطائهم، إلى إسرافهم فى البحث والاستقصاء فى اتجاهات بذاتها، ولا جدال فى أن هذه الأخطاء الناتجة عن الإسراف على هدى توجهات بعينها إنما ترجع إلى زمنهم، وحُكْم زمنهم. ولهذا فإن نقدنا ينصبّ فى المحل الأول على زمنهم لإرجاع هذه الأخطاء والعيوب والنواقص والنقائص إلى ذلك الزمن بالحدود التى تحكم على كل زمن بالقصور بالمقارنة بالأزمنة التالية كاتجاه تاريخى تصاعدى عام. كما أن النقد موجه إلينا نحن بوجه خاص، إلى خيانتنا لإنجازاتهم التى لا يمكن الحفاظ عليها إلا بتطويرها وقد عجزنا عجزا فاضحا عن هذا التطوير. ويمكن تفسير إنجازهم العلمى التاريخى فى مجال النحو وغيره، رغم أخطائهم، بزمنهم، بالنهضة الحضارية ـ الثقافية العربية الإسلامية الكبرى التى كانوا حاملى مشاعلها. أما عجزنا نحن عن نقد وتطوير إنجازهم فيمكن تفسيره بأزمنة التخلف والتأخر والتبعية والتدهور التى نعيشها؛ هذه الأزمنة التى حكمت على كل نهضة جديدة تتحقق فى العالم العربى طوال هذا القرن العشرين بأن تسقط بسرعة فى براثن التخلف، وبأن يتوقف نموها، كما حكمت عليها بطابع قزمى وحجم قزمى، وحكمت على عمالقتها بالتراجع والنكوص والردة، وعلى أنصارهم بالانفضاض من حولهم.
والآن، بعد أن أعطيت علماء النحو العربى القدماء ما يستحقون أضعاف أضعافه من التقدير لإنجازاتهم العلمية التاريخية التى لا يملك إنكارها إلا جاحد جاهل، أشير إلى إسرافهم غير المبرر فى البحث فى ما ورائيات اللغة وما ورائيات النحو، بحيث يقع فى روع الناس، وبالأخص المتأخرين منهم، أن هذه الماورائيات المعقدة الغامضة الملتبسة إنما هى من صلب اللغة وهى بريئة منها فى الحقيقة، ومن صلب النحو الموضوعى الجمعى الكامن فى اللغة ذاتها وهو بريء منها فى الحقيقة. ومن ذلك تلك المناقشات البالغة التعقيد حول اللغة ذاتها: اصطلاح هى أم توقيف؟ وكانت النتيجة أن أعظم العلماء التطوريين الذين أيدوا بعمق فكرة أن اللغة اصطلاح وعُرْف اضطروا اضطرارا إلى صبّ أفكارهم التطورية العميقة الجدلية فى قالب التوقيف، والإيمان بالتوقيف، وحرق البخور للتوقيف.
أما فى مجال الإعراب بالذات فلدينا ما يسمى بنظرية العوامل. فما الذى رفع المبتدأ؟ إنه عامل معنوى (أى: غير لفظي) هو الابتداء. وما الذى رفع الخبر (الذى زعموا أنه مرفوع) إذن؟ إنه عامل لفظى هو المبتدأ ذاته (بالإضافة إلى العامل المعنوى المتمثل أيضا فى الابتداء). لكن ما دام السؤال مطروحا فلا مناص من الاختلاف: المبتدأ لم يرفعه الابتداء، بل المبتدأ رفع الخبر والخبر رفع المبتدأ. لقد ترافع المبتدأ والخبر كما قال بعضهم. غير أن هذا الترافع يحصر العامل فى نطاق الألفاظ وتأثيرها الإعرابى فى بعضها البعض الآخر، فلا مناص إذن من رأى آخر: إن أحوال الإعراب من عمل المتكلم نفسه وليس من عمل الألفاظ.
ويقتبس الدكتور أحمد عبد الستار الجوارى، فى كتابه: "نحو التيسير ـ دراسة ونقد منهجي" (من مطبوعات المجمع العلمى العراقي) من "خصائص" ابن جنى ما يلى:
وإنما قال النحويون عامل لفظى وعامل معنوى ليُروك أن بعض العمل يأتى مسببا عن لفظ يصحبه كمررت بزيد وليت عمرا قائم، ويأتى بعضه عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به، كرفع المبتدأ بالابتداء ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم. هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول.
فأما الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجرّ والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره.
ويعلق الدكتور الجوارى على ذلك بقوله:
ونحن نلمح فى هذا الخلاف بين الرأيين ملامح الفلسفة أو التفلسف، ونشمّ فيه رائحة علم الكلام الذى كان له سلطان أى سلطان على عقائد الفرق الإسلامية المختلفة، وأثر أى أثر على الفكر العربى الإسلامى.
فمذهب ابن جنى هو مذهب المعتزلة الذين يقولون بخلق الأفعال، وأن الإنسان هو الذى يوجدها وأن له إرادة واختيارا فى ما يصدر عنه من الأفعال، بخلاف الذين يذهبون إلى أن الأشياء تتفاعل ويؤثر بعضها فى بعض .
وفى "كتاب الرد على النحاة" لابن مضاء القرطبى، من تحقيق الدكتور شوقى ضيف ، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، نقرأ فى سياق دعوة ابن مضاء إلى إلغاء نظرية العوامل:
فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض [أى: الجرّ] والجزم لا يكون إلا بعامل لفظى، وأن الرفع منها يكون بعامل لفظى وبعامل معنوى (....) فظاهر هذا أن العامل أحدث الإعراب، وهذا بيِّن الفساد .
ثم يشير ابن مضاء إلى الرأى الذى تقدم لابن جنى ويعلّق عليه، ويقدّم رأيه الذى هو رأى أهل الحق كما يقول، بقوله:
وهذا قول المعتزلة. وأما مذهب أهل الحق فإن هذه الأصوات إنما هى من فعل الله تعالى، وإنما تُنسب إلى الإنسان كما يُنسب إليه سائر أفعاله الاختيارية.
وأما القول بأن الألفاظ يُحْدث بعضها بعضًا فباطل عقلا وشرعا، لا يقول به أحد العقلاء .
ثم يقول:
فإنْ قيل بم يُرَدّ على من يعتقد أن الألفاظ هى العاملة؟ قيل: الفاعل عند القائلين به إما أن يفعل بإرادة كالحيوان، وإما أن يفعل بالطبع كما تحرق النار ويبرد الماء، ولا فاعل إلا الله عند أهل الحق، وفعلُ الإنسان وسائر الحيوان هو فعلُ الله تعالى، كذلك الماء والنار وسائر ما يَفْعَل، وقد تبين هذا فى موضعه. وأما العوامل النحوية فلم يقل بعملها عاقل، لا ألفاظها ولا معانيها، لأنها لا تفعل بإرادة ولا بطبع .
وبعد ذلك مباشرة تأتى فقرة يمكن اعتبارها إلغاءً لدعوته إلى إلغاء نظرية العوامل، وهو الهدف الجوهرى الساذج لكتابه، فهو يقول:
فإنْ قيل إن ما قالوه من ذلك إنما هو على وجه التشبيه والتقريب، وذلك أن هذه الألفاظ التى نسبوا العمل إليها إذا زالت زال الإعراب المنسوب إليها، وإذا وُجدت وُجد الإعراب، وكذلك العلل الفاعلة عند القائلين بها، قيل: لو لم يَسُقْهم جعلها عوامل إلى تغيير كلام العرب، وحطِّه عن رتبة البلاغة إلى هُجْنَة العى، وادعاء النقصان فيما هو كامل، وتحريف المعانى عن المقصود بها لسومحوا فى ذلك، وأما مع إفضاء اعتقاد كون الألفاظ عوامل إلى ما أفضت إليه فلا يجوز اتباعُهم فى ذلك .
أى أن إفضاء الاعتقاد فى العوامل اللفظية إلى تغيير كلام العرب، وإلى الاتهامات الأخرى الموجَّهة إلى النحاة القدماء، هو الخطيئة التى لولاها لسامحهم ابن مضاء. ومن الغريب أن ينسب أحد إلى النحاة ككل كل هذه الاتهامات المنكرة. ذلك أن عملهم لم يكن "تغيير كلام العرب"، إلخ.. قائمة الاتهامات، وإنما تمثَّل على العكس من ذلك فى: وصف "كلام العرب" واستقرائه واستخراج قواعده ثم القياس على هذا الكلام وعلى هذه القواعد.
وليس ما سبق سوى عينة نموذجية من الإسراف فى بحث ما ورائيات الإعراب والنحو بين القائلين بزعامة سيبويه بأن عوامل الإعراب تتمثل فى الألفاظ ومعانيها، والقائلين (ابن جنى) بأن المتكلم هو العامل، وابن مضاء القرطبى القائل بأن العمل، ككل عمل، هو عمل الله سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن التسليم بأن اللغة اصطلاح وعُرْف كان من شأنه أن يقود ببساطة إلى أن الإعراب أيضا (بكل أحواله وبكل عوامل أو مؤثرات أو أسباب تلك الأحوال) اصطلاح وعُرْف، وكذلك النحو كله، وكذلك كافة الظواهر اللغوية الموضوعية الجمعية. وكان من شأن هذا أن يكون أساسا واضحا للحكم على عمل النحاة بالتوفيق أو الإخفاق بدلا من الانحراف بالبحث النحوى، ومنه فرع الإعراب، إلى متاهات لا مخرج منها.
وإذا اتفقنا على أن الإعراب علامات فى الألفاظ مرشدة فى كشف المعانى النحوية (وليس المعجمية بطبيعة الحال)، وعلى أن نظام أو نسق الإعراب نشأ كاصطلاح نشوءًا تاريخيا تراكميا وتطوريا، فمن السهل أن نكتشف أن الاختلاف لا ينبغى أن يكون حول اللفظ والمتكلم والله، حول أى الثلاثة هو عامل أو مؤثر أو سبب الإعراب من رفع أو نصب أو جرّ أو جزم، فالمسألة تنحصر فى الحقيقة فى حدود أبسط من كل هذا بكثير، وهذا لا يحتاج إلى مزيد من بيان.
وبالإضافة إلى ما ورائيات اللغة وما ورائيات النحو والإعراب، كان لتمحور النحو حول الإعراب (أى حول فرع من فروعه وأداة من أدواته) أثره البالغ على كل منهما كعلم.
أما اللغة العربية ذاتها فقد سارت منذ وقت مبكر فى طريق يتسم بطابع الازدواج النحوى الإعرابى، وهو طريق إسقاط الإعراب وتَبَنِّى بديل الإعراب وهو نظام تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة، مع الاحتفاظ بالإعراب فى مستوى بعينه أو داخل نطاق دائرة خاصة من المستويات ومن المجالات. وهو الازدواج اللغوى النحوى الذى كانت مراحله المبكرة من الأسباب المباشرة المروية عن اللحن بصفة عامة، واللحن الإعرابى بصفة خاصة، وراء نشأة علم النحو ذاته. فقد كان فى بؤرة نشأة النحو ذلك الإعراب الذى كان قد أخذ يزداد صعوبة على العرب الأقحاح أنفسهم، لأنه كان قد أخذ يخرج من سليقتهم، وقد روَّع ذلك قادة القوم الغيورين على الإعراب، فكان وضع النحو وقيل بإشارة من على بن أبى طالب.
وكان لا مناص، بالتالى، من أن يتمحور النحو حول الإعراب والبناء إلى أقصى الحدود، وذلك بتركيز الاهتمام على المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والمجزومات، وعلى عوامل كل ذلك. وكان من المنطقى أن تكون اللفظة الواحدة التى يتغير آخرها أو لا يتغير بين المعجم والجملة محور الاهتمام. فاللفظة المبنية هى تلك التى لا تتغير فتظل فى الجملة على حالها فى المعجم مهما كانت وظيفتها النحوية. أما اللفظة المُعْربة فهى المحور الحقيقى من حيث الإعراب وأحواله وأسبابه وعلاماته فى كل حالة. فللإعراب أحواله من رفع ونصب وجرّ وجزم، ولكل حالة (الرفع مثلا) علاماتها حسب اللفظ من حيث السالم والمعتل، ومن حيث الإفراد والتثنية والجمع، حيث يتميز المفرد وجمع التكسير (وجمع المؤنث السالم فى الرفع والجرّ) بما يسمى بالعلامات الأصلية، والمثنى وجمع المذكر السالم (وجمع المؤنث السالم فى النصب) بما يسمى بالعلامات الفرعية. وهناك الصرف والمنع من الصرف (أى التنوين من عدمه)، وما يصحب الممنوع من الصرف من إعراب بعلامات فرعية. وهناك أيضا الإعراب التقديرى والإعراب المحلى. واللفظة الواحدة عندهم ينبغى أن تكون هى ذاتها الحالة النموذجية لمفهوم العنصر النحوى من مبتدأ أو خبر أو فاعل أو فعل أو مفعول أو حال أو ظرف أو غيرها، لأن الرفع مثلا لن يظهر إلا مع اللفظة المفردة وكذلك النصب أو الجرّ (أو الجزم فى الفعل). ولهذا كان ينبغى فى نظرهم أن تكون هناك لفظة مفردة يمكن اعتبارها هى المبتدأ والمرفوع فى آن معا، أو الفاعل والمرفوع فى وقت واحد، أو المفعول والمنصوب فى الوقت ذاته، فى اتجاه نوع من التطابق المباشر لهذه المفاهيم النحوية مع ظهور الحالة الإعرابية. ويغدو هذا التطابق الوهمى بين الفاعل والمرفوع، مثلا، فى لفظة واحدة الأساس الحقيقى لانفصال الفاعل الإعرابى عن الفاعل النحوى. وأولهما يغدو الفاعل دون أوصاف أخرى بينما ينزوى الفاعل النحوى كمفهوم مستقل عن الإعراب وقائم بالإعراب وبدونه.
ويتحقق هذا الاتجاه إلى التطابق الوهمى بين ما هو نحوى وما هو إعرابى كأساس حقيقى لانفصالهما لحساب ما هو إعرابى، عندما تغدو اللفظة التى تتخذ علامة الرفع مثلا هى المبتدأ، فيجرى إهمال ألفاظ ربما كانت أكثر أهمية فى سياق ترابطها معا فى التعبير عن العنصر النحوى من عناصر الجملة. وبدلا من اختصاص لفظة بالرفع كجزء من المبتدأ مع ضمها إلى بقية الألفاظ باعتبارها جميعا المبتدأ، يبدأ هذا الفصل ويتسع بحيث تنقلب الألفاظ الأخرى إلى "مجرد" مضاف إليه أو تابع من التوابع أو ما أشبه ذلك، وبحيث تغيب عن بؤرة الاهتمام مسألة ما هى الكلمة الرئيسية فى مجموعة اسمية يمكن تسميتها المبتدأ. وإليك هذه الجملة: (كلُّ العرب الذين يعيشون فى المشرق العربي) مشارقة. فالنحو السليم هو الذى يعتبر كل الألفاظ التى بين القوسين أى كل الألفاظ الواردة فى الجملة باستثناء كلمة مشارقة (وهى متمم المسند إليه بعد فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت كما تكرر من قبل) هى المسند إليه، لكنهم كانوا يرون التجسُّد النحوى كمبتدأ والإعرابى كمرفوع فى لفظة "كلًّ" دون غيرها (وكما سبق القول، وللإنصاف، وللابتعاد عن جلد الذات، لم يكن هذا خطأ النحو العربى وحده، بل كان خطأ النحو التقليدى بصفة عامة فى اللغات التى تقوم على الإعراب كما فى تلك التى تقوم على بديله مع إسقاط الإعراب).
وكان من شأن هذا التمحور حول الإعراب أن يحكم على المفاهيم النحوية الضرورية كأدوات للتحليل النحوى بأن تظل غامضة وغير متبلورة رغم كل تلك الذخيرة المثيرة للإعجاب من الألقاب التى لا حصر لها والتى تسمِّى أشياء حقيقية إلا أنها سيئة التحديد من ناحية، وتعانى من فوضى التبويب من ناحية أخرى.
ولهذا ترك التحليل النحوى مكانه للإعراب، وصار النحو علم الإعراب، كما صار عاجزا عن جنى الثمار الناضجة لإنجازاته العظيمة ولاستقصاءاته اللانهائية. وهى كلها جهود عبقرية، بل هى معجزة، ليس فقط لأنها جهود فوق طاقة البشر، بل بالأخص لأنها جهود ذكية ومبدعة وخلاقة وبذلك الحجم المعجز. غير أنها ظلت عاجزة مع ذلك لأن العرب لم يستطيعوا رغم دخولهم مرحلة الفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية والإنسانية المتطورة أن يستعينوا بمنجزات هذه المرحلة فى ترويض الإعراب ليعود كما كان فى الأصل مجرد أداة بالغة الأهمية (ولا غناء عنها فى غياب أداة أخرى بديلة) من أدوات النحو الذى يمكن أن نفهم مجاله بسهولة باستبعاد كل من إعراب الكلمات وترتيب الكلمات: إن مسائل النحو التى تبقى بعد الاستبعاد "التحليلي" للإعراب ولبديله هى المسائل الحقيقية للنحو، وهى بالمناسبة مسائل مشتركة فى كل نحو فى كل لغة. وهل هناك لغة لا تحتاج إلى أغلب مفاهيم النحو المشتركة مع استبعاد بعض العناصر التى تخص لغة دون أخرى، أو مرحلة من مراحل نفس اللغة دون مرحلة أخرى؟!
وهكذا، فبدلا من أن يتطور النحو كعلم لبناء أو تكوين الجمل بكل نماذجها الممكنة (إلى جانب الصرف كعلم لبناء أو تكوين الكلمة ـ والحقيقة أن الصرف كعلم كان موفقا غاية التوفيق فى إدراك وتحقيق دوره الحقيقي)، مع منح جانب من اهتمامه للإعراب الذى ينصبّ على الكلمات المعربة فى هذه الجملة (وحتى للإعراب التقديرى والمحلى)، تحوَّل النحو إلى خادم أمين للإعراب هذا الإعراب الذى حوّله سير الجماعة اللغوية ذاتها، أى العرب أنفسهم، فى طريق إسقاط الإعراب، وبالتالى اللحن الإعرابى الذى تَفَشَّى بينهم منذ القديم، إلى قدس أقداس النحو العربى الذى نشأ للدفاع عنه وليس للبحث عن هويته كنحو ولصقل فهمه للإعراب كأداة من أدواته.
وربما كان هذا الاستطراد حول تمحور النحو العربى حول الإعراب، بما ورائياته الميتافيزيقية وبمسائله الحقيقية، ضروريا للغاية من أجل إدراك مدى جناية طريقة فهم النحاة للإعراب على النحو العربى، وكذلك من أجل البحث عن فهم صحيح للإعراب، وعن أسلوب فعّال لتبسيطه، للوصول إلى هدف ثمين هو تحرير النحو العربى ليس من الإعراب بحال من الأحوال بل من طريقة فى فهم طبيعته وخصائصه، حتى يعود هذا النحو إلى قضاياه ومسائله ومباحثه الحقيقية للعمل على تطوير شامل للنحو العربى قبل أن يفوت أوان اللحاق بقطار علم وتقنية معالجة المعلومات بالكمپيوتر، فبدون نحو صحيح ودقيق وبالغ النضج والتقدم والتعقيد لا أمل فى اللحاق بالقطار الذى ركبته لغات أخرى، بكل جدارة، بفضل تطويرها لنحوها بوجه خاص.
ولن يكون هذا التطوير إلا الثمرة الناضجة لجهود جيل جديد من علماء النحو، بدلا من أولئك الذين يعملون من الناحية الفعلية على تأبيد جمود النحو العربى فلا يخدمون بهذا دينًا ولا لغةً كما يزعمون، بل يحولون دون فهم أبسط وأقرب لتراثنا الثرى بكل ينابيعه، تماما كما يقفون عقبة كأداء بين لغتنا ونحونا من جهة والمستقبل الذى أصبح من شروطه تطوير هذا النحو من جهة أخرى.
ولا يتجاوز طموحى أن يكون هذا البحث الموجز مجرد كاسحة ألغام تمهّد السبيل أمام جيل جديد من علماء ودارسى النحو العربى الذين سيقع على كاهلهم عبء تطوير هذا النحو الجديد.
على أن كل هذا يقتضى أن نقترب أكثر فأكثر من الإعراب لنفهم طابعه الموضوعى كأداة للنحو العربى الجمعى قبل وبعد ظهور علم النحو والنحاة والنحويين، وهذا ما ينبغى أن نتجه إليه الآن.











11
الإعراب: وظيفته كأداة من أدوات النحو

ونقف هنا وقفة متأنية عند الإعراب، للتدقيق فى إدراك حقيقته وطبيعته ووظيفته.
ويمتلئ معجم كل لغة متطورة بمئات الآلاف أو من الملايين من الكلمات التى تنتمى إلى مختلف أقسام الكلام. ويقوم النظام الصرفى لكل لغة بتوسيع الكلمات وبتغيير بعض أنواعها (كالأسماء والصفات) من حيث النوع والعدد، وبتغيير نوع بالذات (الفعل) من حيث الإسناد إلى مختلف الأسماء والضمائر فى مختلف الأزمنة.
وتصلح هذه الكلمات بأعدادها الهائلة لتكوين مليارات ومليارات من الجمل. غير أن هذه الجمل تحتاج، لكى تتم فائدتها، ولكى تكتمل قدرتها على التعبير، ولكى تكون جُملا أصلا، ولكى تتطور أساليبها من الأدنى إلى الأعلى، إلى وسائل خاصة ليست كامنة فى الكلمات ذاتها. وإذا كانت الكلمات تكتسب أشياء من استعمالها معا فى جمل (إلى جانب دلالاتها المعجمية) فإنها تظل مفتقرة إلى أشياء أخرى لا تكفى أية كلمات أخرى لتعويضها (أو بالأحرى: لتعويضها بطريقة تنطوى على الاقتصاد اللازم لكل لغة متطورة).
فالكلمة الواحدة قابلة للاستعمال فى جمل لا حصر لها، وهذه الكلمة قد تأتى مفعولا أو فاعلا أو غير ذلك. ولا توجد فى هذه الكلمة فى حدّ ذاتها ما يدلّ على أنها فاعل أو مفعول أو تابع لهذا أو لذاك أو غير ذلك، فلابد إذن من وسيلة تُغنى الناطقين بها عن كلمات يحددون بها الوظيفة النحوية داخل الجملة لكل كلمة يقولونها أو يكتبونها، أو يسمعونها أو يقرأونها. ولا يمكن تصوًّر هذه الوسيلة إلا بتقييد الكلمة بقيد يصطلح الناطقون بلغة على معناه النحوى: القيد الفلانى للفاعل، والقيد العلانى للمفعول، وهكذا. وهذا القيد قد يكون تغييرا فى الكلمة يدخل مع الفاعل، وتغييرا آخر يدخل مع المفعول وهكذا، وكذلك يمكن أن يكون القيد تقييدا للكلمة فى مكان من الجملة، مثلا أن يأتى الفاعل قبل الفعل، والفعل قبل المفعول.
وتقييد الكلمة حسب وظيفتها النحوية بعلامات خاصة تدخل على الكلمة بعدها أو قبلها أو داخلها هو نظام الإعراب. أما تقييدها بمكان فى الجملة فإنه يُغنى عن الإعراب ويقوم بالتالى على إسقاطه (ذلك أن إسقاط الإعراب يأتى بعد مرحلة طويلة من الإعراب فى اللغة الواحدة)، وتقييد الكلمة بمكان فى الجملة هو نظام ترتيب الكلمات.
لدينا إذن نظامان نحويان لتمييز الوظائف النحوية للكلمات فى الجملة، وهما نظام تقييد الكلمات بالعلامات المتباينة لكل كلمة فى الجملة (على قاعدة المخالفة فى العلامات وفقا للمخالفة فى المعنى النحوي) وهو الإعراب، ونظام تقييد الكلمات بأماكن فى الجملة (على قاعدة المخالفة فى الأماكن وفقا للمخالفة فى المعنى النحوي) وهو نظام ترتيب الكلمات مع إسقاط الإعراب.
وإذا كان من المنطقى أن نظام تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة بأماكن تميز وظائفها النحوية فيها لا يحتاج إلى الإعراب ويقوم على إسقاطه (فالإعراب يسقط تلقائيا وبالتدريج وقد تبقى منه آثار تركيبية كالزائدة الدودية فى الإنسان)، فإن نظام تقييد الكلمات بعلامات تميز وظائفها النحوية لا يحتاج إلى التقييد بالأماكن فلا تكون هذه الأخيرة مأخوذة فى الاعتبار، ويقوم هذا النظام بالتالى على مرونة ترتيب الكلمات فى الجملة.
ومن حيث ترتيب الكلمات فى الجملة أو ترتيب عناصر الجملة إن شئنا الحديث بلغة نحوية أحدث وأدق، يمكننا الحديث إذن عن نظامين أو نسقين: نسق مرونة ترتيب عناصر الجملة (وهو نسق الإعراب)، ونسق تقييد ترتيب عناصر الجملة (وهو نسق إسقاط الإعراب).
غير أنه ينبغى أن ننتبه إلى حدود كل من المرونة والتقييد. ذلك أن كلمات الجملة ليست كلها عناصر جملة، كما أن عناصر الجملة لا تتساوى من حيث محورية العلاقات بينها فى تكوين الجملة أو من حيث فهم معناها. بهذا يمكن رغم مرونة الترتيب فى نسق الإعراب أن نتصور مثلا مكان الصفة بعد الموصوف، وكذلك أماكن محددة لأشياء أخرى عديدة. كما يمكن رغم تقييد الترتيب فى النسق الخاص به أن نتصور أن تتقدم أو تتأخر بعض عناصر الجملة بحرية حسب رغبة المتكلم أو الكاتب فلا يخطئ فهمها السامع أو القارئ. فالأمر الأكثر أهمية فى كل من المرونة والتقييد يتمثل فى تلك العلاقات الأكثر محورية والتى يمثل التمييز بينها قيد الإعراب بعلاماته المتمايزة أو قيد المكان بمواضعه المتمايزة.
وعلى هذا فإن إعراب الكلمات وترتيب الكلمات لا يخرجان إذن عن أن يكونا أداتين يستخدم النحو فى اللغة المعنية إحداهما (إلا فى حالة الازدواج النحوى بين هاتين الأداتين والذى قد يستمر قرونا كما هو الحال الآن فى اللغة العربية) للدلالة على بعض العلاقات المحورية بين عناصر الجملة.
وتستخدم اللغة العربية المضرية (بالضاد) أداة الإعراب، شأنها فى ذلك شأن العديد من اللغات الأخرى. فهناك لغات عديدة هى لغات إعراب ومرونة فى ترتيب الكلمات فى الجملة كاليونانية واللاتينية القديمتين، أو الروسية أو النوبية أو غيرها من اللغات المعاصرة. أما اللغة العربية التى ينطق العرب بها، بكل لهجاتها، حاليا فإنها تستخدم أداة الترتيب، شأنها فى ذلك شأن العديد من اللغات الأخرى التى هى لغات تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة مع إسقاط الإعراب؛ كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والپرتغالية والإيطالية وغيرها.
وينبغى أن نلاحظ هنا الفرق بين النحو والإعراب. فإذا كان الصرف فى أية لغة هو نظام تكوين الكلمات وأبنيتها وزيادتها وتغييرها للتعبير عن اختلاف العدد والنوع أو للتعبير عن اختلاف الأزمنة، فإن النحو هو نظام تكوين الجمل فى لغة من اللغات، وبعبارة أخرى فهو نظام تكوين العلاقات بين كلمات ـ أو بالأحرى: عناصر ـ الجملة. أما إعراب الكلمات أو ترتيب الكلمات (مع إسقاط الإعراب) فكل منهما أداة (تُغنى الواحدة منهما عن الأخرى) من أدوات النحو للتمييز بين عناصر الجملة. أداة يستخدمها النحو فى هذه اللغة أو تلك، فى هذه المرحلة أو تلك. فالنحو، أى تكوين الجمل، نظام قائم فى الحالين، أى فى وجود هذه الأداة أو تلك. وإذا ركزنا على الإعراب، فالنحو يوجد بأداة الإعراب أو بدون الإعراب، غير أن هذا الأخير لا يوجد بدون النحو، ذلك أن الإعراب أداة بديلة يستخدمها النحو الذى يمكن أن يستخدم الأداة البديلة عن الإعراب، أى أداة ترتيب الكلمات.
ويختص الإعراب بالأحوال والعلامات التى تميز الفاعل وبتلك التى تميز المفعول به، مثلا؛ أما النحو فهو الذى يميز الفاعل من المفعول، مثلا، وهذا التمييز الأخير قائم فى كل نحو فى كل لغة بصرف النظر عن وجود أو غياب نظام الإعراب. وبعبارة أخرى فإن تحديد اصطلاحات ومفاهيم عناصر الجملة، واستخدامها بعضها أو كلها فى الجملة الواحدة، واستقراء النماذج الممكنة للجمل فى كل لغة وأشكال تحقيق هذه النماذج من خلال الكلمات والعبارات والمجموعات والتراكيب المتباينة، هى مجال النحو. أما الإعراب فليس (رغم أهميته المحورية فى حالة وجوده) سوى أداة من أداتين لتمييز الكلمة الواحدة بعلامات أو أماكن توضح اختلاف عنصر الجملة الذى تمثله هذه الكلمة فى كل استخدام من استخدامات تلك الكلمة فى جمل، باختلاف نماذج الجمل، وباختلاف أشكال تحقيق كل نموذج منها.
وأنا أسوق هذه الإيضاحات للتمييز بين النحو والإعراب، وأعيد وأزيد فيها، لأن من أسوأ ما يعانى منه كل من النحو والإعراب فى اللغة العربية هو الخلط بينهما بدلا من التمييز الدقيق رغم علاقات التداخل. ولولا هذا الخلط لأمكن، منذ قرون وقرون، تحرير النحو من ربقة تمحوره المزمن حول الإعراب الذى هو أداة من أدواته وليس كل جوهره، أو كل مفاهيمه، أو كل وسائله وأدواته، ولأمكن لذلك النحو المتحرر أن يركز على مفاهيمه وقضاياه الحقيقية، على أشكال ونماذج بناء الجمل، على عناصر الجمل والعلاقات بينها، على الأبعاد الهائلة لمفهوم وأشكال تحقيق كل عنصر منها، على أشياء لا حصر لها تشكّل فى مجموعها الثورة النحوية الشاملة والعميقة والتى تعيشها، خلال العقود الأخيرة بوجه خاص، لغات أخرى تجنى الآن ثمار تلك الثورة، بعد أن صارت بفضل ذلك كله جاهزة تماما لتطبيقات علم وتقنية معالجة المعلومات آليا (علم وتقنية الكومپيوتر)، بينما تقف لغتنا عاجزة بنحوها التقليدى، وبتجديده الوهمى السلفى، الذى يعيش على أمجاد إنجازاته فى الماضى البعيد، دون أن يجرؤ على أن يخطو أى خطوة جريئة إلى الأمام.
وهنا تمييز واجب بين ما هو موضوعى وما هو وضعى فى كل من النحو والإعراب.
فالنحو الموضوعى نظام أو نسق نحوى ماثل فى صميم تكوين اللغة كما تتكلم و/أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية بصرف النظر عن وجود، أو مدى تطور ونضج النحو الوضعى (أى: علم النحو) الذى يدرس ذلك النحو الموضوعى. وهناك مسافة ماثلة دوما بين النحو الموضوعى والنحو الوضعى يعمل هذا الأخير دوما على قطع جزء منها لاستيعاب ظواهر قديمة أو جديدة ينطوى عليها النحو الموضوعى. وهذا الأخير، أى النحو الموضوعى أو "الطبيعي"، أو نحو العقل الجمعى، لدى جماعة لغوية بعينها هو المرجع والأساس والأصل، أما نحو العلم المعروف بهذا الاسم، نحو النحاة أو النحويين أو الدارسين أو العلماء، نحو الاجتهاد فى فهم النحو الموضوعى، فإنه قابل دوما لإعادة النظر. والنحو الموضوعى الجمعى يتغير تاريخيا، ولا يملك أحد التلاعب بحقائقه، أما النحو الوضعى، نحو النحاة، فلا موجب لتقديسه، بل الأجدر بنا هو العمل دوما على تصحيحه وتطويره انطلاقا من تطور النحو الجمعى من ناحية، ومن تطور مناهج دراسته من ناحية أخرى.
وينطبق الشيء ذاته على الإعراب (وكذلك على بديله). فالإعراب الموضوعى الجمعى الماثل فى صميم السليقة اللغوية الأصلية لا يملك تعديله أو تغييره أو إسقاطه سوى الجماعة اللغوية ذاتها، وبصورة تاريخية، أما فهم النحاة لهذا الإعراب، وعوامله، والعلاقات بين حقائقه، فهو اجتهاد قابل دوما للمزيد من الاجتهاد.
ومن الجلى أن كل محاولتنا للاجتهاد فى مسائل النحو والإعراب فى اللغة العربية القريشية أو المضرية (بالضاد) إنما تنصبّ على فهم النحاة للنحو والإعراب، والمرجع دوما هو النحو الموضوعى والإعراب السليقى كما يتجسدان فى كلام العرب (من نثر وشعر) كما حفظه لنا تراثهم الغنى بكل عيونه وينابيعه ومصادره.
ولعل من الجلى تماما الآن أن إدراك وظيفة الإعراب يساعد على إدراك أن المسند (الخبر) يظل خارج نطاق الإعراب، وناهيك بالرفع، رغم الرفع العملى لما يسمى بالخبر المفرد. ذلك أن قياس رفع الخبر بكل أنواعه على هذا الرفع العملى العشوائى لهذا الذى يعتبرونه خبرا مفردا إنما هو قياس فاسد لا ينبغى الالتفات إليه، ليس فقط لأن هذا "المفرد" ليس خبرا، وليس فقط لأن رفعه ليس إلا عشوائيا ناتجا عن الاقتصاد اللغوى فى حالة خاصة جدا، وليس فقط لأن ما يسمى بالخبر ليس دوما اسما معربا كما هو الحال فيما يسمى بالخبر المفرد، بل لأن المفهوم الحقيقى للمسند (الخبر) يتمثل فى الفعل بمفرده كحد أدنى أو مع مجموعة تقل أو تكثر من الكلمات، وليس مثل هذا مجال الإعراب.
والحقيقة أنه لا علاقة لإعراب الفعل (المضارع فقط بالطبع)، وهو أمر لفظى تماما (أو تقريبا: إذا أخذنا فى اعتبارنا بعض التفاصيل الجزئية الضئيلة التى تُساق فى هذا المجال)، بإعراب الاسم الذى يميز الوظائف النحوية، كما أن إعراب كل عنصر من عناصر المسند يختلف عن افتعال إعراب شامل لهذا الأخير فى مجموعه. إن المسند لا ينطبق عليه الإعراب، ولا الإعراب "المحلي"، لأن المسند ليس عنصرا من عناصر الجملة، ولا يدخل فى علاقة تقتضى التمييز بالمخالفة الإعرابية مع عنصر آخر من عناصر الجملة.
ومن الجلى أن اقتران عبارتى المسند إليه والمسند قد يُحدث التباسًا يبدوان معه وكأنهما متخالفان فى المعنى ومتقابلان نحويا. وهذا بعيد تماما عن الحقيقة. ذلك أن المسند إليه (الفاعل) إنما يقابله نحويا ويخالفه إعرابيا عنصر جملة اسمه المفعول به. فالحدث قام به المسند إليه (الفاعل) فوقع على المفعول به، فالفاعل والمفعول به هما المؤثر والمتأثر، هما مُحْدث الفعل والمتأثر به، ولهذا فإنهما يتخالفان إعرابيا لمعرفة الفاعل من المفعول. وإذا كان المرفوع هو الفاعل والفاعل هو المرفوع فى اللغة العربية، كما فى غيرها من لغات الإعراب، فإن الأهمية النحوية لهذا الرفع إنما تتضح فى علاقته بنصب المفعول به. ذلك أن الفاعل والمفعول به، وهما عنصران حاسمان من عناصر الجملة، إنما يتمايزان بالرفع والنصب. ولأن المفعول به عنصر من عناصر الجملة التى تشكل المسند فمن البديهى أن المسند (الخبر) لا يدخل بحال من الأحوال فى علاقة تمايز وتقابل ومخالفة مع المسند إليه (الفاعل)، أو مع أى عنصر آخر من عناصر الجملة بحكم بداهة أن المسند (الخبر) هو كل أو بعض بقية عناصر الجملة باستثناء عنصر المسند إليه (الفاعل)، وبالتالى فإن المسند (الخبر) لا يُعرب وإنما تُعرب أجزاؤه أو مكوناته أو عناصره أو كلماته التى تتحقق من خلالها عناصر الجملة.
على أن كل هذا لا يمسّ بحال من الأحوال حقيقة أن ما يسمى بالخبر المفرد مرفوع، مهما كانت حقيقة هذا الرفع. وهناك أشياء أخرى قليلة مرفوعة يسهل الإلمام بها وربما سهل أيضا تأويلها ضمن مفهوم المسند إليه باستثناء ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع رفعا عشوائيا لأن أصله النصب فى حالة ظهور فعل الكينونة، وباستثناء مرفوع عشوائى آخر هو "المبتدأ" الذى خبره جملة (اسمية أو فعلية) فهذا المضاف إليه (والذى يرتبط بفاعل مضاف يُسند إليه الفعل) ليس أبدا فاعلا، وليس أبدا مسندا إليه، بل هو مضاف إليه حقه الجرّ غير أن تقدمه على المضاف أخفى العامل المباشر للجرّ فارتفع كما سبق أن أوضحنا.
وهنا تبدو فى الأفق ملامح تسهيل للإعراب، على أن يكون مفهوما جيدا أن التسهيل نسبى فلابد للمرء، لكى يستفيد من مثل هذا التسهيل، أن يعرف جيدا المبنى من المعرب، وأن يعرف جيدا المنقوص والمقصور، وأن يعرف جيدا أحوال الإعراب وعلاماته فى كل حالة، وأن يعرف جيدا وبدقة أشياء أخرى تتعلق بالبناء والإعراب الظاهر "والتقديرى والمحلي".
ونحن نعرف أن إعراب المضارع سهل ميسور. فالفعل المضارع ليس مجالا حقيقيا للإعراب المتداخل مع النحو فهو إعراب لفظى بلا وظيفة نحوية. وربما كان إعراب الفعل المضارع نظاما نحويا إعرابيا موغلا فى القدم فلا نعرف حقيقته، ولا نعرف حقيقة هذه البقايا الباقية منه. ولا قيمة حقيقية لدعوى أن إعراب الفعل المضارع ينطوى على بعض المعانى فى أحوال قليلة دقيقة لأن مثل هذه التفاصيل النادرة للغاية والفرعية للغاية لا تُغيِّر، حتى إنْ صحّتْ، من جوهر "معنى" إعراب المضارع.
على أن ما يهمنا أكثر فى مجال تيسير الإعراب هو أن إعراب الفعل المضارع سهل ميسور لأن قاعدته بسيطة للغاية، وهى أن الفعل المضارع مرفوع ما لم يسبقه ناصب أو جازم، وما دامت النواصب والجوازم قليلة تسهل معرفتها بدقة، وما دامت علامات الرفع والنصب والجزم معروفة جيدا، فإن المرء لن يجد صعوبة تذكر فى إتقان إعراب الفعل المضارع.
وهنا يمكن أن نطمح إلى صياغة قاعدة بسيطة فيما يتعلق بإعراب الاسم (والصفة والظرف المعرب أيضا): الاسم المعرب منصوب ما لم يكن مرفوعا أو مجرورا.
والجرّ سهل لأن المجرور مسبوق بالجارّ المضاف أو حرف الجر (بالإضافة إلى توابع المجرور).
ويغدو المرفوع سهلا لأن قاعدته صارت تتمثل فى أن المسند إليه (الفاعل) هو المرفوع وفى أن المرفوع هو المسند إليه (الفاعل)، وباختصار فالفاعل دون سواه هو المرفوع. وذلك باستثناءات قليلة. فهناك الرفع العملى العشوائى الذى تُسهل معرفة مواضعه. والموضع الأكثر أهمية للرفع العشوائى ما يسمى بالخبر المفرد (وهو متمم الفاعل مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت). ويليه فى الأهمية هو ما يسمى بالمبتدأ الذى خبره جملة. وهناك حالات ومواضع بسيطة للرفع يسهل الإلمام بها وهى فى الأغلب الأعم أشكال من المسند إليه.
ولا يحتاج تطبيق هذه القاعدة إلى أكثر من البحث فى الجملة عن كل فعل، وعن المسند إليه (الفاعل) الذى تم تصريف هذا الفعل معه. وهذا المسند إليه مرفوع وكذلك المرفوعات العشوائية المشار إليها منذ قليل. ويعنى هذا أن كل اسم معرب غير المسند إليه (الفاعل)، وغير المرفوعات العشوائية الأخرى، وغير المجرور بحرف الجر أو بالإضافة، منصوب.
غير أن هناك مشكلة يمكن أن تطعن، وإنْ بصورة جزئية، فى هذا التسهيل.
فالمسند إليه (الذى يتأخر عنه فعله) قد يسبقه عامل نصب أو جرّ فنلقاه منصوبا (بعد أدوات نصب الأسماء: "إن وأخواتها" أو بعد فعل سابق نصبه مفعولا قبل أن يغدو مسندًا إليه "فاعلا" أى قبل أن نسند إليه ونصرّف معه الفعل الجديد)، وقد يكون مجرورا وليس مرفوعا.
والجرّ سهل يمكن إتقان معرفته، وتكمن الصعوبة فى أن النصب الذى نريد تسهيله (وهو الذى يمثل حالة الإعراب الأكثر عددا والأشد صعوبة) بتخصيصه لغير المرفوع والمجرور (على أساس سهولة تحديد هذين الأخيرين) يعود فيدخل فى تحديد غير المرفوع. على أن هذه الصعوبة تتراجع إلى حد كبير عندما ندرك أن المسند إليه تنصبه ـ نموذجيا ـ نواصب يسهل تمييزها وتتلخص فى شيئين بسيطين للغاية:
الأول: أدوات نصب الاسم ("إن وأخواتها")، وهذه الأدوات يمكن أن تكون بنفس سهولة حروف أو أدوات الجر متى فهمناها على الوجه الصحيح.
والثانى: الفعل المتعدى السابق للمسند إليه والناصب له مفعولا به قبل أن يحدث إسناد الفعل "الجديد" إليه.
وينطبق هذان الشيئان البسيطان على المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف وهو ما يسمى فى النحو التقليدى بالمبتدأ الذى خبره جملة.
وبطبيعة الحال فإن متمم المسند إليه مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت يكون مرفوعا دائما.
وهكذا فإن المرفوع هو المسند إليه ما لم يسبقه ناصب أو جارّ، والمضاف إليه لمسند إليه مضاف بعده ما لم يسبقه ناصب أو جارّ، ومتمم المسند إليه مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
أما المجرور فمعروف فى كل أحواله بما فى ذلك مجيئه مسندا إليه أو مضافا إليه لمسند إليه مضاف بعده.
إذن، بصرف النظر عن الفعل، تكون الكلمة المعربة (غير المبنية) منصوبة إذا لم تكن مرفوعة أو مجرورة.
وينطبق على التوابع فى كل الأحوال ما ينطبق على متبوعاتها من رفع أو نصب أو جرّ.
وبطبيعة الحال فإن المزيد من الاستقصاء فى هذا المجال يمكن أن يحوّل تركيز أغلب مرفوعات الأسماء فى مفهوم المسند إليه (الفاعل) إلى أداة لتسهيل الإعراب على مَنْ يتحدث أو يكتب، أو يسمع أو يقرأ، أو يحلل إعرابيا، من خلال اعتبار المنصوب من الكلمات المعربة (غير المبنية) باستثناء الأفعال هو:
أولا: كل ما ليس مرفوعا، أى كل ما ليس المسند إليه، أو المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف بعده، أى: المبتدأ الذى خبره جملة فى النحو العربى التقليدى (فى غير الحالتين الثانية والثالثة)، أو متمما للمسند إليه مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
ثانيا: كل ما تنصبه أدوات نصب الاسم ("إن وأخواتها") حتى إنْ كان المسند إليه لفعل لاحق أو المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف بعده ("المبتدأ الذى خبره جملة").
ثالثا: كل ما تنصبه الأفعال المتعدية مفعولا به حتى إن كان المسند إليه لفعل لاحق أو المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف بعده ("المبتدأ الذى خبره جملة").
رابعا: كل ما ليس مجرورا بحرف الجر أو بالإضافة حتى إنْ كان المسند إليه لفعل لاحق أو "المبتدأ الذى خبره جملة".
ويمكن أيضا صياغة ما سبق بطريقة أخرى... المنصوب (من غير الأفعال) هو الكلمة المعربة غير:
1: المسند إليه أو "المبتدأ الذى خبره الجملة"، إلاّ إذا سبقته أداة من أدوات نصب الأسماء ("إن وأخواتها")، أو سبقه فعل وفاعل يقومان بنصبه مفعولا به قبل أن يصير المسند إليه أو "المبتدأ الذى خبره جملة".
2: متمم المسند إليه مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت (= فى النحو التقليدى: الخبر المفرد).
3: المجرور (حتى إنْ كان المسند إليه أو "المبتدأ الذى خبره جملة").
وبطبيعة الحال فأنا لا أملك سوى التسليم بإمكان وضع صياغات أفضل وأوجز وأدق وأبسط. غير أن هناك شيئا قد يؤدى إلى تبسيط جزئى وهو أنه ليس هناك إجماع بين علماء النحو فى لغات أخرى على قبول جمع "الكلمة" بين وظيفة المسند إليه لفعل ووظيفة المفعول به لفعل وفاعل سابقين. وهذا على كل حال موضوع قابل للجدل والاختلاف، غير أن استبعاد هذا الجمع بين الوظيفتين النحويتين فى اللغة العربية التى تقوم على الإعراب سيحذف هذا النوع من المسند إليه ومن "المبتدأ الذى خبره جملة" من القائمة الواردة أعلاه. وصحيح أن هذا يفيد فى تبسيط الإعراب غير أن التحرر من التمحور حول الإعراب يعنى بحث المغزى النحوى بصورة مستقلة عن الإعراب.
وبطبيعة الحال فإن الإصلاح المعجمى يظل مطلوبا فى كل الأحوال. فالأفضل دائما أن نعرف من المعجم ما إذا كانت هذه الكلمة أو تلك مبنية أو معربة (وتكفى بالطبع الإشارة إلى الكلمة المبنية دون المعربة على سبيل الاقتصاد).
كذلك من الأفضل بطبيعة الحال أن يتم تصحيح أقسام الكلام بحيث يفسح الاسم وهو قسم فضفاض المجال لظهور الأقسام التى ينطوى عليها فى المعجم وفى كتب قواعد النحو العربى. وباختصار فهناك إصلاحات معجمية عديدة من شأنها تيسير النحو والإعراب، ومن ذلك قبول فكرة أن قسم الكلام قد لا يقتصر على كلمة واحدة، بل يمكن أن يشمل أكثر من كلمة.
على أن تسهيل الإعراب عن طريق تسهيل النصب، استنادا إلى تسهيل الرفع بتركيز المرفوع فى مفهوم نحوى واحد بسيط كما نفعل فى هذا البحث، وباعتبار المنصوب غير المرفوع وغير المجرور، لا يمكن أن يكون بديلا عن استقصاء المنصوبات ذاتها واكتشاف كامل منطق نصبها باكتشاف كامل منطق مفاهيمها النحوية كعناصر جملة، الأمر الذى يُيَسِّر انطلاق تسهيل الإعراب بتسهيل النصب من أكثر من اتجاه، وبالأخص من الاتجاه النحوى المتمثل فى اكتشاف عناصر الجملة التى تمثلها المنصوبات أو تمثل شكلا من أشكال تحقيقها، ومن اتجاه وضع قاعدة إعرابية بسيطة تهتدى بقاعدة إعراب المضارع (قاعدة رفع المضارع ما لم يسبقه ناصب أو جازم)، وإنْ كانت القاعدة المنشودة لإعراب الأسماء والصفات والظروف المعربة لن تطمح إلى الوصول إلى مدى بساطة قاعدة إعراب المضارع.
ولا شك فى أن تسهيل الإعراب سوف يساعد بالضرورة على تحرير النحو من الدوران حول محور الإعراب كما ظل يفعل قرونا، ليتفرغ لقضاياه الحقيقية التى تحتاج إلى ثورة نحوية جذرية كتلك التى شهدها نحو اللغة الإنجليزية طوال العقود الأخيرة بوجه خاص.
وقبل أن نحاول الإلمام بالخطوط العريضة لتطوير النحو العربى، لا مناص من مواصلة الحديث عن الإعراب الذى ما تزال بعض جوانبه بحاجة إلى الإلمام، والتعليق، والربط، والتفكيك.
























12




12
الإعراب وعناصر الجملة

هناك أسئلة نحوية هامة تدور حولها فكرة عناصر الجملة: ما هو الحدث الذى تشتمل عليه الجملة وفى أىّ زمن؟ وهذا هو عنصر "الفعل". ومَنْ هو أو ما هو فاعل هذا الفعل أو المتصف به أو حتى المتأثر به والذى قمنا فى كل الأحوال بإسناد الفعل إليه وتصريفه معه؟ وهذا هو عنصر "المسند إليه" من حيث إسناد الفعل إليه ومن حيث إسناد كل المسند (الخبر) أيضا (من فعل وغيره) إليه، وهو فاعل الفعل بالمعنى النحوى للفاعلية. ويأتى سؤال ثالث هام يختص بالفعل المتعدى إلى مفعول به أو مفعولين وهو: مَنْ الذى أو ما الذى وقع عليه الفعل أو الحدث فتأثر به (دون أن يتم تصريفه معه كما فى بعض أحوال المسند إليه)؟ وهذا هو عنصر "المفعول به". وسنؤجل الآن السؤالين اللذين يتعلقان بالعنصرين الرابع "الظرف" والخامس "متمم الفاعل أو المفعول".
والفعل والفاعل والمفعول مفاهيم واضحة للغاية، مهما انطوى كل منها على مسائل وتفريعات معقدة وحتى بالغة التعقيد.
والفاعل (المسند إليه) مرفوع ما لم يكن مبنيا، أو منصوبا كمفعول به لفعل وفاعل سابقين أو بأدوات نصب الأسماء، وما لم يكن مجرورا بحرف الجرّ أو بالإضافة أو بما يسمى بحرف الجر الزائد.
والمفعول به منصوب إلا إن كان مبنيًّا أو مجرورا بما يسمى بحرف الجر الزائد، وهذا قليل.
وهناك بالطبع فيما يتعلق بكل من الفاعل والمفعول حالة تعذر قبول الكلمة لمورفيمات أو علامات الإعراب (المنقوص والمقصور) الأمر الذى يطرح مسألة الإعراب التقديرى، وحالة الإعراب "المحلى" للمبنىّ وللتراكيب والصيغ التى لا تقبل بحكم طبيعتها الإعراب المباشر المختص بمواضع فى الكلمة الواحدة وبالأخص بأواخر الكلم، وسيكون هناك فصل خاص بالإعراب المحلى والتقديرى.
ونعود الآن إلى الفاعل والمفعول به. وقد أشرنا إلى إعراب كل من الفاعل والمفعول به. فما علاقة الإعراب بالفعل؟
ومن الجلى أن الفعل عنصر هام من عناصر الجملة فهو "الحدث وزمنه فى آن معا"، وحوله تتمحور الجملة من فاعل قام به أو اتصف به، ومن مفعول وقع عليه، ومن ظرف وقع فيه من حيث المكان أو الزمان أو الطريقة أو الغاية أو أشياء أخرى كثيرة، ومن متمم إجبارىّ للفاعل مع الأفعال الناقصة ومن متمم إجبارى للمفعول به المباشر مع العديد من الأفعال المتعدية إلى مفعول أو مفعولين. إن الفعل هو محور الجملة ولا وجود لجملة تخلو منه أو من الفاعل (المسند إليه). وهذا بالطبع هو الحد الأدنى للجملة عندما يكون الحد الأدنى للمسند هو الفعل. غير أن العناصر الثلاثة الأخرى من عناصر الجملة محورية بدورها وإجبارية بدورها فى النماذج الخاصة بها للجمل فلا مجال للتقليل من شأنها وإنما هى نماذج للجمل تقتضى نماذج للمسند، وفقا لنوع الفعل ودلالاته واستخدامه لازما أو متعديا، ويظل الفعل والفاعل ماثليْن دوما فى كل جملة. وتتعدد النماذج حسب الاكتفاء بهما إجباريا (أى كعنصرين إجباريين لنموذج) أو إضافة عناصر إجبارية أخرى إليهما، ومن ذلك تكرار العنصر الواحد (لنوعين من نفس العنصر وهو المفعول به بالذات) فى نموذج بذاته. أما الإضافات الاختيارية للعناصر فلا حدود لها، إلا حدود المعانى المطلوبة، لكنها لا تغيّر نماذج الجمل ذاتها كنماذج بحال من الأحوال.
فما علاقة الفعل بالإعراب؟
وهناك زوايا متباينة يمكن تأمُّل هذا السؤال منها.
فكما قلنا عن الفاعل يمكننا أن نقول إن الفعل مرفوع ما لم يكن مبنيا وما لم يسبقه ناصب أو جازم.
غير أننا أثبتنا أن المسند ليس مرفوعا وليس معربا أصلا بل هو خارج نطاق مسألة الإعراب. والآن فإن الفعل فى جملة من فعل وفاعل هو المسند (الخبر). فهل هذا الفعل وهو المسند مرفوع كما زعم النحو العربى للمسند أم هو خارج مسألة الإعراب من رفع وغيره؟
ونحن نعرف أن الفعل "مبني" فى أغلب أحواله. إنه مبنى فى المضى والأمر والمضارع إذا اتصلت به نون النسوة أو نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة اتصالا مباشرا (أما الاتصال غير المباشر فيكون عند تصريف الفعل مع ألف الاثنين، أو واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، أو نون النسوة، ويكون المضارع معربا فى الأحوال الثلاثة الأولى، أما مع نون النسوة فيكون مبنيا على السكون).
فماذا عن إعراب المضارع المعرب؟ هل إعرابه هو الأصل باعتباره الفعل المضارع المعرب أم باعتباره مسندا (خبرا)؟
ولا شك فى إعراب المضارع (بالاستثناء المحدود المذكور منذ قليل). غير أن إعرابه لا يعنى رفعه، فهو مرفوع ما لم يسبقه ناصب أو جازم.
غير أننا نقول هذه العبارة الأخيرة ذاتها مع إحلال الجارّ محل الجازم عن المرفوع الذى لا مرفوع من حقه الرفع سواه أى: المسند إليه (الفاعل). ولكن الفرق هو أن الحديث عن رفع الفعل المضارع المعرب (ما لم يسبقه ناصب أو جازم) يختلف جذريا عن الحديث عن رفع الفاعل (ما لم يسبقه ناصب أو جارّ).
وإذا كان رفع المضارع المعرب يعنى الاكتفاء بالدلالات المعجمية للفعل فإن نصبه أو جزمه يضيف إلى هذه الدلالات المعانى التى تنطوى عليها عوامل وأدوات النصب أو الجزم.
ونواصب الفعل تُضيف معانى جديدة:
1: أَنْ (المصدرية) 2: لَنْ (النفى فى المستقبل) 3: كى (التعليل) 4: إِذَنْ (جواب كلام قبلها) 5: لام (التعليل) 6: لام (الجحود أو الإنكار) 7: فاء (السببية) 8: واو (المعية) 9: حتى (الغاية والتعليل).
وكذلك تُضيف جوازم الفعل معانى جديدة:
1: لم (نَفْى المضارع وقلب زمنه إلى الماضي) 2: لَمَّا (نَفْى المضارع وقلب زمنه إلى الماضى واستمرار النفى إلى الحاضر) 3: لام (الأمر لجعل المضارع يفيد الطلب) 4: لا (الناهية).
ومنها ما يجزم فعلين بمعان جديدة أيضا تضاف إلى الدلالات المعجمية (والمقصود أدوات الشرط الجازمة):
1: إِنْ (رَبْط جواب الشرط بفعل الشرط) 2: مَنْ (للعاقل) 3: ما (لغير العاقل) 4: مهما (لغير العاقل) 5: متى (للزمان) 6: أيّانَ (للزمان) 7: أين 8: أينما 9: أَنَّى 10: حيثما (وكلها من 7-10 للمكان) 11: كيفما (للحال) 12: أى (للعاقل وغيره وللزمان والمكان والحال بحسب ما تضاف إليه).
ولا شك فى أن أدوات نصب الفعل وأدوات جزم الفعل تضيف المعانى المذكورة إلى المعانى المعجمية للأفعال، تمامًا كما تضيف أدوات نصب الأسماء ("إن وأخواتها") وأدوات جرّ (الأسماء) معانيها للأسماء أو الصفات أو الظروف المعنية.
غير أن إعراب المضارع (بالاستثناء المذكور آنفا) لا يتجاوز بأحواله من رفع ونصب وجزم مجال الدلالات والمعانى اللغوية من إثبات، أو نفى، أو تعليل، أو مصدرية، أو شرط، وما شابه ذلك. وحتى إذا أضفنا البناء إلى الإعراب فسوف نظل فى مجال الزمن والإطار النحوى للزمن فلا نتجاوز ذلك أبدا إلى المجال المحدّد للعلاقات النحوية بين عناصر الجملة.
وهكذا فإن الفعل اللازم يكون بمفرده مسندا (خبرا) وهو مسند الحد الأدنى. وهو مبنى إن لم يكن مضارعا. وإنْ كان مضارعا فهو معرب (بالاستثناء المذكور). وهو فى هذه الحالة مرفوع أو منصوب أو مجزوم وفقا لغياب أو وجود أدوات النصب أو أدوات الجزم. ولكن هل المضارع مرفوع لأنه مسند؟ والإجابة هى أن المسند (الخبر) خارج الإعراب من رفع وغيره، وأن إعراب الفعل يختلف جذريا عن إعراب غير الفعل، فلا مجال للحديث حتى عن الإعراب المحلى للمسند أو الفعل الذى يمثله أو يمثل جزءًا منه.
وينبغى أن ندرك مغزى أن النحو العربى يجعل المسند إليه والمسند (المبتدأ والخبر) مرفوعين، أى أنه لا يُقيم بينهما مخالفة فى الإعراب. ومعنى هذا أن النحو العربى لم يشعر بحاجة إلى التمييز عن طريق الإعراب بين المسند إليه والمسند، من خلال اختصاص أحدهما بإعراب يختلف عن الإعراب الذى يختص به الآخر، بأن يكون أحدهما مرفوعا مثلا والآخر منصوبا مثلا.
والنحو العربى محق تماما فى عدم إحساسه بالحاجة إلى التمييز بالإعراب بين المسند إليه والمسند. ويؤكد هذا واقع أنه قام بقياس فاسد من الرفع العشوائى لما يسمى بالخبر المفرد، دون أن تُجبره أنواع الخبر الأخرى على افتراض أنها مرفوعة، وبهذا جعل هذين المفهومين النحويين مرفوعين.
وبطبيعة الحال فإن علم النحو لا يملك رفع شيء لم ترفعه اللغة ولا نصب شيء لم تنصبه اللغة. وقد رفعت اللغة المسند إليه فأدرك النحو قاعدة ومغزى هذا الرفع، غير أنه "توهم" أن المسند (الخبر) بدوره مرفوع، فلم يجد غضاضة فى أن يكون الشيئان مرفوعين، ولم يشعر بالحاجة إلى المخالفة بينهما بالرفع لأحدهما والنصب للآخر، مثلا، بل تمادى فى "توهم" الرفع فقام بقياس كل أنواع خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها" وخبر ما يسمى بالمبتدأ الثانى فى الخبر بالجملة الاسمية (من ظرف وجارّ ومجرور وجملة اسمية وجملة فعلية). وإذا كان النحو العربى قد أخطأ عندما "توهم" أن المسند (الخبر) مرفوع، فقد أصاب إذْ أدرك أنه إزاء مفهومين نحويين لا مبرر للمخالفة الإعرابية بينهما.
والسرّ وراء ذلك، كما رأينا من قبل، هو أن المسند إليه عنصر من عناصر الجملة، فهو فاعل الفعل، فى حين أن المسند مفهوم فضفاض بمعنى أنه يتسع لكل بقية عناصر الجملة، فهو كل ما تقوله الجملة ـ إثباتًا أو نفيّا ـ عن المسند إليه من خلال عناصر متعددة لا معنى لإعرابها ككل.
ونجد بين عناصر الجملة التى ينطوى عليها المسند (الخبر) عنصرًا يقابل مباشرة عنصر المسند إليه (الفاعل): إنه المفعول به. فالفاعل يقابل المفعول به وليس المسند. والمفعول به منصوب على أساس مخالفة نصبه لرفع الفاعل. وهنا يقوم الإعراب بوظيفة نحوية مباشرة فى التمييز بين الفاعل المرفوع والمفعول به المنصوب.
وهناك بطبيعة الحال منصوبات أخرى غير المفعول به، فكل ما هو غير الفاعل ("والفعل" كما أوضحنا) من عناصر الجملة منصوب. ونحن لا نريد أن ندخل فى جدال عقيم عن "العلة" وراء النصب الذى يلازم الكلمة المفردة المعربة عندما تكون متمما للفاعل أو المفعول أو على الظرفية. ومن المنطقى بطبيعة الحال تمييز المسند إليه (الفاعل) بالرفع دون غيره، الأمر الذى منع رفع غيره إلا عشوائيا وفى أغلب الأحوال نتيجة لتوهم أنه المسند إليه. ولهذا فمن المنطقى أن تكون العناصر النحوية الأخرى غير مرفوعة. فيبقى إذن الجرّ الذى يشترط الإضافة إلى حرف الجرّ أو المضاف فيفعل فعله على أية كلمة مهما كانت وإن كانت المسند إليه (الفاعل). ولا يبقى بعد ذلك من أحوال "إعراب الاسم" سوى النصب. وإذا كانت المخالفة الإعرابية الأكثر أهمية من الناحية النحوية تقوم بين الفاعل المرفوع والمفعول به المنصوب، فإن اشتراك عنصرين آخرين من عناصر الجملة هما المتمم (متمم الفاعل أو المفعول) والظرف (أو تلك الكثرة من المنصوبات) فى النصب مع المفعول به، رغم ضرورة التمييز السهل "نحويا" بين المفعول به وبقية المنصوبات وكذلك فيما بين كل منصوب وآخر من هذه المنصوبات، يعنى شيئا واحدا هو أن التمييز النحوى بين المنصوبات استغنى عن أحوال إعراب أخرى عديدة إلى جانب النصب للتمييز بين هذه الوظائف النحوية لأنه يتحقق من خلال "المعنى" دون صعوبة أو دون صعوبة كبيرة ولأنه يتحقق فى الكثير من الأحوال من خلال أشكال تحقيق هذه الوظائف النحوية بطبيعة وصيغ هذه الأشكال التى لا علاقة لها كمجموعات وتراكيب بمسألة الإعراب ومورفيماته وعلاماته.
وعلى هذا فإن حصر الرفع فى المسند إليه (الفاعل) كان لا يعنى فقط ضرورة المخالفة الإعرابية بالنصب للمفعول به وحسب بل أيضا إطلاق النصب لكل العناصر المتحققة من كلمات معربة، ما دام الجرّ لا يستطيع أن يتقاسم هذه الكلمات أو العناصر مع النصب لأنه (أى: الجرّ) محصور بحكم طبيعته فى الإضافة.
على أن الرفع والنصب والجرّ أحوال إعرابية لا تقتصر فقط على الكلمات ذات الوظائف النحوية التى تنصبّ على العلاقات بين الكلمات (أو العناصر) فى الجملة، بل يقوم الإعراب بأحواله هذه بدور الضابط الإعرابى "لتوابع" كل كلمة أو عنصر فى الجملة، حتى إذا لم تظهر علامة الرفع أو النصب أو الجرّ نتيجة للبناء أو المنقوص أو المقصور أو المصدر المؤول أو ما إلى ذلك.
ولا مجال للشك فى أن رفع المسند إليه (الفاعل) ونصب المفعول به، وإخراج المسند (الخبر) من دائرة الإعراب، اتجاه واسع فى اللغات القائمة على الإعراب، وليس فى اللغة العربية وحدها. وفى كل هذه اللغات تقوم المخالفة الإعرابية بين الفاعل والمفعول به على المخالفة النحوية بينهما أى من أجل تمييز الوظيفة النحوية للكلمة فى الجملة رغم أنها كلمة واحدة فى المعجم مهما تعددت دلالاتها اللغوية.
على أن الإعراب لا يقتضى دائما، وفى كل أحواله، وجود علامات مخصوصة لكل حالة مثل علامات الرفع أو علامات النصب. فالرفع يمكن أن يتمثل فى حالة صفرية أى بدون علامات (فعلامة الرفع هنا هى عدم وجود علامة) كما هو الحال فى اللغة الفارسية واللغة النوبية وفى غيرهما حيث الفاعل مرفوع بدون علامة مقابل المفعول به الذى يتخذ علامة تسبقه كما فى الفارسية أو تتبعه كما فى النوبية.
ومن ناحية أخرى فإن علامات الإعراب لا تكون بالضرورة فى أواخر الكلم كما يقول النحو العربى محقًّا بقدر ما يتعلق الأمر باللغة العربية، وكقاعدة أغلبية وليس كقاعدة مطلقة. ذلك أن علامات الإعراب قد تكون فى أواخر الكلمات أو فى أوائلها أو بداخلها، وعندنا فى العربية حذف حرف العلة فى الأجوف بالإضافة إلى "سكون" الجزم فى مثل كلمة: "يَقُلْ" فى جملة: لم يَقُلْ إلا الحق"، لجزم الفعل يَقُولُ"، وهذا مجرّد مثال واحد.
وفى كتابه: "نحو التيسير ـ دراسة ونقد منهجي"، يشير الدكتور أحمد عبد الستار الجوارى إلى حديث النحاة عن أن "الرفع عَلَم الفاعلية"، ويرى أن ما ذهب إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه: "إحياء النحو" من أن "الضمة وهى علامة الرفع هى "عَلَم الإسناد"... "قد يكون أدنى إلى الصواب" .... "وذلك لأن معنى الفاعلية على وجه الدقة، قد لا يكون واضحا حتى فى الأسماء المرفوعة المسندة إليها الأفعال، كما هو الحال فى أفعال السجايا" .... "كما أنه غير مفهوم فى المبتدأ المتصف بالخبر كقولنا: ’محمدٌ نبيل‘" . ويعقّب على ما قاله الأستاذ إبراهيم مصطفى موضحا أن الضمة، وإنْ كانت حقا علامة الرفع الأصلية، إلا أنه أغفل بذلك علامات الرفع الفرعية، ... "ولو أنه قال الرفع للإسناد لكان ذلك أولى وأقرب إلى الحقيقة" . لماذا؟ لأن طرفى الإسناد، وهما المسند إليه والمسند، يستحقان الرفع .
والحقيقة أن "الرفع عَلَم الفاعلية"، وكل مرفوع غير الفاعل قليل كمواضع إلى جانب أنه مرفوع عشوائيا، كما أنه لا يمثل عنصرا من عناصر الجملة لأن المسند ليس عنصرًا من عناصر الجملة، كما أن ما يسمى بالمبتدأ الأول فى جملة خبرها جملة اسمية كما يقال ليس مسندا إليه فى الحقيقة بل مضاف إليه لمضاف لاحق وليس عنصر جملة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالعناصر الثلاثة التى أشرنا إليها فى بداية هذا الفصل وهى: الفعل والفاعل والمفعول، يمكن القول إن الفعل لا علاقة لإعرابه بإعراب الاسم فهما أمران مختلفان جوهريا. أما الفاعل فمرفوع باستثناءات، وأما المفعول به فمنصوب باستثناء قليل نادر. ولأن عنصرى الجملة الباقيين، وهما عنصر متمم الفاعل أو المفعول به، وعنصر الظرف، منصوبان، كما سبق القول، يمكن القول إذن أن إعراب الأسماء والصفات والظروف المعربة (وهو الإعراب المتصل بعناصر الجملة) يخصّ أربعة عناصر ولا يخصّ العنصر الخامس وهو الفعل. والعناصر الأربعة للجملة (غير الفعل) عبارة عن عنصر واحد مرفوع هو المسند إليه (الفاعل)، مع أخذ الاستثناءات فى الاعتبار، وثلاثة عناصر منصوبة وهى المفعول به، ومتمم الفاعل أو المفعول به، والظرف (مع أخذ الاستثناءات فى الاعتبار أيضا كما سنرى).
وهناك نقطة ينبغى أن نذكرها هنا حتى نلاحظها بوضوح وجلاء عند الدخول فى "بحر" المنصوبات، أى عند محاولة فهم وإعادة تبويب تلك الكثرة من المنصوبات.
لقد أشرنا إلى، وسنقف فى موضع لاحق عند، عناصر الجملة من حيث تحققها من خلال عبارات وصيغ وتراكيب متنوعة وليس من خلال الألفاظ المفردة. غير أن الإعراب والنحو ينفصلان فى التعامل مع الكلمة الأساسية فى العبارة المحققة لعنصر الجملة. فالكلمة الأساسية من حيث الإعراب هى تلك التى تأخذ علامة الإعراب من رفع ونصب وجرّ وليس الكلمة الأساسية من حيث المعنى النحوى. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ الطبيعى حسب المرجع الموضوعى الجمعى المتمثل فى الجماعة الناطقة بهذه اللغة وهم العرب وطريقتهم فى وضع علامات الإعراب حيث شاءت لهم سليقتهم أن يضعوها. بل يصل الأمر إلى حدّ إعلان النحاة أن الكلمة المعربة هى المسند إليه أو المسند، المبتدأ أو الخبر، الفاعل أو المفعول، أى عنصرا من عناصر الجملة حسب اللغة النحوية الحديثة التى نستخدمها فى هذا البحث.
ولأن قبول علامات الإعراب هو سمة اللفظة المفردة (باستثناء المبنىّ والمنقوص والمقصور) فقد ظل هناك ميل مطلق إلى حصر المفهوم النحوى لعنصر الجملة (باستثناء الإعراب "المحلى") فى اللفظة المفردة التى تحمل علامة الإعراب المعنية. وعلى سبيل المثال، إذا قلنا: "عَرَبُ المشرقِ مشارقةٌ" كانت كلمة "عربُ" هى المرفوع كإعراب وهى الفاعل كنحو، عند النحاة، مع أن الفاعل ينبغى أن يكون "عربُ المشرق" ككل. وإذا أضفنا لفظة "كلّ" فقلنا: "كلُّ عربِ المشرقِ مشارقةٌ" صارت لفظة "كلُّ" هى المرفوع كإعراب، وهى الفاعل كنحو، عند النحاة، مع أن الفاعل ينبغى أن يكون "كلُّ عربِ المشرقِ" ككل. وهذا ما يؤدى بنا إلى ضرورة أن نعطى الإعراب حقه الذى لا سبيل إلى إنكاره، وهو الرفع مثلا لما رفعته العرب، وهكذا فى بقية أحوال الإعراب. لكنْ لا ينبغى أن يأخذ الإعراب أكثر من حقه إلى حد ينتهى معه إلى تشويه المفاهيم النحوية الصحيحة لعناصر الجملة التى قد تتحقق بكلمة واحدة كحد أدنى، وقد تتحقق بعبارة من كلمات عديدة، وحتى كثيرة جدا، وحتى بما يملأ صفحات للعنصر الواحد إذا شاء الكاتب أو القائل وصبر القارئ أو السامع.
ومن هنا فإن تطابق المرفوع والفاعل إنما يكون فى حالة الفاعل الكلمة الواحدة (بالمعنى الدقيق للكلمة الواحدة كمدخل فى المعجم وليس فى طريقة الكتابة فى مثل: "فسيكفيكهم" وهى عبارة متعددة الكلمات). أما فى حالة العبارة التى يتحقق من خلالها الفاعل كعنصر جملة فلا ينبغى النظر إلى الكلمة المرفوعة على أنها الفاعل (بمفردها بدلا من العبارة كلها)، ولا على أنها بالضرورة "رأس" عبارة الفاعل أى الكلمة الرئيسية فيها من حيث تمثيلها للفاعل. إن المرفوع قد لا يكون الفاعل، بل مجرد كلمة من كلماته، عندما يكون الفاعل عبارة من عدة كلمات، كما أنه قد لا يكون حتى رأس عبارة الفاعل عندما يتمثل هذا الرأس فى كلمة أخرى فى العبارة.
وهنا تنفتح أمامنا آفاق التطلع إلى فهم كل عنصر من عناصر الجملة على أنه يتحقق من خلال كلمة أو مجموعة اسمية أو فعلية، كما سبق ورأينا عند بحث تحقيق المسند إليه من خلال الكلمة أو الكلمات أو العبارات أو الصيغ أو التراكيب اللفظية، كما يمكننا أن نقسّم الجملة إلى عناصرها التى تشمل كل كلماتها شمولا مستغرقا مهما كثرت تلك الكلمات، لنبحث تكوين العنصر من الكلمات، وتكوين الجملة من العناصر، بمفاهيم ناضجة بعيدا عن تلك الألفاظ التى حملت علامات الإعراب المعنية. كما يمكننا أن نحدد "رأس" عبارة أو مجموعة عنصر الجملة بوضوح نحوى تام دون أن يفرض علينا التمحور حول الإعراب النظر إلى اللفظة المعربة المعنية على أنها بالضرورة عنصر الجملة أو رأس عبارته أو مجموعته.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بأشكال تحقيق عنصر الجملة، غير الفعل والفاعل، نجد أن العنصر الواحد منها قد يتحقق بالإضافة إلى اللفظة الواحدة القابلة للإعراب بعبارة غير قابلة للإعراب، إلا فى إطار ما يسمى بالإعراب المحلى، وهنا يقوم النحو العربى التقليدى (القديم والاتباعي) بإعلان العناصر المعنية للجملة "منصوبات أسماء". ثم ندرس المنصوب من منصوبات الأسماء فإذا به يأتى منصوبا كلفظة مفردة أو كعبارات متنوعة أيضا. وهذا ينطبق، على سبيل المثال، على المفعول المطلق، والمفعول لأجله، وظرف المكان والزمان، والحال... فكيف ندرسها على أنها "منصوبات" مع أنها عناصر جملة تأتى منصوبات فى حالة اللفظ المفرد كما تأتى فى أنواع وأشكال شتى؟ أليس الأجدر بنا أن ندرسها كمفاهيم نحوية، كعناصر جملة، ثم نبحث أشكال تحقيقها، ومنها شكل النصب الذى يُربك الكاتب والقارئ، أو المتحدث والمستمع، أكثر مما تُربكه أية حالة أخرى من أحوال الإعراب؟
ولهذا فعندما ننتقل إلى ما يسمى بمنصوبات الأسماء برمالها المتحركة، وبأنواع وأشكال وألوان تداخلاتها واشتباهاتها والتباساتها، ستكون الأولوية الأولى للمفاهيم النحوية التى تصلح للغة تقوم على الإعراب، كما تصلح للغة تقوم على إسقاط الإعراب. وهى ليست مفاهيم إعرابية تخنق النحو المتمحور حول الإعراب، بل هى مفاهيم نحوية لا تهمل الإعراب، بل تضعه فى مكانه الصحيح، وتعمل على تيسيره، ولا تحاول ذلك خدمة للإعراب أو لتيسيره فحسب، بل أملا فى أن يساعد تيسير الإعراب فى تحرير النحو العربى من ربقة التمحور حول الإعراب، وبالتالى فى فتح آفاق واسعة أمامه، الأمر الذى لن يتحقق إلا بتضافر جهود جيل جديد من علماء النحو، بشرط أن يتحرروا من تقديس النحاة القدامى، مع إدراك وتقدير عظمتهم، بأن ينقدوا إنجازهم العلمى التاريخى وينطلقوا منه ويطوروه، ناظرين إلى المستقبل بعقلية تستوعب علوم الماضى وتطورها ولا تتحجر عندها، فى عالم لم يعد فيه مكان لمن ينظرون إلى الوراء فى سياق من الجمود والتحجر والنكوص والردة.







14

وقفة عند من ينكرون الإعراب
كأصل من أصول اللغة العربية


يخصص الدكتور إبراهيم أنيس الفصل الثالث من كتابه القيم "من أسرار اللغة" لمسألة الإعراب. ويحمل هذا الفصل عنوان "قصة الإعراب" حيث يسلط المؤلف على مسألة الإعراب نوعا من الشك "الديكارتى” يذكرنا بكتاب أستاذه الدكتور طه حسين "فى الشعر الجاهلى" الذى سلط شكه الديكارتى على الشعر الجاهلى، منتهيا إلى نظريته الشهيرة عن "الانتحال" ذلك أن "انتحال" الإعراب هو ما نجده عند الدكتور إبراهيم أنيس، هذا الإعراب الذى ينكر الأستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه الشهير "إحياء النحو" وظيفته النحوية فيما يتعلق بما يسمى بمنصوبات الأسماء، كما ينكر قطرب تلميذ سيبويه وصاحب كتاب "إعراب القرآن" كل وظيفة نحوية له ويفسره تفسيرا صوتيا خالصا.
وقبل أن نُلِمَّ برأى قطرب، لننتقل بعد ذلك إلى تلك الدراسة المتبحرة التى يحتشد لها الدكتور إبراهيم أنيس بحجج كثيرة متنوعة ضد الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية، نحاول أولا الإلمام بأطراف من وجهة نظر تنطوى على قبول الإعراب فى الرفع والجرّ وإنكاره فى النصب وهى وجهة نظر تكتسب أهميتها الكبيرة من مكانة صاحبها الأستاذ إبراهيم مصطفى، هذا المؤلف النحوى الذى لعب دورا بالغ الأهمية فى محاولات تجديد النحو وفى مقدمة تلك المحاولات محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة فى دورته الحادية عشرة (1945) بالاشتراك مع وزارة المعارف المصرية.
ويطرح الأستاذ إبراهيم مصطفى وجهة نظره بوضوح تام، منذ البداية، منذ مقدمة الكتاب، مشيرا إلى أنه بحث عن معانى هذه العلامات الإعرابية، وإلى أن الله هداه إلى "شيء يراه قريبا واضحا" يلخصه فيما يلى:
الرفع (الضمة): "(1) إن الرفع عَلـَم الإسناد، ودليل أن الكلمة يُتحدَّث عنها" . ... "فأما الضمة فإنها عَلـَم الإسناد، ودليل على أن الكلمة المرفوعة يراد أن يسند إليها ويُتحدَّث عنها" .
الجر (الكسرة): "(2) إن الجر عَلـَم الإضافة سواء أكانت بحرف أم بغير حرف" . … "وأما الكسرة فإنها عَلـَم الإضافة، إشارة إلى ارتباط الكلمة بما قبلها" .
التنوين: ويشير إلى نظرته إلى التنوين على أنه عَلـَم التنكير .
الفتحة: "(3) إن الفتحة ليست بعَلـَم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التى يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهى بمنزلة السكون فى لغتنا الدارجة" . … "أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء" .
ويضيف: "(4) إن علامات الإعراب فى الاسم لا تخرج عن هذا إلا فى بناء، أو نوع من الاتباع، وقد بيناه أيضا. فهذا جماع أحكام الإعراب" .
والخلاصة: "فللإعراب الضمة والكسرة فقط، وليستا بقية من مقطع، ولا أثرًا لعامل من اللفظ، بل هما من عمل المتكلم ليدلَّ بهما على معنى فى تأليف الجملة ونظم الكلام" .
وينطوى هذا الرأى بطبيعة الحال على ازدواج بين الإعراب للضمة والكسرة والتفسير الصوتى الخالص للفتحة وهو تفسير يستبعد كل تفسير آخر يقوم على المخالفة فى الوظيفة النحوية. غير أنه ينطوى أيضا على فكرة تتعلق بنظرية العوامل، أىْ بنظرية أسباب الضمة والكسرة كما يفترض موقف الأستاذ إبراهيم مصطفى. وأعتقد أن الحماس البالغ ضد هذه النظرية رفضا لتعقيداتها وتفريعاتها هو الذى يقود هنا إلى إنكار أىّ أثر لعامل من اللفظ بحجة أن الضمة والكسرة إنما هما من عمل المتكلم كما قال، وكأن المتكلم قد اختار اللفظة المرفوعة بالضمة أو المجرورة بالكسرة وحدهما فلم يختر بقية ألفاظ الجملة التى يستحيل إنكار تأثيرها المطرد، وحتى إذا قلنا إنه اختار كل الألفاظ فإنما يعنى هذا أنه اختارها بكل آثارها الإعرابية المطردة. على أننا لا نناقش هنا نظرية العوامل وإنما نتحدث عن إنكار الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية.
وإذا كان الأستاذ إبراهيم مصطفى يؤيد إعراب المرفوع والمجرور أو المضموم والمكسور، وينكر إعراب الفتحة، فإن قـُطْرُب (وهو الإمام محمد بن المستنير، البصرى المولد والنشأة، وتلميذ سيبويه الذى قيل إنه سماه ""قـُطْرُبًا" على اسم دويِّبة اسمها القطرب تدبّ ولا تفتر؛ وله كتاب فى إعراب القرآن) ، لا ينكر لفظة الإعراب بل ينكر معناها فى تمييز الوظائف النحوية، ونقتبس منه هذا النص الطويل لمعرفة أبعاد نظريته الصوتية البحتة عن الإعراب:
لم يُعْرَب الكلام للدلالة على المعانى والفرق بين بعضها وبعض، لأنا نجد فى كلامهم أسماء متفقة فى الإعراب مختلفة المعانى وأسماء مختلفة فى الإعراب متفقة المعانى، فمما اتفق إعرابه واختلف معناه قولك إن زيدا أخوك، ولعل زيدا أخوك، وكأن زيدا أخوك، اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك: ما زيد قائما (أىْ فى لغة الحجازين) وما زيد قائم (أى فى لغة بنى تميم) اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان ولا مال عندك ولا مال عندك، وما فى الدار أحد إلا زيد وما فى الدار أحد إلا زيدا. ومثله إن القوم كلهم ذاهبون وإن القوم كلهم ذاهبون، ومثله (إن الأمر كله لله) و (إن الأمر كله لله) قرئ بالوجهين جميعا، ومثله ليس زيد بجبان ولا بخيل، وليس زيد بجبان ولا بخيلا. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل وكانوا يبطئون عند الإدراج، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن ومتحركين وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة، لأنهم فى إجماع الساكنين يبطئون وفى كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب المهلة فى كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الإسكان. وقيل له: فهلا لزموا حركة واحدة؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيقوا على أنفسهم، فأرادوا الاتساع فى الحركات وأن لا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة .
ويضيف الدكتور شوقى ضيف أن قطرب: "على نحو ما علل لاختلاف حركات الإعراب بالاتساع فى الكلام علل لظاهرة الترادف فى نفس اللغة بنفس العلة، إذ يقول" :
إنما أوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد ليدلوا على اتساعهم فى كلامهم، كما زاحفوا فى أجزاء فى الشعر ليدلوا على أن الكلام واسع عندهم وأن مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب
وكما يقول الدكتور شوقى ضيف فقد كان رأى قطرب:
أن حركات الإعراب المسماة بالرفع والنصب والجر والجزم هى نفسها حركات البناء المسماة بالضم والفتح والكسر والوقف أو السكون، ولا بأس من إطلاق كل منها على مقابلها فى الحالتين، فيقال للرفع فى الكلمات المعربة الضم، ويقال للضم فى الكلمات المبنية الرفع، وهلم جرا
ويمكننا الآن أن ننتقل مباشرة إلى مناقشة وجهات نظر الدكتور إبراهيم أنيس.
ونلتقى بوجهة نظره لأول مرة، فى كتابه القيم "فى اللهجات العربية"، حيث يقول:
فالإعراب كما نعرفه لم يكن إلا مسألة مواضعة بين الخاصة من العرب، ثم بين النحاة من بعدهم، ولم يكن مظهرا من مظاهر السليقة اللغوية بين عامة العرب
ومن الجلى أن هذه النظرة قد تم استنتاجها بصورة مباشرة من ظاهرة اللحن الإعرابى، ويقول الدكتور إبراهيم أنيس:
ولا يعقل أن صاحب السليقة اللغوية يخطئ إلا إذا كان ينطق بلغة خاصة يتمسك فيها بقواعد وأصول لا تـُراعَى فى حياته العادية حين ينطلق على سجيته
وقد سبق لى أن أوضحتُ، فى مقال بعنوان "ظاهرة الازدواج اللغوى فى العالم العربى"، أن هذا الازدواج اللغوى بين اللغة العربية بالإعراب واللغة العربية بإسقاط الإعراب يمكن تفسيره بصورة مناقضة لتفسير الدكتور إبراهيم أنيس:
والفكرة التى ينطوى عليها الاستشهاد الأخير فكرة صحيحة فى حد ذاتها، فظاهرة اللحن تعنى وجود لغتين، لكنها لا تعنى بالضرورة أن إحداهما تمثل السليقة الأصلية وأن الأخرى تمثل الاصطناع الأدبى لدى الخاصة، بل يمكن تفسيرها تفسيرا معاكسا يتمثل فى إرجاع عدم التمكن من لغة الإعراب ليس إلى كونها لغة جديدة أو مصطنعة أو أدبية وبالتالى لا تمثل السليقة الأصلية بل إلى أن لغة الإعراب كانت هى السليقة الأصلية ثم أخذ الإعراب يسقط فى لغة الكلام لدى هذه الجماعة، وكان التطور المنطقى لهذه الظاهرة أن يسقط الإعراب من اللغة العربية جميعا وأن تسود لغة إسقاط الإعراب
ولأن الدكتور إبراهيم أنيس يجعل لغة الإعراب لغة خاصة العرب، ولغة السليقة الخالية من الإعراب لغة عامة العرب، فقد استشعرت أنه ينطلق من تصور مؤداه أن "تعقيد" الإعراب يجعله مستعصيا على العامة:
ويبدو أن الدكتور إبراهيم أنيس تصوَّر أن تعقيد الإعراب يجعله مستعصيا على عامة الناس فلم ينتبه لذلك إلى واقع أن شعوبا كثيرة استخدمت فى الماضى أو لا تزال تستخدم وبسهولة فطرية لغات إعرابية بالغة التعقيد، وأن لغات الإعراب نجدها كلما عدنا إلى الوراء، وأنه رغم أن اللغات يمكن أن تتخلى فى مرحلة من مراحل التطور عن الإعراب بكل تعقيد حالاته ومورفيماته ليحل محله نسق نحوى أبسط هو نسق تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة إلا أن هذا الاقتصاد اللغوى إنما تتعلمه الشعوب واللغات بعد أن تخوض تجربة تاريخية طويلة مع لغة الإعراب بوصفها نقطة الانطلاق، رغم كل هذا التعقيد الذى قد يبدو مستعصيا على الاستيعاب بينما يتعامل معه أصحاب السليقة بكل سهولة، ومن يدرى فربما جاء الإعراب ذاته تتويجا لمسار اقتصاد لغوى سابق طويل انطلاقا من أنظمة لغوية سابقة أكثر تعقيدا بكثير
على أن الدحض المسهب للإعراب إنما يقدمه الدكتور أنيس، كما سبق القول، فى كتابه "من أسرار اللغة العربية" (الفصل الثلث: من ص 198 إلى ص 274).
ويقوده إحساسه غير المبرر بتعقيد الإعراب واستعصائه بالتالى على "العامة" إلى الشك فى أنه كان سليقة لديهم فى يوم من الأيام. وينطلق من هذا بقوة لا تقاوم إلى تصور غريب مؤداه أن الإعراب من صنع خاصة العرب ونحاتهم، ونجده بالتالى يصور لنا "مؤامرة" كاملة قام بها النحاة لينقلبوا إلى كهنة علم سرى يضمن لهم السيطرة الاستبدادية على اللغة والأدب والثقافة.
وقدم لنا الدكتور إبراهيم أنيس مؤامرة النحاة تحت عنوان "قصة الإعراب" على النحو التالى:
ما أروعها قصة! لقد استمدت خيوطها من ظواهر لغوية متناثرة بين قبائل الجزيرة العربية، ثم حيكت وتم نسجها حياكة محكمة فى أواخر القرن الأول الهجرى أو أوائل الثانى، على يد قوم من صناع الكلام نشأوا معظم حياتهم فى البيئة العراقية. ثم لم يكد ينتهى القرن الثانى الهجرى حتى أصبح الإعراب حصنا منيعا، امتنع حتى على الكتاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشق اقتحامه إلا على قوم سموا فيما بعد بالنحاة
ورغم حقيقة أن الإعراب ليس سوى أداة مهمة من أدوات النحو، ورغم الخلط الذى ظل يميز النحو العربى إلى يومنا هذا بين النحو والإعراب، لا يمكن لمنصف إلا أن يرى أن الإنتاج النحوى العربى على مرّ القرون لم يقتصر على الإعراب بل كانت المفاهيم النحوية مثل المبتدأ والخبر والفعل والفاعل والمفعول والظرف وما أشبه هى القضايا النحوية-الإعرابية المطروحة دوما رغم ضمور النحو لحساب الإعراب. ومن هنا فلا عجب فى أن ينشأ علم من أهم العلوم اللغوية هو النحو العربى، ولا مجال للشك فى أن كل لغة من لغات البشرية قد فعلت نفس الشئ بوجه عام، أىْ تطوير علم نحوى بالغ التعقيد.
ولو فكر هذا الناقد العلامة للنحو العربى والإعراب العربى جيدا فى أن "العامة" إنما تتمثل قسمتُهم فى النحو والإعراب السليقيَّيْن، الجمعيَّيْن، وليس فى نحو النحاة وإعراب أهل صناعة الإعراب، لأدرك أن التعقيد المفزع الذى يشكو منه فى "الإعراب" يخص النحو الوضعى، أىْ نحو النحاة، فلا صلة له بـ "العامة" الذين تتمثل قسمتُهم فى سهولة السليقة وليس فى صعوبة البحث العلمى فى النحو أو فى غيره.
والغريب أنه لم يلتفت إلى حقيقة أن وجود الإعراب فى مراحل سابقة أو راهنة للغات أخرى، بكل تعقيداته كما قد يبدو لنا بعد إسقاط الإعراب والانتقال إلى نظام آخر مختلف، إنما يعنى أن "العامة" من شعوب اللغات الأخرى، تماما مثل "الخاصة" بينهم، تستوعب بسهولة سليقية "فطرية"، كل التعقيدات من وجهة نظر مرحلة لغوية مختلفة.
ومن الجلى أن "العامة" و "الخاصة" فى لغات لا حصر لها عاشوا بلغات الإعراب قبل الانتقال إلى لغات إسقاط الإعراب فى مراحل لاحقة، فضلا عن "العامة" و "الخاصة" فى شعوب كثيرة ما تزال تعيش بلغات الإعراب.
غير أن الدكتور أنيس الذى احتشد لدحض الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية كان قد اتخذ قراره، ومن هنا فإنه لم يعرض لمشكلة من مشكلات هذه "الظاهرة" إلا وابتعد عن التناول الموضوعى، متخذا من نظرته إلى هذه المشكلة دليلا جديدا يسهم فى دحض الإعراب.
وهذا ما نجده فى هذا الكتاب أيضا بصدد اللحن الإعرابى، إذ يؤكد أننا إذا سلمنا بروايات اللحن باعتباره الخطأ الإعرابى فإننا:
لا مناص لنا من أن نعد ظاهرة الإعراب من الظواهر التى لا يمكن أن تمت للسليقة اللغوية بصلة، وذلك لأن صاحب اللغة الذى يتكلمها بالسليقة يستحيل عليه الخطأ
ويقفز من هذا إلى تأكيد نفى الإعراب كأصل فى الكلام العربى:
وعلى هذا يمكننا أن نتصور أن ظاهرة الإعراب لم تكن ظاهرة سليقة فى متناول العرب جميعا كما يقول النحاة، بل كانت كما قلت فى كتاب اللهجات العربية صفة من صفات اللغة النموذجية الأدبية، ولم تكن من معالم الكلام العربى فى أحاديث الناس ولهجات خطابهم
فليس لدى الدكتور سوى تفسير واحد وحيد للحن الإعرابى، وهو أنه يدل على أن الكلام العربى كان خاليا من الإعراب وإلا لما أخطأ "خاصة الخاصة" فى الإعراب. وسيكون هذا الاستنتاج غير المبرر تمهيدا مباشرا لتأصيل أكثر اندفاعا هو أن الأصل فى الكلام العربى كان إسكان أواخر الكلمات، وأن تحريكها بالضمة والفتحة والكسرة إنما يأتى لضرورة صوتية يتطلبها الوصل، كما سنرى بعد قليل.
وقد أوضحنا أن التفسير المعاكس للحن الإعرابى منطقى وتاريخى. فإذا كان الإعراب هو الأصل فى الكلام العربى ("فى مرحلة نقصد بها هنا عصر الرواية والاحتجاج وما قبل ذلك بطبيعة الحال") فإن التطور المنتمى إلى الاقتصاد اللغوى والمتمثل فى ترتيب الكلمات (الوظائف النحوية) فى الجملة كأساس للتمييز بين الفاعلية والمفعولية بدلا من علامات الإعراب، كان قد أدى إلى نوع من الازدواج النحوى بين الإعراب وإسقاط الإعراب، وكلما تأكد اتجاه إسقاط الإعراب فى الكلام إلى السيطرة فى الأمصار أولا ثم فى البادية كان من المنطقى أن تتراجع سليقة الإعراب على مرّ الزمن وأن تؤدى إلى اللحن الإعرابى الذى يغدو ظاهرة لا مناص منها على طريق إسقاط الإعراب.
وتحت عنوان "هل للإعراب آثار باقية؟" يجد الدكتور أنيس أن اللغات الساميّة خالية من الإعراب، أو خالية من آثاره، أو تحتوى على الضئيل من تلك الآثار . ويرى أن المستشرقين فى بحثهم عن الإعراب فى اللغات السامية كانوا متأثرين بالإعراب الهند-أوروپى الذى "كان شائعا فى لغاتهم القديمة كاليونانية واللاتينية"، هذا الإعراب الذى "فُقد من بعض اللغات الأوروپية الحديثة كالإنجليزية والفرنسية، فتصوروا أن ما حدث فى التطور التاريخى للفصيلة الهندية-الأوروپية، قد تم مثله فى الفصيلة الساميّة" ، ويرى أنهم يعتبرون "لغتنا العربية، نموذجا لأقدم صورة كانت عليها شقيقاتها الأخرى، ويفترضون أن العربية قد انعزلت فى جزيرة العرب فاحتفظت أكثر من غيرها بظواهر ساميّة قديمة" .
ولعل المستشرقين حين شاهدوا الإعراب فى اللغة العربية وخلوّ اللغات الأخرى منه، قد خضعوا لمبدئهم العام من أن العربية قد احتفظت بظواهر لغوية قديمة أكثر من غيرها، وظنوا الإعراب من بين تلك الظواهر التى ربما تعود إلى السامية الأولى. ولذا نجدهم يجهدون أنفسهم وقرائحهم فى تلمس آثار ظاهرة الإعراب فى اللغات السامية الأخرى. ثم حدثونا عن تلك الآثار بما لمسناه آنفا من آراء لا تكاد تطمئن إليها نفس الباحث المنصف
ويصل بنا على هذا النحو إلى أنه لا دليل على أن الإعراب كان قائما فى اللغات السامية، ويضيف إلى هذا حجة فقدان الإعراب فى اللهجات العربية الحديثة فيقول:
كيف اختصت اللغة العربية بهذا الإعراب؟ وكيف فقدته كل لهجاتها الحديثة التى ليست إلا طورا لها؟ كيف نتصور أن لهجات الكلام فى كل البيئات العربية، فى العراق وفى الشام وفى مصر وبلاد المغرب وفى اليمن، بل وفى البيئة الحجازية، مهد الوحى وحيث نزل القرآن الكريم وهو خير كتاب بالعربية أخرج للناس، أقول كيف نتصور أن ظاهرة الإعراب لا تترك فى كل هذه البيئات أثرا، ولا تخلف فيها ما يوحى بأن الإعراب كان شائعا على ألسنة الناس فى العصور الإسلامية الأولى كما يحاول الرواة أن يُفهمونا
ويخترع الدكتور أنيس "قاعدة لا أساس لها" مؤداها أن لغة الإعراب تترك فى لغة إسقاط الإعراب آثارا بالضرورة، بدلا من أن يدرك أننا إزاء إسقاط الإعراب أىْ الانتقال من الإعراب إلى بديله. وهو يدرك جيدا أن لغات إعراب أخرى كاليونانية واللاتينية لم تترك آثارا فى لغات إسقاط الإعراب كالإنجليزية والفرنسية، فلماذا العناد فى تطبيق هذه القاعدة العامة فى تطور اللغات على اللغة العربية التى لم تترك آثارا فى اللهجات العربية الحديثة التى تطورت عنها؟
غير أن العنوان التالى هو "بين إعرابنا وإعراب اللاتينية" (ضمن هذه العناوين الفرعية فى الفصل الثالث)، أىْ أننا إزاء اندفاع جديد نحو إلغاء ما هو مشترك بصورة جوهرية بين إعرابهم وإعرابنا وكل إعراب. ففى فصل صغير مبتسر من ثلاث صفحات (217-219) يشير إلى خطأ عقد المقارنة بين الحالات الإعرابية ("أىْ التى يفترضها النحاة") فى لغتنا ونهايات الأسماء اللاتينية بحالاتها الست: الفاعلية، النداء، المفعولية، الملكية أو الإضافة، المفعولية غير المباشرة، الآلية . غير "أننا نعرف أيضا" أن الإعراب اللاتينى يختلف لأنه ليس "كل فاعل مرفوع" وليس "كل مفعول منصوب"، إلخ. "لأن الرمز الواحد فى اللاتينية قد يرمز للفاعلية والمفعولية" كما هو الحال مع الأسماء المحايدة . وينتهى إلى ما يلى:
وهكذا نرى أن دلالة تلك المقاطع فى الأسماء اللاتينية لا تعدو أن تكون دلالة لغوية محضة syntactic، فلا تمت لمنطق عقلى أو دلالة عقلية[....]. كما نرى أن نظام تلك الحالات فى لغات الفصيلة الهندية-الأوروبية نظام معقد ذو اتجاه خاص، ولا يصح أن نقارن به نظامنا العربى
والحاصل:
ولعل أهم فرق بين رموز الأسماء اللاتينية وبين حركاتنا الإعرابية، أن الرموز اللاتينية لا تسقط مطلقا من نهاية الأسماء حين الوقف عليها كما حدث غالبا للحركات الإعرابية فى لغتنا، مما يجعلنا نرجح أن حركاتنا الإعرابية ليست رموزا لغوية تشير إلى الفاعلية أو المفعولية وغير ذلك، كما يظن النحاة
ومن الجلى أن هذا الابتسار البالغ، المقدم هنا وكأنه مقارنة بين الإعرابين العربى واللاتينى تلغى المشترك الجوهرى بينهما، لا يقدم ولا يؤخر، ولا نفهم منه إلا أن المؤلف كان شديد الرغبة فى دحض الإعراب العربى بكل حجة ممكنة.
لكن يبدو أن العنوان الفرعى التالى "مفتاح السر ظاهرة الوقف" سيحمل إلينا أخيرا سرّ حركات الإعراب الذى يتضح أنه يتمثل فى الوقف والإسكان.
ويبدأ المؤلف دحضه كما يلى:
يظهر والله أعلم: أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل فى الكلام شعرا ونثرا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملته لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على آخر كلمة من قوله بما يسمى السكون. كما يظهر أن الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل
وهو يشبِّه رأيه برأى تلميذ سيبويه، الإمام محمد بن المستنير المعروف بقطرب. وهو محقّ تماما فى هذا التشبيه، ويمكن القول إن تناوله هنا لا يزيد عن أن يكون ترديدا لرأى قطرب. ذلك أن الدكتور إبراهيم أنيس يقدم هنا بحثا عن ظاهرة الوقف. على أن البحث المطلوب هنا كان ينبغى أن يركز على إثبات أشياء محددة.
وحتى إذا سلَّمنا بأن "الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون"، باعتبار الوضع المعجمى لكل لفظة على حدة، وباعتبار أن الإسكان أو التحريك فى آخر اللفظة المفردة لن يؤدى إلى اختلاف فى المعنى المعجمى، فقد كان المطلوب إثباته ما يلى:
1: أن الكلام العربى كان يقوم بإسكان أواخر الكلمات كلما كانت الضرورة الصوتية غير قائمة (كما نفعل الآن فى لهجة القاهرة على سبيل المثال إذ أننا فى الكلام المتصل، نقوم بتحريك أو إسكان أواخر الكلمات وفقا للضرورة الصوتية).
2: "أن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل". أىْ أن التحريك صوتى بحت ولا يمت بصلة إلى الإعراب المرتبط فى مرحلة من مراحل اللغة بالنحو والوظائف النحوية.
3: أن اللغة العربية كانت لغة تعتمد على أداة ترتيب الكلمات (الوظائف النحوية) فى الجملة وليس على أداة الإعراب. أىْ إثبات أن اللغة العربية كانت فى حالة الخلوّ من الإعراب (أو فى حالة إسقاط الإعراب بافتراض أنه كان قائما فى مرحلة أسبق). ومن الواضح أن إثبات الخلوّ من الإعراب والاعتماد على ترتيب الكلمات فى الجملة العربية إنما يعنى إثبات أن أ: الإسكان هو الأصل حتى فى الكلام المتصل وأن ب: التحريك يأتى فى الكلام المتصل لضرورة صوتية ليس إلا.
ولا سبيل فى الحقيقة إلى إثبات كل هذا إلا بإثبات أن اللغة العربية فى كل النصوص المحفوظة والمكتوبة من عصر الرواية والاحتجاج، وفى النصوص المكتوبة بعد ذلك بالتقيد بالتقاليد النحوية لذلك العصر، كانت تقوم بصورة لا جدال فيها على نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة أىْ على النسق المرتبط بعدم وجود الإعراب، والمستغنى عن كل علامات الإعراب، باستخدام هذا الترتيب للكلمات الذى يساعد مع المعنى والقرائن الأخرى على تمييز الوظائف النحوية. وليس هذا هو الحال بحال من الأحوال، إذ إن كل هذه النصوص لا تحتوى على نسق تقييد ترتيب الكلمات إلا كأحد البدائل، إلا كشكل من أشكال بناء الجملة، بالاعتماد الصارم المطرد على الإعراب الذى قيس على وجوده ما يسمى باللحن الإعرابى.
ومهما كانت محاضرة الدكتور أنيس عن الوقف بليغة فإننا لا نجد أية محاولة ناجعة للإثبات المباشر للأشياء السابقة.
كذلك فإن الأشياء المطلوب إثباتها فى البنود السابقة، يستحيل إثباتها ولا معنى لإثباتها بدون إثبات أن التحريك لا يطرد فيه مطلقا اقتران حركة بوظيفة نحوية بعينها. وعلى سبيل المثال فإن إثبات الخلوّ من الإعراب (وبالتالى إثبات الطابع الصوتى البحت للتحريك) إنما يكون بإثبات أن الفاعل مثلا لا يطرد معه الرفع بالضمة أو بعلامات الرفع الأخرى (مالم تؤثر على رفعه عوامل أخرى) وأنه على العكس من ذلك يأخذ أىّ حركة من ضمة أو فتحة أو كسرة لأسباب صوتية بحتة.
وفى هذا يقول صاحب كتاب "ظاهرة الإعراب فى العربية":
وقد ردّ القدماء على قطرب فى زعمه هذا بأنه لو كان كما زعم لجاز خفض الفاعل مرة ورفعه أو نصبه مرة أخرى وجاز نصب المضاف إليه لأن القصد فى هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام
والذى لا جدال فيه هو أن الحركات فى النصوص العربية المشار إليها تثبت، كما سبق القول، اطراد اقتران الحركة بالوظيفة النحوية؛ اطراد الرفع مع الفاعلية والنصب مع المفعولية إلخ فى الألفاظ المفردة المعربة. ولا يستقيم رأى الدكتور أنيس إلا فى حالة واحدة هى افتراض أن "النحاة" بدلوا بالحركات التى كانت مجرد حركات صوتية حركة مطردة فى آخر كل كلمة مع وظيفتها النحوية، بعد أن كانت تأتى فى الكلام العربى المتصل مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة الأواخر، وبافتراض أن هذا التبديل شمل كل النصوص العربية.
وتحت عنوان فرعى خامس "ليس للحركة الإعرابية مدلول" يكرر المؤلف أيضا فكرته الشهيرة:
لم تكن تلك الحركات الإعرابية تحدد المعانى فى أذهان العرب القدماء كما يزعم النحاة، بل لا تعدو أن تكون حركات يحتاج إليها فى الكثير من الأحيان لوصل الكلمات بعضها ببعض
وبعد أن يورد قراءات قرآنية بالإسكان، ينتقل الدكتور المؤلف إلى ما يسميه "موقف الفاعل من المفعول فى الجملة العربية" يقول:
نكتفى هنا ببيان قصير عن موضع الفاعل من الجملة، وموضع المفعول منها، كى نبرهن على أن الفاعل لا يعرف بضم آخره، ولا المفعول بنصب آخره، بل يعرف كل منهما فى غالب الأحيان بمكانه من الجملة الذى حددته أساليب اللغة، وما روى منها من آثار أدبية قديمة، فإذا انحرف أحدهما عن موضعه تتبعناه فى موضعه الجديد بسهولة ويسر، ودون لبس أو إبهام لأن الجملة حينئذ تشتمل على ما يرمز إليه، ويدل عليه، وذلك لأن التركيب مع هذا الانحراف قد تتغير معالمه، أو لأن ظروف الكلام، توحى به وترشدنا إليه
ويؤكد المؤلف أن:
الفاعل فى أغلب الكلام العربى يلى الفعل ويسبق المفعول، ولا يتأخر الفاعل إلا فى أحوال:
1- منها أسلوب الحصر أو القصر نحو: وما يعلم تأويله إلا الله.
2- ومنها طول الكلام مع الفاعل وتوابعه، مما قد يغمر المفعول به، ولا نكاد نتبينه حين يتأخر مثل قوله تعالى "وإذا حضر القسمةَ أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه" ومثل: "سيصيب الذى أجرموا صغارٌ عند الله وعذاب شديد" ومثل: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها"، ومثل: "إما يبلغن عندك الكبر أحدُهما أو كلاهما".
3- وحين يشتمل الفاعل على ضمير يعود على المفعول مثل: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقُهم"، ومثل: "لا ينفع نفسا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا" ومثل: "وإذا ابتلى إبراهيم ربُّه"
ولا جدال فى أن القول بأن الفاعل يتقدم فعله ويليه مفعوله فى أغلب الكلام العربى فى ترتيب عناصر الجملة قول مرسل لم يقدم أحد إثباتا مقنعا له، وربما كان من المستحيل إثباته، بسبب الكثرة الهائلة من مليارات الجمل العربية التى ينبغى (ولكنْ يستحيل) فحصها من هذه الزاوية لإثباته. ولا شك فى أن هذه العقبة التى لا يمكن تصوُّر أن يفكر أحد مجرد تفكير فى إزالتها هى السرّ وراء لجوء هذا الباحث أو ذاك ليس إلى الاعتبارات النحوية المنطقية بل إلى مجموعة منتقاة مهما اتسعت من الجمل أو إلى أقوال مرسلة لآخرين لإثبات أن الجملة العربية السائدة هى "الفعلية" عند هذا و "الاسمية" عند ذاك.
ولكنْ حتى بافتراض تقدم الفاعل على المفعول، وهو، على كل حال، السائد فى لغة إسقاط الإعراب، كما أنه على كل حال أحد الترتيبات الممكنة فى لغة إسقاط الإعراب بل ربما كان أكثرها شيوعا، فإن تمييز الوظائف النحوية يحتاج إلى قاعدة شاملة تعتمد على علامات الإعراب فى لغة الإعراب وعلى المكان فى لغة إسقاط الإعراب. ولا شك فى أن قرينة أو أكثر يمكن أن تغنى فى الجملة الواحدة عن الاعتماد على الإعراب (وحتى عن ترتيب الكلمات) كأنْ يكون الفعل مسندا إلى مؤنث مع مفعول به مذكر، أو كأن يكون المعنى واضحا بذاته دون إعراب مثل "أكلت زينب تفاحة"، إلخ إلخ، غير أن كل هذا لا ينفى أمرين: 1: أن هناك حاجة إلى علامات الإعراب فى لغة تقوم على الإعراب بغض النظر عن وجود أو عدم وجود قرائن 2: أن اللغة العربية ضمن لغات عديدة من مجموعات لغوية عديدة اطرد فيها فى مراحل بعينها الإعراب واقتران علاماته بالوظائف النحوية كنسق عام وأداة عامة لتمييز هذه الوظائف فى وجود أو عدم وجود ما يساعد على هذا التمييز من مقتضيات قرائن المعنى المعقول أو اللفظ الدال على النوع أو العدد أو غير ذلك. ولم يقل بغير هذا إلا قليل من المجتهدين من أمثال قطرب والدكتور إبراهيم أنيس.
والعنوان الفرعى السادس هو "التقاء الساكنين"، وهو قسم صغير يبدأ بالنظر إلى الكلام المتصل ككتلة صوتية واحدة ثم ينتقل إلى ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين:
دلت البحوث الصوتية الحديثة على أن الأصل فى كل كلام أن تتصل أجزاؤه اتصالا وثيقا، وأن تتداخل مقاطعه. فإذا سجلنا على لوح حساس جملة مكونة من عدة كلمات، وجدنا ما يظهر على اللوح خطا متعرجا أو متموجا ترمز أعاليه لأوضح الأصوات، وأسافله لأقلها وضوحا فى السمع [...] ونرى هذا الخط متصلا لا انفصام بين أجزائه، وليس فيه ما يرمز إلى نهاية كلمات هذه الجملة، ونرى فى ثناياه مقاطع قد ينتمى جزء من أحدها إلى أول الكلمة، وينتمى الجزء الثانى إلى آخر الكلمة السابقة عليها، مما يؤكد لنا أن الكلمات فى وصل الكلام لا تكاد تتميز معالمها ولا تستقل بأجزائها، بل يتداخل بعضها فى بعض ويصبح الكلام كتلة واحدة، ولا يميز بين الكلمات إلا صاحب اللغة، والعارف بمعانيها
ويشير إلى أنه:
"لا يعنينا فى بحث حركات الإعراب من ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين، إلا حين تكون بين كلمتين متجاورتين"
وينتهى إلى أن النحاة:
سمعوا التخلص من التقاء الساكنين بالكسر أحيانا، وبالضم أحيانا، وبالفتح أحيانا، ولكنهم قصروا أمره على تلك الكلمات التى لا يعقل أن تنسب لها الفاعلية أو المفعولية ونحو ذلك، ثم اعتقدوا أن تحريك أواخر الكلمات الأخرى ولا سيما الأسماء كان لمعنى يوحى به هذا التحريك ويشير إليه
وباختصار فإن التخلص من التقاء الساكنين فى الكلمات المتجاورة أدى إلى تحريك آخر الكلمة الأولى تحريكا صوتيا بعيدا تماما عن الدلالات الإعرابية "المزعومة"، وهذا حق. غير أن امتداد تحريك سكون آخر الكلمة الأولى إلى "الأسماء" هو الذى يضعنا من جديد أمام الطبيعة الصوتية البحتة أو الصوتية الإعرابية لهذا التحريك، ولكنْ هل هذا التخلص صوتىّ بحت بسبب "إيثار بعض الحروف لحركة معينة" أو "الميل إلى تجانس الحركات المتجاورة" ؟ أم أن الإعراب يفرض نفسه (إذا كانت الكلمة الأولى ذات وظيفة نحوية كأن تكون الفاعل مثلا) بصورة تجبّ إيثار حرف لحركة أو تجانس الحركات المتجاورة (مثلا: هذه نتيجةُ الخروج ليلا، أرأيت نتيجةَ الخروج ليلا، انظر إلى نتيجةِ الخروج ليلا؛ بافتراض أن الأصل إسكان لفظة "نتيجة" وأن المطلوب هو التخلص من سكون أول الكلمة التالية)؟ أىْ أننا هنا، كما رأينا مع ظاهرة الوقف، أمام اطراد اقتران حركة أو علامة بعينها بوظيفة نحوية بعينها، بغض النظر عن الضرورة الصوتية القابلة لتحقيق نفسها بأىّ حركة من الحركات الثلاث: الضمة، الفتحة، الكسرة.
والعنوان الفرعى السابع هو "رأى فى الإعراب بالحركات" وهنا يؤكد الدكتور إبراهيم أنيس من جديد رفضه لفكرة التحريك الإعرابى وتأييده للتحريك الصوتى:
نحن إذن نرجح أن تحريك أواخر كل الكلمات لم يكن فى أصل نشأته إلا صورة للتخلص من التقاء الساكنين، غير أن النحاة حين أعيتهم قواعده وشق عليهم استنباطها، فصلوا بين عناصر الظاهرة الواحدة. ولعلهم تأثروا فى نهجهم هذا بما رأوه حولهم من لغات أخرى كاليونانية مثلا، ففيها يفرق بين حالات الأسماء التى تسمى cases، ويرمز لها فى نهاية الأسماء برموز معينة. وكأنما قد عز على النحاة ألا يكون فى العربية أيضا مثل هذه الـ cases.
فحين وافقت الحركة ما استنبطوه من أصول إعرابية قالوا عنها إنها حركة إعراب، وفى غير ذلك سموها حركة أتى بها للتخلص من التقاء الساكنين.
الأصل إذن فى جميع كلمات اللغة ألا تحرك أواخرها إلا حين تدعو الحاجة إلى هذا، أو بعبارة أخرى حين يدعو النظام المقطعى وتواليه إلى هذا التحريك
ويتخذ التفسير الصوتى شكلا جديدا:
وهكذا ترى أن ما سماه القدماء بالتقاء الساكنين ليس فى الحقيقة إلا توالى ثلاثة أو أربعة حروف consonants فى وسط الكلام. وإذا كان نظام توالى الحروف لا يسمح بمثل هذا فى الجمل والعبارات، فمن باب أولى لا يسمح به فى الكلمة الواحدة
وكذلك:
فإذا حللنا معظم عبارات اللغة وجملها نجد أن ما سمى بحركات الإعراب يمكن أن تعدَّ حركات للتخلص من توالى ثلاثة أو أربعة حروف فى وسط الكلام
والخلاصة:
لهذا كله نرجح أن حركات أواخر الكلمات لم تكن تفيد تلك المعانى التى أشار إليها النحاة من الفاعلية والمفعولية ونحو ذلك، وإنما هى حركات دعا إليها نظام المقاطع وتواليها فى الكلام الموصول
إنها نفس حجج التحريك الصوتى ولا ردّ عليها سوى نفس السؤال عن اطراد اقتران حروف الإعراب بالوظائف النحوية مع الألفاظ التى تعرب بالحروف وليس بالحركات (المثنى وجمع المذكر السالم إلخ)، إذا ضربنا صفحا عن "مؤامرة النحاة" وتبديلهم لأواخر الكلم فى كل النصوص السابقة عليهم والمعاصرة لهم.
والعنوان الفرعى الثامن والأخير (فى هذا الفصل الثالث) هو "رأى فى الإعراب بالحروف" وهو قسم صغير يقدم الإعراب على النحو التالى:
فرغ النحاة من تفسيرهم للضم والكسر والفتح فى أواخر معظم الكلمات العربية، واطمأنت نفوسهم لهذا التفسير، وسموه الإعراب بالحركات، ثم عمدوا إلى تلك الكلمات والصيغ التى لم يستطيعوا فيها تغييرا أو تحويرا كالمثنى وجمع المذكر السالم وما يسمى بالأفعال الخمسة، والأسماء الخمسة، فطبقوا عليها أصولهم وقواعدهم، ثم خرجوا علينا بنوع آخر من الإعراب سموه الإعراب بالحروف، ولما رأوا أن للمثنى صيغتين، وجمع المذكر السالم صيغتين، ولكل من الأفعال الخمسة صيغتين، اتخذوا إحدى الصيغتين للرفع واتخذوا الأخرى لغير الرفع
ولأن هذه ليست حروف إعراب فى نظر المؤلف فإنه يهتم بتفسيرها تفسيرا صوتيا، ونظرا لأن التفسير الصوتى لتطور صيغة أو صيغ صرفية مثلا لا يستبعد الإعراب الذى لا يستبعد بدوره التفسير الصوتى لمثل هذا التطور، حق لنا أن نتساءل: كيف أمكن أن يتصور المؤلف أن تفسيره الصوتى يلغى أن تكون هذه الحروف للإعراب؟ فإذا كان الإعراب حقيقة فإن حركاته لن تخرج عن الضمة والفتحة والكسرة (وذلك فى كل لغة). وعندما يعطى الصرف لصيغ بعينها كالمثنى وجمع المذكر السالم والأسماء الخمسة أو الستة والأفعال الخمسة نهايات لا يقوم التمييز النحوى- الإعرابى لأواخرها على الحركات، فإن هذه النهايات الصرفية-النحوية المتمايزة (الألف والنون والواو والنون والياء والنون إلخ) تقوم بالوظيفة الإعرابية المطلوبة مهما كانت الطريقة التى نشأت بها هذه النهايات من الناحية الصوتية.
ويمكن القول أخيرا إن الكتور إبراهيم أنيس احتشد - احتشادا لا يقوى عليه سوى عالم لغوى عظيم مثله - لدحض الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية ولتقديم فكرته القائلة بأنه من صُنْع نخبة اللغة النموذجية ثم من صُنْع النحاة، غير أن بحثه الشامل لا ينجح فى إثبات زعمه. ذلك أن التحريك لوصل الكلام باعتباره ظاهرة صوتية لا يمكن أن يلغى حقيقة الإعراب بحكم طابع هذا التحريك، ولا ينتبه المؤلف إلى ما كان عليه إثباته. ولأنه عالم لغوى عظيم نادر المثال فى لغتنا العربية فقد قدم أفكارا تثبت أو تشرح أو تفسر أشياء كثيرة يمكن أن تفيد فى تطوير النحو العربى غير أنها لا تدحض حقيقة أنه لا سبيل إلى إنكار أن هذا الإعراب كان أصلا من أصول اللغة العربية المضرية القريشية بصورة شاملة فى مرحلة كبرى من مراحلها، مع التسليم بأن خروجه من السليقة أدى إلى الازدواج اللغوى الذى تعيشه اللغة العربية منذ قرون طويلة (منذ أكثر من عشرة قرون فى البادية ومنذ أكثر من اثنى عشر قرنا فى الأمصار مع التسليم ببدء هذا الازدواج منذ وقت أطول بكثير كما تتواتر الروايات) بين استمرار الإعراب فيما يسمى بالفصحى وإسقاطه فيما يسمى بالعامية.














17
محاولة مجمع اللغة العربية ووزارة المعارف المصرية
لإصلاح النحو العربى فى 1945

لن يفوتنى، ونحن نتجه إلى نهاية هذا الكتاب، أن أقف هنا - وقفة متأنية قدر الإمكان - عند أهم وأنضج محاولة لإصلاح وتيسير النحو العربى فى العصر الحديث؛ أعنى محاولة وزارة المعارف المصرية (وزارة التربية بعد حركة 1952) منذ 1938 ومجمع اللغة العربية فى دورته الحادية عشرة فى 1945 .
وكان كتاب "تحرير النحو العربى: قواعد النحو العربى مع التيسير الذى قرره مجمع اللغة العربية بالقاهرة"، الصادر عن دار المعارف فى 1958، أنضج ثمرة لتلك المحاولة، جنبا إلى جنب مع قرارات المجمع بهذا الشأن.
ونقرأ فى تقديم ذلك الكتاب ما يلى:
لقد اتصلت المحاولات، وألفت وزارة "المعارف" المصرية – التربية الآن – سنة 1938 لجنة من كبار الأساتذة فى الجامعة وفى وزارة "المعارف" لتبحث وسائل التيسير فى تعليم القواعد العربية، وأدت اللجنة عملها وقدمت تقريرها ونحت فيه وجهة جديدة ببعض الاصطلاحات النحوية، وفى ترتيب القواعد وتقسيم الأبواب – أعفت التلميذ مما كان يسمى بالإعراب التقديرى والمحلى، وكان تعليمه زيادة من غير فائدة فى ضبط لفظ أو تقويم لسان، وقللت الأبواب فجعلت المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل بابا واحدا أسمته المسند إليه، كما سماه علماء البلاغة والمتقدمون من النحويين، وتوصلت بذلك إلى قدر من التيسير
ويواصل التقديم موضحا الجديد فى هذه المحاولة:
وكان الإصلاح متجها من قبل إلى تلخيص القواعد، وتخليصها من التطويل أو الجدل، أو طريقة عرضها أو وسائل توضيحها، وفى هذه المحاولة اتجه الإصلاح إلى ذات القواعد، ولم ينكل عن تغيير فى ترتيبها على شرط ألا يمس ذلك التعديل شيئا من جوهر اللغة ولا أصلا من أصولها، أو يبدل حكما من أحكامها
ويروى التقديم مسار الصعود المتردد المتعثر لتلك المحاولة:
وأُرسل هذا التقرير إلى الجهات التى تعنى بدراسة القواعد لترى فيه رأيها، وقد درسته جهات تعليمية وأخذت ببعض ما فيه، ودرسه مجمع اللغة العربية بمصر، وناقشه فى مؤتمره الذى عقد فى سنة 1945 وأقرّ ما أقرّ منه، وآن أن يتخذ طريقه إلى التعميم ويستفيد منه المتعلمون، ولكن تنفيذه كان يثير بعض التردد والخشية، فإن الرجوع عن المألوف أمر غير يسير، شديد على من تلقنه ودرسه ثم لقنه، أن يعدل عنه وقد صار جزءا من آرائه ومددا لتفكيره
ويواصل:
وقد أحست اللجنة ذلك منذ تقدمت بما اقترحت. جاء فى تقريرها: "ومهما يكن ظننا حسنا بهذا الإصلاح الذى نقترحه فإننا نريد أن تتأنى الوزارة فى الأخذ به وأن تهيئ لذلك أسبابه. وأيسر هذه الأسباب أن يتعوده المعلِّمون، وألا يقبلوا على تعليمه إلا بعد أن يثقفوه ويسيغوه ويتمثلوه"
ويضيف:
وقفت هذه الصعوبة فى سبيل تنفيذ هذا الإصلاح أكثر من عشر سنوات، إلى أن جاءت الثورة المصرية سنة 1952
ويلخص التقديم القصة اللاحقة لنجاح المحاولة، فيشير إلى عقد مؤتمر بالقاهرة خلال الفترة 1-12 يونيو سنة 1957 حضره الأساتذة مفتشو اللغة العربية بالمرحلة الإعدادية "تناقش فيه السادة المفتشون ومن اختير معهم من الأساتذة، وتداولوا درس هذه الاقتراحات وسبيل تنفيذها، واتخذ المؤتمر فى ذلك قراراته" . ثم أقيم مؤتمر جمع المدرسين الأوائل فى هذه المدارس وقرر ارتياحه للمنهج الجديد ورغبته فى إنجازه .
وعلى هذا يقدم الكتاب نفسه بقوله:
أُلِّف هذا الكتاب الذى نقدمه الآن ليكون مرجعا قريبا للمعلم، يجمع تلخيص قواعد النحو، ويشمل ما أقرّ من اقتراحات الإصلاح والتيسير.
وإنا لنرجو أن يكون عملا متصلا فى سبيل "تحرير النحو" وتجديده، ولذلك سميناه "تحرير النحو العربى"
ونعلم جميعا أن هذه المحاولة التاريخية، التى كانت أهم وأنضج محاولة من نوعها، انتهت إلى الفشل الذريع. وهو فشل يرجع من ناحية إلى عيوبها ونقاط ضعفها التى تتلخص فى أنها لم تكن بالعمق والنضج الكافيين، ويرجع من ناحية أخرى إلى نفوذ القوى المعادية لكل تجديد للنحو العربى، فى مصر والعالم العربى، فى تلك الفترة (وليس فيها وحدها بالطبع).
على أن ذلك الفشل طوال نصف قرن لا يعنى الفشل إلى الأبد، ذلك أن إحياء وتطوير تلك المحاولة يظلان قضية من قضايا تطور اللغة العربية، كما يتدخل الآن عامل جديد يتمثل فى أن اللغة التى لا يتطور نحوها بالقدر الكافى للوفاء بمتطلبات ومقتضيات عصر علم وتقنية معالجة المعلومات آليا لن تكون قادرة على مجرد البقاء. ولا شك فى أن أىّ محاولة جديدة لتطوير النحو العربى سيكون عليها أن تستفيد من نقاط قوة تلك المحاولة البالغة الأهمية، وأن توجِّه النقد العميق الحاسم إلى نقاط ضعفها التى ساعدت على فشلها وضربها وإجبار المجمع ووزارة التربية والتعليم على إهمالها أو التخلى عنها أو التنصل منها.
وعلى هذا نعود الآن إلى تقرير لجنة وزارة المعارف المصرية، وإلى قرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم إلى كتاب تحرير النحو العربى، لنقف على الأفكار والتطبيقات الأساسية لمحاولة إصلاح وتيسير النحو العربى، وهذا الأخير هو الذى يهمنا هنا، ولهذا سنكتفى باستعراض ومناقشة ما يخص النحو وحده دون الصرف والبلاغة فهذان الأخيران لا يدخلان فى موضوع هذا الكتاب.
وكان حضرة صاحب المعالى بهى الدين بركات باشا، وزير المعارف المصرية، قد أصدر فى 1938 قرارا بتأليف "لجنة مهمتها البحث فى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة" ... "وقد اتصلت اجتماعات اللجنة للنهوض بهذه المهمة" وانتهت إلى "طائفة من الاقتراحات" رفعتها إلى الوزارة "لا على أنها المثل الأعلى لما ينبغى الوصول إليه من تيسير النحو والبلاغة، بل على أنها خطوة معتدلة موفقة فى سبيل هذا التيسير قد تتاح بعدها خطوات أدنى إلى التوفيق وأقرب إلى الكمال". ثم عرضت الوزارة تقرير اللجنة على المجمع، و"عقدت لجنة تيسير القواعد المتفرعة من لجنة الأصول بالمجمع عدة اجتماعات للبحث فى هذا التقرير" ، وقدمت مقترحاتها إلى مؤتمر المجمع (الدورة الحادية عشرة المنعقدة فى الفترة من 23 من نوفمبر سنة 1944 إلى 28 من مايو سنة 1945)، فأقرها مؤتمر المجمع مع إدخال بعض التعديل .
وكانت لجنة وزارة المعارف تتألف من: الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب، والأستاذ أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب، والأستاذ على الجارم مفتش أول اللغة العربية، والأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم المفتش بالوزارة، والأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ المساعد بكلية الآداب، والأستاذ عبد المجيد الشافعى الأستاذ بدار العلوم. وجدير بالذكر أيضا أن كتاب تحرير النحو العربى كان من تأليف الأساتذة: إبراهيم مصطفى، ومحمد أحمد برانق، ومحمد أحمد المرشدى، ويوسف خليفة نصر، والدكتور عبد الفتاح شلبى، ومحمد محمود رضوان، والدكتور محمود رشدى خاطر، ومحمد شفيق عطا .
وتوضح ديباجة تقرير اللجنة الوزارية الإطار العام الذى التزمت به والنهج العام الذى اتبعته:
وقد شرط علينا فى القرار الوزارى وشرطنا نحن على أنفسنا ألا ينتهى بنا حب التيسير إلى أن نمس من قريب أو بعيد أصلا من أصول اللغة أو شكلا من أشكالها، وإنما أخذنا أنفسنا بتيسير القواعد والأصول بحيث نقرِّبها من العقل الحديث (...) فلن يكون من نتائج التيسير أن يتغير وضع من أوضاع اللغة، أو يلغى أسلوب من أساليبها أو يهمل استعمال من استعمالاتها (...) بل حرصنا على أكثر من هذا فأخذنا أنفسنا بألا نعدل عن القديم لأنه قديم، وبألا نغير فيما اتفق عليه النحاة من القوعد والأصول إلا بمقدار، حين لا يكون من هذا التغيير بد، وقد اجتهدنا فى أن نتلمس من مذاهب النحاة القدماء ما عسى أن يكون أقرب إلى العقل الحديث وأيسر على الناشئين فنأخذ به ونضعه مكان المذهب المشهور الذى قد يجد المعلمون والمتعلمون فيه من الجهد والمشقة ما يمكن أن يتخفف منه دون أن ينشأ عن ذلك شر قليل أو كثير
ويلاحظ التقرير "أن أهم ما يعسر النحو على المعلمين والمتعلمين ثلاثة أشياء": 1- "فلسفة حملت القدماء" على الإسراف "فى الافتراض والتعليل" 2- "إسراف فى القواعد" وبالتالى "فى الاصطلاحات" 3- "إمعان فى التعمق العلمى باعد بين النحو والأدب". ويؤكد التقرير أن اللجنة حاولت تخليص النحو من هذه العيوب الثلاثة .
وقد أصابت اللجنة عندما التزمت بألا تمس أصول اللغة وأشكالها وأساليبها بحال من الأحوال، غير أن عدم تغيير "ما اتفق عليه النحاة من القواعد والأصول إلا بمقدار" يوحى بأن اللجنة تنظر إلى أقوال النحاة وكأنها من أصول اللغة، وهذا ما يوحى به أيضا تحديدها لمهمتها على أنها "تيسير القواعد والأصول". وكان ينبغى أن تميز اللجنة بوضوح بين قواعد أو أصول اللغة وقواعد نحو النحاة، فلا أحد من حقه أن يمس اللغة إلا الجماعة الناطقة بها وبصورة جمعية، أما نحو النحاة اتفقوا أو لم يتفقوا فمجال مفتوح دوما للبحث والاجتهاد والتغيير والإلغاء. وإذا كانت اللجنة قد جعلت ذلك النحو مجالا مفتوحا بالفعل لكل هذا، وإلا لما استطاعت أن تقوم بهذه المحاولة التاريخية للإصلاح والتيسير، فإن من الجائز أن هذه التصورات "المعتدلة" عن "التيسير" وعدم تغيير ما اتفق عليه النحاة "إلا بمقدار" وما إلى ذلك أغلقت آفاقا ربما كانت رحبة أمام تلك المحاولة لتطوير النحو العربى بما أدى فى النهاية إلى المزيد من نقاط الضعف وإلى ضرب المحاولة من داخلها الأمر الذى ساعد خصومها على ضربها من خارجها.
وقبل أن نقف عند الجانب الأكثر أهمية بين اقتراحات اللجنة الوزارية وقرارات المجمع، ونقصد به الإصلاح النحوى للجملة، والذى ينطوى أيضا على أبرز نقاط ضعف تلك المحاولة فى مجال النحو كما فى مجال الإعراب، نشير بسرعة إلى بعض الجوانب الأخرى.
وينص القرار (3) من قرارات المجمع على أن "يبقى التقسيم للكلمة وهو لأنها اسم أو فعل أو حرف" . والحقيقة أن هذا التقسيم يُعَدّ من نقاط ضعف النحو العربى والمعجم العربى، كما أشرنا غير مرة، ولهذا فإن من المؤسف أن تخلو هذه المحاولة الكبرى للإصلاح من أىّ إصلاح لهذه النقطة.
أما الإعراب المحلى والإعراب التقديرى فترى اللجنة الوزارية "وجوب الاستغناء" عنهما ، وينص القرار (4) على ذلك . وقد ناقشنا رأى اللجنة الوزارية وقرار المجمع بشأن هذه النقطة فى فصل سابق (الفصل 14 حول الإعرابين المحلى والتقديرى).
وترى اللجنة الوزارية اعتبار كل علامة من علامات الإعراب أصلية فى موضعها بلا تمييز بين علامات (حركات) أصلية وعلامات فرعية وبلا حديث عن نيابة علامة فرعية (حركات أو حروف) عن علامة (حركة) أصلية ، وينص قرار المجمع (5) على ذلك . ويؤيد كاتب هذه السطور هذا الرأى بلا تحفظ.
وينص القرار (6) على ما يلى:
يُقتصر على ألقاب الإعراب ولا يكلف الناشئ بيان حركة المبنى أو سكونه، سواء أكان له محل أم لم يكن، اكتفاء بأن المبنى يلزم آخره حركة واحدة، ولا يكلف الطالب عند تحليل جملة بها كلمة مبنية ذات محل إلا أن يقول إنها مبنية وإن محلها كذا ...
والمقصود بالمحل هو بالطبع المحل من الإعراب (الرفع، النصب، الجر، الجزم). وهذا شكل من أشكال التورط فى الإعراب المحلى للمبنيات، ومن ناحية أخرى فإن التخفف من الصيغ المألوفة فى الإعراب أو الإقلاع عنها لا يعنى أن هناك ما يمكن أن نأخذه على بيان حركة آخر الكلمة المبنية فلا غبار على مثل هذا البيان.
والحقيقة أن تناول تقرير اللجنة الوزارية لهذه النقطة مضطرب بعض الشيء فهو يشير إلى الرفع والنصب والجر والجزم باعتبار أن النحاة جعلوها ألقابا لحركات الإعراب وإلى الضم والفتح والكسر والسكون باعتبار أن النحاة جعلوها ألقابا لحركات البناء. وعلى هذا يعرب النحاة المعرب مرفوعا أو منصوبا على حين يعربون المبنى مضموما أو مفتوحا. وترى اللجنة الوزارية أن "هذه التفرقة دعتهم إليها الدقة بل الإفراط فى الدقة والسخاء فى الاصطلاحين"، وعلى هذا "ترى اللجنة أن يكون لكل حركة لقب واحد فى الإعراب وفى البناء وأن يكتفى بألقاب البناء" . وهذا رأى غريب حقا. إذ كيف يمكن أن يكون الرفع ملائما للمبنى مع أن الرفع إعراب والإعراب يخص المعرَب وحده؟ وكيف يمكن أن يتفق هذا مع إلغاء الإعراب المحلى للمبنيات؟ وكيف يمكن الاكتفاء بألقاب الإعراب مثل الضم فيما يتعلق بالمعرب أيضا، عى حين أن المعرب يرفع بالضمة وبغيرها؟ وكيف يمكن وصف الرفع والنصب والجر والجزم بأنها حركات الإعراب مع أنها أحوال أو أنواع الإعراب ولكل حالة أو نوع علاماته من حركات وغيرها؟!
وننتقل الآن إلى أعظم إنجازات لجنة وزارة المعارف المصرية ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، ويتمثل هذا الإنجاز المتعدد الجوانب والبعيد المدى فى نتائجه النحوية والإعرابية فى الرأى أو الاقتراح أو القرار الخاص بالجملة و"أجزاء" الجملة.
إننا نجد أنفسنا إزاء أمرين من شأنهما معا إحداث انقلاب كبير إلى الأمام فى النحو العربى:
الأول: إحلال مفهوم الجملة العربية الواحدة محل مفهوم الجملتين الاسمية والفعلية.
الثانى: إحلال المسند إليه والمسند محل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء؛ حيث يحل المسند محل الخبر بكل أنواعه وكذلك محل فعل الجملة الفعلية. فيما يحل المسند إليه محل باقى تلك المرفوعات أىْ: محل كل من مبتدأ الجملة الاسمية وبالتالى محل اسم إن وأخواتها واسم كان وأخواتها وأسماء أفعال المقاربة والرجاء والشروع كما يحل محل فاعل الجملة الفعلية ومحل نائب الفاعل (أىْ فاعل الفعل المبنى للمجهول أو المفعول). ومعنى هذا أن قرار المجمع يلغى نهائيا قاعدة الفعل الذى يتقدم فاعله وقاعدة الفعل الذى يتأخر على المبتدأ وجوبا؛ ومن الجلى أن هاتين القاعدتين تمثلان محور أو عمود النحو العربى التقليدى، أىْ نحو النحاة أو النحويين أو النحو الوضعى أو النحو العلمى إنْ شئت النسبة إلى علم النحو العربى.
وبدون تعليل أو تفسير أو تفصيل (وهذا عيب جوهرى فى هذه المحاولة من أولها إلى آخرها)، يجرى الحديث عن الجملة دون إشارة إلى الجملتين الاسمية والفعلية على الإطلاق، أىْ أنه لم يجر النص المباشر على إلغاء هذا الازدواج رغم الإلغاء العملى.
وفى رأى اللجنة الوزارية "تتألف الجملة من جزأين أساسيين ومن تكملة" وقد استعرضت اللجنة الوزارية تسميات أو أسماء متعددة للجزأين الأساسيين وهى: 1: المسند إليه والمسند 2: الموضوع والمحمول 3: الأساس والبناء 4: المحدَّث عنه والحديث. وفضلت هذه اللجنة تسمية الموضوع والمحمول كما اصطلح علماء المنطق . وينص القرار (6) من قرارات المجمع على ما يلى: "يسمى ركنا الجملة بالمسند إليه والمسند" ، كما ينص القرار (11) على أن "كل ما ذُكر فى الجملة غير المسند إليه والمسند فهو تكملة" .
هناك إذن جملة عربية واحدة مرنة فى الترتيب محل الجملتين الاسمية والفعلية المزعومتين فى النحو العربى التقليدى. ومحل الركنين الأساسيين للجملة الاسمية (المبتدأ والخبر) والركنين الأساسيين للجملة الفعلية (الفعل والفاعل) يحل المسند إليه والمسند.
على أنه لا جديد فى المسند إليه والمسند فى النحو العربى فهما موجودان منذ القديم. وإنما يتمثل الجديد فى هذه المحاولة فى إحلالهما محل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء بدلا من تهميشهما كما كان الحال فى النحو العربى التقليدى على مر القرون، كما يتمثل الجديد فى أن هذا الإحلال (بدلا من التهميش) قد ألغى (بصورة آلية مباشرة) التقسيم التقليدى للجملة إلى اسمية وفعلية، كما ألغى اعتبار الفعل اللاحق "للمبتدأ" جملة، إلى جانب الكثير من النتائج النحوية والإعرابية.
على أننا نلاحظ أن المسند إليه والمسند يجرى تقديمهما على أنهما ركنان أساسيان فليسا ركنين وحيدين كما كان ينبغى، وقد أشرنا غير مرة فى سياق هذا الكتاب إلى أن المسند إليه والمسند هما الركنان الوحيدان وليس فى الجملة كلمة واحدة خارج هذين الركنين. وتماما كما يميز النحو العربى التقليدى فى الجملتين الاسمية والفعلية بين ركنين أساسيين وفضلة، تميز هذه المحاولة الوزارية المجمعية فى الجملة العربية الواحدة بين ركنين أساسيين وتكملة. وبدلا من النظر إلى هذه الأخيرة ("التكملة") على أنها جزء لا يتجزأ من المسند، وعلى أنها ليست تكملة بحال من الأحوال إذ تقتضيها نماذج للجملة كعناصر أساسية لا تستغنى عنها كنماذج، كما يقتضيها ولا يستغنى عنها معنى الجملة.
ويكشف مفهوم التكملة (أو الفضلة) عن وجود اضطراب تعانى منه هذه المحاولة الوزارية المجمعية للإصلاح والتيسير فى مفهوم المسند (الخبر) الذى ينبغى أن يستوعب كافة عناصر ومكونات الجملة باستثناء المسند إليه، كما يتجلى الاضطرب الذى تعانى منه هذه المحاولة فى مفهوم المسند فى أشياء أخرى سنشير إليها الآن.
فالمسند، وفقا لتقرير اللجنة الوزارية، "يكون اسما فيُضم إلا إذا وقع مع كان أو إحدى أخواتها فيُفتح"، و"يكون ظرفا فيُفتح"، و"يكون فعلا أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة ويُكتفى فى إعرابه ببيان أنه محمول". ومعنى هذا أن المسند لا يختلف فى هذه المحاولة عن الخبر فى النحو العربى التقليدى إلا فى الفعل الذى يسبق المسند إليه أما الأنواع الأخرى للمسند أو الخبر فتوصف نفس الوصف. فهى كما نفهم من أحواله المذكورة ما يسمى بالخبرالمفرد (خبر المبتدأ، خبر إن وأخواتها، خبر كان وأخواتها) أو الخبر شبه الجملة من ظرف أو جار ومجرور أو الخبر الفعل (مع الكف عن اعتبار الفعل جملة مع فاعله المزعوم المتمثل فى الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل) أو الخبر الجملة التى تأتى بعد ما تسميه هذه المحاولة بالمسند إليه (وهو المبتدأ الأول فى النحو العربى التقليدى) قبل مسند إليه آخر فى جملة الخبر.
ويرجع التقدم فى مفهوم المسند فى هذه المحاولة إلى مرونة ترتيب ركنى الجملة بحيث يكون الفعل السابق للمسند إليه مسندا، وبحيث يُلْغَى الفاعل الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل بعد الفعل التالى "للمبتدأ"، وبالتالى لم يَعُدْ مثل هذا الفعل مع فاعله المزعوم جملة فعلية خبرا للمبتدأ بل صار فعلا ليس غير. وبالطبع فإن هذا الفعل السابق أو اللاحق للمسند إليه لا يكون وحده المسند إلا إنْ كان وحده مع المسند إليه وإلا فإنه يشكل المسند مع كل الكلمات أو العناصر الأخرى التى قد تأتى فى الجملة غير المسند إليه.
وإلى جانب مرونة ترتيب ركنىْ الجملة (المسند إليه والمسند) استند هذا التقدم فى مفهوم المسند إليه إلى رأى اللجنة الوزارية الداعى إلى إلغاء "الضمير المستتر جوازا أو وجوبا" ، وهو ما أيده القرار (9) من قرارات المجمع الذى قال: "أما الضمائر المستترة وجوبا أو جوازا فمصروف عنها النظر" . وعلى هذا ينص القرار (10) على ما يلى: "يُستغنى عن النص على العائد فى نحو "الذى اجتهد يكافأ" فيقال فى إعرابه: الذى اسم موصول مسند إليه واجتهد ماضى الغائب صلة؛ ويكافأ صيغة مضارع مبنى للمجهول للغائب مسند" . ولا يلاحظ القرار أن "الذى اجتهد" من اسم موصول وصلة هو المسند إليه. ولا مكان بالطبع للحديث عن الاستغناء عن "الضمير" العائد بعد إلغاء مفهوم الضمير المستتر و مفهوم ضمير الرفع البارز المتصل.
كما استند هذا التقدم إلى رأى اللجنة الوزارية فيما يتعلق بضمائر الرفع المتصلة البارزة (رغم اضطرابه)، وإلى قرار المجمع بهذا الشأن. وتدعو اللجنة المذكورة إلى "اعتبار إشارات العدد علامات لا ضمائر" على مذهب الإمام المازنى. ولكنها تعتبر أن "الضمير موضوع والفعل قبله محمول" فى "غير الدالّ على العدد مثل (قمتُ) أو (قمتَ) أو(قمتم)" ... و"إذا ذكر مع المتصل ضمير منفصل فهو تقوية له (قمت أنا) و (أنا قمت)" .
وهذا التمييز ضمن ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة بين علامات أو إشارات تدل على العدد فلا تُعَدّ ضمائر، وضمائر لا تدل على العدد، لا أساس له فى الحقيقة. فهذه الضمائر المزعومة جميعا نهايات لتصريف الأفعال أىْ مثل النهايات endings فى الإنجليزية و terminaisons فى الفرنسية ولم يقل أحد بأن هذه النهايات ضمائر رغم علاقتها بالضمائر من حيث دلالتها على الشخص person والعدد والنوع أىْ من حيث دلالتها على الضمير الذى تم تصريف الفعل معه كما فى كل اللغات. أما ضمائر الرفع الوحيدة أو بالأحرى ضمائر المسند إليه فهى المنفصلة ولهذا فالمسند إليه فى (قمتُ أنا) أو (أنا قمتُ) هو "أنا" وهذا الأخير ليس تقوية أىْ ليس للتأكيد. أما مع الفعل المصرف بدون ضمير (منفصل بالطبع) مثل (قمتُ) أو (قمتَ) أو (قمتم) أو (قاموا) فالمسند إليه محذوف كجزء من ظاهرة الحذف المعروفة فى لغات عديدة (مثلا: الحذف شبه الكامل لضمائر المسند إليه فى تصريف الأفعال فى اللغة الإسپانية) وفيما يتعلق بعناصر جملة عديدة. والقرار (9) للمجمع أدقّ من تقرير اللجنة الوزارية إذ يعتبر أن ضمائر الرفع البارزة المتصلة "لا محل لاعتبارها ضمائر عند الإعراب وإنما هى فى الضمائر البارزة حروف دالة على نوع المسند إليه أو عدده" . والأدقّ اعتبار ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة دون تردد نهايات لتصريف الأفعال كما سبق القول، وهو يعتبر "أنا" فى (أنا قمت) المسند إليه ، وهذا صحيح تماما، كما أنه تصحيح مباشر لما جاء فى تقرير اللجنة الوزارية بهذا الشأن.
ونجد أن مفهوم المسند لم يتغير فى هذه المحاولة إلا قليلا بالمقارنة مع نحونا التقليدى بأنواعه الثلاثة الشهيرة للخبر. وقد أثبتنا بالتفصيل أن المسند (الخبر) هو كل شيء فى الجملة ما عدا المسند إليه، وأن ما يسمى بالخبر المفرد أو الخبر شبه الجملة من ظرف أو جار ومجرور أو الخبر الجملة الاسمية الخالية من كل فعل ظاهر لا يمكن اعتباره خبرا إلا مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت فى مثل هذه الجمل مع أىّ عناصر كلمات أخرى قد تشتمل عليها الجملة غير المسند إليه.
وبطبيعة الحال فإن حذف المضارع المثبت لفعل الكينونة (فى حالة الكون العام) يرتبط بما يرفض تقرير اللجنة الوزارية تقديره تحت عنوان: "متعلَّق الظرف وحروف الإضافة" وهو يشير إلى حديث النحاة عن "متعلَّق عام كمتعلق (زيد عندك أو فى الدار) ويقدرونه (كائن أو استقر) وهو عندهم واجب الحذف، ويعربونه خبرا" ويضيف: "وترى اللجنة أن المتعلَّق العام لا يقدَّر، وأن المحمول فى مثل (زيد عندك أو فى الدار) هو الظرف". كما يشير التقرير إلى حديث النحاة عن "متعلَّق خاص – ولا يُفهم من الكلام إذا حُذف منه مثل (أنا واثق بك) والخبر هو المتعلَّق والظرف فضلة"، ويقول عنه: "أما النوع الثانى فهو كما قرر النحاة المتعلَّق هو المحمول والظرف تكملة" . وكان هذا الموقف من "المتعلَّق" على كل حال وثيق الصلة بحقيقة أن المحاولة لم توفَّق فى التوصل إلى مفهوم سليم عن المسند (الخبر)، ذلك أن التقرير لا يوضح الرأى المبدئى فى "المتعلَّق" بل يكتفى بأنه " يُقدَّر" ولا ينتبه إلى أهمية امتداد مفهوم المتعلَّق إلى ما يسمى بالخبر المفرد ("واثق")، ويتشبث بالتالى بمفهوم عفا عليه الزمن للمسند (الخبر). أما القرار (8) للمجمع فينص على ما يلى:
يجب إرشاد المبتدئين إلى أن المتعلَّق العام للظروف والجار والمجرور فى نحو:
"زيد فى الدار" و "زيد عندك" محذوف وإنْ كانوا لا يكلفون كل مرة تقديره عند الإعراب، بل يُقبل منهم تخفيفا عنهم أن يقولوا فى إعراب "زيد فى الدار" فى الدار جار ومجرور مسند .
ومن الواضح أن قرار المجمع مصيب فى التمسك بمفهوم المتعلَّق ("العام") وبفكرة أنه "محذوف" وإنْ كان يُعفى "المبتدئين" من "تقديره" … "كل مرة" … "تخفيفا عنهم" غير أنه يذهب إلى حد اعتبار الجار والمجرور "فى الدار" مسندا، بالإضافة إلى أنه لا يفكر فى امتداد المتعلَّق إلى ما يسمى بالخبر المفرد مثل ("واثق") فى تقرير اللجنة الوزارية. وهكذا تخضع مفاهيم نحوية حاسمة كالمسند إلى التخفيف والإسراف فى التخفيف بدلا من البحث عن الصحيح والسليم والصواب أولا وقبل كل شيء، كما ينبغى أن نلاحظ كثرة حديث مقترحات اللجنة الوزارية وقرارات المجمع عن الإعراب بدلا من الحديث عن التحليل النحوى وفى مواضع لا علاقة لها بالإعراب.
وفى مجال الإعراب نفسه تقول مقترحات اللجنة الوزارية: "فالموضوع مضموم دائما إلا أن يقع بعد أن أو إحدى أخواتها"، أما المحمول فيكون اسما مضموما إلا مع كان وأخواتها فيُفتح، ويكون ظرفا فيُفتح، و "يكون فعلا أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة ويُكتفى فى إعرابه ببيان أنه محمول" . وتضيف المقترحات: "كل ما يُذكر فى الجملة غير الموضوع والمحمول فهو تكملة، وحكم التكملة أنها مفتوحة أبدا، إلا إذا كانت مضافا إليها أو مسبوقة بحرف إضافة" . ومن الواضح أن اللجنة الوزارية تتفادى مصطلحات الرفع والنصب والجر بعد أن قالت بتوحيد ألقاب الإعراب والبناء والأخذ بألقاب البناء. ويأتى التصويب من المجمع. وينص القرار (11) على ما يلى:
كل ما ذكر فى الجملة غير المسند إليه والمسند فهو تكملة منصوب على اختلاف علامات النصب إلا إذا كان مضافا إليه أو مسبوقا بحرف جر أو تابعا من التوابع
ونحن هنا إزاء مجموعة من القواعد الإعرابية تتلخص فى أن:
1: المسند إليه: مرفوع إلا إنْ كان منصوبا بعد "إن وأخواتها".
2: المسند:
أ: مرفوع إذا كان اسما.
ب: منصوب إذا كان اسما مع كان وأخواتها.
ج: منصوب إذا كان ظرفا.
د: فعل أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة.
3: التكملة: منصوب إلا إذا كان مضافا إليه أو مسبوقا بحرف جر أو تابعا من التوابع.
ومن الواضح أن هذه المجموعة من القواعد الإعرابية مليئة بالثغرات والعيوب ونقاط الضعف.
ونبدأ بالمسند إليه.
وينبغى أن نقول إن المسند إليه مرفوع إنْ لم يسبقه ناصب أو جار. والمقصود أن المسند إليه قد يكون منصوبا بعد أدوات نصب "الأسماء" ("إن وأخواتها")، وقد يكون مفعولا به لفعل سابق على الإسناد إليه، وقد يكون مجرورا بعد حرف جر أو مضاف.
كما ينبغى أن نضيف أن هذا الرفع للمسند إليه إنما يكون إذا تحقق المسند بكلمة واحدة أو بمجموعة كلمات تأخذ إحداها الرفع، وأن الرفع غير وارد إذا كان المسند إليه غير معرب (أىْ مبنيا) أو خارج مسألة الإعراب كالمصدر المؤول أو التراكيب المتعددة الكلمات من غير التى تأخذ إحدى كلماتها الرفع.
كما ينبغى أن نؤكد أن هذا ينطبق أيضا على ما يمكن أن نسميه بالشبيه بالمسند إليه (المبتدأ الأول فى النحو التقليدى) والذى قد يأتى:
1: مضافا إليه لمضاف لاحق هو المسند الحقيقى مثل المرأة فى: (المرأة يكثر أنصارها = يكثر أنصار المرأة).
2: مضافا إليه لمضاف مفعول به لاحق، مثل: النخل فى: (النخل نأكل ثمره = نأكل ثمر النخل).
3: مجرورا لحرف جر لاحق، مثل القمح فى (القمح يتغذى عليه الناس = يتغذى الناس على القمح).
4: مفعولا به لفعل لاحق، مثل المرأة فى (المرأة يناصرها الكثيرون = يناصر الكثيرون المرأة).
فهذا الشبيه بالمسند إليه يرفع وينصب ويجر مثل المسند إليه.
وإذا انتقلنا إلى المسند (الخبر) نجد أن غياب مفهوم سليم عنه فى هذه المحاولة للإصلاح والتيسير يجعله ويجعل إعرابه غامضا ملتبسا.
وكما هو واضح من استعراض إعراب المسند أعلاه نجد أن هذه المحاولة تقر بأنواع الخبر كما هى فى النحو العربى التقليدى. فالمسند فى هذه المحاولة هو:
1: ما يسمى بالخبر المفرد، وهو:
أ: خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها: وهو مرفوع".
ب: خبر "كان وأخواتها": وهو منصوب.
2: ما يسمى بالخبر شبه الجملة، ويكون:
أ: ظرفا: وهو منصوب.
ب: جارا ومجرورا: ("مع حرف من حروف الإضافة").
3: الفعل: وهو ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية فى النحو العربى التقليدى.
4: الخبر الجملة: وهو الخبر الجملة الاسمية فى النحو العربى التقليدى غيرأنه صار جملة بلا نعوت، وهى تختلف عن الخبر الفعل فى أن وجود مسندين إليهما حيث يكون إسناد الفعل الظاهر (أو "المحذوف") إلى المسند إليه الثانى.
وقد رأينا غير مرة أن المسند (الخبر) هو كل ما فى الجملة غير المسند إليه، وأن حده الأدنى هو الفعل، وأن الفعل ظاهر إلا فى حالة واحدة من فعل واحد هو فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت. وعلى هذا فإن المسند يكون (مع تفاصيل مهمة يمكن أن يراجعها القارئ فى الفصول الثلاثة المخصصة لمناقشة المسند أو الخبر فى هذا الكتاب):
1: الفعل من أفعال كان وأخواتها مع متمم الفاعل (صفة أو ظرف) أو الظرف (ظرف المكان فى المحل الأول ولكنْ ظرف الزمان أيضا)، ويسقط هذا الفعل فى حالة الكون العام ليبقى ما يسمى بالخبر المفرد.
2: الفعل اللازم أو المستخدم لازما (وهو الحد الأدنى لعناصر الخبر).
3: خبر ما يسمى بالمبتدأ الثانى (وهو المسند إليه الحقيقى) فيما يسمى بالخبر الجملة الاسمية، وهذه ليست جملة مستقلة بمعنى الكلمة لأنها لا تعطى معنى مفيدا بدون ما يسمى بالمبتدأ الأول الذى ترتبط بها بضمير.
4: الفعل المتعدى مع المفعول به. غير أن الفعل المتعدى يضيف نماذج متعددة لأنه يتعدى إلى مفعول به أو مفعولين ولأن المفعول به المباشر قد يكون وحده أو مع متمم للمفعول به أو مع ظرف.
ولهذا فإن من الخطأ التسليم بأنواع الخبر كما حددها النحو العربى التقليدى، فليس كل نوع مما يسمى بأنواع الخبر فى ذلك النحو خبرا بالمعنى الصحيح.
ذلك أن ما يسمى بالخبر المفرد هو متمم المسند إليه (متمم الفاعل) وهو (إنْ كان معربا) مرفوع مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت ومنصوب مع أفعال أخوات كان ومع كان الظاهرة فى غير حالة الحذف.
وكما يكون متمم المسند إليه اسما أو صفة، فيما يسمى بالخبر المفرد، فإنه يمكن أن يكون جارا ومجرورا مثل: "هند فى غاية الجمال" أو "كانت عزة فى غاية الذوق". وبالطبع فلا إعراب للمتمم الجار والمجرور معا. وإلى جانب المتمم مع أفعال كان وأخواتها بما فى ذلك حالة حذف الكينونة، هناك الظرف. وقد يكون ظرفا مباشرا مثل ظرف المكان (فلان فوق ظهر السفينة) أو (كان فلان فوق ظهر السفينة) أو ظرف الزمان (الحفل الليلة) أو (سيكون الحفل الليلة) وقد يكون جارا ومجرورا مثل ظرف المكان (فلان فى المكتبة) أو (كان فلان فى المكتبة) أو ظرف الزمان (الحفل فى آخر الشهر) أو (سيكون الحفل فى آخر الشهر)، وينبغى أن يكون واضحا أن الظرف لا يقتصر على ظرفى المكان والزمان وأن أشكال تحقيق ظرفى الزمان والمكان متنوعة ومنها الجار والمجرور الدالان على المكان أو الزمان. والظرف المعرب منصوب أما التراكيب الظرفية ومنها الجار والمجرور المؤلفان للظرف فخارج مسألة الإعراب.
أما الخبر الفعل المقتصر على الفعل اللازم أو المستخدم لازما فإعرابه إعراب الفعل؛ فلا علاقة له بما يسمى بإعراب الخبر وناهيك برفعه.
أما الجملة (غير المستقلة) التى تأتى بعد الشبيه بالمسند إليه (ما يسمى بالمبتدأ الأول) فلا ينبغى اعتبارها خبرا فالإسناد هنا لما يسمى بالمبتدأ الثانى فهو إذن المسند إليه الحقيقى أما المسند (الخبر) فى مثل هذه الجمل فهو المسند المرتبط بهذا المسند الحقيقى (المبتدأ الثانى) فى ارتباطه الوثيق بما يسمى بالمبتدأ الأول الذى يعود إليه الضمير المجرور.
ولأن المسند (الخبر) يكون دائما فعلا فقط أو فعلا مع عناصر أخرى فإن إعراب الفعل وحده كخبر أو كجزء من خبر إنما يختلف تماما عن إعراب غير الفعل. أما الخبر ككل (التراكيب الخبرية) فى حالة الفعل (الظاهر أو المحذوف) مع عناصر أخرى فهو خارج مسألة الإعراب.
أما ما بدا خبرا فليس كذلك فى أغلب الأحوال فهو المتمم "المفرد" أو المتمم "الجار والمجرور" أو الظرف "المفرد" أو الظرف "الجار والمجرور". وهو فى كل هذه الأحوال خبر مع المحذوف فى حالة الكون العام.
ومن المؤسف أن محاولة وزارة المعارف ومجمع اللغة العربية بالقاهرة لم تقم على إدراك واضح لحقيقة أن المسند (الخبر) فى كل أحواله خارج مسألة الإعراب، ويعنى هذا أن الخبر لا يكون مرفوعا ولا منصوبا ولا غير ذلك من أحوال الإعراب وإنْ كات كلماته وعناصره المعربة كالمتمم أو الظرف أو المجرور بعد حرف الجر أو المفعول به ترفع أو تنصب أو تجر كأجزاء من المسند وليس كمسند أو خبر.
وننتقل إلى التكملة. ويقصدون بها غير المسند إليه والمسند. والتكملة هى الفضلة وهى تقوم على فكرة التمييز بين العمدة، وهى المسند إليه والمسند كما يعرفهما النحو العربى التقليدى، والفضلة، أىْ غير المسند إليه والمسند، تشمل ما يسمى بمنصوبات الأسماء. ومن الجلى أن المجمع كان يستعير مفهوم التكملة من النحو الفرنسى كمقابل لمصطلح complément (تتمَّة أو تكملة زيادة على المسند إليه والمسند)، ومفهوم الفضلة (أىْ الزيادة على العمدة، والفضلة لغةً بقية الشيء) من النحو العربى التقليدى. وقد أشرنا غير مرة إلى أن ما يسمى بالتكملة جزء لا يتجزأ من المسند، باعتبار أن الجملة كلها هى المسند إليه والمسند، وأن المسند هو كل ما فى الجملة غير المسند إليه، فلا مكان إذن لفضلة أو تتمة أو تكملة أو زيادة، ولا للتمييز بين عمدة وفضلة فالجملة كلها هى العمدة إنْ جاز القول.
وكما يبدو من الصياغة السابقة وكما يبدو أيضا من "عرض" كتاب تحرير النحو العربى، تشمل التكملة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، وكذلك الإضافة، وكذلك التوابع. وعلى هذا نجد أنفسنا إزاء مفهوم فضفاض لا يضيف شيئا إلى المفاهيم السابقة لما يسمى بمنصوبات الأسماء وغيرها سوى كلمة "تكملة" نفسها، وهذا ما جرّ على هذه المحاولة سخرية بعض نقادها.
ومن الواضح أن غياب مفهوم عنصر الجملة من جانب وغياب فكرة تعدد أشكال تحقيق عنصر الجملة كنهج شامل من جانب آخر يؤدى إلى التركيز على الكلمة المفردة كشكل لتحقيق الوظيفة النحوية (رغم الإشارات إلى شكل الجملة والمصدر المؤول والجار والمجرور). وبهذا تكون التوابع مثلا من التكملة رغم أنها قد تكون المسند إليه كما قد تكون عناصر من المسند (فى إطار مجموعة كلمات يتحقق من خلالها هذا العنصر أو ذاك من عناصر الجملة)، كما يظل الانتباه مشدودا إلى الإعراب دون الانتباه إلى أن هذا إنما يرتبط بشكل واحد من أشكال تحقيق عنصر الجملة (أىْ: الكلمة المعربة الواحدة). ومن المؤسف أن إصلاحات عديدة تنطوى عليها هذه المحاولة وكان من شأنها أن تطور النحو وتيسر فهم النحو للإعراب لم تصل إلى الغاية المرجوة نتيجة لغياب ثلاثة أشياء بالغة الأهمية:
1: مفهوم صحيح للمسند (الخبر).
2: مفهوم عناصر أو مكوِّنات الجملة.
3: مفهوم تنوع أشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة.
ورغم أن كتاب تحرير النحو العربى إنما هو تطبيق عملى لقرارات المجمع فى إطار هذه المحاولة للإصلاح والتيسير، فإن واقع كونه الثمرة الناضجة لتلك المحاولة يدفعنا إلى إلقاء نظرة متفحصة على ذلك الكتاب.
ويقع الكتاب فى حوالى مائتى صفحة، ونصفه الأول عرض عام لأقسام الكلام وللصرف ولجانب من الإعراب والنحو. أما الإعراب والنحو بالمعنى المباشر فنجدهما فى النصف الثانى.
ولا حاجة بنا إلى التعليق على أقسام الكلام لأن النحو العربى والمعجم العربى بحاجة إلى إصلاح فى هذا المجال كما أشرنا غير مرة، ولا يمس الكتاب هذا الإصلاح من قريب أو بعيد.
أما الصرف العربى فهو علم بالغ التطور غير أنه لا يستغنى عن أدوات العصر فى عرضه من جدولة ومعجمة وغير ذلك من صور التبسيط والتيسير ولا يستغنى عن الاستفادة بالحاسوب. كذلك فإن مثل هذا العرض الموجز للإسناد والاشتقاق يحتاج إلى التوزيع الملائم على المراحل التعليمية والعمرية. على أنه لا جدال فى أن علوم اللغة والمعاجم والصرف تلتقى عند مهام كبرى فى تطوير العلاقات بين الأبنية الصرفية والدلالات، وتدقيق بحث الأفعال من جميع جوانبها فى سبيل تطوير نحو يتمحور حول الأفعال انطلاقا من خصائصها البالغة التعقيد، وتدقيق بحث الصفات واستخداماتها وأماكنها، إلخ إلخ... غير أن مثل هذا العرض السريع ليس مجال بلورة برنامج تحقيق مثل هذه الغايات الكبرى، بالإضافة إلى أن مثل هذه المهمة الهائلة الضخامة ليست فى طاقة فرد بل تحققها الجهود المتضافرة للعديد من علماء النحو المتحررين من أوهامه.، وعلى كل حال فإن الموضوع المحدد لهذا الكتاب لا يمتد إلى هذه القضايا.
أما الاستعراض السريع فى هذا النصف الأول من الكتاب للإعراب ومواضعه وأنواعه وعلاماته مع الوقوف عند إعراب المضارع فلا بأس به. وكذلك لا بأس باعتبار علامات الإعراب كافة أصلية فى مواضعها فلا تكون الضمة مثلا أصلية للرفع وتنوب عنها الحروف فى مواضع بذاتها.
وفى صفحة 101 يبدأ عرض النحو والإعراب بالمعنى الحقيقى. وينقسم هذا النصف الثانى من الكتاب إلى أربعة أقسام:
1: الجملة: أجزاؤها وركناها الأساسيان وإعراب المسند إليه والمسند والمطابقة والترتيب بينهما والحذف فيهما ودخول "كان وأخواتها" و "إن وأخواتها" و "لا النافية للجنس" على الجملة. ويقع هذا القسم فى صفحات 101-124 (24 صفحة).
2: المكملات: وهى تكملة بيان الزمان والمكان، والتكملة بالمفعول، والتكملة لبيان الحال، والتكملة لبيان السبب، والتكملة لتوكيد الفعل أو بيان نوعه أو عدده، وكذلك الاستثناء والتمييز والإضافة. ويقع هذا القسم فى صفحات 125-164 (40 صفحة).
3: التوابع: من نعت وتوكيد وعطف وبدل. ويقع هذا القسم فى صفحات 165-178 (14 صفحة).
4: الأساليب: أسلوب المدح والذم، والتعجب، وأسلوب النداء، وأسلوب الاستغاثة، وأسلوب الندبة، وأسلوب الإغراء، وأسلوب التحذير، وأسلوب الاختصاص، وأسلوب لا سيما. ويقع هذا القسم فى صفحات 179-197 (19 صفحة).
ولا جدال فى أننا إزاء تطور لا يمكن إنكاره فمفهوم المسند إليه يحل محل ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء المسند (الخبر). وبانقسام الجملة إلى مسند ومسند إليه يسقط من تلقاء نفسه تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية، كما يسقط ما يسمى بالضمير المستتر ووضمير الرفع البارز المتصل. غير أن الكتاب يقرر أن من المهم فى تحليل كل جملة أن نتبين أمرين:
الأول: الكلمتان الأساسيتان فيها، وتفيد بهما الجملة معنى يمكن الاكتفاء به، وهما ركنا الجملة، أو الجزءان الأساسيان فيها.
الثانى: الكلمات المتممة للمعنى، وهى المكملات، وهى كلمات أخرى قد تكون فى الجملة وتكمل المعنى، لتدل على الزمان، أو المكان، أو الحالة، أو غير ذلك. وتسمى هذه الكلمات تكملة .
والركنان الأساسيان هما المسند إليه والمسند. فالمسند إليه: هو المحدَّث عنه، والمسند: هو المحدَّث به. ونلاحظ أن هذا الكتاب يجعل الجملة تشتمل على ركنيها الأساسيين أىْ المسند والمسند إليه، وقد تشتمل أيضا على "كلمات غيرهما" وهى المكملات. ويعنى هذا استنادا إلى ما قدمنا فى هذا البحث من نقد للنحو العربى، أن الكتاب سار على الطريق التقليدى للنحو العربى، فلم يدرك أن الجملة كلها مسند ومسند إليه، فما ليس من المسند إليه من كلمات الجملة ينتمى إلى المسند، والعكس بالعكس. أما الكلمات الأخرى المسماة بالمكملات فهى تنتمى بحكم طبيعتها إلى المسند، وهى جزء لا يتجزأ منه. وقد أشرنا غير مرة إلى تهافت فكرة المكملات والتكملة والفضلة التى تقوم على مغالطة مؤداها أن المسند إليه والمسند تفيد بهما الجملة معنى يمكن الاكتفاء به، وكيف يكون المعنى مفيدا بالاكتفاء به بالفعل والفاعل فى جملة باعتبارهما المسند إليه والمسند (بهذا المفهوم التقليدى المبتسر للمسند) دون المفعول به باعتباره فضلة؟ والحقيقة أن المعنى هو محتوى المسند بكامله، المسند بالمعنى الذى يعرفه النحو الحديث كله فى لغات الثقافات المتطورة فى العالم اليوم، المسند الذى تمثل هذه الفضلة أو التكملة المزعومة جزءا لا يتجزأ منه.
كما نلاحظ أن النحو كان ما يزال يتمحور حول الإعراب، فالكتاب يتحدث عن "كلمتين" أساسيتين هما المسند والمسند إليه، أىْ أن التعريف النموذجى لكل من هذين الأخيرين يتمثل فى الكلمة الواحدة وهى الموضوع الحقيقى المباشر للإعراب وليس للمفهوم النحوى.
ونلاحظ أيضا أن الكتاب لا يصدر عن مفهوم صحيح للمسند بدليل أنه جعل هذا الأخير يتمثل فى الاسم المفرد، أو الجملة، أو الفعل، أو الجار والمجرور، أو الظرف. ولم يدرك واضعوه أن الحديث عن الواحد من هذه الأشياء (باستثناء الفعل) على أنه مسند يتجاهل حقيقة أن المسند إنما يكون فعلا فقط أو فعلا مع شيء آخر. ولهذا كان الكتاب مضطربا أشد الاضطراب فى تقدير المسند والمسند إليه. وهذه أمثلة:
ففى إعراب: "الرحمن * علَّم القرآن" يقول الكتاب إن المسند هو "علَّم القرآن" أىْ الفعل والمفعول، وهذا صحيح، أما فى إعراب: "لا يحب اللهُ الجهرَ بالسوء من القول" فهو يجعل الفعل "يحب" هو المسند مع أن المسند الحقيقى هو نقيض هذا الفعل أىْ نفيه "لا يحب" مع كل الكلمات الأخرى غير "الله" وهو المسند إليه. وفى إعراب: "الله نزّل أحسن الحديث" أصبح الفعل "نزّل" هو المسند، بدلا من الفعل والمفعول، كما تفضل الكتاب بالإعراب قبل ذلك بقليل، ولا تنتهى الأمثلة.
فإذا انتقلنا إلى أحكام المسند إليه والمسند وإعرابهما وجدنا "ميلا عمليا" لا يقوم على أساس من المنطق. فليس هناك شيء من قبيل أن المسند إليه مرفوع ما لم يتأثر بعامل لفظى سابق ناصب أو جار، كما أنه ليس هناك شيء من قبيل أن المسند ليس مرفوعا وأن ما يسمى بالمسند أو الخبر المفرد هو الوحيد المرفوع عشوائيا نتيجة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت (مع المتكلم: أكون، نكون؛ مع المخاطب: تكون، تكونين، تكونان، تكونون، تَكُنَّ؛ مع الغائب: يكون، تكون، يكونان، تكونان، يكونون، يَكُنَّ – بالطبع مع كل الأحوال الإعرابية لهذه الصيغ الصرفية).
والمسند إليه اسم ظاهر، مثل: "المؤمنون"، أو ضمير، مثل: "نحن"، أو مصدر مفهوم من جملة تكون مبدوءة بـ "أنْ"، أو "ما"، أو "أنَّ"، مثل ما تحته خط فى: "وأنْ تصوموا خير لكم" ، و: "عزيز عليه ما عَنِتُّمْ" ، و: "قل أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نَفَرٌ من الجن" ، وقد تكون الجملة غير مبدوءة بأداة من هذه الأدوات وهذا قليل، مثل ما تحته خط فى: "ثم بدا من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" ، و: "وتبيَّنَ لكم كيف فعلنا بهم" ، و: "ومن آياته يُريكم البرق خوفا وطمعا" ، وقول العرب: "تَسْمَع بالمُعِيدِىِّ خير من أن تراه".
وتبدو النزعة العملية (أىْ التى لا تستند مباشرة وصراحة على أسس وأصول نظرية) واضحة تماما فى إعراب المسند إليه؛ فهو:
1: يكون مرفوعا: ولا يقال إن هذا هو الأساس.
2: يكون منصوبا: بعد إنَّ أو إحدى أخواتها. وقبل أن ننتقل إلى "3" نلاحظ أن حكم النصب بإن مثل الحكم بالجر بحرف الجر أو بالإضافة ولذلك سيكون غريبا أنهم لا يطلقون الجر بكل حروف الجر أو بالإضافة للمسند إليه بدلا من قصر حديث الجر على بعض الحروف التى يسمونها زائدة. وهنا تأتى أهمية الفاعل (المسند إليه) المنصوب على المفعولية قبل إسناد الفعل إليه، مثلا: رأيتُ رجلا يكلِّم نفسه، فالرجل هنا مفعول للفعل "رأى" قبل أن يصير فاعلا أو مسندا إليه للفعل "يكلِّم". وهذه حالة أغفلها هذا الكتاب الذى صدر عن مفهوم للمسند إليه ينبغى أن يتسع لقبول أن يكون المفعول به فاعلا كما قبِل أن يكون المنصوب بأدوات النصب أو المجرور بأدوات الجر فاعلا أو مسندا إليه.
3: وفى الأحوال الثلاثة التالية يكون المسند إليه مجرورا:
أ: إدخال "مِنْ" على المسند إليه بعد النفى لتوكيد العموم، والاستشهاد بالآيات: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" ، و "ما كان معه من إله" ، و "ما جاءنا من بشير ولا نذير" ، ومثل: "ما من رجل يعرف هذا".
والصواب فى رأينا هو أننا إزاء تراكيب اصطلاحية فى النفى فالتقدير: "ما من ورقة تسقط إلا يعلمها"، و "ما من إله كان معه"، و "ما من بشير ولا نذير جاءنا"، ولا تحتاج جملة: "ما من رجل يعرف هذا" إلى إعادة صياغة بقصد التقدير. ففى كل هذه الآيات أو الجمل المشابهة، نجد تراكيب مثل: ما من أحد، ما من شيء، ما من رجل، ما من امرأة، ما من ورقة، ما من إله، إلخ إلخ. وفى هذه التراكيب جميعا ليس ما قبل "مِنْ" هو المسند إليه بل التركيب الاصطلاحى بأكمله: "ما من أحد" وما أشبه.
ب: وتدخل "الباء" على المسند إليه بعد الفعل "كفى"، وبعد "إذا الفجائية" لإفادة التوكيد، مثل الآية: "وكفى بالله شهيدا"، ومثل جملة: "خرجت فإذا بالمطر يهطل".
ج: وتدخل "رُبَّ" على المسند إليه لإفادة التقليل، مثل: "رُبَّ أخ لك لم تلده أمك". وقد تحلّ "الواو" محل "رُبَّ"، مثل: وليل كموج البحر أرخى سدوله ..."
وتدل الأحوال الثلاثة المذكورة لجر المسند إليه على أن الكتاب ينطلق من نظرة ضيقة وتقليدية للغاية إلى المسند إليه المجرور كما جاء فى الكتب، فهؤلاء المؤلفون يقتصرون على ما يسمى بحروف الجر الزائدة وكان الأجدر بهم أن يطلقوا الجر مع كل حروفه أو أدواته كما أطلقوا النصب مع كل حروفه أو أدواته. فلماذا لا نجر المسند إليه بالحرف "إلى"؟ ألا يمكن أن نقول: "التفت زوار الياپان باهتمام إلى قطار يقطع مئات الكيلومترات فى الساعة" حيث القطار المجرور بحرف جر "أصلى" و "غير زائد" هو الفاعل أو المسند إليه لفعل "يقطع"؟!
وقد رأينا منذ قليل نظرتهم الخاطئة إلى المسند (الخبر) فعندهم أنه يكون اسما بدون فعل حتى مع كان الظاهر، وكذلك الظرف أو الجار والمجرور، كما يكون فعلا أو جملة.
وإعراب المسند أنه يكون مرفوعا إذا كان اسما معربا أو منصوبا إذا كان ظرفا، أو كان اسما معربا بعد فعل من الأفعال الناقصة "كان وأخواتها"، أو جارا ومجرورا، أو فعلا (فيتبع فيه إعراب الفعل).
وهنا نلقى جانبا من تركيز اهتمامهم، كما فعل النحو التقليدى دائما، على المسند والمسند إليه، أو المبتدأ والخبر. والحقيقة أن المسند (الخبر) يرتدى أهميته الكاملة عند التقسيم العام للجملة إلى ركنيها الوحيدين غير أنه لا يمثل بعد ذلك أداة للتحليل النحوى أو المنطقى كما أنه لا علاقة له من أىّ نوع بالإعراب أو التحليل الإعرابى. ولهذا يغدو من الواجب إهمال المسند (الخبر) عندما نكون بصدد التحليل النحوى أو الإعرابى التفصيلى، أىْ عندما لا نكون إزاء التقسيم النحوى المنطقى العام للجملة إلى المسند والمسند إليه، أو الموضوع والمحمول، أو ما شئت من أسماء لهذين القسمين للجملة. وبدلا من التخفف من هذا الاهتمام بالمسند أو التخلص منه فى هذه الحالة، نجد المسند ضيفا دائما. وبدلا من تسمية هذه المسندات المزعومة بأسمائها الصحيحة كعناصر جملة، صارت القدرة التحليلية النحوية الإعرابية تتمثل فى أن نرى المسند مثل الإله البحرى پروتيوس تحت كل حجر، فنعلن المسندات تحت هذه المسميات كافة من ظرف أو جار ومجرور أو اسم أو وصف أو فعل أو جملة.
فلنأخذ أفعال "كان وأخواتها": إن منصوب هذه الأفعال اسمه متمم الفاعل أو المسند إليه وهو اسم أو وصف أو جار ومجرور مثل ما تحته خط: "صار ابنى رجلا"، "كان المرحوم صديقا"، "كان وأد البنات من الآفات المتفشية". وإذا كان "منصوب" كان وأخواتها ظرفا فهو ظرف وليس متمما للمسند إليه، ويمكن أن يكون الظرف جارا ومجرورا، مثل: "كان الفلاح فى الغيط" أو "كان الموعد فى الغروب"، فالجار والمجرور ليسا شيئا مختلفا عن الظرف ما داما يدلان على المكان أو الزمان أو على أىّ ظرف آخر. ويصدق كل هذا على متمم المسند إليه والظرف فى حالة مجيئهما مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت. وينبغى أن يكون واضحا أن الجار والمجرور يكونان إما متمم المسند إليه أو متمم المفعول المباشر أو الظرف وفقا لمعناهما فى الجملة.
وفى هذه الأحوال لا يكون المسند، إذا أصررنا على البحث عنه، سوى فعل الكينونة الظاهر أو المحذوف بالإضافة إلى متمم الفاعل مهما كان شكل تحقيقه (الاسم أو الصفة أو الجار والمجرور) أو الظرف مهما كان شكل تحقيقه أيضا (الجار أو المجرور أو الأشكال الأخرى للظرف الذى لا يقتصر على المكان والزمان كما فى النحو التقليدى).
ومن الواضح أن علماء لجان المجمع ووزارة المعارف ثم التربية والتعليم ومؤلفى كتاب تحرير النحو العربى قد أهملوا حتى الفكرة القديمة الرائعة عن "متعلَّق" الجار والمجرور وعن كونه معهما الخبر وأنهما وحدهما ليسا الخبر، مع ملاحظة أن هذا "المتعلق" – كما سبق القول – لا ينبغى أن يكون للجار والمجرور والظرف فقط بل ينبغى أن يمتد إلى المفرد أيضا من اسم أو وصف فى إطار ما يسمى بالخبر المفرد، ومع ملاحظة أن "المتعلق" ليس اسما بل هو فعل وهو بالذات فعل الكينونة فى المضارع المثبت المحذوف نتيجة للاقتصاد اللغوى.
وهناك ملاحظات كثيرة متنوعة على هذا الكتاب تتعلق بأشكال أخرى لتحقيق المسند ولكن أيضا بقضايا أخرى مثل الإعراب المحلى والإعراب التقديرى وغياب فكرة عناصر أو مكونات الجملة وبالتالى غياب تطبيقها على ما يسمى بمنصوبات الأسماء وغير ذلك وسيجد القارئ الكريم المناقشة التفصيلية لهذه القضايا فى الفصول المعنية من الكتاب.
وعلى أمل أن تسنح لى فى المستقبل فرصة أوسع لمناقشة أكثر عمقا وتفصيلية لمحاولة المجمع ووزارة المعارف (ثم التربية) كما تجسدت فى قرارات المجمع وكتاب تحرير النحو العربى، سأختتم بالإشارة إلى بعض المعلقين على هذه المحاولة. وسأضرب صفحا عن مناقشات الأستاذ عبد الكريم العريص الذى يفسر محاولات تيسير الإعراب تفسيرا يقوم على مؤامرة متوهَّمة على اللغة العربية ونحوها، أبطالها المستشرقون وتلاميذهم وهم بالمناسبة عدد من أعظم رواد النهضة المصرية، ومنهم لطفى السيد وقاسم أمين وسلامة موسى. وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة موقفا غريبا من قراراته السابقة يتمثل فى تجاهلها ويروى الدكتور شوقى ضيف فى كتابه تجديد النحو أن المجمع الذى كان قد أقر إلغاء الإعرابين المحلى والتقديرى فى سنة 1945: "عاد فى سنة 1979 فرأى الإبقاء على الإعرابين التقديرى والمحلى فى المفردات والجمل دون تعليل" . وسنكتفى هنا بإلمام سريع بملاحظات الأستاذ أمين الخولى، لأهميتها الخاصة، فى كتاب مناهج تجديد. وهو يعارض فكرة "ألاّ يمس التيسير والتبسيط أصلا من أصول اللغة ولا شكلا من أشكال الإعراب والتصريف" كما شرط القرار الوزارى على أعضاء اللجنة وكما شرطوا هم على أنفسهم .
وهذا النقد مفهوم تماما عندما يأتى من الأستاذ أمين الخولى لأن اجتهاده الشخصى فى مجال تيسير النحو وتبسيطه يمس بعض "أصول اللغة" وبعض "أشكال الإعراب والتصريف". ذلك أنه جعل محور تيسيره يدور حول تعديل للإعراب السائد ذاته انطلاقا من فكرة أن لهجاتنا العربية السائدة إنما هى امتداد للهجات سابقة ذات تقاليد إعرابية مختلفة يجوز الأخذ بها ما دامت تؤدى إلى التيسير: مثل صوغ جمع المذكر السالم مثل "حين" فى الرفع والنصب والجر جميعا، وما إلى ذلك. وهذا باب مشروع للاجتهاد، غير أنه ليس بابا واسعا كما يتصور الأستاذ أمين الخولى، كما أنه لا يُغنى عن الإعراب السائد الذى اتصل وجوده قرونا طويلة بحيث لا يمكن التعامل مع هذا التراث إلا بإتقان الإعراب السائد ذاته بغض النظر عن تأملاتنا وتعديلاتنا وتصحيحاتنا للقواعد الوضعية التى صاغها علماء النحو والإعراب. وهناك سؤال هام يطرحه هذا النوع من البحث الذى اجتذب الأستاذ أمين الخولى وغيره: إذا كان تعديلنا للإعراب يبدأ من اللهجات العربية الحالية وينتهى إلى مشروعية ما ورثته عن اللهجات العربية القديمة، وكلها حجة، واعتبارها أساسا كافيا ومشروعا لتعديل الإعراب الحالى، فلماذا لا نستغنى عن الإعراب كله مع أن إسقاط الإعراب قديم للغاية ومع أن الجماعة الناطقة باللغة العربية بدأت عملية إسقاط الكلمات وتبنِّى الأداة البديلة أىْ ترتيب الكلمات منذ فجر الإسلام وما قبل فجر الإسلام؟ وهو سؤال مشروع غير أن الجماعة اللغوية وحدها هى التى تختار من خلال ممارستها اللغوية، وبصورة تاريخية، الإجابات الحاسمة التى لا يملكها غيرها. ويمكن القول إن الجماعة اللغوية العربية قد اختارت إلى الآن فى ممارستها اللغوية العملية الازدواج اللغوى الراهن فى العالم العربى كله بين اللغة العربية المعربة (التى احتفظت بالإعراب) واللغة العربية غير المعربة (التى أسقطت الإعراب بالاعتماد على بديله المتمثل فى تقييد ترتيب عناصر الجملة).
ويعارض الأستاذ أمين الخولى ما رأته اللجنة من عدم التمييز بين علامات إعراب أصلية، وأخرى فرعية ، وهذا منطقى لأن هذا مجال اجتهاده.
ويعارض الأستاذ أمين الخولى موقف اللجنة إذ "حاولت اللجنة ضبط الجملة بأصنافها تحت تقسيم واحد، ينتظم الفعلية والاسمية، والجمل الصغيرة والكبيرة، وهو صنيع إنْ ساغ فى المنطق، لأنه يبحث فى المعانى والمفاهيم، ولا شأن له بالألفاظ مطلقا .. أو قُبِل فى البلاغة لأنها تبحث عن حسن المعانى، وتعرض للألفاظ بهذا المقدار، فلعل هذا الصنيع – على ما يبدو – لا يسهل فى النحو، لأنه يتحدث عن الصحة، واستقامة المعنى الأول؛ وفى هذا يطيل الوقوف عند الألفاظ؛ ويلحظ فيها أدقّ الفروق، فيتحدث مكرها عن الفاعل ونائبه والمعنى فيه؛ والمبتدأ والأحكام اللفظية لكل منهما،لا مفر، على حين قد ينظمها كلها البلاغى، أو المنطقى، تحت اعتبارات جامعة، فيسميها مسندا ومسندا إليه" .
ويأخذ على اللجنة ادعاءها أن تسميتها لطرفى الجملة المحدث عنه والحديث اصطلاح جديد لأنه اصطلاح قديم يعرفه من اتصل بأوائل كتب النحو . كما يأخذ عليها إيثارها تسميتهما - كالمناطقة – المحمول والموضوع، ويقول إن هذا بعيد عن عقل المتعلم وعن طبيعة الدرس اللغوى التى تلتزم بالألفاظ والظواهر الحسية لتدل بها على المعانى .
والحقيقة أن الأستاذ أمين الخولى غير موفق بوجه عام فى نقده الشامل لتقرير اللجنة. وربما كان هذا يرجع إلى استحواذ رأيه الضيق فى التيسير على كل تفكيره، وذلك رغم تمهيده الطويل الرائع المستنير لمناقشة التيسير برمتها. ولا شك مثلا فى أن "تسمية المسند والمسند إليه" لا تمنع على الإطلاق من مناقشة كل منهما تحت "الباب" الخاص به وفى كل المواضع الملائمة. غير أن هذا شأن الإنسان بما فيه المفكر العلامة الذى يرتفع إلى قامة أمين الخولى فالفكرة التى تستحوذ عليه تتغلب على كل رغبته فى الموضوعية والإنصاف، وهذا لا يعنى أنه لم ينصف اللجنة فى كثير من الملاحظات، فقد أنصفها فى أكثر من نقطة، غير أن أكبر إنصاف لقضية اللجنة يتمثل فى أنه مهد أروع تمهيد لمشروعية نقد النحو والإعراب دون أدنى حرج قائلا ما مؤداه أن ما قد يستنكره الناس من نقد اليوم قد يصير قاعدة الغد كما حدث – كما قال أيضا – فى التشريع والفقه ذاتهما فى واقعة الدكتور عبد الرازق السنهورى فى مجلة القضاء الشرعى قبل إلقائه محاضرته بعنوان "هذا النحو" فى سنة 1943(التى نقتبس منها الآن) بأكثر من عشرين سنة كما يروى .





















الملحق الأول
جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية

يميز النحو العربى بين نوعين من الجمل: الجملة الاسمية والجملة الفعلية. ولا تخرج جملة عربية عن هذا النوع أو ذاك من وجهة نظر هذا النحو.
للجملة الاسمية ركناها "الأساسيان" وهـما: المبتدأ والخبر. وللجملة الفعلية بدورها ركنـاهـا "الأساسيان" وهما: الفعل والفاعل . وتتميز الجملة الاسمية من الجملة الفعلية بأن الأولى تبدأ باسم، على حين تبدأ الثانية بفعل.
وللوهلة الأولى، يبدو هذا التصـنيف للجمـل موضوعيا للغاية، ووصفيا للغاية، وغير قابل للجـدل. فهذه جملة بدأت باسم، فما وجه الخطأ فى تسميتهـا، كما بدأت جملة اسمية، وفى أن نسمى ما بدأت به المبتدأ بحكـم بداهة الابتداء به ؟ فلا بأس إذن بالجملة الاسميـة والمبتدأ والخبر. وتلك جملة بدأت بفعل، فما وجه الخطأ فى أن نسميها كـما بدأت جملة فعلية، وفى أن نسمى فاعل الفعل فاعلا ؟ فلا بأس إذن بالجملة الفعـلـيـة والـفـعـل والفاعل والمفعول به.
وما دمنا نسمع أو نقرأ جملة بدأت باسـم وأخـرى بدأت بفعل، فلا مجال لإنكار أن الجملة تبدأ من الناحية الوصفية باسم أو فعل. ولكننا نسمع ونقرأ جملـة تبـدأ بحرف، وجملا أخرى تبدأ بأشياء أخرى. وإذا تطور فهم النحو العربى لأقسام الكلام، بدلا من الاقتصـار عـلى الاسم والفعل والحرف، فسوف يغدو بوسعه أن يبين أن هذه الأشياء الأخرى إنما هى من أقسام الكلام كالاسـم والفعل والحرف، وأن يبين أن الاسم فى النحو العربـى مفهوم فضفاض يـنطوى عـلى أقسـام كلام أخرى (الضمير، الصفة، الظرف)، بالإضافة إلى التـقسـيـم الواجب للحرف نفسه إلى أقسام كلام متمايزة (حـروف أو أدوات جر ونصب وعطف وتعجب)، فإلى أين ينتهى بنا تقسيم الجمل حسب أقسام الكلام التى تبدأ بها؟! وقد يبدو أن النحو العربى اختار البدء بالاسم والفعل دون غيرهما معيارا لتقسيم الجملة، ليس فقط لأن الاسم والفعل قسمان من أقسام الكلام، بل. لأن الفـعـل - إلـى جانب كونه من أقسام الكلام - مفهوم نحوى أساسى يمكن أن نسميه وفـقـا للاصـطلاح الحـديـث عنـصـرا مـن عناصر الجملة، وهى: 1- الفـاعل (أو المسـند إليه)، 2 - الفعل، 3 - المفعول به، 4 ـ متمم الفاعل أو المفـعـول به، 5 - الظرف، ولأن الاسم إلى جانـب كونه من أقسـام الكلام - هو "المبتدأ" - فهو بالتالى عنصر أسـاسى مـن عناصر الجملة لأن مفهوم المسند إليه ينطبق عليه أيضا.
وإذا صـح هـذا عـلى " الفعل " فهو فى المعجـم قسم من أقسام الكلام، وهو فى النحو عنصر من عنـاصـر الجملة، فإنه لا يصح على " الاسم " فهو فى المعجـم قسم من أقسـام الكـلام (وإن كان مفهوما فضفاضا ينطوى بداخله على عدد مـن أقسام الكلام الأخرى)، غير أنه فى النحو ليس عنصـرا من عناصر الجملة، فالاسم يصلح "مبتدأ" كما يـصـلـح فاعلا أو مفعولا به أو متمما لأحدهما أو ظرفـا، أى أنه يصلح لأن يكون شكلا من أشكال تحقيق مختلف عناصر الجملة (باستثناء الفعل) دون أن يكـون أحـد عناصر الجملة، ودون أن يكون فى حد ذاته وظيفة نحوية بعينها.
كما أن الجملة المسماة بِالِاسْمِيَّةِ لا تبدأ فقط " بالمبتدأ " فقد تبدأ أيضا " بالخبر" أى المسند. و" الخبر" ( المسند) ليس عنصرا من عناصر الجملة ( إلا فى الحد اَلْأَدْنَى للخبر)، وحسب مفهوم بعينه " للخبر"، بل قد يشتمل " الخبر" على عدد من عناصر الجملة، وقد تبدأ الجملة المسماة بِالِاسْمِيَّةِ بعنصر منها كالمفعول به، أو متمم الفاعل أو المفعول به، أو الظرف، فلا ينحصر الأمر فى البـدء بالمسـنـد إليـه (المبتدأ).
ومعنى هذا أن تسمية الجـملة بما تبدأ بـه مـن أقـسـام الكلام ستضيف إلى الجملة الاسمية والجملة الفعلية أنواعا أخرى من الجملة، كجملة الحرف، وجملة الضـمير، وجملة الظرف، وجملة الصفة، إلخ. إذا طورنا ووسعنا - كـما ينبغى - مفهوم أقسام الكلام فى النحو العربى.
كما أن تسمية الجملة بما تبدأ به من عناصر الجـملة ستضعنا أمام تسميات أخرى جديدة إلى جانب الجمـلـة الفعلية، كالجملة الفاعلية ( أو جملة المسند إليه)، والجملة المفعولية " أو جملة المفعول به"، وجملة متمم الفاعل أو المفعول به، والجملة الظرفية.
والحقيقة أن تسمية الجملة بما تبدأ به (من أقسام الكلام أو عناصر الجملة) لا تنطوى على مغزى نحوى حقيقى من أى نوع.
ذلك أن العلاقات النحوية بين كـلـمـات أو عناصر أو مكونات الجملة لا تتغير بالبدء بهذه الكلمة أو تلك، بالاسم أو بالفعل، بالفاعل أو بالمفـعـول، الأمر الذى يستبعد أى مغزى نحوى سليم لهذا التـصـنـيـف المزدوج للجملة العربية على أساس ما تبدأ به من اسم أو فعل.
ومن البديهى أن الفاعل يبقى فاعلا بدأنا به أم لم نبدأ، كما أن المفعول به سيظل مفعولا به فى بداية الجملة كمـا فى وسطها أو فى آخرها. وهذا ينطبق على المرحـلـتـين النحويتين المختلفتين من حيث الإعراب أو إسقاطه.
فالعلاقات أو الوظائف النحوية للكلمات لا تتغير بما تبدأ به الجملة، لا فى لغة تقوم على الإعـراب ومرونـة ترتيب عناصر الجـملة (كاللغة العربية المضرية أو القريشية التى نتناول هنا نحوها)، ولا فى لغة تقوم على إسقـاط الإعراب وتقييد ترتيب عناصر الجملة لمثل اللهـجـات العربية الراهنة واللغتين الإنجليزية والفرنسية بـين لـغـات أوربية أخرى عديدة).
إن لغة الإعراب ومرونة الترتيـب (اعتمادا عـلـى الإعراب) تعنى بالبداهة حرية التقديم والتأخير لعناصر الجملة (مع أخذ الترتيب الإلزامى لبعض الكلمـات فـى الجملة فى الاعتبار، مثل: حرف الجر قبل المجرور) دون أن تتأثر العلاقات النحوية بين هـذه الـعـنـاصر، وهـى علاقات تدل عليها - إلى جانب المعنـى - مـورفـيـمـات وعلامات الإعراب فى أواخر الكلمات ( أو فى أوائلها أو حتى بأحوالها الصفرية فى بعض اللغات المعربة).
أما لغة إسقاط الإعراب أو تقييد الترتيـب فـتعنى بالبداهة أيضا تثبيت الكلمات التى تمثل العناصر النحوية المحورية للجملة فى أماكن بذاتها فى الجملة، فى ترتيب بذاته، وكـثيرا ما يقوم ترتيب هذا النظام لعناصر الجمـلـة على أسبقية الفاعل للفعل وهذا للمفعول، إلا فى أحوال كالنفى أو الاستفهام أو لأغراض بلاغية، مع مرونة بعض العناصر، فى بعض أحوالها، من حيـث مكـانهـا فـى الجملة.
والنتيجة أن تصنيف النحو العربى للجمل إلى جملة اسمية وجملة فعلية يضعنا أمام عالمين للجمل يقوم بينهما سور صينى عظيم.
وتنـفـرد الجمـلـة الاسميـة بـركـنـين " أسـا سيـين " يـنـفردان بلقبيهما الخاصين - وهما المبتدأ والخبر- اللذين لا ينبغى أن يختلطـا وفـقـا لهذا النحو بالركنين "الأساسيين " اللذين تنفرد بهما الجملة الفعلية، واللذين ينفردان بدورهما بلقبيهمـا الخـاصين وهما الفعل والفاعل.
ومن مبادئ هذا التصنيف أنه لا يجوز النظر إلى المبتدأ فى الجملة الاسمية على أنه فاعل الفعل الذى يليه رغم إسناده إليه وتصريفه معه، كما لا يجوز، وفقا له، النظر إلى الفاعل فى الجملة الفعلية على أنه مبتـدأ تأخـر عـن خبره، ولا إلى فعل الجملة الفعلية على أنه خبر تـقدم، وهكذا.
والجملة المسماة بالفعلية، فى أبسط أشكالها، أى فى الجـملة الفعلية المقتصرة على الإسناد دون الدخـول فـى تركيب، مثل: ظهر الحق، جملة بلا تعقيدات (من فعل وفاعل)، غير أنه عندما يغدو "الفعل".. "خبرا" فـى جملة اسمية (وهنا يسمون ذلك الفعل مع فاعل يفترضونه جملة فعلية خبرا فى محل رفع) تبدأ التعـقـيـدات، أما الجملة المسماة بالاسمية، حتى فى أبسط صورها مثـل : العلم نور، فهى المجال الطبيعى لتعقيدات لا أول لها ولا آخر.
فكيف أقيم هذا السور العظيـم؟ وما منـشـأ هذا الازدواج ؟ وما كل هذا التعقيد من دون مبرر حقيـقى ؟ وهل هناك وسيلة أو وسائل نحوية لهدم هذا السور، وإزالة هذا الازدواج، وتبسيط هذا التعقيد؟
ينبغى أن نلاحظ قبل كل شيء أن هذه المفاهيـم والتصنيفات لأنواع الجمل، ولأركان كل نوع منها، إنما هى من ابتداع علم النحو، فهى تنتمى جميعا إلى النحو الوضعى أو العلمى، وهو نحو النحويين أو نحو النحاة، فلسنا إذن إزاء عناصر متنافرة فى اللغة العربية ذاتها، ولا فيما تنطوى عليه من منطق داخلى فى تكوين الجمل، وفى تحديد العلاقات النحوية بين كلماتها أو مكـوناتها أو عناصرها، أى النحو الموضوعى أو الجمعى، الماثل دوما فى صميم كل لغة تنطق أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية (العرب فى حالتنا).
وإنما نحن إزاء تناقضات مفاهيم نحو النحاة، فـلا مناص إذن من محاولة قطع تلك المسافة بل الهوة القائمة دوما بين النحوين، الموضوعى والوضـعى، الجـمـعـى والعلمى، ذهابا وإيابا، إلى أن نهتدى إلى إدراك واضح لطبيعة وأبعاد ومثالب هذا الازدواج ولسبل إزالته.
وينبغى أن يكون واضحا أن ازدواج التصنيف، إلـى جملة اسمية وجملة فعلية، للجملة العربية الواحدة، إنما يرتبط بصورة خاصة بقاعدتين نحويتين خاطئتين من وضع النحاة تكفى كل قاعدة منهما لخلق هذا الازدواج ويكفى اجتماعهما لتأبيده.
والقاعدة الأولى هى قاعدة تقدم الفعل على فاعله. وعلى هذا فإن المبتدأ " أو المفعول به - لفـعـل سـابـق - أو المنصوب بأحد حروف إن وأخواتها أو المجرور" الذى يليه فعل مسند إليه ومصرف معه، ومتطابق معه فـى الـنوع والعدد، لا يكون مع كل هذا فاعله. وعندما يأتى بعد ما يسمى بالمبتدأ فعل فلابد من البحث له عن فاعل يتقدمـه هذا الفعل، ولابد من العثور على هذا الفـاعل إمـا فـى صورة أو بالأحرى فى " شبح " ضمير مستتر تقديـره كـذا يعود على المبتدأ، وإما فى صورة ما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل، تاركين على كل حال ذلك الفاعل الحقيقى الذى أسند إليه الفعل من الناحية العملية، والذى هو فاعله دون شك، والذى لا مناص من ربط الفعل به بضـميـر مزعوم ، بارز أو مستتر، يعود عليه فى نهاية المطاف.
وبالإضافة إلى هذه القاعدة التى تنطلق من الجمـلة الفعلية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة اسمية ( نتيجة تأخير الفعل عن الفاعل، هناك القاعدة الأخرى التى تنطلق من الجملة الاسمية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة فعلية (نتيجة تقديم الفعل على المبتدأ).
وتحت عناوين مثل : وجوب تأخير الخبر، وجوب تقديم الخبر، جواز تقديم الخبر وتأخيره، نجد موجبات حقيقية مقنعة لا أمل من دون مراعاتها فـى منع التباس المعانى. غير أننا نجد بين أسباب وجوب تأخير الخبر سببا غريـبـا للغاية. فالفـعل الذى يلى المبتدأ واجـب التأخير فلا يجوز تقديمه. فهذا الفعل المتأخر- الذى يـصنـع مـع فـاعـلـه المزعوم : الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل ما يسمونه جملة فعلية هى خبر المبتدأ - لا يجوز تقديمه لأنه إن تقدم يغدو المبتدأ فاعلا. فوجوب التأخير يرجـع إذن إلى خشية الالتباس بين المبتدأ والفاعل. وسبب وجوب تأخير الفعل هنا غريب حقا لأنه ليس مـفروضـا لإزالـة التباس فى فهم معنى الجملة، أى فى اللغة ذاتها من حيث هى لغة، بل هو مفروض لإزالة الالتباس النحـوى بـين مفهومين نحويين من وضع النحاة أنفسهم وهما المـبتـدأ والفاعل. فالخوف من الالتباس ليس على اللغة أو المعنى، بل على علم النحو كـما وضعه هؤلاء العلماء!
وهاتان القاعدتان " قاعدة تقدم الفعل على فـاعـلـه، وقاعدة تأخير الفعل الذى يلى المبتدأ وجوبا " تـصـنـعـان ازدواج تصنيف الجمل وتؤيدانه، كما أنهما تأتيان من هذا الازدواج وتتغذيان عليه. والحقيقة أنهما غريبتان على اللغة العربية وعلى منطقها الداخلى، ذلك أن اللغة ذاتها ظلت على مرونتها حيث تتقدم عناصر الجملة أو تتأخر ما شـاء الناطقون أو الكاتبون بها ذلك، بشرط أمـن الـلبس أو التشويش أو الاضطراب فى المعانى وليس بأى شرط غريب على اللغة.
أما تقييد هذه المرونة فلا أساس له إلا فـى تصورات ونظريات وأوهام ومزاعم علماء النحو الذين لا يقيـدون مرونة اللغة، ولا يريدون أصلا تقييدها، وإنما يقيدون فى الحقيقة أدوات الاستيعاب النحوى النظرى لهذه المرونة فى اللغة عن طريق فرض مفاهيم نحوية متحجرة.
وبطبيعة الحال فإن هاتين القاعدتين تجدان مكانهـمـا ضمن نسق كامل من المفاهيم النحوية التى تصنع وتؤيـد تعقيدات نحوية لا حصر لها. والحقيقة أن إلـغـاء هاتين القاعدتين يكفى ( مع إعادة النظر فى النسق بكامله ) لإعادة الوحدة للمفهوم النـحوى للجملة العربية بعيـدا عن الجملتين الاسمية والفعلية. وبهذا وحده يمكن إزالة السور والازدواج والتعقيد فى آن معـا. واكتفى هنا بالإشارة بإيجاز إلى تصنيف آخر للجملة العربية إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ليس على أساس الابـتداء بالاسـم فـى الأولى والابتداء بالفعل فى الثانية، بل على أسـاس أن الجملة الفعلية هى تلك التى تشتمل على فعل مهما كـان مكانه فيها، وأن الجملة الاسمية هى تلك التى لا تشتمل على أى فعل مطلقا. والرد الأساسى على هذا التصنيف هو أنه يقوم على فكرة أن هناك جملة عربية تشتمل على فعل وجملة عربية تخلو منه. والحقيقة أنه لا توجد جملة عربية تخلو من الفعل إلا فى إطار مـفهـوم " الحـذف لما، وعلى وجه الخصوص فى إطار حذف فعـل الكينونة فـى المضارع المثبت، مثل قولنا : " الكتاب مفيد "، غير أن هذه الصيغة الأكثر شيوعا للمضارع المثبت الذى نحذف فيه فعل الكينونة لا ينبغى أن تحجب حقيقة أن هذا الفـعـل مـاثـل هناك، ولا يمكنك أن تأتى بالماضى أو المستقبل " إثبـاتـا أو نفيا " أو المضارع " نفيا " دون أن يظهر فعل الكينونـة الـذى يرجع حذفه فى المضارع المثبت إلى الاقتصاد اللغوى.
ويعنى كل هذا بطبيعة الحال ضرورة الاكتفاء بالمفهوم النحوى الأساسى بل المحورى المتمثل فى الجملة وإلـغـاء تصنيفها إلى اسمية وفعلية، وكذلك ضرورة أن يحل محل مفاهيم الأركان الأربعة الحالية " المبتدأ والخبر فى الاسمية، والفعل والفاعل فى الفعلية " ركنان " وحيدان " للجملة مهما كان ما تبدأ به.
وهذان الركنان اللذان استخدمهما علماء النحو القدماء أنفسهم لكن جنبا إلى جنب " أو بصورة ثانوية أو فرعيـة " مع التصنيف المزدوج إلى جملة اسمية وأخرى فـعـليـة، بركنى كل منهما، وبكل ما يترتب على هذا التصنيف من مذاهب مضللة، واللذان أحياهما ثم أماتهما من جديد علماء محدثون نتيجة للحدود الضيقة لتصوراتهم عـما يسمونه بتيسير النحو، وكذلك نتيجة لقوة أعداء كل تجديد أو تيسير للنحو فى مصر والعالم العربى.. هذان الركنان " الوحيدان" للجملة العربية الواحدة هما : المسنـد إلـيه والمسند، هذان المفهومان اللذان يحتاجان بدورهما إلـى تطوير جذرى إذا نحن أردنا للغة العربية البقاء ( حتى مجرد البقاء ) فى عالم القرن الحادى والعشرين، عالم المعالجـة الآلية للمعلومات، هذا العالم الذى يستحيل دخوله من دون التطوير الجذرى للنحو العربى الذى كان ابن زمانـه رغم إنجازاته الباهرة التى لا تزال مصدر فخرنا إلى اليـوم وإلى الغد.




















الملحق الثاني

هل الخبر مرفوع؟

1: مقدمة لابد منها: النحو بين التيسير والتطوير
تعمدتُ أن أضع هذا العنوان الذى يبدو "مثيراً" للغاية، ليس بقصد الإثارة أو الاستفزاز، بل ليكون بمثابة رمز يتجاوز الموضوع المباشر لهذا المقال الذى يدور بالفعل حول مسألة: هل يجوز الحديث أصلاً عن إعراب الخبر، وناهيك برفع ما يسمى بالخبر المفرد، وقياس رفع النوعين الآخرين مما يسمى بأنواع الخبر عليه، كما تعلّمنا من كتب النحو العربي؟
أما الرمز المقصود فهو ـ كما اتضح للتو ـ كما يلى:
تُبرِّر لنا حقيقة أن إصلاح النحو العربى لم يحقق خطوة واحدة كبرى إلى الأمام طوال القرن العشرين بالذات، رغم كثرة المحاولات الفردية والجماعية والمجمعية والوزارية، أن نسمح لأنفسنا بإعادة النظر حتى فى قواعد النحو التى قد تبدو لنا من البديهيات مثل رفع الخبر.
والمقصود أيضاً أن أحد عوامل الإخفاق الذى انتهت إليه كافة المحاولات الرامية إلى تيسير النحو العربى، أو تبسيطه، أو تسهيله، أو تجديده، أو تحديثه، أو تطويره، أو تحريره، يتمثل فى واقع أن أغلب تلك المحاولات انطلقت من فكرة خاطئة مؤداها أن النحو العربى علم نضج واحترق كما قيل فى القديم، أى بافتراض أنه علم صحيح وكامل غير أنه وعر وشائك ومعقد فليس المطلوب إذن سوى تيسير أو تعديل طرق عرضه وتبويبه.
وصحيح أن محاولة هنا أو هناك انطلقت من رفض وتحدِّى أسطورة النحو العربى الصحيح الكامل المكتمل المحترق نُضْجاً، واتجهت نحو إعادات نظر متفاوتة العمق والنضج. غير أن من الصحيح أيضاً أن مثل هذه المحاولات القليلة بل النادرة ظلت تتميز بأن حصيلتها مجرد أفكار وتصورات جزئية مبعثرة، إنْ كانت تنطوى على نظرات صائبة فهى تظل عاجزة عن تطوير نظرية أو نظريات نحوية متسقة، فكانت أضعف من أن تصمد أمام التيارات التى تحارب كل تجديد فى العلوم اللغوية وفى النحو العربى بالذات.
على أن التيار السائد فى محاولات إصلاح النحو العربى ظلّ يتزين بالألقاب الفخمة كالتيسير أو التجديد أو التحديث أو التحرير، دون أن يلاحظ أصحاب هذه المحاولات حقيقة أنهم ينتقلون من إخفاق إلى إخفاق، بل ربما تصوروا أن إخفاقاتهم نجاحات أو حتى فتوحات كبرى. غير أن المحصلة الحقيقية ظلت تتمثل فى تلك العقدة المستعصية التى ظل يمثلها النحو العربى، والتى ظلت تتحدى من يتعلم العربية أو يعلمها، ومن يقرأ بها أو يكتب، ومن يتكلم بها أو يسمع.
ومنذ القديم، ثم طوال القرن العشرين، وإلى يومنا هذا، ترتفع الشكوى، كما يتواصل التبجح (وكله أو أكثره جعجعة بلا طحن) ضد النحو والنحاة، إلى جانب المحاولات الجادة التى تخفق أو تتبدد.
وبطبيعة الحال فإن الخريطة التفصيلية لهذه المحاولات، بالتصنيفات الدقيقة المطلوبة لتقييم إنجازاتها المحددة وإخفاقاتها المدوية، ستظل ضرورية لكل نجاح فى المستقبل. غير أن هذا العمل، الذى يبدو وصفياً للغاية وموضوعياً للغاية، سيظل مستحيلاً ما لم يستند إلى "حل" حقيقى لمشكلة النحو العربى؛ انطلاقاً من حقيقة أن هذا النحو كان ابن زمانه ومكانه، وأنه بالتالى (بعيداً عن النضج حتى الاحتراق) علم مفتوح على التطور. ذلك أن بين كل علم وموضوعه مسافة يظل محكوماً على هذا العلم بأن يعمل، ويواصل العمل دوماً، على قطعها، أو بالأحرى: على تضييقها، ربما قبل أن تتسع من جديد، فى سياق غفلة يغفلها العلم ذاته، أو فى سياق جمود يؤدى إلى عرقلة المجتمع لتطور العلم.
والحقيقة أن النحو العربى، الذى نشأ فى سياق محاربة ظاهرة اللحن الإعرابى (الأمر الذى يتمثل مغزاه فى قدم ظاهرة الازدواج النحوى فى اللغة العربية)، بدأ منذ البداية مطبوعاً بطابع خصائص نشأته إلى حدّ الخلط التام بين النحو والإعراب إلى يومنا هذا، حتى فى أحدث المراجع المجمعية، الأمر الذى ألحق الأضرار بالنحو والإعراب على حد سواء.
فبدلاً من تطوير مفاهيم نحوية ناضجة كأساس لإعراب واضح وبسيط، سار الخلط بين النحو والإعراب مع منح مكان الصدارة للإعراب بالنحو العربى على درب وصل بنا إلى المزيد من التراجع والنكوص باسم التجديد إلى حدّ بحث مسائل النحو تحت عناوين إعرابية بحتة مثل: المرفوعات، المنصوبات، المجرورات، إلخ.. على حين تلتبس المفاهيم النحوية وتتعدد ألقاب المسمى الواحد منها ويضطرب تبويبها تماماً.
وصار تيسير النحو يتمثل عند أصحابه فى مزيد من دفع هذا الاتجاه المدمر للنحو والإعراب على السواء إلى نتائجه المنطقية، حيث تتصدر العناوين والمداخل والمناهج الإعرابية، وتتراجع وتتشوه وتضمر المفاهيم النحوية، فلا تكون الأساليب والوسائل العصرية كالجدولة والرسوم البيانية وما أشبه ذلك سوى ديكورات عصرية تزين تلاوة نفس التعاويذ الإعرابية الأزلية باسم التجديد.
والحقيقة أن التيسير وما إليه "شعار" خاطئ كما أنه مستحيل كنقطة بداية. إنه وَهْم من أوهام أسطورة النحو الكامل الصحيح لكنْ المعقد والذى ينبغى بالتالى تيسيره.
إن ما يحتاج إليه النحو العربى هو التطوير الجذرى. وليس من المطلوب أبداً أن يستوعب أصول هذا التطوير أو نتائجه وتصنيفاته الدقيقة سوى علماء النحو ومعلميه ودارسيه على أعلى المستويات. أما التيسير فيأتى بعد التطوير. ويتمثل دور التيسير فى توزيع حصيلة التطوير ونتائجه على مراحل تعليمية أو مستويات بما يتناسب مع كل مرحلة أو مستوى، وهنا مجال واسع للبراعات والمهارات والأساليب والوسائل التعليمية والتربوية العصرية.
وينبغى أن نلاحظ أن النحو البالغ التطور والنضج والتعقيد، وهو النحو المنشود، ضرورى ليس فقط فى سبيل التيسير، وليس فقط لأنه ينطوى فى حد ذاته على أشكال مباشرة من التيسير لا تحصى ولا تعد. إنه ضرورى كذلك للتعامل، من ناحية، مع رفع مقتضيات التطور اللاحق للنحو كعلم لغوى، وللتعامل، من ناحية أخرى، مع مقتضيات تطور الفكر والعلوم والتكنولوجيا فى عصر علم وتقنية معالجة المعلومات آلياً. وفى هذا العصر الذى تدفع مقتضياته وضغوطه بشدة نحو وصول تبلور النحو إلى غاية من التفكيك والترابط والتماسك والتطوير والكمال حتى تكون اللغة المعنية قابلة للاستخدام بكل دقة ويسر فى سياق هذه الثورة التقنية الهائلة، يمكن القول إن النحو الجديد صار شرطاً من شروط ما اصبح يسمى بدخول القرن الحادى والعشرين.
وحتى لا نواصل جلد الذات، ينبغى أن ندرك أن ما يمكن أن نسميه بالنحو الجديد صار يفرض ثوراته على اللغات الأكثر تطوراً فى الحضارة السائدة فى عالم اليوم. ولا شك فى أن العقود الأخيرة من القرن العشرين شهدت ثورة نحوية عميقة وهائلة فى اللغتين الإنجليزية، أولاً، والفرنسية، ثانياً، فى حدود تجربتى المباشرة، وفى غيرهما من اللغات الأوروبية كذلك، بحيث صار النحو غير النحو. وسوف تقنعك أبسط المقارنات للمفاهيم النحوية فى كتب النحو الإنجليزى أو الفرنسى، بين السبعينات القريبة والتسعينات الراهنة، بأن الثورة النحوية حقيقة واقعة وربما سنحت لنا هنا فرصة الإشارة الموجزة إلى بعض ملامحها.
على أنه ينبغى الاعتراف بأن مشكلة النحو العربى مزدوجة، بل مركبة، بل معقدة. وإذا اكتفينا بذكر العناوين فهناك الازدواج النحوى الذى يسود حياتنا اللغوية بين الإعراب فى قطاعات منها وإسقاط الإعراب فى قطاعات أخرى. وهناك تمحور النحو حول الإعراب، وبالتالى ضمور المفاهيم النحوية، وحتى تراجعها من خلال محاولات التيسير طوال القرن العشرين. وهناك غياب المناخ الملائم للبحث العلمى الحر فى مجال النحو العربى كمحصلة للقيود الأيديولوجية وللرقابة الذاتية النابعة منها، أو المرتبطة بها فى أعماق أرواح وصدور الباحثين. ويساعد كل هذا بطبيعة الحال على عرقلة وتشويه التفاعل الحر مع الثورة النحوية التى شهدتها وتشهدها لغات أخرى.
وينبغى أن نشير هنا، وإنْ بسرعة، إلى الفرق بين النحو والإعراب.
وإذا كان الصرف فى أى لغة هو نظام تكوين الكلمات وأبنيتها وزيادتها وتغييرها للتعبير عن اختلاف العدد والنوع أو التعبير عن اختلاف الأزمنة، فإن النحو هو نظام تكوين الجمل فى لغة من اللغات، وبعبارة أخرى فهو نظام تكوين العلاقات بين مكونات أو عناصر الجملة.
أما إعراب الكلمات، وترتيب الكلمات (مع إسقاط الإعراب)، فكل منهما أداة (تُغنى الواحدة منهما عن الأخرى) من أدوات النحو للتمييز بين عناصر الجملة: أداة يستخدمها النحو فى هذه اللغة أو تلك، فى هذه المرحلة أو تلك. فالنحو، أى نظام تكوين الجمل، قائم فى الحالين، أى فى وجود هذه الأداة أو تلك.
وهنا تمييز واجب بين ما هو موضوعى وما هو وضعى فى كل من النحو والإعراب.
فالنحو الموضوع نظام أو نسق نحوى ماثل فى صميم تكوين اللغة كما تتكلم و/أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية بصرف النظر عن وجود، أو مدى تطور ونضج، النحو الوضعى (أى: علم النحو) الذى يدرس ذلك النحو الموضوعى. وكما سبق القول، هناك مسافة ماثلة (وما بين النحو الموضوعى والنحو الوضعى يعمل هذا الأخير دوماً على قطع جزء منها لاستيعاب ظواهر قديمة أو جديدة ينطوى عليها النحو الموضوعى. وهذا الأخير، أى النحو الموضوعى، أو "نحو العقل الجمعي"، لدى جماعة لغوية بعينها هو المرجع والأساس والأصل. أما "نحو" العلم المعروف بهذا الاسم، نحو النحاة أو النحويين أو الدارسين أو العلماء، "نحو" الاجتهاد فى فهم النحو الموضوعى، فإنه قابل دوما لإعادة النظر.
والنحو الموضوعى الجمعى يتغير تاريخياً، ولا يملك أحد التلاعب بحقائقه. أما النحو الوضعى، نحو النحاة، فلا موجب لتقديسه، بل الأجدر بنا أن نعمل دوماً على تصحيحه وتطويره انطلاقاً من تطور النحو الجمعى من ناحية، ومن تطور مناهج دراسته من ناحية أخرى.
وينطبق الشيء ذاته على الإعراب (وكذلك على بديله).
فالإعراب الموضوعى الجمعى الماثل فى صميم السليقة اللغوية الأصلية لا يملك تعديله أو تغييره أو إسقاطه سوى الجماعة اللغوية ذاتها، وبصورة تاريخية. أما فهم النحاة وأصحاب صناعة الإعراب لهذا الإعراب، وعوامله أو أسبابه والعلاقات بين حقائقه، فهو اجتهاد قابل دوما للمزيد من الاجتهاد.
وينبغى أن يكون واضحاً أن كل محاولتنا للاجتهاد فى مسائل النحو والإعراب فى اللغة العربية القريشية أو المضرية (بالضاد) إنما تنصبّ على فهم النحاة للنحو والإعراب. والمرجع دوما هو النحو الموضوعى الجمعى والإعراب السليقى، كما يتجسدان فى كلام العرب (من نثر وشعر) كما حفظه لنا تراثهم الغنى بكل عيونه وينابيعه ومصادره.

2: المسند إليه هو المرفوع الحقيقى الوحيد
ونعود إلى الخبر..
وقد علَّمتنا كتب النحو العربى أن الخبر من مرفوعات الأسماء. وبقية مرفوعات الأسماء هى كما نعلم: المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان وأخواتها" (ومنها أفعال المقاربة والرجاء والشروع).
كما علّمتنا كتب النحو العربى أن الخبر ثلاثة أنواع: 1- الخبر المفرد 2- الخبر الجملة (الاسمية أو الفعلية) 3- الخبر شبق الجملة (الظرف أو الجارّ والمجرور).
وعند "دخول" ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر من أفعال وحروف على الجملة الاسمية تظل الأنواع الثلاثة للخبر "قائمة" مع اختلاف أحكام إعرابها. فإلى جانب خبر المبتدأ المرفوع رفعاً ظاهراً أو تقديريًّا أو محليًّا للمفرد أو رفعا محليًّا للجملة أو شبه الجملة، هناك خبر "إن وأخواتها" المرفوع أيضاً وبنفس التفاصيل، وخبر "كان وأخواتها" المنصوب نصباً ظاهراً أو تقديريًّا أو محليًّا للمفرد أو نصبا محليًّا للجملة أو شبه الجملة. ويُقال لنا إن "ظن وأخواتها" أفعال تنصب المبتدأ والخبر مفعولين، كما يقال لنا إن "أعلم وأرى وأخواتهما" أفعال تنصب ثلاثة مفاعيل، ثانيها وثالثها أصلهما المبتدأ والخبر.
فالخبر المرفوع إذن هو خبر المبتدأ وكذلك خبر "إن وأخواتها" (وكل خبر عندهم خبر المبتدأ لأن خبر "إن يأتى مع المبتدأ المسبوق بالحروف المسماة بالناسخة، ولأن خبر "كان" يأتى مع المبتدأ الذى "تدخل" عليه "كان وأخواتها")، والخبر المرفوع رفعاً ظاهراً هو الخبر المفرد دون غيره.
وعندهم أن المبتدأ والخبر هما الركنان "الأساسيان" للجملة الاسمية، وعندهم جملة أخرى يسمونها الجملة الفعلية وركناها "الأساسيان" هما الفعل والفاعل.
وسوف نبحث، فى القسم الثالث والخير من هذا المقال الموجز، مسألة: هل الخبر مرفوع، وهل يجوز الحديث عن إعرابه أصلاً؟ وهى وثيقة الصلة بمسألة: ما هو الخبر؟
وليس من المنطقى أن نجيب على السؤال الأخير حول طبيعة الخبر قبل أن نبحث أولاً طبيعة المبتدأ (وهو الركن الأول تحليلياً وليس مكانياً فيما يسمى بالجملة الاسمية).
وسرعان ما نصل إلى ضرورة إعادة النظر فى كل هذه التسميات والتقسيمات والتصنيفات: هل هناك مبرر نحوى حقيقى لتقسيم الجملة العربية الواحدة إلى جملة اسمية وجملة فعلية؟ وهل تنقسم الجملة إلى ركنين أساسيين أم إلى ركنين وحيدين؟ وبعبارة أخرى: هل الركنان هما كل ما فى الجملة أم تشتمل الجملة على مكونات أخرى؟ وهل هناك مبرر حقيقى للتمييز بين المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم كان؟ أو بين الفعل والخبر؟
وإذا كانت مرفوعات الأسماء كما يسمونها تشمل إلى جانب الخبر، كما سبقت الإشارة: المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان"، فمن الجلى أن الخبر يختلف عن بقية المرفوعات.
ومن الأفضل أن نبدأ من الآن فى استخدام تعبير المسند إليه الذى ينطبق على كل هذه المرفوعات دون الخبر، وتعبير المسند الذى يتطابق مع الخبر وحده دون غيره.
وفى كتاب العين تحدث الخليل بن أحمد عن "السَّنَد" والمسند إليه، وفى "الكتاب" تحدث سيبويه عن المسند والمسند إليه، والسَّنَد عند الخليل والمسند عند سيبويه عرفهما النحو العربى بعدهما بتعبير المسند إليه، أما المسند أليه كما استخدماه فهو ما عرفه النحو العربى بعدهما بالمسند.
والمسند إليه هو ذلك الاسم (أو الضمير، إلخ..) الذى نسند إليه الفعل ونصرّفه معه سواء تقدم الفعل عليه أو تأخر عنه، فهو يشمل إذن: المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان". فلا جدال فى أن هذه الأشياء تشترك جميعاً فى واقع إسناد الأفعال إليها وتصريفها معها، وفى واقع أن المسند إليه، فى كل هذه الصور المتنوعة والمتمايزة من نواح أخرى، هو الفاعل النحوى للفعل المصرَّف معه. وسنرى عند المزيد من مناقشة المسند (الخبر) أن الجملة العربية لا تخلو من الفعل، باستثناء فعل واحد هو فعل الكينونة يظهر فى كل الأزمنة فى النفى والإثبات ويتم حذفه فى المضارع المثبت (مثلاً: الكتاب مفيد) فى الشكل الأكثر شيوعا لاستخدام هذا الفعل فى المضارع المثبت، ومن المفارقات أن حذف فعل واحد فى اللغة كلها فى المضارع المثبت وحده دون غيره كان الأساس الوحيد لتصنيفات أساسية للجملة ولأنواع الخبر ولغير ذلك فى النحو العربى (وليس فيه وحده على كل حال) انطلاقا من أسطورة الجملة الخالية تماماً من الفعل.
وانطلاقاً من فكرة من وضع النحاة وليست فى منطق اللغة العربية تتلخص فى البدء بوضع تعبيرين مختلفين هما المبتدأ والفاعل ثم التمييز بينهما بوضع قاعدتين غريبتين على اللغة العربية تزعم إحداهما أن الفاعل يتقدم عليه فعله "وجوباً" وتزعم الأخرى أن المبتدأ يتأخر عنه فعله "وجوباً"، اختلق النحو العربى عالمين: عالم الجملة الاسمية وركناها "الأساسيان" هما المبتدأ والخبر، وعالم الجملة الفعلية وركناها "الأساسيان" هما الفعل والفاعل.
والحقيقة أن عند العرب، على خلاف ما عند نُحاتهم، جملة عربية واحدة، ما كان ينبغى أبداً تقسيمها بما تبدأ به من اسم أو فعل أو غيرهما من أقسام الكلام، ولا بما تبدأ به من مفاهيم نحوية من فاعل أو مفعول به أو ظرف أو غير ذلك. وبإدماج المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان" فى مفهوم المسند إليه (الفاعل) والفعل وعناصر أخرى فى مفهوم المسند (الخبر)، وبإطلاق التقديم والتأخير بينهما إلا فيما تمليه مقتضيات أمن اللبس، يندمج هذان العالمان النحويان الوهميان فى عالم نحوى حقيقى واحد. وعندئذ يمكن الحديث عن حقيقة أن الجملة تنقسم تحليلياً إلى المسند إليه والمسند (أو المسند والمسند إليه)، وأنهما ركناها أو قسماها الوحيدان وليسا ركنيْها أو قسميْها الأساسييْن، ذلك أن الجملة ليس فيها سوى المسند إليه (الفاعل) والمسند (الخبر).
وإذا كان الخليل بن أحمد وسيبويه قد أدمجا ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء الخبر فى مفهوم نحوى واحد استقرت تسميته فى نهاية الأمر فى مفهوم وتعبير المسند إليه، على حين صار تعبير المسند متطابقاً مع الخبر، فالحقيقة أن كل هؤلاء النحاة وكذلك النحاة المحدثون (باستثناء نادر وبالغ الأهمية رغم حدوده الضيقة) قاموا بتهميش تعبيرى المسند إليه والمسند فاستخدموهما، لكنْ إلى جانب التسميات الأخرى وعلى هامشها، مع الاحتفاظ بعالمى الجملة الاسمية والجملة الفعلية متجاوريْن ومتمايزيْن، بفضل أساطير التقديم الوجوبى والتأخير الوجوبى ومزاعم أمن الالتباس ليس فى اللغة والمعنى، بل بين مفاهيم نحوية من وضع النحاة أنفسهم مع أنها غريبة على اللغة العربية القريشية التى هى لغة إعراب أى لغة مرونة فى ترتيب كلمات أو مكونات أو عناصر الجملة، وهى مرونة تتعارض مع تقييد المسند والمسند إليه بمكان، وتعنى إطلاق التقديم والتأخير بينهما مع مراعاة المقتضيات الحقيقية لأمن اللبس.
وهناك فرق فى التصريف مع بعض الضمائر بين تقدم الفعل على المسند إليه أو تأخره عنه (مثلاً: يتفوق المجتهدون ـ المجتهدون يتفوقون). وهناك أيضاً فرق "إعرابي" فعندما يتقدم الفعل يكون المسند إليه مرفوعاً (باستثناءات قليلة بل نادرة). أما عندما يتأخر الفعل فإن المسند إليه يتأثر بمؤثرات سابقة على الإسناد إليه كأن تسبقه الحروف المسماة بالناسخة أو حروف الجر "الأصلية" أو حتى أن يكون مفعولا به لفعل و"فاعل" سابقيْن (وبالطبع فإن النحو العربى لا يعترف بشيء من قبيل المفعول الفاعل لأن هذا الأخير يتقدم عليه فعله "وجوبا"). غير أن هذيْن الفرقيْن "التصريفي" و"الإعرابي" لا ينبغى أن يبررا التمييز النحوى المبدئى بين المبتدأ من جانب والفاعل و"نائبه" واسم "كان" من جانب آخر. كما أن الفروق الدلالية بين أنواع المسند إليه (بين أن نصرف معه الفعل التام المبنى للمعلوم أو المبنى للمجهول أو الفعل الناقص) لا ينبغى أن تحول دون استيعاب ما يسمى بنائب الفاعل واسم "كان" فى مفهوم المسند إليه مع الفاعل والمبتدأ، مع تقديم كافة الإيضاحات اللازمة للتمييز بين دلالات شتى للمسند إليه ذاته.
وكما نجد فى واقع اللغة العربية (ولغات الإعراب الأخرى قديما وحديثاً) فإن المسند إليه (الفاعل) هو المرفوع الحقيقى الوحيد، وهو عنصر من عناصر الجملة يعنى الفاعل النحوى للحدث، أما بقية عناصر الجملة (الفعل، المفعول به، متمم الفاعل أو المفعول به، الظرف) فهى التى يتكون منها المسند (الخبر) الذى يتمثل حده الأدنى فى الفعل الذى لا يخلو منه المسند (الخبر) وبالتالى الجملة أبداً، ويتمثل حده الأقصى فى هذه العناصر الأربعة جميعاً، وسنقف عند المسند وعناصره فى القسم الثالث والأخير، وإنما نومئ هنا إلى تعدد عناصر المسند كأساس للإشارة إلى أن المسند (الخبر) خارج الإعراب من رفع أو غيره. وهناك مرفوعات عشوائية فى موضع قليلة ويسهل الإلمام بها ومنها ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع، أما رفع المسند إليه فلا يمكن فهمه إلا فى إطار مخالفته منطقياً ونحوياً وإعرابياً، لنصب المفعول به وهو أحد عناصر الجملة ويأخذه الفعل المتعدى ضمن المسند (الخبر) فى عدد من نماذج الجلة، وهى نماذج تتعدد بتعدد نماذج المسند (الخبر).
وسيكون علينا أن نكتفى بإشارات موجزة إلى عدد آخر من أساطير النحو العربى التى يقوم عليها عدد من أبوابه، وهى أساطير الحروف والأفعال المسماة بالناسخة.
وحروف "إن وأخواتها" أدوات تقدم جملة أو تربط بين جملتين ولهذا يأتى بعدها المسند إليه (الفاعل)، ويكفى بالتالى أن نعتبرها أدوات أو حروفاً ناصبة للأسماء (أو للمسند إليه)، بعيداً عن أسطورة الحروف الناسخة للمبتدأ والخبر.
وهناك أسطورة أن أفعال "ظن وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعولين. ولا شك فى أن هذه الأفعال تأخذ "منصوبين" فى الاستخدام النموذجى المميز لهذه الأفعال. غير أن أقل تأمل متحرر من تقديس النحاة يوضح أن أحد المنصوبين مفعول به وأن الآخر لا يمكن أن يكون مفعولا به. فإذا قلت: "ظننتُ محموداً قادماً"، فلا يمكن أن يكون "قادماً" هذا مفعولاً به، إنه بالأحرى: متمم للمفعول به. ذلك أن الجملة يقع فيها الحدث الذى يتضمنه فعل الظن على كلمة "محموداً" وهو المفعول به، ولكنه لا يقع على كلمة "قادماً" التى هى صفة ضرورية أو إجبارية للمفعول به لإتمام معنى الجملة فى هذا النموذج من نماذج الجملة.
وهناك أسطورة أن أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" تأخذ أو تنصب ثلاثة مفاعيل. والحقيقة أن المنصوب الثالث، وهو المفعول الثالث المزعوم، ليس سوى متمم المفعول به، وهذا المتمم يظهر مع أفعال "أعطى وأخواتها" أيضاً. وإذا كان بوسعى أن أقول: "أعلمتُ محموداً الخبر يقيناً" فإن بوسعى أن أقول أيضاً: "أعطيت محموداً الكتاب جديداً". وكل من كلمتى "يقيناً" و"جديداً" متمم للمفعول به وشرطهما أن يكون المفعول المباشر: "الخبر" فى الجملة الأولى، و"الكتاب" فى الجملة الثانية، معرفة، أما المفعول الأول: "محموداً" فى الجملتين فهو المفعول غير المباشر وهو "متلقي" أو "آخذ" المفعول المباشر.
وفى الاتجاه المعاكس لأدوات نصب الأسماء "إن وأخواتها" تؤثر أفعال "كان وأخواتها" فيما يسمى بالخبر غير أنها لا تؤثر فى المسند إليه، فهو مرفوع ككل مسند إليه، ما لم يخضع قبل الإسناد إليه لتأثير ناصب أو جارّ (وليس هذا تأثير "كان وأخواتها" بطبيعة الحال).
ولهذا أشرنا إلى أنه ينبغى إدماج ما يسمى باسم "كان" فى المفهوم المحدّد لعنصر الجملة المسمى بالمسند إليه (الفاعل).
وبعيداً عن أسطورة أن أفعال "كان وأخواتها" ناسخة للمبتدأ والخبر، نشير إلى أن هذه الأفعال يتكون معها نموذجان من نماذج الجملة: (المسند إليه + كان + متمم الفاعل) و(المسند إليه + كان + ظرف المكان – وظرف الزمان فى حالات بعينها). أى أن ما يسمى بخبر "كان" يدخل فى إطار مختلف تماماً بنموذجين من نماذج المسند (الخبر)، وترتبط هذه النماذج ارتباطاً وثيقاً بأنواع الأفعال: الناقص واللازم والمتعدى إلى مفعول واحد أو مفعولين وكذلك بإمكانات استخدام المتعدى إلى مفعول واحد أو مفعولين وكذلك بإمكانات استخدام المتعدى إلى مفعول واحد لازماً أيضاً واستخدام المتعدى إلى مفعولين لازما أو متعدياً إلى مفعول واحد أيضاً.
وإذا ابتعدنا عن أسطورة أن الجملة تشتمل على عناصر أخرى غير المسند إليه والمسند، وهى عناصر أسماها النحو العربى التقليدى "فَضْلة" (كما أسماها النحو الفرنسى وما يزال يسميها "تكملة" بنفس المعنى)، واعتبرنا المسند (الخبر) شاملاً لكل ما فى الجملة باستثناء المسند إليه، كما يفعل "النحو الجديد" بوجه عام، يغدو من الجلى تماماً أن المقصود بالخبر سيختلف، وأن هذا الخبر يظل خارج مسألة الإعراب لتعدد عناصره، ولعدم مخالفته نحوياً للمسند إليه، وأن العثور على مرفوع عشوائى، وإعلانه "خبراً"، ثم قياس إعراب "الخبر" ورفعه عليه، أمور ليس لها مبرر حقيقى من نحو أو منطق، كما سنرى فى القسم التالى.

3: المسند (الخبر) لا علاقة له بالإعراب
المسند (الخبر) حُكْم، فالمسند إليه "محكوم عليه"، والمسند "محكوم به"، والمسند إليه "مُتحدَّث عنه" والمسند "مُتحدَّث به"، والمسند إليه "موضوع"، والمسند "محمول".
وما دام المسند (الخبر) حُكْماً، فلا يمكن أن يتمثل الحكْم فى اقتناص "كلمة" أو "عبارة" وردت ضمن هذا الحكم والمطابقة بينها وبين الحكم كله، كما يفعل النحو العربى، والنحو التقليدى بوجه عام فى لغات أخرى، حتى عندما تتعدد الكلمات أو العناصر أو "الحيثيات" الواردة فى الحكم.
وكما سبقت الإشارة فإن الجملة العربية تنقسم إلى جزءيْن أو قسميْن أو ركنيْن "وحيدين" عما المسند إليه "الفاعل" والمسند "الخبر". والمسند إليه عنصر واحد من عناصر الجملة. ويختلف المسند عن هذا تماما، فهو كل ما تقوله الجملة عن المسند إليه، وهو كل الجملة باستثناء المسند إليه.
والمقارنة بالمسند إليه (الفاعل) الذى يتطابق ـ مهما تعددت كلماته أو تنوعت صيغه ـ مع عنصر واحد من عناصر الجملة فإن المسند (الخبر) مفهوم فضفاض يشتمل على عناصر قد تتعدد من عناصر الجملة، فيما بين مسند (خبر) الحدّ الأدنى، المكون من عنصر إجبارى واحد هو الفعل المستخدم لازماً (حتى إنْ اشتملت الجملة على كلمات أو عناصر أخرى اختيارية لاستيعاب بعض المعانى والدلالات المقصودة فى الجملة دون أن تكون إجبارية لهذا النموذج للجملة أو لهذا النموذج للمسند)، ومسند الحد الأقصى، المكوّن من أربعة عناصر إجبارية هى الفعل والمفعول به والظرف والمتمم (متمم الفاعل أو المفعول).
وعلى هذا فإن المسند (الخبر)، بحكم بداهة طابعه الفضفاض لاشتماله على عناصر ومكونات وتراكيب متعددة، يخرج من دائرة الإعراب (من رفع أو نصب أو خلافهما)، كما أنه يخرج، لنفس السبب، من دائرة المفاهيم النحوية التحليلية الفعالة التى ينبغى أن تكون أضيق نطاقاً، وهى التى ينطبق عليها مفهوم عنصر الجملة.
والحقيقة أن اللغة العربية القريشية أو المضرية (بالضاد) ـ بحكم بداهة كونها لغة إعراب وبالتالى لغة مرونة تركيب للكلمات (أو العناصر) فى الجملة ـ لا تشترط بحال من الأحوال أن يأتى المسند إليه قبل المسند، ولا أن تأتى كلمات المسند أو مكوناته أو عناصره متجاورة قبل أو بعد المسند إليه. فالمسند يأتى بعد المسند إليه أو قبله، وقد تأتى كلمة أو كلمات منه قبله وكلمة أو كلمات أخرى منه بعده فى الجملة الواحدة. وفى الجمل التالية وضعنا المسند (الخبر) بين قوسين:
(تفوقت) عزة.
عزة (تفوقت).
عزة (متفوقة).
(يتفوق) التلميذ المجتهد (لأنه يعتمد على نفسه).
(إن) حب الوطن (من الإيمان).
(كان) الناس (لا يرون بعضهم البعض من كثافة الشبورة).
هذه المرأة أعداؤها (يكثرون).
على أن الموضوع داخل القوس فى كل جملة قد لا يكون كل المسند (الخبر)، وذلك فى حالة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت، مثل جملة: عزة (متفوقة)، أو جملة: (إن) حب الوطن (من الإيمان). والنحو العربى يعتبر (متفوقة) خبرا مفردا كما يعتبر (من الإيمان) خبراً شبه جملة (من جارّ ومجرور). غير أنه ينبغى اعتبار فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت جزءاً لا يتجزأ، كما يقال، من المسند (الخبر)، أما ما يعتبره النحو العربى خبراً فى الجمل التى تتكون مع أفعال "كان وأخواتها" (فى حالة ظهور هذه الأفعال جميعا كما فى حالة حذف فعل الكينونة دون غيره فى المضارع المثبت) فهو متمم للفاعل فى أحد نموذجين للجمل يأتيان مع هذه الأفعال، وهو ظرف فى النموذج الثانى.
وهنا ينبغى أن نقف بإيجاز عند أنواع الخبر، كما علّمتْنا كتب النحو العربى: 1: الخبر المفرد 2: الخبر الجملة (الاسمية أو الفعلية) 3: الخبر شبه الجملة (الظرف أو الجارّ والمجرور).
والخبر المفرد، عندهم، مثل "مفيد" فى جملة: "الكتاب مفيد". غير أن "مفيد" ليس خبراً وإنما هو جزء من الخبر مع الفعل المحذوف قبله (فعل "يكون" أى المضارع المثبت لفعل الكينونة)، كما أشرنا من قبل إلى أن "مفيد" هو متمم الفاعل وهو عنصر الجملة الذى يأتى مع أفعال كان وأخواتها فتمام المعنى فى جملة مفيدة. فليس هذا إذن خبراً ولا مفرداً. ويقال إن هذا "الخبر المفرد" مرفوع ويُقاس عليه، باعتباره "الخبر" الوحيد الذى يقبل الرفع الظاهر، رفع باقى ما يسمى بأنواع الخبر فى إطار ما يسمى بالإعراب المحلى. والحقيقة أن متمم الفاعل (الذى يسمونه الخبر المفرد) مرفوع، ولا يملك أحد حق إلغاء هذا الرفع الذى صار أصلاً من أصول النحو الموضوعى الجمعى ذاته، غير أنه مرفوع رفعاً عشوائيا والمقصود أن متمم الفاعل هذا أصله النصب مع كان الظاهرة وأخواتها. وإنما كان رفعه ناتجاً عن التأثير التراكمى للاقتصاد اللغوى نتيجة حذف فعل الكينونة فى جملة زمنها المضارع مع هذا الفعل عندما يأتى مثبتا دون حاجة إلى ظهوره لمعرفة زمن الجملة. ولهذا لا ينبغى قياس "رفع" ما يسمى بالخبر، بكل أنواعه، على هذا الرفع العشوائى لعنصر ليس هو ذاته "خبراً" بحال من الأحوال.
والواقع أن النحو العربى أحسّ منذ القديم بمشكلة المحذوف الذى تصوره فعلاً أو اسم فاعل يدل على الكون العام، وسمّاه "مُتَعَلَّق" الظرف أو الجار والمجرور. وهذا المفهوم الصحيح فى جوهره لكن ليس فى تفاصيله، والذى جرى تهميشه أو نبذه نبذ النواة كما فعل ابن مضاء القرطبى ومن نحا نحوه، ينبغى إحياؤه وتصحيحه، فالمحذوف فعل، وهو فعل الكينونة دون غيره، وفى المضارع المثبت دون غيره، وهو لا يقتصر على الظرف والجارّ والمجرور فقط بل يمتد إلى ما يسمى بالخبر المفرد وإلى ما يعتبر من الخبر الجملة الاسمية الخالية من كل فعل ظاهر.
وعلى هذا يتضح أن ما يسمى بالخبر شبه الجملة إنما هو خبر أو مسند مع المحذوف "يكون" (ومع بقية كلمات الجملة باستثناء المسند إليه). أما الظرف أو الجارّ والمجرور المسمى بالخبر شبه الجملة فهو بالأحرى أحد عنصريْن: عنصر الظرف بألفاظه المباشرة أو بالجاّر والمجرور بمعنى الظرف، أو: عنصر متمم الفاعل فى شكل من أشكال تحقيقه (الجارّ والمجرور) بالإضافة إلى الاسم والصفة باعتبارهما شكلين أساسيين من هذه الأشكال.
أما ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية فهو، عندهم، كالخبر كله: مفرد أو شبه جملة أو جملة (فعلية). وباعتبار الفعل المحذوف "يكون" ينطبق ما قيل أعلاه على "الخبر" المفرد وشبه الجملة، كما ينطبق ما سنقوله بعد قليل عن الخبر الجملة الفعلية على نظيره كخبر فى الجملة الاسمية. غير أن خصوصية الجملة المسماة بالاسمية هى أنها تشتمل على مبتدأ أول ومبتدأ ثان، وهذا الأخير هو ما يتم إسناد الفعل إليه فى مثل: "الكتاب غلافه يلمع" أو فى مثل: "المرأة أنصارها يكثرون"، ولهذا فهو المسند إليه دون غيره أما ما يسمى بالمبتدأ الأول أو المسند إليه الأول فليس سوى المضاف إليه الذى تأخر عنه مضافه الفاعل (غلاف الكتاب يلمع، أنصار المرأة يكثرون) أو مضافه المفعول به فى مثل: النخل نأكل ثمره (نأكل ثمر النخل). وهذا المضاف إليه "المتقدم" مرفوع عشوائياً أيضاً، ويجب أن نعتبر رفعه من أصور اللغة العربية، غير أنن ينبغى أن ندرك أن أصله الجرّ بالإضافة وأنه مرفوع عشوائياً مثل ما يسمى بالخبر المفرد، كما ينبغى أن ندرك أنه ليس المسند إليه بحال من الأحوال.
وفى الخبر الجملة الفعلية كما يسمونه، فى مثل: "الكتاب يفيد القارئ"، يعتبرون "يفيد" وحده ليس خبراً فقط بل خبراً جملة فعلية. والسر وراء اعتبار الفعل الواحد جملة (فعلية) إذا تأخر عن المسند إليه هو القاعدة التى وضعها النحاة والتى تجعل لكل فعل فاعلاً يتقدم عليه فعله وجوباً. ففى الجملة السابقة يبحثون عن فاعل للفعل "يفيد" غير "الكتاب" لأن الفعل تأخر عليه وجوباً لأنه المبتدأ عندهم. ومن هنا اخترعوا الضمير المستتر بعد الفعل والذى يعود على المبتدأ ("الكتاب")، والذى يُعرب فى محل رفع فاعلاً، ومن هنا زعمهم أن هذا الفعل مع فاعله المستتر الوهمى جملة فعلية خبراً للمبتدأ.
وهناك اختراع آخر تصبح نهايات تصريف الأفعال بمقتضاه ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة. ومن هنا يعتبرون ما يسمونه بضمير الرفع البارز المتصل فاعل الفعل حيث يشكلان معاً جملة فعلية خبراً للمبتدأ، بدلاً من التعرف على المسند إليه (الفاعل) فى "الاسم الذى تقدم على الفعل.
والحقيقة أن "إلغاء" ما يسمى بالضمير المستتر وما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل و"إلغاء" إعرابهما فاعلاً (نتيجة لإطلاق التقديم والتأخير بين المسند إليه والمسند فى النحو كما فى اللغة ذاتها مع مراعاة المقتضيات الحقيقية لأمن اللبس) يُلغيان جانباً هائلاً مما يسمى بالإعراب المحلى، الأمر الذى ينطوى فى حدّ ذاته على تيسير كبير.
وهكذا تتبخر أسطورة "أنواع الخبر" (خبر المبتدأ وخبر إن وخبر كان) دفعة واحدة. ويتضح أن المسند يشتمل على عنصر أكثر من عناصر الجملة، وأن نماذج المسند تتنوع بتنوع الأفعال وارتباط كل نوع من الأفعال، فى استخدامات بالذات، ارتباطاً إجبارياً، أى: من حيث تكوين النماذج باعتباره نماذج، ببقية عناصر الجملة التى تأتى ضمن المسند، أى باستثناء المسند إليه.
ومن الجلى أن الجملة حتى فى أبسط أشكالها تشتمل على حدث. وهذا الحدث الذى يعطى فى الوقت ذاته "زمنا" هو ما يعبر عنه عنصر الجملة الذى نسميه بالفعل. أما عنصر الجملة الذى نسميه بالمسند إليه فهو فاعل الفعل (بما فى ذلك فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت) أو فعل الأمر أو المضارع المنفى للنهى (وهنا يكون المسند إليه محذوفاً). والمسند إليه هو الفاعل "النحوي" حتى إنْ كان مفعولاً به فى المعنى سواء فى المبنى للمعلوم (مثل: "انكسر الزجاج") أو فى المبنى للمجهول (مثل: "كُسِر الزجاج")، وحتى إنْ كان الفعل مجرد فعل من الأفعال الرابطة أو الناقصة.
والمسند إليه هو المرفوع الوحيد ولا مرفوع سواه اللهم إلا رفعاً عشوائياً وفى مواضع قليلة يسهل الإلمام بها.
وعلى الجانب الآخر، منطقياً وتحليلياً وليس مكانياً، نجد فى "قلب" دائرة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، وفى مقابل المسند إليه (الفاعل) مباشرة، عنصر الجملة الذى نسميه بالمفعول به، والذى يدخل مع المسند إليه فى علاقة مخالفة فى الوظيفة النحوية (المؤثر والمتأثر بالفعل المتعدي)، وكذلك فى علاقة مخالفة إعرابية تتمثل فى رفع المسند إليه (الفاعل) مقابل نصب المفعول به. وهذا الأخير هو المنصور، عن كل حق، بحكم المخالفة النحوية وبالتالى الإعرابية.
ويبقى ضمن دائرة ما يسمى بمنصوبات الأسماء (وهى بمثابة جملة تأتى فى شكل من أشكال تحقيقها فى حالة النصب بالإضافة إلى الألفاظ المبنية أو التراكيب المتعددة الألفاظ فى أشكال أخرى لا تقبل الإعراب بطبيعتها) عنصران هما عنصر الجملة الذى نسميه الظرف، وعنصر الجملة الذى يسميه المتمم (متمم الفاعل ومتمم المفعول المباشر). ويجيب الظرف على أسئلة متنوعة موجهة إلى الحدث: أين حدث، ومتى، وكيف، ولماذا، إلخ إلخ .. ولهذا فإنه لا ينبغى أن يقتصر على المكان والزمان، فهو بالأحرى "وعاء" واسع لكثرة مما يسمى بمنصوبات الأسماء.
ويأتى الظرف كعنصر إجبارى (ظرف المكان وقليلاً الزمان) فى نموذج للجملة مع الأفعال الناقصة، وفى نموذجين مع الأفعال المستخدمة متعدية: نموذج مع المتعدى إلى مفعول واحد ونموذج مع المتعدى إلى مفعولين.
أما العنصر الذى نسميه المتمم فمنه متمم الفاعل وهو متمم إجبارى للمسند إليه (الفاعل) فى نموذج بعينه للجملة مع الأفعال الناقصة، ومنه متمم المفعول به وهو متمم إجبارى للمفعول (المباشر) فى نموذجين للجملة أحدهما بمفعول واحد والآخر بمفعولين.
وهذا التقسيم الخماسى تحليلياً لعناصر الجملة ينطلق من فكرة الجوانب الأكثر جوهرية وإجبارية فى النماذج الأساسية للجملة، وهى جوانب تتعلق بالحدث وزمانه أى: الفعل، بالإضافة إلى جوانبه الفاعلية والمفعولية والظرفية وإتمام الفاعل أو المفعول به. والحقيقة أن عناصر الجملة والنماذج الأساسية للجملة والنماذج الفرعية التى تنشأ من تنوعات أشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة، تُعَدُّ من أنضج ثمار النحو الجديد أو الثورة النحوية الراهنة فى اللغة الإنجليزية وفى لغات أخرى، كما أنها قابلة للتطبيق على كل نحو فى كل لغة مع أخذ السمات الخاصة والنوعية لكل لغة وبالتالى لنحوها فى الاعتبار.
وعلى أساس هذا التقسيم الخماسى لعناصر الجملة، وبافتراض تكرار عنصر المفعول به فى حالة التعدى إلى مفعولين فى الجملة البسيطة، وبصرف النظر عن تكرار أية عناصر اختيارية فى الجمل، نتوصل إلى النماذج الأساسية التالية للجملة العربية، وإذا حذفنا المسند إليه (الفاعل) تبقى لدينا النماذج الأساسية للمسند (الخبر):

النموذج مثال
1: الفاعل + الفعل اللازم: الطفل بكى، أو: غرق محمود.
2: الفاعل + الفعل الناقص + متمم الفاعل: أ: حسين كان مستنيرًا.
+ متمم الفاعل: ب: حسين كان رجلا.
3: الفاعل + الفعل الناقص + الظرف: هند كانت فى المكتبة.
4: الفاعل + الفعل المتعدى + المفعول به: عزة تحب هنداً.
5: الفاعل + الفعل المتعدى + المفعول + متمم المفعول: أ: عزت ظن محمداً كريمًا.
+ متمم المفعول: ب: عزت ظن محمدًا طبيباً.
6: الفاعل + الفعل المتعدى + المفعول + الظرف: عزت ظن الحفل فى البيت.
7: الفاعل + الفعل المتعدى + مفعولان: أعطى حسن حساماً الكتاب.
8: الفاعل + الفعل المتعدى + مفعولان + متمم المفعول: أ: أعطى حسن حُساماً الكتابَ جديداً.
+ متمم المفعول: ب: أعطى حسن حُساماً الكتابَ هديةً.
9: الفاعل + الفعل المتعدى + مفعولان + الظرف: أعطى حسن حُساماً الكتاب فى موعده.
وبأخذ أشكال تحقيق كل عنصر من هذه العناصر فى الاعتبار تتبلور أمامنا خريطة معقدة من عشرات النماذج الفرعية للجملة العربية. غير أنه من الجلى انه لم يكن بوسع هذا المقال أن يتجاوز مناقشة بالغة الإيجاز، إلى حدّ تلغرافى، لبعض وليس لكل القضايا الملحة التى يثيرها تطوير النحو العربى فى عصر صار يستحيل فيه مجرد بقاء هذه اللغة بدون تحقيق التطوير الجذرى المنشود.















الملحق الثالث

لويس عوض والبحث عن أصل اللغات
"حول مقدمة فى فقه اللغة العربية"

لا يدهشنا أبدا-أو لا يدهشنا كثيرا- أن يمتد البحث العلمى الموسوعى للدكتور لويس عوض ليشمل اللغة بوجه عام، أو اللغة العربية بوجه خاص.
لا يدهشنا هذا رغم أن البحث العلمى اللغوى كان شيئا نادرا بين كبار الأدباء والمفكرين والعلماء فى جيل لويس عوض، وفى أجيال أخرى قبله وبعده.
وعلى سبيل المثال الصارخ فإن طه حسين، وهو المثل الأعلى للأدب العربى والفكر العربى، كان رغم إتقانه معرفة علوم ومسائل اللغة، ورغم رعايته وتشجيعه لجهود البحث العلمى الحر فى اللغة العربية وعلومها، ورغم إسهامه البارز؛ بل الاستثنائى مع الأجيال الأولى من الأدباء والمفكرين والعلماء فى القرن العشرين فى تطويع اللغة العربية للتعبير عن الثقافة العربية الحديثة؛ لم يكن له أى إسهام علمى مباشر فى مجال اللغة، كذلك فإن العقاد، رغم دوره الى لا ينكر مع غيره فى تحديث اللغة العربية، لم يقدم أى إسهام علمى لغوى.
ورغم هذه القاعدة العامة هناك أفق واسع ولكنْ إسهام محدود لأمين الخولى فى مجال النحو العربى، ويبرز اسم إبراهيم مصطفى فى هذا المجال، وقد كان العقل النحوى المفكر وراء محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة (عندما كان ما يزال رافعة من روافع تطوير علوم اللغة العربية) بالتعاون مع وزارة المعارف المصرية فى منتصف القرن العشرين لتطوير وتحرير النحو العربى، تلك المحاولة البالغة الأهمية لكن التى فشلت فى نهاية الأمر تحت الضربات المتلاحقة من جانب أعداء تطوير النحو العربى بالذات ولكنْ أيضا، بسبب نقاط ضعفها، ويسطع اسم إبراهيم أنيس كمثال نادر فى لبحث اللغوى الذى توجته إنجازات علمية فذة فى عدد من علوم اللغة العربية.
أما جهود الأكاديميين فى مجال علوم اللغة فقد ظلت ـكقاعدة عامةـ داخل إطار قاس من الاجترار الكسول لنقاط ضعف تراثنا مع تفادى أو محاربة نقاط قوته، ومن العرض التعليمى للعلوم اللغوية قى الغرب، ووضع هذا وذاك فى علاقة تجاور جامدة، رغم استفادات شتى بشرط ألا تنال من أسطورة اللغة العربية المقدسة وألا تحاول أن تطبق عليها القوانين اللغوية التى تنطبق على اللغات "الأخرى" فلا تمس العربية!
مع كل هذا، لا يدهشنا كثيرا أن يشمل لويس عوض مجال اللغة أو اللغة العربية بإنتاجه الموسوعى، هذه طبيعة موسوعيته فى عصر أو قرن كان قد سار فيه البحث اللغوى محور محاور نظريات ومذاهب الفكر والفلسفة.
على أنه "يبدو" من المدهش حقا أن يكون نوع البحث اللغوى، الذى استطاع أن ينتزع لويس عوض من اهتماماته الفكرية والنقدية الكثيرة الأخرى، هو فقه اللغة، وبالأخص علاقة اللغة العربية بمسألة أصل مشترك للغات السامية والحامية واللغات الهندية الأوروﭙية وربما غيرها.
فكيف نفسر هذه العودة المباشرة إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى التركيز على الفيلولوچيا، ومجموعات اللغات، وأصل اللغات، بعد أن كان العلم اللغوى فى الغرب قد تحرك مبتعدا وظل مبتعدا طوال القرن العشرين عن ذلك التركيز الفيلولوچي؟
وهناك بالطبع تفسير جاهز، إنه الكيد للإسلام والعربية! على اعتبار أن هذا النوع من البحث الفيلولوچى هو المجال الطبيعى لبحث مسألة أن تكون اللغة العربية، كغيرها من اللغات، جزءًا لا يتجزأ من تفاعل لغوى هائل قد يقتصر على مجموعات لغات بعينها أو يمتد ليشمل كل لغات الأرض.
على أن هناك مجالا لتفسير أكثر إنصافا وأكثر موضوعية، وإذا كان مذهب تقديس اللغة العرية وعلومها قد حكم على هذه العلوم بالجمود الأزلى بعيدا عن إنجازاتها الكبرى فى أزهى عهود الحضارة العربية الإسلامية، فقد تمثل الواجب الإلزامى فى أن يجدّ السعى بحثا عن أسباب لتطوير علومنا العربية التى تخلفت بصورة فادحة عن العلم الغربى، فى إطار اللحاق والتعويض وسدّ الفجوة، وكان من المنطقى أن يكون من هذه الأسباب ـبين أشياء أخرىـ ضرورة العودة إلى علم لغوى تفادينا وحاربنا تأثيره فى علومنا اللغوية طوال القرن العشرين، وهو علم اللغة التاريخى أو المقارن أى فقه اللغة، وهكذا جاءت محاولة لويس عوض لتطبيق نتائج هذا العلم على اللغة العربية، أو بالأحرى محولته لاستكمال هذا التطبيق الذى بدأه وطوّره العلم اللغوى الأوروپى، فى وقتها، خاصة عندما بدا ("بدا" فقط للأسف!) أن ثقافتنا العربية الحديثة صارت أنضج نسبيا للدخول فى مثل هذا الحوار العلمى عبر اللغوى حول لغتنا لتطوير علومها بدلا من تقزيمها باسم التقديس والتكريم والحماية والصون!
وهناك مدخل آخر إلى العودة أو ما يشبه العودة إلى مسألة أصل اللغات، ويتمثل هذا المدخل فى أحدث إنجازات علم الآثار، فقد أعطت هذه الإنجازات دفعة جبارة للعودة إلى بحث أصول اللغات الهند-أوروﭙية من حيث الإطار الزمنى لهذه المسألة ومن حيث النماذج المتنوعة للانتشار، وينطبق الشيء نفسه على مسألة أصول كل مجموعة من مجموعات اللغات الأخرى مع تقدم أبحاث ونتائج وإنجازات علم الآثار فى مناطق هذه اللغات، غير أن هذه الإنجازات أعطت دفعة جبارة أيضا لمسألة الأصل الأول المشترك أو الأصول الأولى المشتركة لكل اللغات التى عرفتها البشرية، ذلك أن علم الآثار يتجه فى العقود الأخيرة إلى حسم فرضية ظهور الإنسان العاقل أو الأحدث homo sapiens sapiens (وليس الإنسان العاقل أو الحديث homo sapiens وهو السلف المباشر للإنسان الأحدث) منذ حوالى أربعين أو خمسين أو مائة ألف سنة، فى منطقة واحدة من العالم بلغة واحدة، ثم انتشار هذه اللغة مع انتشاره لإنشاء مواطن جديدة فى مختلف أنحاء العالم تقوم فيها مجتمعات الصيادين-جامعى الثمار ، وهى المواطن والمجتمعات التى انتشرت إليها فيما بعد مجموعات لغات مثلمجموعة اللغات الهند-أوروﭙية جنبا إلى جنب مع انتشار الحضارة الزراعية، يتجه علم الآثار فى العقود الأخيرة إلى حسم هذه الفرضية وإحلالها نهائيا محل فرضية ظهور هذا الإنسان (الأحدث) فى مناطق متعددة بلغات مختلفة.
وتتمثل الفكرة الجوهرية فى كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية" فى فرضية أو نظرية الأصل الواحد المشترك للمجموعات اللغوية السامية والحامية والهندية الأوروﭙية والطورانية وربما غيرها ـ كما قال: إنها فكرة أن مجموعات اللغات هذه إنما هى الفروع الرئيسية لشجرة واحدة أسبق منها جميعا، ولم يقل الكتاب مطلقا إن العربية فرع من اللغات الهندية الأوروﭙية، كما جاء فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر أو كما جاء فى نص الحكم القضائى بتأييد ضبط الكتاب ومنع توزيعه.
ويقع هذا الكتاب الضخم فى قسمين: الأول ـ ويمثل رُبْع حجمه تقريبا ـ مخصص لعرض الفكرة الجوهرية السابقة بالإضافة إلى قضايا كثيرة اعتقد لويس عوض أنها ضرورية فى سياق عرض نظريته، أما أنا فأعتقد أن عشرات الصفحات فى هذا القسم الأول الذى يزيد قليلا على المائة صفحة، وهو القسم النظرى، تبددت حول موضوعات شتى لا تتصل مباشرة بموضوع الكتاب وكان بوسع لويس عوض أن يَفْصلها، مكرسا تلك الصفحات لمزيد من العرض السلس للمسألة التى كانت تحتاج إلى المزيد من القول حتى يكون العرض سلسا وناجحا ومنتجا، أما القسم الثانى، أى ثلاثة أرباع الكتاب، فإنه يعرض القوانين الفونولوچية للتغيرات الصوتية للألفاظ ذات الدلالة المشتركة فى مجموعات لغوية متعددة، ويطبق هذه القوانين على مادة فونولوچية غزيرة تشمل مجموعات اللغات المعنية بكثرة من لغاتها الحية والميتة.
وليس المقصود هنا تقييم أفكار واستنتاجات وفرضيات ونظريات وتطبيقات "مقدمة" لويس عوض، فهذه مهمة بعيدة عن اهتماماتى اللغوية المباشرة التى تنحصر فى النحو العربى تقريبا كما أنها فوق طاقتى، والحقيقة أن هذه المهمة تحتاج إلى كوكبة من العلماء المتخصصين فى علوم التاريخ والثقافة واللغة أو إلى عبقرية تضارع عبقرية لويس عوض.
المقصود هنا بالأحرى هو الإمساك بالفكرة الجوهرية التى قدمها الكتاب أى فكرة الأصل المشترك لمجموعات اللغات المعنية، فى سبيل استكشاف آفاق توسيع محتمل لنطاق تطبيق هذه الفكرة، ربما ليشمل كل اللغات على وجه الأرض.
وتتسلسل عناصر الفكرة الأساسية لمسار "توالُد" اللغات فى "المقدمة"، على أساس منجزات الفيلولوچيا الأوروپية وفرضياتها، على النحو التالى:
أولا: تتراكم المعطيات الفيلولوچية والفونولوچية فتكشف عن وجود معجم مشترك ضخم بين مجموعة كبيرة من اللغات، ومعجم آخر لمجموعة أخرى، إلخ وهكذا تكتشف الفيلولوچيا كثرة من مجموعات اللغات التى قد تشمل المجموعة الواحدة منها مئات اللغات الحية والميتة، ومن هذه المجموعات تلك المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية وهى المجموعات التى يركز عليها الكتاب.
ثانيا: مع المزيد من تراكم هذه المعطيات يتضح للفيلولوچيا أن الأمر لا يقتصر على المعجم الضخم المشترك بين لغات المجموعة الواحدة كالمجموعة الهندية الأوروپية، إذ تكتشف وجود معجم مشترك ضخم بدوره بين المجموعات المعنية هنا، أى أن المسألة لم تعد مسألة لغات أصلية تنحدر من كل منها مجموعة لغات بل صارت مسألة لغة أصلية تنحدر منها تلك اللغات "الأصلية".
ويتمثل دور "المقدمة" فى العمل على تحويل هذه الفرضية التى قدمها العلم الغربى إلى نظرية تقوم على القوانين اللغوية، وكذلك فى إدخال اللغة العربية فى قلب هذا التفاعل اللغوى التاريخى الهائل الذى يتجاوز مجموعات اللغات المعنية.
ثالثا: تتكشف أمام الفيلولوچيا آفاق أرحب تعود بنا إلى ظهور الإنسان العاقل، ويتحدث الكتاب عن مذهبيْن فى العلم الغربى: ظهوره فى مناطق متفرقة من العالم أو ظهوره فى منطقة واحدة. ولأن ظهور الإنسان العاقل إنما كان بلغته فإن العلم الغربى يشتمل على مذهبيْن بهذا الصدد: ظهور لغات متعددة فى مناطق متعددة أو ظهور لغة واحدة للإنسان العاقل فى المنطقة الواحدة التى ظهر فيها أولا. ويؤيد لويس عوض مذهب ظهور الإنسان فى منطقة واحدة ومذهب ظهور اللغة الواحدة فى تلك المنطقة، ويشير لويس عوض إلى أن مذهب المنطقة الواحدة واللغة الواحدة: "يقول بأن المجموعات اللغوية القديمة والحديثة، كأجناس البشر قديمها وحديثها، تنحدر فى نهاية الأمر من منبع واحد، وأن هناك شجرة واحدة للغات الأرض كل ما هناك من لغات هى فروع لها وأغصان". ومن الجلى أنه يؤيد هذا المذهب على اعتبار أنه "الخط العلمي" فى مواجهة خط علم الأجناس والأعراق والعنصرية.
ونعرف بطبيعة الحال أن مدار بحث لويس عوض فى "المقدمة" لا يتمثل فى فرضية الأصل الواحد لكل لغات الأرض (وهو يؤيدها دون توسع فى المناقشة) بل يتمثل فى فرضية أو نظرية الأصل المشترك للمجموعات المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية.
كما أن من الجلى أن حديثه هنا عن الإنسان العاقل أو الحديث Homo sapiens أو الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف أو الأحدث Homo sapiens sapiens، فالإنسان الذى يتحدث عن ظهوره فى منطقة واحدة بلغة واحدة هو الإنسان النياندرتالى أى السلف المباشر للإنسان الأحدث وهو الإنسان الكرومانيونى. ولا جدال فى أن المعلم العاشر كان يقصد هذا الإنسان الأحدث بدليل أنه يتحدث عن الإنسان الحالى ويشير إلى أن أرسطو يسميه بالحيوان الناطق، ولو أن لويس عوض كان قد اطلع على مراجع ربما كانت حديثة جدا فى زمن تأليف "المقدمة" وتوجز إنجازات علم الآثار فى العقود الأخيرة من القرن العشرين لكان بوسعه أن يتحدث عن الإنسان الأحدث باسمه وعن لغته الأحدث أى اللغة كما نعرفها language-as-we-know-it وليس عن ظهور أو لغة الإنسان العاقل أو النياندرتالى.
وإذا كانت علوم الآثار والأنثروپولوچيا والثقافة قادرة على أن تعيد بناء صورة للإطار المكانى والزمانى لنشأة وتطور وانتشار الإنسان الأحدث فإنها تظل عاجزة عن أن تقول لنا أى شيء عن هوية تلك اللغة أو اللغات، وإن كان بمستطاعها أن تقول لنا الكثير عن الخصائص الجوهرية للغة المتطورة التى تتلاءم مع أنماط سلوك الإنسان الأحدث كما تكشف ثقافته المادية، وهى بالضرورة لغة مفاهيم رمزية معقدة وتفكير مركب متطور، بعيدا عن بساطة وبدائية لغة أسلافه بما فى ذلك سلفه المباشر، أى الإنسان العاقل أو النياندرتالى. أما علم اللغة التاريخى فإن بمستطاعه أن يشمل بدراساته الفيلولوچية والفونولوچية وإحصاءاته المعجمية مختلف المجموعات اللغوية على وجه الأرض من خلال البحث المباشر للغة التى تُعَدّ نموذجا لكل مجموعة منها، ويمكنه من ثم أن يكتشف ويحسم مسألة ما إذا كانت الإحصاءات المعجمية الشملة تؤيد أو لا تؤيد فرضية الأصل الواحد لكل لغات الكوكب، غير أن هذا العلم لا يستطيع بالبداهة أن يضع معطياته الفيلولوچية فى إطار كرونولوچى صارم.
ورغم سوء التفاهم المنطقى القائم بين علوم موضوعها الثقافة المادية للإنسان وعلوم موضوعها اللغات المنطوقة أو المكتوبة علىالحجر أو الطين أو الجلد أو الورق أو السيليكون فإن الفرضية العقلانية تتمثل فى أن اللغة أو اللغات التى ظهرت مع الإنسان الأحدث وانتشرت مع انتشاره واستقرت مع استقراره هى الأصول الأولى السحيقة القدم لكل اللغات التى عرفها العالم الحديث خلال الآلاف الأخيرة من السنين وإلى يومنا هذا.
ومادمنا إزاء اتجاه علم الآثار إلى حسم نشأة هذا الإنسان فى منطقة واحدة من العالم ثم انتشاره منها وإلى رسم مسار هذا الانتشار بصورة كرونولوچية، ويفترض هذا ـ بطبيعة الحال ـ اللغة الواحدة للبشر، يكون بوسعنا أن نفترض انطلاقا من علم الآثار وحده (إذا صحت أحدث إنجازاته واكتملت وعود إنجازاته اللاحقة) أن كل اللغات طوال تاريخ الإنسان الأحدث، منذ ظهوره إلى الآن، إنما هى ـ مهما كانت الحلقات الوسيطة المحتملة ومهما كانت تشكلات المجموعات واللغات واللهجات ـ استمرار محوَّر بصورة تاريخية بالغة التعقيد، من خلال تواصل التمايزات والاندماجات والتفاعلات اللغوية، من خلال نماذج شتى بالغة التعقيد بدورها، ذلك أنه لا مجال لافتراض أن الإنسان، فى زمان ما، فى مكان ما، نسى لغته تماما، وابتكر لغة جديدة تماما لا صلة لها باللغة التى ترجع إلى زمن نشأته كإنسان.
ومادام الإنسان الأحدث، بلغته الأحدث، حديثا إلى هذا الحد، مجرد عشرات الآلاف من السنين [50 أو 100 أو 150 ألف سنة]، فإن تجربة استمرار لغات ما تزال حية منذ آلاف السنين أو لغات أخرى عاشت آلافا من السنين قبل موتها، تلقى الضوء على حقيقة بسيطة وهى أن استمرار اللغات عشرات الآلاف منالسنين أى منذ نشأة الإنسان الأحدث أمر يسهل تصوره، رغم أن الاستمرار يتحقق عبر التغيرات المتواصلة، ورغم أن موت لغة، كاللغة المصرية القديمة، لا يعنى انقطاع صلة اللغة اللاحقة باللغة الميتة ولا باللغات التى كانت هذه اللغة قد حلت محلها فى الماضى، فالموت والحياة ليسا هنا سوى التغير، ليسا سوى التغير اللغوى.
ومهما يكن من شيء، مهما تكن هذه الفرضيات صحيحة أو خاطئة، فإن ما ينبغى أن نضعه نصب أعيننا هو إخضاع كل الظواهر (ومنها اللغة العربية بحقائقها وأساطيرها) للبحث العلمى الحر. وبدلا من تقديس اللغة العربية، وهو تقديس تمثلت ثماره المرة دائما فى الإضرار الفادح بها وبعلومها، انطلاقا من أيديولوچيا سياسية دينية لغوية بعينها تسيطر على مجتمعنا ودولتنا، وكذلك على من يتمردون عليهما تحت هذه الراية نفسها، ينبغى رفع مختلف القيود التى تكبل تطور اللغة العربية كلغة وكعلوم لغوية.
وهناك حقيقة بسيطة لم يحسب حسابها أحد؛ لا مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولا مباحث أمن الدولة، ولا نيابة أمن الدولة، ولا محكمة جنوب القاهرة الابتدائية، ولا القنون المصرى ولا الدستر المصرى (بنصوصهما المقيدة لأبسط الحريات)، ولا رشاد رشدى، ولا السادات، ولا كل من تآمروا ضد كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية"... هذه الحقيقة البسيطة هى أن إجراءات ضبط أو منع توزيع أو مصادرة كتاب هى قبلة الموت لهذه الإجراءات ذاتها وللقوانين التى تستند إليها، إذ أنها الضمانة الأولى لإشعال الطلب على الكتاب، ومضاعفة قرائه، ونشر أفكاره، وتجنيد أنصار جدد لتحرير البحث العلمى الحر من كل القيود التى تخنقه فى بلادنا، ومع ذلك، مع اعترافى بالفوائد السبع لضبط ومصادرة الكتب، أضم صوتى إلى أصوات كل المطالبين بالأفراج عن "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، وعن الحرية.




الملحق الرابع
النحو العربي
بين شريف الشوباشى .. وسيبويه

عاشت الحياة الثقافية فى مصر، خلال الأشهر القليلة الماضية، حالة خاصة، بل استثنائية. فالنحو العربى الذى لا يلقى فى العادة سوى الإهمال و الإعراض و اللامبالاة صار حديث الناس وقضية القضايا، منذ صدور كتاب لشريف الشوباشى، وكيل أول وزارة الثقافة فى مصر، بعنوان: "لتحيا اللغة العربية .. يسقط سيبويه". وخلال هذه الأشهر القليلة صدرت طبعتان من الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب(2004)، وقوبل الكتاب ومؤلفه بعاصفة من الهجوم الضارى تسابقت عليه الصحف و المجلات و الندوات. ويبدو أن كتاب "يسقط سيبويه" سوف يفرض نفسه على مجلس الشعب المصرى، ولن يكون من المدهش أن يدخل المحاكم وحتى محاكم التفتيش العصرية، وأن يمر ـ من البداية إلى النهاية ـ فى المسار المعتاد للأزمات المماثلة فى بلادنا، وأن تنقلب المهزلة إلى مأساة حقيقية.
ومن اللافت للنظر أن سحر عبارة "يسقط سيبويه" كان قادرا وحده على إحداث هذا الانقلاب من اللامبالاة المعهودة فى هذا إلى ثورة عارمة دفاعا عن علم النحو العربى و سيبويه الذى جمع فى مؤلفه الأشهر"الكتاب" أمثلته وقواعده من شيوخه وبالأخص من الخليل بن أحمد الفراهيدى، ونقلها إلينا مع فيض من إضافاته المنهجية العميقة. على أن كتاب "يسقط سيبويه" لا علاقة له فى حقيقة الأمر بسيبويه. فمثل هذه العلاقة يمكن تصورها عندما نكون إزاء بحث يتناول مثلا تجديد أو تطوير النحو العربى أو الإعراب الذى يمثل أداة من أدواته فى اللغة العربية القريشية (المضرية). وكتاب الشوباشى لا يتناول علم النحو والإعراب عند سيبويه أو غيره من النحويين فى سبيل تطوير أو تيسير النحو أو الإعراب وهما الموضوع الرئيسى فى كتاب سيبويه إلى جانب الصرف و الصوتيات. فالشوباشى يتناول بالأحرى تطور اللغة العربية بصورة تاريخية فى نواح عديدة منها إسقاط الإعراب، مما أدى إلى الازدواج اللغوى المتواصل عبر القرون فى العالم العربى بين اللغة العربية المعربة المسماة بالفصحى واللغة العربية غير المعربة المسماه بالعامية والتى تتمثل فى اللهجات العربية المتباينة الراهنة. فالأمر لا يتعلق هنا بالنحو أو الإعراب كعلم وضعى، هو علم النحو، أو علم النحاة أو النحويين، بل يتعلق بتطور لغوى أشمل (تاريخى وليس علمى) يمثل إسقاط الإعراب وعددا من التطورات الأخرى المعجمية والدلالية والصرفية والصوتية سماتها المميزة عن العربية القريشية.
ومن المؤسف أن العاصفة الهوجاء المتواصلة منذ صدور الكتاب كانت، بحكم طبيعتها، أشبه بحوار الطرشان. فالشوباشى، فى كتابه وأحاديثه اللاحقة، لم ينطلق من معرفة منهجية دقيقة بالقضية التى يثيرها، كما اتبع طريقة ملتوية للغاية ترهق القارئ المدقق المتتبع لتسلسل أفكاره، بدلا من أن يبوح بأسرار ما يقصد إليه بصورة مباشرة، مستقيمة، واضحة، متبلورة. أما فى الطرف الآخر لحوار الطرشان أىْ عشرات العلماء والأساتذة اللغويين الذين أدلوا بدلوهم إلى الآن فمن الجلى أنهم يمثلون أصولية لغوية نحوية هى امتداد مباشر للأصولية اللغوية النحوية التى استطاعت من قبل أن تسحق قرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة فى 1945 بشأن تطويرالنحو العربى وتجديده وتحريره. والحقيقة أننا لا نجد عند هؤلاء العلماء والأساتذة اللغويين سوى شتائم متواصلة، ضد الكتاب ومؤلفه، ترافقها تهمة أساسية تكاد أن تكون وحيدة يرددها الجميع مؤداها أن الشوباشى يدعو إلى "التخلى عن قواعد النحو العربي"، دون أن يسهموا بفكرة واحدة فى محاولة فهم طبيعة ما يدعو الشوباشى إليه، ومع الإعراض التام عن مناقشة قضايا تطوير علومنا اللغوية وبالأخص علم النحو، وكذلك مسألة الفصحى والعامية مع أنها قضايا مطروحة منذ عهد بعيد، بالإضافة إلى أننا فى زمن صار فيه تطوير علم النحو (بتصحيحه وليس بمجرد تيسيره) مسألة حياة أو موت بالنسبة للغة العربية ذاتها، أى أن تطوير علم النحو العربى صار ضرورة يفرضها التطور التاريخى العام كما تفرضها تجلياته المتمثلة فى شروط ومقتضيات و متطلبات المعالجة الآلية للمعلومات.
وبحكم طبيعة القضية التى كان يتجه إلى عرضها فى تضاعيف كتابه، أى مسألة الفصحى والعامية، ناقش الشوباشى، فى ثلاثة فصول تشكل أقل قليلا من ثلاثين فى المائة من الكتاب (وهى فصول "برج بابل" و"هل العربية لغة مقدسة" و"المسيحيون والعربية")، قضايا تنتمى إلى علم اللغة التاريخى والمقارن (أى فقه اللغة)، مثل أصل ونشأة اللغات، واللغة العربية بين التوقيف والاصطلاح. على أن الشوباشى، الذى ألف كتابه بلغة شعبية تلائم القارئ العادى صاحب الثقافة العامة، أغرق القراء فى هذه الفصول، كما فى غيرها، فى تفاصيل وروايات وحكايات واستشهادات لا تنتهى، و بهذا أفشل كل إمكانية للاستفادة من نظريات أصل و نشأة و تشعب اللغات إلى لغات ومجموعات لغوية جديدة (تغطى الآن وجه الأرض) وهى نظريات تقوم على المعطيات الفيلولوجية و الفونولوجية ومعطيات الإحصاءات اللغوية الشاملة لمختلف المجموعات اللغوية، كما
هذا المقال غير كامل ولم يُراجع




الملحق الخامس

ثلاثة أعمدة بعنوان "لغة"
فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون

1
اللازم والمتعدي

يقسم الفكر العربى السائد الأفعال إلى أفعال لازمة لا تتجاوز معانيها فاعلها إلى مفعول وأخرى متعدية بحرف الجر على أنها أفعال لازمة أى غير متعدية "وهذا ما يفعله النحو الإنجليزى أيضا بخلاف النحو الفرنسى الذى ينظر إليها على أنها أفعال متعدية".
وينظر الاتجاه السائد فى النحو العربى إلى الفعل على أنه إما لازم أو متعد "مثلا شرح ابن عقيل للألفية" يكون لازما تارة ومتعديا تارة أخرى حسب الاستخدام فى جملة.
ويعنى هذا الموقف أن اللزوم والتعدى كامنان فى الفعل ذاته وليسا متعلقين بالاستخدام، وهذا صحيح حقا فيما يتعلق بأوزان للفعل لا تكون إلا لازمة "باستثناءات محددة". غير أن هناك أفعالا وأوزانا فعلية بالغة المرونة بحيث يواجهنا استخدامها الفعلى فى جمل بضرورة تطوير مفهوم اللزوم والتعدية فى نحونا.
ويحاول الأستاذ الكبير عباس حسن، صاحب "النحو الوافي"، الخروج من الثنائية القائلة أن الفعل يكون لازما فقط أو متعديا فقط. وفى كتابه المذكور "ص 150 وما تلاها" يتحدث الأستاذ عباس حسن عن تقسيم ثلاثى للفعل من حيث اللزوم والتعدية، فهناك أفعال لازمة دائما وأخرى متعدية دائما وطائفة ثالثة تستخدم لازمة تارة ومتعدية أخرى.
ويورد عباس حسن هذا الرأى على نحو يوحى بأن هذه الطائفة الثالثة لا تمثل غير أفعال قليلة معدودة. غير أن الواقع المعجمى يثبت أن هذه الأفعال التى تستخدم لازمة تارة ومتعدية أخرى تمثل عدة آلاف من الأفعال "حسب استخدامات المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة".
غير أن مسألة اللازم والمتعدى تتجاوز مجرد اعتراف فكرنا النحوى بهذا التقسيم الثلاثى بدلا من الثنائية القديمة. لقد أصبح الاستخدام الفعلى أساس تحديد اللزوم والتعدى فى الفكر النحوى الحديث وبعد ذلك يأتى العمل المعجمى الضخم الذى يغربل كافة الأفعال من حيث دلالاتها واستخداماتها ونماذجها من حيث اللزوم والتعدى.



























2

المعجم فى الصرف والنحو

لاشك فى أن المعاجم الموضوعة بالاستفادة من أساليب وتقنيات القن العشرين يمكن أن تسهم إسهاما جوهريا فى مجال تيسير تعليم وتعلُّم اللغة العربية وامتلاك ناصيتها .. صحيح أن النظام التعليمى يظل مكان وأداة تحقيق هذه المهمة الكبرى، غير أن نجاح هذا النظام ذاته يشترط بدوره أدوات عمل متطورة ومنها هذه المعاجم التى نتحدث عنها هنا.
وفى العقود الأخيرة ظهرت عدة معاجم "أو كتب" تقوم على "معجمة" أو "جدولة" علوم لغوية. وتستحق كل محاولة من هذه المحاولات تناوُلا خاصا بل مستفيضا. وفى حدود المجال المحدود لهذا الحديث نشير إلى "المعجم فى الصرف" من تأليف زين العبدين حسين التونسى "1888-1977" الصادر عن الدار العربية للكتاب بالمطبعة العربية بتونس.
ويعود أصل هذا المعجم الوجيز الذى يقع فى أكثر قليلا من مائتى صفحة إلى عام 1947، عندما وضع المؤلِّف "المعجم المدرسي" وقدمه إلى الأساتذة الأجلاء وتلاميذهم "النجباء" وأعيد طبعه مرات عدة. وفى عام 1952 صدر الجزء الأول من "المعجم فى النحو والصرف"، تلاه فى عام 1953 الجزء الثانى ويتضمن المصطلحات النحوية والصرفية.
يقوم هذا المعجم على فكرة تحويل مصطلحات وقواعد النحو والصرف إلى "مواد معجمية" مرتبة ترتيبا هجائيا، بحيث يمكن لكل طالب وباحث وقارئ أن يراجع المصطلح أو المصطلح أو القاعدة بسهولة وسرعة، فهو أقرب إلى كتاب يعرض، على نحو مبسط، قواعد النحو والصرف.
ولا جدال فى أن لهذا النوع من المعجم مبرره، كما أن بمستطاع علماء وأساتذة النحو والصرف أن يضعوا معاجم من هذا النوع بالحجم والمستوى اللذين يشاءون مع الالتزام بالدقة البالغة فى المادة العلمية والنحوية أو الصرفية، إلى جانب مراعاة كافة المقتضيات الفنية-العلمية لوضع معجم من هذا النوع.
ورغم المجهود الكبير والجدير [هكذا] فى هذا المعجم فإنه يعانى من عيوب الواجب معالجتها فى سياق تطوير معجم مماثل مع تفادى أخطائه. ويمكن إجمال هذه الأخطاء فى المواد الضرورية غير الواردة، أو الواردة على نحو مبتسر، أو حيث لا يتوقعها القارئ بالضرورة ..







3




3
تصريف الأفعال العربية

توصلت اللغات التى يمثل تصريف الأفعال صعوبة من صعوباتها الرئيسية إلى أسلوب عصرى فى حل هذه الصعوبة عن طريق إعداد نوع جديد من المعاجم يقوم على التصريف "العلمي" للأفعال.
و من المنطقى أن ينقسم هذا النوع من المعاجم إلى قسمين:
1: قسم لوحات تصريف الأفعال النموذجية: وهى تغطى كافة الأزمنة فى كافة الأساليب النحوية.
2: قسم الأفعال: ويشتمل على قائمة بأفعال اللغة المعنية مرتبة ترتيبا هجائيا.
ومن البديهى أن هذا النوع من المعاجم ليس ترفا تطمح إليه كل لغة إطلاقا مهما يكن تصريف الفعل فيها سهلا يسيرا.
هل تجد لغتنا العربية نفسها أمام صعوبة من هذا النوع؟
الأمر الذى لا جدال فيه هو أن تصريف الفعل فى لغتنا العربية يمثل الصعوبة الكبرى فى كامل صرفها العلمى والعملى. وإذا حُلت هذه الصعوبة تكون العربية قد حلت جانبا كبيرا من جوانب صعوبتها كلغة.
وتنشأ هذه الصعوبة من الكثرة الهائلة فى حالات تصريف الفعل العربى بسبب تعدد أبوابه فى الثلاثى وتعدد أوزانه فى غيره، وبسبب تعدد أحوال الأفعال وهكذا تكثر الحالات النموذجية وتكثر الأشكال التصريفية لكل حالة منها.
وينقلنا هذا إلى النقطة الثانية: هل حل هذه الصعوبة أمر ممكن وعملي؟
والواقع أن السمة المميزة لتصريف الفعل العربى هى الانتظام والقياسية بصورة شاملة. وإهذا كانت هذه السمة الحيوية قائمة بحكم الضرورة فى كل لغة متطورة، فإن لغتنا العربية تتميز بها وتتفوق فيها على لغات معاصرة عديدة بلغت أوج تطورها.
وإذا كان القرن العشرون، بكل إنجازاته التقنية، هو الذى أوجد هذا النوع من العاجم فى لغات أخرى، فإنه يدعو لغتنا إلى اللحاق بتلك اللغات فى هذا المجال كما يدعونا ـ نحن العرب ـ إلى القيام بهذه المهمة بدلا من انتظار جهود المستشرقين الذين بدأوا فعلا الإسهام فى هذا المجال.

للمؤلف

تأليف:

* نشر العديد من المقالات والكتب فى مجالات النقد الأدبى واللغة والسياسة والفكر وله الكتب التالية:

النقد الأدبى واللغة:

ـ النموذج الثورى فى شعر عبد الوهاب البياتى، (بالاشتراك فى عمل جماعي) بغداد، 1972.
ـ خطوات فى النقد الأدبى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
ـ معجم تصريف الأفعال العربية، (بالاشتراك مع حسن بيومى وأحمد الشافعي) دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1989.

يصدر له قريبا:

ـ من أجل نحو عربى جديد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
ـ الازدواج اللغوى فى العالم العربى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.


السياسة والفكر:


ـ القرن الحادى والعشرون: حلم أم كابوس؟، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.

* نشر (باسم قلم مستعار: صالح محمد صالح) العديد من المقالات والكتب فى مجالات الاقتصاد والسياسة والفكر، ومن كتبه باسم القلم المذكور:

ـ الإقطاع والرأسمالية الزراعية فى مصر ـ من عهد محمد على إلى عهد عبد الناصر [الاسم الأصلى للكتاب: تطور الرأسمالية الزراعية فى مصر قبل 1952]، دار ابن خلدون، بيروت، 1979.
ـ حول أسلوب الإنتاج الآسيوى، سلسلة دليل المناضل فى النظرية، دار ابن خلدون، بيروت، 1978.


ترجمة:

* نشر فى الصحف والمجلات المصرية والعربية عشرات المواد المترجمة فى مجالات الأدب والنقد الأدبى والفكر والسياسة وقصص الأطفال، وله الكتب المترجمة التالية عن الإنجليزية والفرنسية (وقليلا عن الإسپانية فى مواضع مبينة):

أدب:

ـ ماشادو ده أسيس: السراية الخضراء ( روايـة قصيرة )، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
ـ ماشادو ده أسيس: دون كازمورّو ( رواية )، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
ـ خ. ل. بورخيس: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا (قصص،مقالات، أشعار، حكاية رمزية)، دار شرقيات، القاهرة، 2000.
ـ مجموعة من الكتاب البرازيليين: قصص برازيلية (بالاشتراك مع سحر توفيق)، إبداعات عالمية، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000.

يصدر له قريبا:

ـ ماشادو ده أسيس: حكاية سكندرية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
ـ خ. ل. بورخيس: مختارات الفانتازيا والميتافيزيقا، الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة.

قصص الأطفال والناشئة:
ـ : خرابيشو يخربش (قصة مصورة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ آنا ماريا روميرو يبرا: دينو، الديناصور [Ufito, el dinosaurio]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ ميكيل بالبيردى:ملك الغابة [El rey de la selva]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ آنى جروڤى، تيمور والتعبيرات،(بالاشتراك مع هويدا نور الدين)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ برنار كلاڤيل: أساطير البحر، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.
يصدر له قريبا:
ـ برنار كلاڤيل: أساطير البحيرات والأنهار، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،.
ـ برنار كلاڤيل: أساطير الجبال والغابات، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

نقد أدبى:

ـ يورى كارياكين: دوستويڤسكى ـ إعادة قراءة، كومبيونشر للدراسات والإعلام والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.
ـ پول ب. ديكسون: الأسطورة والحداثة : حول رواية دون كازمورّو، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998.
ـ مجموعة من الكتاب: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999.
ـ بياتريث سارلو: بورخيس: كاتب على الحافة، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.

سياسة واقتصاد وفكر وفلسفة:

ـ وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب ـ جلسة بشأن أرتريا ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا، طبعة پاريس، 1985.
ـ سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1992، طبعة ثانية، المغرب.
ـ توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث، دار العالم الثالث(بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1995.
ـ راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع(بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1995.
ـ كريس هارمان: العاصفة تهب ( حول انهيار النموذج السوڤييتى )، دار النهر، القاهرة، 1995.
ـ فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت : نشأتها ومغزاها ـ وجهة نظر ماركسية، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 1، 2000، ط 2، 2004.
ـ فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد (بالاشتراك مع على كلفت)، دار النهار للنشر، بيروت، 2002.
ـ إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادى والعشرين : مخاوف وأخطار جديدة، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الثانية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006.
ـ إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الحياة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005.
ـ إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الثقافة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005.

معاجم:

ـ الياس–هاراب القاموس التجارى إنجليزى-عربى، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1996.
ـ چيرار سوسان و چورچ لابيكا: معجم الماركسية النقدى (بالاشتراك فى ترجمة جماعية)، دار محمد على للنشر، صفاقس، تونس، و دار الفارابى، بيروت (بالتعاون مع منظمة اليونسكو)، 2003.

أحمد محمد عبد الفتاح الشافعي
07/04/2009, 03:36 PM
هــــــذا الكتاب قمت بتحميله بناءأ على مبادرة مني، وعرفانا بالجميل للزميل والصديق المفكــر والباحث اللغوي خليل كلفت لتعم الفائدة، وليدور حوله المناقشة والنقد ونأمل أن نجد من السادة الزملاء: الباحثين والقراء أن يمدونا بآرائهم، ورؤيتهم النقدية واللغوية.
أحمد الشافعي

الحاج بونيف
08/04/2009, 11:53 PM
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
شكرا على المجهود ..
البحث طويل، ستكون لي كلمة فور الانتهاء من قراءته كاملا بإذن الله.
تقديري.

أحمد محمد عبد الفتاح الشافعي
09/04/2009, 12:05 PM
من أسف أنني حملت نسخة استرشادية من كتاب" من أجل نحو عربي جديد " تأليف الأستاذ الصديق خليل كلفت، وآمل أثبات النسخة المرسلة لأنها هي المعتمدة والمراجعة والمنشورة من (المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة) ويكون لكم الشكر. درءًا للخلط والتشويش على القارئ والباحث. شكرا

أحمد محمد عبد الفتاح الشافعي
09/04/2009, 01:04 PM
من أجل
نحو عربى جديد




خليل كلفت










من أجل
نحو عربى جديد
(دراسات فى نحو اللغة العربية)




خليل كلفت












المحتويات
تصدير .................................................. ................ 4
مفهوم النحو (مقدمة عن العلاقة بين العلم وموضوعه) ....................... 8
1: تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية - ازدواج غريب وخاطئ ................ 23
2: المسند إليه والمسند .................................................. ...... 29
3: المسند إليه .................................................. ............. 36
4: المسند إليه: بعض تجلياته أو أشكال تحقيقه .................................. 43
5: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر أ: الأفعال المسماة بالناسخة .................... 53
6: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر ب: الحروف المسماة بالناسخة ................ 69
7: المسند أو ما يسمى بالخبر ............................................... 76
8: المسند (الخبر) ومتعلَّق الجارّ والمجرور ..................................... 85
9: المسند أو الخبر: تحليل لعناصره المكونة .................................. 97
10: الإعراب: خطيئة تمحور النحو حول الإعراب .............................. 106
11: الإعراب: وظيفته كأداة من أدوات النحو .................................. 114
12: الإعراب وعناصر الجملة ............................................... 123
13: خرافة الإعراب المحلى والإعراب التقديرى .............................. 131
14: وقفة عند من ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية .......... 153
15: ما يسمى بمنصوبات الأسماء بين عناصر الجملة والإعراب .............. 169
16: محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف المصرية
لإصلاح النحو العربى فى 1945 ........................................... 188
ملاحق
الملحق 1: جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية ............................. 211
الملحق 2: هل الخبر مرفوع؟ .............................................. 217
الملحق 3: لويس عوض والبحث عن أصل اللغات: حول مقدمة فى فقه اللغة العربية .. 231
الملحق 4: معجم لتصريف الأفعال العربية ....................................... 237
الملحق 5: 3 أعمدة فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون بعنوان "لغة" ................... 242
ببليوجرافيا المؤلف .................................................. .......... 245

تصدير

على مدى شهرين، بين 8 أكتوبر و8 ديسمبر 1997، تم تأليف هذا البحث النحوى، دون إعداد، وقد قمتُ بـ "تبييض" 12 فصلا من الكتاب بصورة كاملة، وتركت الفصول الباقية بلا "تبييض"، وفوق هذا كتبت مقالا بعنوان "هل الخبر مرفوع؟" (نُشر فى مجلة "جسور" العدد الثانى، سپتمبر 1999، وهى مجلة قاهرية يسارية لم تُصدر سوى عددين)، كما نشرتُ (مجلة العربى الكويتية، عدد يوليو 2000) الفصل الأول منه فى وقت لاحق كمقال بعنوان "جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية"، وأنا أعيد نشر هذين المقالين ضمن ملاحق الكتاب لأنهما يمثلان أول ظهور لهذه الأفكار، وتقديرا لموقف مجلة "العربى" الكويتية، رغم أن المقال المنشور فيها إنما هو الفصل الأول من الكتاب فلا يختلف عنه إلا قليلا.
وتلت ذلكما الشهرين أعوام طويلة تنوعت فيها الظروف التى عرقلت استكمال "تبييض" الفصول الباقية ونشر الكتاب، وكانت ظروفا معيشية وأخرى صحية وفى كثير من الأحيان كانت ظروف استغراق شديد فى مشروع من مشروعات الكتابة أو الترجمة، دون العودة إلى كتاب النحو الذى كان قد فصلنى عنه التهاب رئوى شديد استمرت النقاهة بعده طويلا.
والآن، وقد فرغت من إعداد الكتاب للطبع، وبعد أن كتبت له مقدمة حديثة (أكتوبر 2008)، يهمنى قبل كل شيء أن أوضح أن هذا الكتاب لا يهدف إلى إحداث أىّ تغيير فى اللغة العربية أو فى حقائق النحو العربى أو الإعراب العربى. إنه بالأحرى دفاع عن النحو العربى، انطلاقا من اتخاذ اللغة ذاتها ونحوها الجمعى وإعرابها السليقى معيارا مطلقا ومرجعا نهائيا، وانطلاقا من المنجزات العظيمة للنحو العربى خاصة عند نشأته خاصة عند الخليل وسيبويه، ولكنْ باعتباره رغم عظمته ابن زمانه. وهو دفاع عن النحو العربى ضد التعقيدات التى أدخلها النحاة من عندياتهم دون مبرر حقيقى من اللغة العربية أو نحوها الجمعى أو إعرابها السليقى، وما ذلك إلا لخلطهم بين البحث اللغوى الوصفى الاستقرائى الذى برعوا فيه فأبدعوا والتنظير الذى أمعنوا فيه فحوَّل جانبا كبيرا من النحو إلى نظر كلامىّ وفقهىّ ومنطقىّ وميتافيزيقىّ. وقد أدى هذا الانصراف شبه الكامل إلى التعليلات الميتافيزيقية للإعراب وعوامله إلى الجمود والتحجر مما أوقف نمو علم النحو إلى حدّ أن العصور التالية لسيبويه لم تستطع أن تضيف إلى صياغة سيبويه "إلا بعض تعريفات وبعض تسميات"، كما يقول الدكتور شوقى ضيف، أحد حراس النحو العربى التقليدى، فى كتابه المدارس النحوية (دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1999، ص 22).
ويبدأ الكتاب، الذى يمثل رغبة فى العودة بالنحو العربى إلى البساطة التى هى سمة علم النحو بالذات بحكم طبيعته ومحتواه، بمقدمة تدور حول علاقة علم النحو بموضوعه فى السياق الأوسع للعلاقة بين كل علم وموضوعه.
ويطمح الكتاب إلى وضع النحو العربى فى السياق الواسع للثورة النحوية فى لغات أخرى، الإنجليزية بوجه خاص، وهو ما صار يحتمه التطور العام للنحو كعلم وكذلك تطور المجتمع الذى يجعل من المعالجة الحاسوبية للمعلومات ضرورة لا غنى عنها لتقدم المجتمع أو حتى لمجرد مقاومة الحد الأدنى لتدهوره.
ويحاول الفصل الأول إثبات خطأ تقسيم الجملة العربية إلى جملة اسمية وجملة فعلية، كما يفعل النحو العربى وكل نحو تأثر به كالنحو الفارسى والنحو القبطى. وهو ينتهى إلى أن الجملة العربية الواحدة تنقسم إلى "ركنين" وحيدين هما المسند إليه (الفاعل) والمسند (الخبر) وإلى أن المسند هو كل ما نثبته للمسند إليه أو ننفيه عنه، أىْ كل ما يرد فى الجملة غير المسند إليه. كذلك يجرى بحث وتفنيد نظرية التقدم الوجوبى للفعل على فاعله والتأخر الوجوبى للفعل عن المبتدأ.
وفى الفصول الثانى والثالث والرابع، يناقش الكتاب مفهوم "المسند إليه" الذى يشمل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء الخبر. وعلى أساس التركيز على بناء الجملة، وعناصر هذا البناء، وأشكال تحقيق هذه العناصر، بعيدا عن التمحور التقليدى لنحونا حول الإعراب، تناقش هذه الفصول الثلاثة مختلف أشكال تحقيق المسند إليه.
ويركز الفصلان الخامس والسادس على مناقشة ما يسمى بالأفعال والحروف الناسخة على الترتيب، حيث يبحث الفصل الخامس أفعال "كان وأخواتها" وأفعال "ظن وأخواتها" وأفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" كقسم متميز من أفعال "أعطى وأخواتها"، حيث تجرى إعادة نظر واسعة فى مفهوم خبر كان، ونصب أفعال "ظن وأخواتها" لمفعولين، ونصب أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" لثلاثة مفاعيل، مع استنتاجات تخص علاقة كل هذه الأشياء بعناصر الجملة وكذلك بنماذج الجملة. ويبحث الفصل السادس حروف أو أدوات "إن وأخواتها" ووظيفتها الخاصة بنصب المسند إليه بعدها مع إلغاء مفاهيم مثل اسم إنّ وخبر إنّ وما إلى ذلك.
وفى ثلاثة فصول متواصلة، هى السابع والثامن والتاسع، يبحث الكتاب المسند (الخبر). ويمكن القول إن إصلاح مفهوم الخبر فى النحو العربى هو المحور الحقيقى لهذا الكتاب. ولأن الخبر هو كل ما نثبته للمسند إليه أو ننفيه عنه، شاملا كل عناصر الجملة غير المسند إليه، صار من الضرورى التوصل إلى مفاهيم ناجعة عن عناصر الجملة التى يتكون منها الخبر وهى الفعل والمفعول به ومتمم الفاعل ومتمم المفعول به والظرف. والاستنتاج الضرورى من هذا المفهوم للخبر هو أن الخبر غير مرفوع وخارج دائرة الإعراب أصلا وأن ما يبدو أنه الخبر المفرد ليس خبرا إلا مع المحذوف وفقا لنظرية "متعلَّق الجار والمجرور" التى قام النحو العربى بتهميشها على مرّ القرون، وكل ما يقاس إعرابيا على هذا الرفع للخبر المفرد ليس سوى قياس فاسد.
ورغم أن هذا البحث ليس بحثا فى الإعراب، ورغم أنه يسعى إلى الاتجاه بالنحو العربى بعيدا عن التمحور حول الإعراب، بل ربما بسبب هذا الطموح إلى أن يركز النحو العربى على موضوعه الحقيقى كعلم لبناء الجملة بعيدا عن الإعراب، يخصص الكتاب فصولا عديدة للإعراب: طبيعته، وأنواعه، والوسائل الحقيقية لتيسيره، وبالأخص علاقته بعناصر الجملة. وبعد مناقشة هذه الأمور فى الفصلين العاشر والحادى عشر والثانى عشر، يتوقف الكتاب عند أمور أخرى تتعلق بالإعراب، يناقش الفصل الثالث عشر خرافة الإعراب المحلى والإعراب التقديرى، داعيا إلى إلغائهما والتخلص منهما بلا رجعة. ويقف الفصل الرابع عشر وقفة متأنية عند من ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية والمقصود بالطبع نحويان كبيران لا ثالث لهما فى كل تاريخ النحو العربى وهما الإمام محمد ابن المستنير الشهير باسم قطرب، مؤلف إعراب القرآن وتلميذ سيبويه، والدكتور إبراهيم أنيس فى العصر الحديث.
ويبحث الفصل الخامس عشر بحر المنصوبات الأعظم بهدف استيعاب كل ما يمكن استيعابه منها فى عناصر بناء الجملة، بعيدا عن هذه التسميات الإعرابية الخاطئة فى حد ذاتها وفى تمحورها حول الإعراب والتى تحول دون بلورة علم أكثر نضجا لبناء الجملة أىْ النحو syntax بمعناه الصحيح.
وكان من الطبيعى تماما أن يكون الفصل السادس عشر، وهو الفصل الأخير فى مكانه وليس فى أهميته، حول أنضج محاولة فى كل العصور لتطوير وتحرير النحو العربى وهى تلك المحاولة الكبرى التى قام بها مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف المصرية فى عام 1945، وهى المحاولة التى تمثلت ثمرتها الناضجة فى كتاب تحرير النحو العربى الذى قررته وزارة التربية المصرية فى الخمسينات على المدارس. ومن المؤسف أن تلك المحاولة العظيمة قد انتهت إلى الفشل فقد تخلى عنها فى صمت كل من مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة التربية، وقد تمثل السببان الكبيران وراء ذلك الفشل من ناحية فى نقاط ضعف خطيرة فى تلك المحاولة ومن ناحية أخرى فى قوة أعداء تطوير النحو العربى بالذات الذين يشكلون نوعا من الأصولية اللغوية والنحوية، وهى لا تعدو أن تكون فرعا من الفروع الأخطبوطية للأصولية الدينية السياسية، فى بيئة اجتماعية وعلمية تتميز بغياب البحث اللغوى الحر، فى السياق الأوسع لقمع الحرية فى البلاد، وما مأساة كتاب مقدمة فى فقه اللغة العربية للدكتور لويس عوض ببعيدة.
ولأننى كنت بعيدا عن الخوض فى تفاصيل وتعقيدات النحو العربى التقليدى بحكم طبيعة بحثى، فقد أردت أن أبتعد بالكتاب عن الاعتماد المكثف على المراجع الأصلية، مكتفيا بالموسوعة النحوية النحو الوافى للأستاذ عباس حسن، وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، حريصا على أن تكون غالبية أمثلتى من الكتب الشائعة ومنها الكتاب المدرسى القواعد الأساسية للنحو والصرف، وكتاب تجديد النحو للدكتور شوقى ضيف، وكتاب تحرير النحو العربى، وقرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومعجم النحو للأستاذ عبد الغنى الدقر، وبعض الكتب والمراجع الأخرى بطبيعة الحال، وقد كانت هذه المراجع القليلة كافية تماما فى حدود المسائل النحوية العامة المطروحة فى هذا البحث الذى لا يدور حول "نُكَت" الإعراب بل عن بناء الجملة.
***
والآن، والكتاب يوشك على دخول المطبعة، لا أملك إلا أن أتذكر بكل امتنان أولئك الذين ناقشت معهم بعض أفكارى المتصلة بالنحو، خاصة بعد كتابة القسم الأساسى منه فى عام 1997، ولن يفوتنى التنويه بأن ابنتى هند خليل كلفت كانت القارئة الأولى لمواضع مهمة فى الكتاب، رغم صغر سنها فى ذلك الوقت، وقد استطاعت بمعجزة لا أفهمها أن تركز إلى درجة تدقيق وتصحيح بضع صياغات هنا وهناك، مسلَّحة بمنطق صارم تتميز به، كما أنه لن يفوتنى التنويه بكل من ساعدنى بطريقة أو بأخرى وفى مقدمتهم زوجتى هويدا نور الدين التى ساعدتنى وشجعتنى فى كل ما أنجزت خلال قرابة ربع قرن فى مجال التأليف والترجمة، ولن أنسى التشجيع الدائم الذى قدمته لى دائما ابنتى الصغرى عزة خليل كلفت. ولأن هند وعزة كانتا صغيرتين جدا وكانتا تملآن علىّ حياتى فإنه لا غرابة فى أنه كان لهما نصيب من الأمثلة النحوية طوال الكتاب على حين أن الأمثلة بجانبها الأكبر مستمدة من كتب النحو الشائعة التداول، باعتبارها الأمثلة المعتمدة فى كتب النحو العربى الحديثة.
***
وأخيرا وليس آخرا، يهمنى أن أعبر عن اعتزازى بصدور هذا الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة الذى ظل لفترة غير قصيرة مركزا لحرية الإنتاج الفكرى والبحث العلمى، رغم البيئة المحيطة، وإذا كان الفضل يرجع فى هذا إلى وجود المفكر والناقد الأدبى الكبير الدكتور جابر عصفور أمينا عاما له طوال أعوام ممتدة، فإن فضل ظهور هذا الكتاب من المجلس الأعلى للثقافة يرجع أيضا إلى موافقة هذا الرجل نفسه على نشره ضمن مطبوعات المجلس، رغم معرفته بوضوح أن الكتاب يمثل معارضة جذرية للنحو العربى التقليدى، فإلى الدكتور جابر عصفور أهدى هذا الكتاب، راجيا أن يسير المجلس على نفس الطريق الصعب للثقافة الجادة والحرية.
خليل كلفت
الحى المتميز، مدينة 6 أكتوبر، القاهرة الكبرى
8 ديسمبر 2008


مفهوم النحو
(مقدمة عن العلم وموضوعه (

يجرى التفكير فى النحو عادة على أنه يساوى تماما علم النحو، بنفس الطريقة التى يجرى بها التفكير فى الظواهر اللغوية الأخرى وكأن كل ظاهرة منها تساوى العلم الذى يدرسها ضمن العلوم اللغوية الأخرى. ويمكن القول إن هذا النحو من التفكير فى النحو والعلوم اللغوية الأخرى أفضى ويفضى وسيفضى دائما إلى أخطاء علمية وعملية قد تكون فادحة. ويمكن القول أيضا إن الخطأ الأول (وهو مصدر كل الأخطاء الأخرى) يتمثل فى أن هذا النوع من التفكير ينطلق من تجاهل حقيقة بسيطة يعرفها الجميع وهى أن اللغة موجودة قبل ظهور العلوم اللغوية وأن أصول هذه العلوم اللغوية موجودة فى اللغة وعندالناطقين بها قبل أن تظهر هذه العلوم، التى انطلقت على أساس استقرائى حيث أخذت تعمل على "جمع" كل ما اشتملت عليه هذه اللغة أو تلك من "تصنيفات" وهى تصنيفات قائمة فى وعى جماعة الناطقين بها، هذه الجماعة التى هى ليست فقط واعية بهذه التصنيفات بل إنها هى التى ابتدعتها بصورة جمعية تاريخية منذ ظهور الإنسان الكرومانيونى (أىْ الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف homo sapiens sapiens أو الإنسان كما نعرفه اليوم) منذ قرابة مائة ألف سنة وفقا لإحدى النظريات، أو أكثر أو أقل وفقا لنظريات أخرى، بالاستناد بالطبع إلى تاريخ طويل أسبق صنع فيها الإنسان نفسه ولغاته السابقة على اللغة كما نعرفها اليوم.
وإذا كانت العلاقة بين اللغة والعلم اللغوى مماثلة من الناحية الجوهرية للعلاقة بين كل علم ومجال بحثه، مثلا بين الكيمياء وعلم الكيمياء، باعتبار أن هذا العلم الكيميائى يبحث هذه الظاهرة الكيميائية تماما كما يبحث هذا العلم اللغوى هذه الظاهرة اللغوية، فإن هناك اختلافا جوهريا بدوره بين العلوم التى تدرس الطبيعة وتلك التى تدرس الحياة الاجتماعية والفكرية واللغوية إلخ... للبشر. ويتمثل هذا الاختلاف فى أن ظواهر الطبيعة خالية من الوعى وبالتالى خالية من التصنيف الذاتى لمختلف نواحيها وعناصرها. ولهذا يستقرئ العلم ظواهر الطبيعة معتمدا على أدواته وحدها لدراسة طبيعة غير واعية بذاتها. إن الطبيعة لا تمنح العلم أسرارها وتصنيفاتها لأنها لا تعى بها وليست هناك لغة مشتركة بينها وبين العلماء. غير أن العلم تطورىّ، فهو يعتمد إذن على تاريخ طويل من محاولات العلم فى مختلف مراحل تطوره. وهذه الأسرار والتصنيفات والمفاهيم التى تدور حول الكيمياء أو الفيزياء أو البيولوچيا أو الرياضيات يكتشفها البشر بالتدريج، حتى منذ مراحل بدائيتهم، ويرثها جيلٌ بعد جيل، ويبرز بينهم أشخاص يرتبط ذكاؤهم ببحث هذه الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية أو تلك، ببحث الفيزياء أو الكيمياء أو المجتمع، ليشكلوا تاريخا تطوريا يستغرق آلاف السنين وعشرات آلاف السنين ومئات آلاف السنين. وعندما نشأت العلوم بألف لام التعريف، أىْ العلوم دون أوصاف أخرى، فى الآلاف الأخيرة من تاريخ البشر، فقد انطلقت من وراثة تلك الجهود العلمية التطورية الطويلة للبشر و"للعلماء" منهم، بالاعتماد على ممارسة البشر طوال التاريخ وما قبل التاريخ وما قبل ما قبل التاريخ. وفى الآلاف الأخيرة من السنين هناك علم العصور القديمة، وعلم العصور الوسطى، وعلم العصر الحديث، أىْ العلم الحديث. وعلى هذا فإن العلم الحديث لم يقف أمام الطبيعة وظواهرها، أمام فيزيائها وكيميائها إلخ...، عاريا، مجردا من كل الأدوات باستثناء ذكائه المباشر. ذلك أن هذا الذكاء المباشر، الذى تسلح به العلم الحديث، ليس إلا الثمرة الناضجة لتاريخ وما قبل تاريخ العلم. وقد تسلَّح بكل ثمار ذلك التطور الطويل، منطلقا من تصنيفاته ومفاهيمه واستنتاجاته كفرضيات للبحث.
وباختصار فقد تسلَّح العلم الحديث بمنجزات ماقبل تاريخه ولكنْ أمام الطبيعة وظواهرها العمياء الصماء البكماء التى لا تقول شيئا بنفسها وإنْ كانت تعرض نفسها للفهم أمام الممارسة وأمام البحث العلمى، وبدون هذا الفهم، بدون فهم الإنسان العادى للطبيعة فى ممارسته التطورية وبدون فهم العلم للطبيعة من خلال بحثه التطورى، تستحيل كل ممارسة بشرية، أىْ كل حياة بشرية بكل جوانبها، ويستحيل كل علم.
ورغم تماثل العلاقة الجوهرية بين الطبيعة والعلم مع العلاقة الجوهرية بين اللغات (وغيرها من ظواهر الحياة البشرية من حيث هى كذلك) والعلوم اللغوية (وغير اللغوية) التى تدرسها، فإن الأمر يختلف تماما، بعد ذلك. فالبشر يعيشون حياتهم واعين بها، بكل جوانبها، بما فى ذلك الوعى بلغاتهم، وإنْ كان كل هذا وعيا مشروطا تاريخيا؛ إذْ تقرره مرحلة التطور الاجتماعى التى جرى بلوغها، وتحفزه أو تشوهه الأيديولوچيات، وتزرع فيه صراعات المصالح الاجتماعية المتعارضة تناقضاتها.
ولا مجال هنا لمناقشة قضية: الوجود الاجتماعى والوعى الاجتماعى أيهما أسبق؟ ويكفى هنا أن أشير إلى أن الوجود الاجتماعى مستحيل بدون الوعى الاجتماعى مهما كان نوع أو مستوى أو مرحلة هذا الوجود أو هذا الوعى، ذلك أن الإنسان الذى هو بحكم التعريف كائن لا يفارقه وعيه الصحيح أو الناقص أو المشوَّه أو الزائف، هو الذى يصنع وجوده الاجتماعى ووعيه بالنفس والمجتمع والكون، ويصنع بكل وعى حياته بكل جوانبها بمنجزاتها وتناقضاتها وكوارثها، فى إطار الطبيعة التى تواجهه كمعطى ليس من صنعه إلا أنه يعطى نفسه لتفاعل الإنسان معه لاستخدامه لمصلحة حياته، وفى إطار المجتمع الذى يواجهه – رغم أنه من صنعه بصورة تاريخية – كشرط كأنه طبيعى يتفاعل معه ويغيِّره ويحوِّله ولكنْ لا يسيطر عليه لمصلحة الإنسان إلا فى المجتمع المتقدم اجتماعيا والمتقدم تكنولوچيًّا، إلا فى المجتمع اللاطبقى، كما أن الإنسان يصنع كل علومه ومنها العلوم الإنسانية واللغوية فى الإطارين المذكورين، الطبيعة والمجتمع، كما يصنع لغته أو لغاته ضمن هذه الشروط الموضوعية ولكنْ القابلة دوما للتعديل والتحويل وفقا لهذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الإنسان.
ورغم الاشتراك مع كل ظاهرة وكل علم فى علاقة العلم بمجال بحثه، باعتبارها علاقة تبدأ بالبحث الاستقرائى، ورغم الاشتراك مع ظواهر الحياة الاجتماعية وعلومها فى الوعى الذى يجعل هذا الاستقراء لا يبدأ من الصفر، بل يبدأ بمنجزات استقراء الممارسة و"العلم" طوال التاريخ وما قبل التاريخ، إلا أن اللغة تختلف أيضا حتى عن العلوم الإنسانية الأخرى.
وسأضرب الآن مثلا لإيضاح خصوصية العلوم اللغوية، وبالأخص علم النحو، فى هذا المجال. عندما يدرس عالم الذرة فى العصر الحديث الذرة أو نواة الذرة أو الپروتون أو الجزيئ فإنه لا يملك لغة للتخاطب مع هذه العناصر أو مع الظواهر الكيميائية ككل، فهى جميعا بكماء، وهذا العالم لا يبدأ من الصفر بل يبدأ من منجزات العلوم عند الإغريق والعرب وغيرهم قبلهم وبعدهم، وقد منحته هذه المنجزات أحدث أدوات بحثه، ولا مجال هنا لوعى غير وعى العلم طوال تاريخه ووعى الممارسة اليومية للبشرية طوال تاريخها. وهنا يتعامل الوعى العلمى مع الظاهرة الكيميائية غير الواعية بنفسها وغير القادرة على الحديث عن خصائصها وعناصرها رغم استعدادها لمنح أسرارها كما سبق القول لأدوات البحث. ورغم أن العلم يعتمد هنا على الوعى التراكمى بالظاهرة الكيميائية، أىْ على وعى البشر بها، إلا أن الوعى ليس عنصرا ماثلا فى جوهر الظاهرة، ولم يسهم فى صنع الظاهرة، على العكس من الظواهر الاجتماعية والفكرية واللغوية التى يشكل الوعى عنصرا ماثلا فى صميمها وليس فى مجرد الوعى بها، فالاقتصاد من صنع أشياء منها الوعى، والوجود الاجتماعى بأكمله من صنع أشياء منها الوعى، وكلها من صنع الإنسان بوعيه الصحيح والزائف فى إطار معطى من الطبيعة والمجتمع. أما الظاهرة اللغوية فهى من صنع الإنسان بوعيه، وبالطبع بأشياء أخرى، منها المخ البشرى، ومنها الفيزياء أىْ الوسط الذى تنتقل فيه الأصوات اللغوية للبشر، ومنها الحياة الاجتماعية التى تعبر عنها اللغة، فاللغة إذن من صنع الإنسان، والوعى ماثل فى صميمها، ففيم تختلف عن الظواهر الاجتماعية الأخرى التى يسهم الوعى فى وجودها وتطورها؟
تختلف اللغة عن غيرها من الظواهر الاجتماعية فى أنها أداة التعبير عن كل مناحى الحياة، من الحياة اليومية، إلى الأدب، إلى العلوم الاجتماعية، إلى العلوم الطبيعية التى تصل مستوياتها المعقدة إلى لغة الرموز المشتقة بطبيعة الحال من اللغة الطبيعية (أىْ اللغة كما ننطقها ونكتبها ونقرأها). ولأن اللغة هى لغة الحياة ولغة كل علم فقد كان من المنطقى أن تكون المسافة بين خصائصها الموضوعية واستيعابها من جانب الناطقين بها أقصر من المسافة بين كل علم طبيعى ومجاله، وحتى كل علم اجتماعى ومجاله. أىْ أن مدى وضوح المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة الطبيعية (الموضوعية، الجمعية) يجعل المسافة بين العلم (اللغوى) وموضوع بحثه (اللغة) مسافة قصيرة للغاية، وهى مسافة قصيرة ليس فى العلم فقط، بل حتى فى ممارسة الحياة اليومية بين الناطق العادى بلغة وبين مفاهيمها وتصنيفاتها. ذلك أن اللغة تغدو مستحيلة، كما يغدو التفاهم مستحيلا، إذا لم تكن مفاهيمها وتصنيفاتها واضحة وبديهية وجاهزة لدى كل ناطق بلغة من اللغات. وإذا كانت اللغة تتكون من كلمات موجودة فى المعجم الجمعى الموضوعى وتتكون من جمل تتكون من تلك الكلمات بطريقة معلومة لبناء الجملة، فإن المعرفة الواضحة بالكلمات وطرق بناء الجمل منها شرط ضرورى للتفاهم بين أفراد كل جماعة بشرية فى كل نواحى حياتهم وبصورة متواصلة (ربما باستثناء حالة روبنسون كروزو فوق جزيرته). فإذا لم يعرف الناطق بلغة معانى الكلمات التى يستخدمها ولا طريقة بناء جمل منها فإنه سيكون عاجزا عن التعامل، وبالتالى عن الحياة، مع البشر، وإذا عجزت الجماعة اللغوية بأسرها عن فهم الكلمات وبناء الجمل فقد عجزت عن الحياة. غير أن اللغة ليست مجرد كلمات (يدرسها علم الصرف وعلوم أخرى) وليست مجرد بناء للجمل (يدرسه علم النحو بالمعنى الدقيق syntax) بل هناك أسلوبيات وبلاغيات وخصائص لا حصر لها تدرسها علوم لغوية لاحصر لها، غير أن الناطقين بلغة يدركونها بمستويات تتناسب مع مراحل التاريخ ومع قدرات الأفراد. على أن البحث اللغوى قد يرتفع إلى مستويات قد لا يفهمها إلا علماء اللغة ودارسوها، وهذا يصدق على كل علوم اللغة بدرجات مختلفة ومنها النحو ذاته، أو النحو بالذات.
ولنقارن الآن باستخدام مثلين بسيطين بين الاقتصاد والنحو، كما يتعامل معهما مجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة بالغة النضج من مراحل تطوره، ولم يصل بعد بالتالى إلى العلم البالغ النضج.
فى اقتصاد سلعىّ (وليكن قديما وسابقا على الرأسمالية) يفهم كل إنسان ما هى السلعة ويتعامل فى السوق مع السلع، غير أن المسافة بين فهمه سواء أكان شخصا عاديا أم باحثا اقتصاديا للسلعة وبين مفهومها العلمى الصحيح لن تكون مسافة يمكن تجاهلها أو اعتبارها قصيرة بحال من الأحوال. والآن: يستخدم شخص عادى جملة من فعل وفاعل ومفعول، فهل تراه يخلط بين الفاعل والمفعول، أو يخطئ فى معرفة زمن الفعل أو لزومه أو تعديه؟ إن المسافة بين تصور هذا الشخص العادى للفاعل مثلا وبين المفهوم الصحيح قد تصل إلى الصفر. لماذا؟ لأنه بدون هذه المفاهيم والتصنيفات الأولية لن يستطيع هذا المرء الكلام مع أحد ولا حتى مع نفسه. وهنا يحدث تطابق حقيقى بين العلم ومجاله، بين المفهوم وواقعه، وإلا ضاعت اللغة وضاعت معها إمكانية التعبير عن مختلف نواحى الحياة وكذلك إمكانية التعبير عن مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية. ورغم المسافة القريبة بين اللغة وعلم اللغة إلا أن هذا لا يعنى أن العلم غير ضرورى، بل إن من الضرورى أن يحاول العلم دوما أن يقطع هذه المسافة التى تظل على قربها قائمة ومفتوحة. وتظل هناك حاجة دائمة إلى قيام العلم بتطوير المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة والتى يعرفها كل ناطق بها. إن العلم يرفع وعى الجماعة اللغوية بلغتها إلى مستويات أخرى جديدة من الصقل والتمفصل واكتشاف العلاقات الأكثر تعقيدا، بالإضافة إلى ما لا يمكن أن تصل إليه جماعة لغوية من وعى، وهو الوعى بالعلاقات بين اللغات، والوعى بالأصول المشتركة بينها، والوعى بالخصائص العامة للغة والتى لا يمكن رؤيتها عند البقاء داخل نطاق لغة واحدة أو داخل مجموعة صغيرة من اللغات. كذلك فإن العلم هو الذى يصون ويطور الذاكرة اللغوية للجماعة اللغوية بدراسة ظواهرها من حيث تطورها التاريخى، ونشأتها من لغات أخرى، ومختلف المؤثرات اللغوية التى استقبلتها، والمراحل التى مرت بها، واتجاهاتها المستقبلية المحتملة، وباختصار فإن العلم يقوم بإحلال الوعى العلمى محل الوعى التلقائى، وبدون إحلال الوعى العلمى وتطويره بصورة متواصلة تستحيل أشياء كثيرة ليس أقلها شأنا فى هذا العصر تهيئة اللغات لتقنيات معالجة المعلومات حاسوبيًّا.
لقد أشرت منذ قليل إلى أن مفهوم الفاعل مثلا فى الوعى النحوى التلقائى يتطابق أو يكاد مع المفهوم الصحيح الذى يمكن أن يقدمه علم النحو الناضج. كما أن هذا الوعى التلقائى أو الجمعى هو المعيار الذى يساعد علم النحو على معرفة صدق أو زيف مفاهيمه. غير أن العلم يجرى إنتاجه ضمن شروط اجتماعية وتاريخية قد تكون مواتية وقد تكون غير مواتية لتوفيقه ونجاحه. ورغم أن المسافة بين الوعى قبل العلمى والوعى العلمى قد تصل، كما سبق القول، بالنسبة لبعض المفاهيم اللغوية، فى النحو على وجه الخصوص، إلى الصفر، فإن من المفارقات أن تؤدى الشروط الاجتماعية لإنتاج النحو إلى تخلف هذا العلم فى كثير من الأحيان عن الوعى النحوى قبل العلمى. وعندما يستقرئ عالم النحو مكونات الظاهرة النحوية فإن استقراءه قد يكون غير مكتمل، ولأن الاستقراء لا يكون منفردا فإن هناك مجالا واسعا لتدخل الأفكار المسبقة التى قد تسير بالاستقراء فى اتجاهات بعيدة عن الصواب. إن العالم النحوى لا يذهب للبحث عن الحقيقة النحوية طارحا عنه كل فكر مسبَّق بل يذهب باستنتاجات سابقة وبتصورات وأيديولوچيات قد تكون غريبة على علم النحو، وقد تكون غريبة على كل علم. وكما مرّ علم الكيمياء بمراحل سيميائية باحثا عن حجر الفلاسفة، وكما طمست علوم اجتماعية حقائق الاجتماع البشرى وقدمت تفسيرات أسطورية فى كثير جدا من مراحل العلم إلى يومنا هذا، مرّت العلوم اللغوية، والنحو بالذات، بمراحل شهدت ضغوطا أيديولوچية لا نهاية لها على الاستقراء واستنطاق الظواهر اللغوية العينية. وبدلا من أن يخلع عنه كل فكر مسبَّق، تسلّح علم النحو، فى كثير من اللغات، فى كثير من الأحيان، إلى جانب أدوات البحث الحقيقى، بأوضاع وأفكار وأيديولوچيات ونظريات أقحمها على العلم، وكانت النتائج المنطقية منجزات علمية حقيقية تشوِّه الكثير منها أنواع وأشكال من الوعى الزائف تعكس مقتضيات المصالح الاجتماعية والأيديولوچيات والفلسفات وليس مقتضيات البحث العلمى. ومن المنطقى بالتالى، كما نرى فى تاريخ النحو العربى، أن تتحقق خطوات كبرى إلى الأمام مطعونة بخطوات أخرى إلى الوراء. وهى خطوات إلى الوراء ليس فقط بالقياس إلى طموح العلم الجديد بل أيضا بالقياس إلى المنطق الكامن فى النحو الجمعى، الذى هو فى نهاية المطاف المعيار الحقيقى والمرجع النهائى. ذلك أن اللغة كما تستخدمها الجماعة اللغوية هى الأصل والمرجع، وهى بالتالى معيار قياس نجاح العلم اللغوى أو فشله.
ولكى أميِّز فى هذا السياق النجاح من الفشل من جانب علم النحو العربى مثلا بالنسبة لبعض مفاهيم هذا النحو، سأشير باختصار إلى أمثلة قليلة وإنما سيأتى أوان النقاش التفصيلى فى تضاعيف فصول الكتاب. فلنأخذ مفهوم الفاعل الذى أشرنا إليه منذ قليل، وهو مفهوم بسيط مباشر فى استخدام الجماعة اللغوية، فهو من ناحية "مَنْ قام بالفعل أو قام به الفعل" (كما علمنا النحو العربى) وهو من ناحية أخرى مَنْ/ ما جرى إسناد الفعل إليه، وبدون هذا ما كان هناك تفاهم، فربما أعدموا المقتول الميت ودفنوا القاتل الحىّ لو لم يكن مفهوم الفاعل واضحا جليا بسيطا مباشرا، فماذا فعل النحو العربى؟ أولا اكتشف مفهوم الفاعل أو أعاد اكتشافه أو أقرّ هذا المفهوم عند الناس، وكل هذا فضل لهذا العلم، غير أنه سرعان ما قام بتشويه كل ذلك إذ قال النحاة إن الفاعل يتقدمه فعله، وهكذا فبعد أن كان "القاتل" فى جملة من فعل وفاعل ومفعول به، مهما كان ترتيب هذه العناصر أو الوظائف النحوية، هو الفاعل فى كل الأحوال، سواء تقدمه فعله أو تأخر عنه أو سبقه ناسخ، جرى تعقيد مفهوم الفاعل فالقاتل (الفاعل هنا) يكون فاعلا إذا تقدمه فعله، ويكون المبتدأ إذا سبق القاتل الفعل، ويكون اسما للناسخ، وهنا جرى اختراع مسميات متعددة تشكل القسم الأكبر مما يسمى بمرفوعات الأسماء لمن قام بالفعل حقا وصدقا بدلا من المسمى الوحيد الجدير به، وليكن المسند إليه، وليكن الفاعل، وليكن ما يكون. ليس هذا فقط بل كانت هناك خطوة أخرى بدت منطقية: التمييز بين جملة بدأت بالاسم وأخرى بدأت بالفعل، وبالتالى الخطأ النحوى الذى انفرد به النحو العربى والنحو فى بعض اللغات التى تأثرت به كالقبطية والفارسية وهو تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية دون أىّ سند من اللغة العربية كما استخدمتها الجماعة اللغوية. ومع جملة مثل "الكتاب مفيد" لم يقدم النحو الجمعى قبل العلمى ما يفيد أن كلمة "مفيد" خبر للمبتدأ؛ إنه مرفوع حقا ولكنْ هل هو الخبر؟ أجاب علم النحو العربى بأنه هو الخبر دون غيره، وهنا ضاع مفهوم الخبر، وبخطوة أخرى جرى اختراع أنواع من الخبر، وبخطوة ثالثة قيس ما يسمى برفع الخبر بكل "أنواعه" على رفع ما يسمى بالخبر المفرد، وبخطوة رابعة جرى اختراع ما يسمى بالرفع المحلى لغير ما يسمى بالخبر المفرد. وهذه ظاهرة خاصة بفعل الكينونة بالذات وفى المضارع المثبت بالذات، كما سوف نرى، وبالتالى فإن فعلا واحدا فى حالة واحدة ضلل النحو العربى فقاده إلى اختراع رفع الخبر، واختراع أنواع للخبر، واختراع الرفع المحلى، ونتج عن هذا التمييز بين المبتدأ والفاعل اختراع ما يسمى الضمير المستتر وتقديره ورفعه رفعا محليا أيضا. وليس هذا فقط: لأن الجملة "بدت" دون فعل عمليا ولأن كلمة "مفيد" ماثلة هناك، ولأنه "يبدو" أن المنطق يقول إن ما يسمى بالجملة الاسمية تتكون من مبتدأ وخبر، فقد جرى زعم أن كلمة "مفيد" خبر، واستطاع هذا المفهوم الخاطئ للخبر أن يسود وأن يهمِّش ويسحق مفهوما رائعا من مفاهيم النحو العربى هو مفهوم "مُتعلَّق الجارّ والمجرور" الذى يقول بأن هناك محذوفا يصنع الخبر مع كلمة "مفيد"، وكان من شأن صقل وتطوير مفهوم "مُتعلق الجارّ والمجرور" أن ينقذ مفهوم الخبر ومفهوم الجملة ليس فى النحو العربى وحده بل كذلك أيضا فى النحو الأوروپى (الإنجليزى والفرنسى مثلا) من مفاهيم ظلت خاطئة بشأن الخبر إلى وقت قريب جدا، أىْ إلى أن اكتشفت الثورة النحوية الجديدة فى العقود الأخيرة فى النحو الإنجليزى مثلا أن الخبر هو كل ما يرد فى الجملة من غير المسند إليه، وهذا ما يجعل الخبر مفهوما غير قابل للإعراب أصلا، لأنه لا يكون كلمة واحدة إلا إذا كان فعلا واحدا غير رابط، كما سنرى. أىْ أن النحو العربى توصَّل فى وقت ما إلى مفهوم نحوى ناجع عن الخبر كان من شأنه أن يفيد النحو فى اللغة العربية وغيرها من اللغات، غير أن الاتجاه النحوى السائد سحق هذا المفهوم. كذلك فإن نشأة النحو فى زمن ساد فيه اللحن الإعرابى، والخوف منه ومن سقوط الإعراب الذى أدى إليه على اللغة والدين، أفضت إلى رفع الإعراب من أداة ضرورية لكل نحو فى أىّ لغة، وليس فى اللغة العربية فحسب، فى بعض مراحل تطورها، إلى مستوى النحو ذاته وبالتالى النظرة الخاطئة التى جعلت النحو علما لأحوال الإعراب (وهذا هو ما يردده النحو العربى ومجمع اللغة العربية بالقاهرة وغيره من مجامع اللغة العربية إلى يومنا هذا) بدلا من أن يكون النحو علم بناء الجملة، يبحث الجملة من حيث ما تشتمل عليه من وظائف وعناصر نحوية هى لبنات بنائها. ويعنى هذا أن النحو العربى يدور حول إحدى أدواته الفرعية المتمثلة فى الإعراب، رغم أهميته التى لا جدال فيها إلا فى حالة إسقاطه من جانب الجماعة الناطقة باللغة العربية، وفى حدود هذا الإسقاط (القرن الثانى الهجرى فى الأمصار والقرن الرابع الهجرى فى البادية)، مع الاحتفاظ بالإعراب فى مجال الثقافة الرفيعة والعلوم والدين إلى يومنا هذا.
ورغم المفهوم الخاطئ عن النحو باعتباره علم أحوال الإعراب فإنه لا أحد يستطيع أن ينكر منجزات النحو العربى باعتباره علم بناء الجملة. فقد بلور هذا النحو وطور مفهوم الجملة، رغم خطأ تقسيمها إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ورغم خطأ إعراب ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية والجملة الفعلية وما يسمى بالخبر شبه الجملة، وبلور هذا النحو وطور مفهوم المسند إليه باعتباره مَنْ/ ما أسند إليه الفعل، رغم أنه أغرق مفهوم المسند إليه لينجرف تحت فيض مما يسمى بمرفوعات الأسماء أىْ المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم إن وأخواتها واسم كان وأخواتها واسم أفعال المقاربة والشروع، ورغم أنه فصل بين الفاعل ونائب الفاعل فى المبنى للمجهول رغم أنه يدخل ضمن مفهوم المسند إليه، مع أخذ خصوصيات كل من هذه "المرفوعات" فى الاعتبار من حيث الإسناد بين تقدم الفعل على المسند إليه أو تأخره عنه، ومن حيث إن الفاعلية النحوية للمسند إليه لا تعنى الفاعلية الحقيقية بل يمكن أن يكون المتأثر بالفعل هو المسند إليه أو الفاعل رغم أنه بمثابة المفعول به من حيث المعنى مثل فاعل الفعل اللازم "غَرِقَ" أو نائب فاعل الفعل المبنى للمجهول "قُتِلَ". والنحو العربى هو الذى بلور وطور مفهوم الخبر رغم أن أخطاءه فيما يتعلق بالخبر فاقت كل أخطائه الأخرى ليس فقط بالقول بإعراب الخبر، بل أيضا من حيث تحديد مفهوم الخبر، وبالتالى اعتبار ما يسمى بالخبر المفرد خبرا فى جمل الكينونة المحذوفة فى المضارع المثبت مع أنه حَذْف يعود إلى نوع من الاقتصاد اللغوى اعتمادا على حالة الكون العام، ومع أن المحذوف جزء من الخبر، كما أن هذا النحو أخطأ فى تقدير "أنواع الخبر" أىْ الخبرالجملة وشبه الجملة فلم يعرف أين يكون الخبر حقا فى هذه الجمل ومن هنا أدخل الإعراب المحلى أو قام بتوسيعه، ولم يأخذ هذا النحو بفكرة أن كل ما تشتمل عليه الجملة من غير المسند إليه هو الخبر وفتح الباب أمام تصورات غريبة مثل العمدة والفضلة والمتعلقات، وهذه الفضلة هى التى صارت مكملات لدى مجمع اللغة العربية بالقاهرة حتى فى عهده الذهبى بقيادة طه حسين برعايته للبحث الحر وإبراهيم مصطفى من الناحية النحوية، هذا المجمع الذى أخذ فكرة الفضلة من النحو العربى وفكرة المكملات، أىْ نفس الشئ، من النحو الفرنسى الذى ارتكب تاريخيا نفس خطأ النحو العربى. كما بلور النحو العربى وطور مفهوم الفعل ولزومه وتعديه وأزمنته، رغم ما قيل من أن الإعراب أصل فى الأسماء فرع فى الأفعال كما أن الصرف أصل فى الأفعال فرع فى الأسماء، وذلك لأن عدد حالات تصريف الفعل الواحد يفوق كثيرا عدد حالات تصريف الاسم الواحد، وهذا هو ما يخصّ الصرف، ولأن إعراب الفعل يكاد يكون غائبا ويكاد يكون لا معنى له لأنه لا يؤثر فى المعنى. غير أن هذا التصور ساعد على ابتعاد النحو عن الدوران حول الفعل لأن لزومه أو تعديه إلى مفعول أو مفعولين بالإضافة إلى خصائص أفعال مثل كان وأخواتها هى أساس بناء الجملة وأساس تحديد نماذجها: مثلا نموذج جملة كان وأخواتها أىْ نموذج المسند إليه مع كان وأخواتها مع إضافة متمم المسند إليه، ونموذج جملة الفعل اللازم، ونموذج جملة الفعل والمسند إليه والمفعول به، ونموذج جملة أعطى وأخواتها أىْ نموذج المفعولين، ونموذج جملة ظن وأخواتها أىْ نموذج المفعول به الواحد مع إضافة متمم المفعول المباشر، ونموذج جملة أعلم وأرى وأخواتهما أىْ نموذج المفعولين (أعطى وأخواتها) مع إضافة متمم المفعول المباشر، وفقا لخصائص الأفعال، وهنا ظهرت أساطير مثل اعتبار أن أفعال ظن وأخواتها تتعدى إلى مفعولين لمجرد أنها يمكن أن تنصب لفظتين إحداهما المفعول به، ومثل اعتبار أن أفعال أعلم وأرى وأخواتهما تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل رغم أن هذه الأفعال هى ذات أفعال أعطى وأخواتها مع إضافة "منصوب ثالث" يمكن القول إنه متمم المفعول به المباشر تماما كما أن "المنصوب الثانى" مع أفعال ظن وأخواتها هو متمم المفعول به الوحيد فى هذا النموذج وهو مفعول به مباشر (وسيأتى الحديث عن متمم الفاعل أو المسند إليه ومتمم المفعول به المباشر فى المكان الملائم من هذا الكتاب). كذلك فإن النحو العربى هو الذى بلور وطور مفهوم المفعول به (المباشر) والمفعول به (غير المباشر) الذى هو "مستلِم" المفعول به المباشر (ويقابل تعبير "المستلِم" فى النحو العربى، تعبير recipient فى النحو الإنجليزى)، فعندما يعطى محمود عليًّا كتابا فإن "كتابا" هو المفعول به المباشر و "عليًّا" هو المفعول به غير المباشر، "مستلِم" أو recipient المفعول به المباشر، وهذا رغم أن هذا النحو لا يتعرَّف على المسند إليه فى هذا المفعول به عندما يتحول إلى نائب الفاعل فى المبنى للمجهول.
وإذا اعتبرنا أن عناصر الجملة هى المسند إليه (أو الفاعل)، والفعل، والمفعول به المباشر، والمفعول به غير المباشر (ويمكن أن نسميه أيضا المفعول إليه)، ومتمم المسند إليه، ومتمم المفعول به المباشر، فإن النحو العربى هو الذى اكتشف وجود هذه العناصر فى النحو العربى الجمعى قبل العلمى كما أنه بلورها وصقلها وطورها استقرائيا رغم التشويه الذى لحق بالكثير منها، وهذا ما يقرّ به كثير من النحاة المحدثين الذين حاولوا إصلاح هذا النحو.
وهذا يعنى باختصار أن النحو العربى بالمعنى الدقيق كان منذ الخليل ابن أحمد، وعلى أيدى كل علماء النحو، علم بناء الجملة العربية وليس علم أحوال الإعراب كما قيل، وهذا رغم الأخطاء التى شوهت مفاهيم عناصر بناء الجملة ومفهوم الجملة ذاتها، وكذلك رغم دوران علم النحو العربى حول الإعراب بحكم ظروف نشأته التى ساد فيها اللحن الإعرابى والخوف من نتائجه على اللغة والدين كما سبق القول.
على أن دوران النحو حول الإعراب كانت له، رغم منجزاته فى مجال بناء الجملة، أضرار فادحة على مدى التركيز على الجملة وعناصر بنائها بصورة أدت إلى ضمور هذا البحث النحوى الذى هو جوهر النحو، كما أدى تقديس نحو النحاة إلى استعباد علماء النحو جيلا بعد جيل، فلم يكن أمامهم سوى تسويد جبال من الورق ببحار من الحبر ليكرروا بصورة متواصلة، جيلا بعد جيل، نفس ما قيل فى القديم دون اجتهاد حقيقى . فالنحو الذى نشأ باعتباره مدافعا عن اللغة والدين وحارسا لهما ضد اللحن وأخطاره كان من المنطقى أن يفرض ديكتاتوريته وديكتاتورية علمائه، هذه الديكتاتورية التى كانت بحاجة لكى تتواصل إلى أن تمنع الاجتهاد وأن تستعبد علماء النحو أنفسهم، كما يفعل كل منع للاجتهاد، وكل قمع لحرية البحث العلمى. وهكذا فلكى يستمر العلماءُ، سدنةُ النحو، سادةً للنحو كان لا مناص من أن يرتضوا بأن يكونوا عبيدا للنحو، وصارت مهمتهم حراسة نحو النحاة بعيدا عن النحو الحى فى اللغة الحية بل ضد هذا النحو رغم أنه الأصل الحقيقى والمرجع النهائى لنحو النحاة.
وكانت النتيجة المنطقية لكل ذلك هى انفصال النحو عن الحياة، وعن لغة الحياة (وأنا لا أقصد ما يسمى بالعامية ولا أعنى إسقاط الإعراب بل اللغة بكل مستوياتها كما تستخدمها الجماعة الناطقة بها)، ويؤدى انفصال النحو عن لغة الحياة وتعاليه عليها مع إقفال كل باب للاجتهاد إلى خلق وَهْم مؤداه أن النحو علم علوىّ لا يتصل بالجماعة اللغوية ولا يحتاج إلى العودة المتواصلة إليها.
ويحتاج علم النحو إلى العودة إلى النحو الجمعى لسببين على الأقل، من ناحية لتصحيح مفاهيمه الأصلية كلما أدرك علم النحو أن هناك ما يدعو إلى إصلاح أسسه ومفاهيمه أو حتى فرعياته وتفريعاته، لأن علم النحو هو ابن زمانه ويدعوه تقدم العلم بوجه عام إلى تطوير نفسه لأن من الصعب تماما أن "يبدأ" علم النحو بمفاهيم صحيحة بصورة مطلقة. ومن ناحية أخرى، وهذا هو السبب الآخر، لا تقف اللغة فى مكانها ولا يقف النحوالجمعى، المنطق الفعلى لتلك اللغة، فى مكانه. وعلى هذا يمكن أن نتصور أن يعمل علم النحو على متابعة واستيعاب التغيرات النحوية التى لا مناص من حدوثها إنْ لم يكن فى الأصول فعلى الأقل فى الفروع.
ولنتصورْ، رغم صعوبة هذا التصور، أن النحو العربى بدأ كاملا مكتملا، كعلم نضج واحترق كما قيل قديما، ولنتصورْ أن نضجه هذا كان باعتباره علم بناء الجملة وأنه توصل إلى مفهوم صحيح للجملة وإلى مفهوم صحيح عن عناصر أو مكونات الجملة وعن مرونة ترتيب عناصر الجملة فى نسق الإعراب وتقييد هذا الترتيب فى حالة إسقاط الإعراب (وهو البديل المنطقى والتاريخى الوحيد للإعراب فى كل لغة وليس فى اللغة العربية وحدها)، ولنتصورْ أنه توصل إلى اكتشاف كامل لأشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة وأنه اكتشف بالتالى الخريطة الكاملة النهائية لكل نماذج الجمل الممكنة.
فى هذه الحالة يمكن أن نتصور أن علم النحو لن يحتاج إلى إعادة النظر فى نفسه، فى أسسه ومفاهيمه، وأنه سيحتاج فقط إلى متابعة واستيعاب التطور النحوى فى الفروع والفرعيات. لماذا؟ لأن النحو الجمعى السليقى وعلم النحو المتطابق معه يتصفان بأنهما باقيان على حالهما ما بقيت اللغة على حالها وما بقى بناء الجملة على حاله. وهذه السمة المتمثلة فى البقاء الطويل الأمد للنحو ترجع إلى بساطة النحو وعلم النحو بالمقارنة مع الظواهر والعلوم اللغوية الأخرى. فالنحو هو أبسط نواحى اللغة، كل لغة، ومن هنا بقاؤه الطويل الأمد. والنحو الجمعى لا يتغير من الناحية الجوهرية، أىْ من حيث الجملة وعناصر بنائها، لأنه "محاكاة" مباشرة للحياة البشرية واللغة التى تعكسها، ومن هنا فإن النحو العلمى حقا لن يحتاج إلى تغيير نفسه متى تجسدت علميته فى بساطته وفى تطابقه مع النحو الجمعى. وفى بساطة النحو يكمن سرّ من أهم أسراره وهو أنه واحد فى كل اللغات، وكما قلت فى كتابات سابقة لى فإن النحو واحد كالبحر الواحد الوحيد على كل الأرض الذى نسميه بالبحر الأبيض هنا وبالبحر الأحمر هناك وبالبحر الأسود فى مكان ثالث وفى غيره بالمحيط الهادى وفى غيره ببحر العرب وفى غيره ببحر الصين. ومهما تحدثنا عن نحو عربى أو إنجليزى أو صينى فإن النحو فى كل اللغات واحد وحيد، فهو يتمثل دائما فى الجملة وبنائها من عنصر المسند إليه وعناصر المسند وهذا المسند قد يتكون من معظم أو بعض العناصر المستعملة فى بناء الجملة غير المسند إليه وهى عناصر الفعل، والمفعول به المباشر، والمفعول به غير المباشر، ومتمم المسند إليه (مع الفعل الرابط copula)، ومتمم المفعول به المباشر (مع أفعال ظن وأخواتها أو مع أفعال أعلم وأرى وأخواتهما وهى أفعال أعطى وأخواتها ذاتها بإضافة المتمم).
وهذه العناصر حتمية فى اللغات ولهذا فإن نماذج الجمل أو نماذج الأفعال كما تسمى أيضا تظل هى هى فى كل اللغات فيما يبدو وفى اللغات القريبة منا كالأوروپية بكل تأكيد. صحيح أن أشكال تحقيق كل عنصر قد تختلف فى بعض الفرعيات غير أن الحقيقة هى أن النحو واحد وحيد فى كل اللغات بل فى كل لغة بشرية متطورة ممكنة فى كل عالم من العوالم الممكنة فى هذا الكون الشاسع.
لماذا؟ لأن الحياة البشرية المتماثلة تعبر عنها لغات بشرية متماثلة تشتمل على نحو واحد، رغم المفردات المختلفة للأسماء المختلفة لهذا النحو وللجملة وعناصرها باختلاف اللغات.
فهل تحتاج وحدة حياة البشر، أو تماثلها، بقدر ما تنعكس فى اللغات، إلى محاولة إثبات؟ لا أعتقد هذا ولكننى سأوضح الآن ما أعنيه.
يعيش البشر حياة مترابطة النواحى والحلقات وتواجههم حياتهم ببيئتها الطبيعية والاجتماعية بآلاف وعشرات الآلاف من الأشياء: المأوى الذى يعيشون فيه، والجبل الذى قد يكون خلفه، والبحر أو النهر الذى قد يجرى أمامه أو على مبعدة منه، وهناك بشر وحيوانات ونباتات وحشرات، وهناك نجوم فى السماء وشمس وقمر، وهناك حرّ وبرد. هناك صفات من ألوان من الأصفر والأخضر والأحمر وغير ذلك ومن الأطوال والأحجام والكبر والصغر ومن الطباع من شراسة ووداعة. إذن هناك أشياء لا حصر لها وصفات لا حصر لها. ويسمى الناس هذه الأشياء بأسماء هى كلمات ويعطون للصفات كلمات ويأخذون فى اعتبارهم النوع والعدد وغير ذلك، وهم يمارسون أنشطة كما يرون ما يقع للأشياء، فهم يأكلون ويشربون ويرون ويعرفون ويجهلون وهم يرون الماء يجرى والشمس تشرق وتغيب والنجوم من بعيد تلمع ويرون الطير يطير والزواحف تزحف. ويدرك الناس أن لديهم أسماء للأشياء والمشاعر وأن لديهم صفاتٍ وأوصافا تتميز من الأسماء، ويدركون أن للكلام أو الكلمات أقساما ويعرفون أن الاسم غير الضمير وأن هناك أدوات متمايزة للعطف والتعريف والتنكير، ويدركون أن أنشطتهم أفعال. والإنسان كنوع يأكل ويشرب ويقرأ ويكتب ويحب ويكره ويضرب ويقتل كما أنه يدرك تمايز هذه الأفعال. وهو يدرك أن الأشياء والحيوانات والنباتات تحدث منها أو لها أو تقع عليها أحداث ويدرك أن هذه الأحداث أيضا أفعال.
والمهم أن الناس جميعا وفى كل البيئات يفعلون نفس الأشياء. وإذا فكرنا فى المجتمعات الموجودة فى مناطق وأقاليم الوطن العربى نفسه أو تلك التى رأيناها أو قرأنا أو سمعنا عنها سنجدها عاشت نفس الحياة، أكلوا وشربوا وقتلوا وأحبوا وعبدوا وأدركوا أن هذه الأنشطة أفعال وأن لها تصنيفات وأدركوا أنهم، بلغتهم، استخرجوا من هذه الأفعال حجما ضخما من أسماء مصدرية ومشتقة وصفات مشتقة فى معاجمهم الحية. ولديهم جميعا إدراك بالجهات وبفوق وتحت وأمام وخلف ويمين ويسار وماض وحاضر ومستقبل، وتعبر لغاتهم جميعا عن هذه الأشياء. وهذه الحلقات المترابطة فى الحياة واللغة منها الضروريات المستمرة ومنها خصوصيات الزمان والمكان. هناك تغيرات مع التقدم أو التراجع الاجتماعى غير أن صفاتهم البيولوچية تجبرهم على الدوام على الغذاء والإخراج والنمو والرؤية والتفكير والإحساس والإدراك، كما أن أوضاعهم الاجتماعية تجعل التعاون والتضامن والتفاهم والتباغض والحرب والحب والكراهية والاضطهاد والقهر والطموح وغير ذلك أشياء لا تفارقهم، وقد تخلو بيئة من النهر والشجر وقد تكون بيئة ما مدارية أو معتدلة وقد تختلف أشياء عديدة، غير أن هناك حياة مترابطة النواحى تعبر عنها لغة متمفصلة الحلقات. وإذا عبرنا عن هذه الحقائق اجتماعيا لقلنا إن حياة البشر متماثلة جوهريا فى نفس مسار التطور الاجتماعى حتى إذا انعزل جانب من البشر كهنود أمريكا إلى أن اكتشفهم العالم القديم. لقد بنوا حتى الأهرامات فى عزلتهم كما فعل العالم القديم فى عصوره القديمة. ويمكن القول إن الحاجات البيولوچية والجغرافية (على تنوعها) والاجتماعية (التى يصنعونها بأنفسهم ولكنْ تواجه كل جيل جديد منهم كمعطى موضوعى) تدفعهم إلى حياة متماثلة ومن هنا وحدة الإنسان وعالميته. ويتمثل ما يوجِّه كل هذا المسار فى وحدة طبيعة الإنسان التى تتمثل فى الانفتاح الدائم على التطور والرقى والتقدم.
وإذا عبرنا عن كل هذا لغويا فإننا سنجد أننا أمام معاجم حية غير مكتوبة (قبل ظهور معاجم العلماء وبالطبع بعد ظهورها أيضا). وهذه المعاجم الحية بمختلف اللغات تسمى نفس الأشياء، نفس الشمس ونفس القمر ونفس النجوم، نفس البحر والنهر والجبل (رغم اختلاف البحار والأنهار والجبال)، نفس الحيوانات والنباتات والحشرات حتى إنْ اختلف الكثير جدا منها باختلاف المناطق الجغرافية، ونفس المشاعر من حب وكره، ونفس الإدراك من علم وجهل، ونفس الجوع ونفس الشبع، ونفس الخبز ونفس الماء. وعندما ظهر العلم المعجمى وظهرت المعاجم اتضحت كل هذه الحقائق، وعندما ظهرت المعاجم الثنائية اللغة اتضح أنها كلمات مختلفة موضوعة لنفس الأشياء واتضح أن قابلية الترجمة من لغة إلى أخرى آية من آيات وحدة البشر والحياة البشرية واللغة البشرية، ومع تقدم الإحصاءات المعجمية وتقدم علم الآثار أخذ يتضح أن الإنسان الكرومانيونى، أىْ إنسان أرسطو الناطق، أو الإنسان كما نعرفه اليوم، نشأ فى منطقة واحدة بلغة واحدة ثم انتشر على وجه الأرض، حيث قضى على الإنسان النياندرتالى فى كل مكان ونشر لغته التى هى لغة الإنسان الجديد المنتصر حيث اختفت لغة الإنسان النياندرتالى مع اختفائه.
وفى الزمن الطويل المنقضى إلى الآن تمايزت اللغات فى مناطق عزلتها وبدا الأمر وكأنها لا تنتمى إلى أصل واحد. ومثلما يتصور الطفل منا، أو الجاهل الملتصق ببيئة بدائية، أن لغته هى اللغة الوحيدة فى هذه الدنيا إلى أن يكتشف فيما بعد وجود لغات أخرى، اكتشفت العلوم اللغوية المعنية أولا ما هو مشترك بين مجموعة من مجموعات اللغات، واكتشفت فيما بعد أن لهذه المجموعات بدورها أصولا مشتركة، أىْ أنها تنتمى إلى مجموعات قليلة أشمل منها، واكتشفت فى وقت لاحق، أو أن عليها أن تكتشف بصورة شاملة، أن كل هذه اللغات بكل مجموعاتها تنتمى فى الأصل إلى لغة واحدة ما زالت أصداؤها تتردد عبر عشرات الآلاف من السنين فى الكثير من اللغات إلى يومنا هذا.
فإذا صحت هذه النظرية ذات النفوذ الكبير اليوم عن نشأة الإنسان الكرومانيونى فى منطقة واحدة فإن اللغات الحية حاليا وتلك المنقرضة ترجع جميعا إلى أصل واحد، إلى لغة واحدة. أما إذا صحت النظرية الأخرى ذات النفوذ أيضا عن نشأة الإنسان الكرومانيونى فى عدد من المناطق بصورة متزامنة فإنها ترجع إلى أصول قليلة العدد. وهناك بالطبع النظرية الثالثة التى تقول باندماج الإنسان الكرومانيونى مع الإنسان النياندرتالى ونشوء اللغات الهجينة من أصول لغات كرومانيونية ونياندرتالية. ومهما يكن من شئ فإن وحدة النحو لا تتوقف على وحدة نشأة الإنسان فى منطقة واحدة بلغة واحدة بل تنتج عن تماثل الحياة البشرية التى تعبر عنها اللغات جميعا.
وكما سبق القول فإن النحو واحد فى كل هذه اللغات. وفى كل لغة يكون النحو الجمعى هو الأصل والمرجع لنحو النحاة. ويدعونا هذا إلى وقفة وجيزة عند هذا التمييز بين النحو وعلم النحو، وعند مغزى وفائدة هذا التمييز، وهذا فى كل اللغات وليس فى لغتنا العربية وحدها.
لقد صار الآن واضحا جليا أن الوعى النحوى، الشامل والدقيق، موجود لدى الجماعة الناطقة باللغة، لدى كل أفرادها الأصحاء العقل، ولا التباس لديهم فى قواعد هذا النحو، ونظرا لظهور النحو كعلم لغوى متميز فى مرحلة تأتى بعد عشرات وعشرات الآلاف من السنين (فى حالة اللغة كما نعرفها اليوم)، نستطيع القول إذن إننا إزاء نوعين من النحو فى كل لغة: النحو الموضوعى، الجمعى، السليقى، النحو باعتباره منطق وعناصر وقواعد بناء الجملة، لدى الجماعة الناطقة باللغة، بكل أفرادها من ناحية، والنحو الوضعى، العلمى، أىْ نحو النحاة من ناحية أخرى. وينظر، أو ينبغى أن ينظر، نحو النحاة إلى النحو الموضوعى الجمعى السليقى باعتباره الأصل والمنبع والمرجع دوما، وعليه بالتالى أن يتعلم منه ويصحح ويطور نفسه بالرجوع إليه كلما أبرز تقدم المجتمع أو تطور الفكر أو تغير اللغة ضرورة ذلك التطوير.
وعلى هذا فإن علم النحو يجد نفسه، عند نشأته، إزاء مصدرين ينهل منهما مفاهيمه وتصنيفاته وأسسه وقواعده الأولى. إنهما النحو الموضوعى الذى تحدثنا عنه، كما تحقق فى وعى كل أفراد المجتمع، وكما تجسد أيضا فى وعى هؤلاء الرواد لعلم النحو أنفسهم، أىْ علماء النحو، مبدعى نحو النحاة، باعتبارهم من أبناء نفس اللغة وحاملين لنفس الوعى النحوى الجمعى السليقى. أما المصدر الثانى فهو تاريخ من الاجتهاد النحوى الذى يختص به أفراد تيسروا لهذا النوع من الاهتمام اللغوى طوال تاريخ طويل. وهذا الاستيعاب النحوى الشفاهى المتميز من جهة من النحو الجمعى ومن جهة أخرى من نحو النحاة، من النحو المكتوب هو المصدر الثانى لرواد علم النحو وهو الجسر الوطيد الموصِّل بين النحو الموضوعى والنحو الوضعى. وينطبق الشئ ذاته على الإعراب السليقى، الأصلى، الجمعى، الموضوعى، والإعراب باعتباره مجموع دراسات وأبحاث واستقراءات وتفسيرات النحاة الخاصة بالإعراب (للتمييز أساسا بين الفاعلية والمفعولية كما يقول ابن جنى).
ولكنْ ما أهمية أو مغزى أو فائدة هذا التمييز رغم أنه لا غبار عليه فى حد ذاته؟ وأقول بإيجاز إن هذا التمييز ضرورى جدا لتطوير نظرة علمية حقا إلى علم النحو، نظرة تجرده من أوهامه عن نفسه وتحرر أفراد الجماعة اللغوية من تقديسهم لهذا العلم بغثه وسمينه، بمنجزاته الحقيقية وبإخفاقاته المروِّعة، وبالتالى من أجل فتح الطريق أمام تطوير علم النحو، وحلّ مشكلاته، وتهيئته لجعل المعالجة الآلية للمعلومات بلغتنا أمرا ممكنا حقا. فاليوم لم يعد بوسع جماعة من البشر أن تواصل مجرد البقاء بدون اللحاق بالحضارة الرأسمالية الحاضرة (رغم طابعها العبودى والضرورة التاريخية لتخطيها اجتماعيا). كذلك فإن هذه الجماعة البشرية لن تكون قادرة على مجرد البقاء أيضا بدون تطوير علومها اللغوية وبالأخص علم النحو الذى صار أداة لا غنى عنها لهذه الحضارة أو لتجاوزها إلى مجتمع إنسانى حقا.
وعندما وضع أبو الأسود الدؤلى علم النحو، وفقا لبعض الروايات، وقيل بإشارة من على، فقد نهل هو ومن تبعه من المصدر الأول أىْ النحو الموضوعى الجمعى السليقى غير أنهم تعلموا أيضا من المصدر الثانى أىْ النحو الشفاهى (غير المكتوب والسابق على ظهور الكتابة، وكان هذا حال كل العلوم، فحتى علم العروض الذى أنشأه الخليل ابن أحمد الفراهيدى لم يكن أول كلمة تقال فى هذا العلم، بل كان استمرارا لعلم العروض الشفاهى الذى كان موجودا قبله بزمن طويل طول زمن وجود الشعر ذاته. وهذا ما نجده فى كل علم طبيعى أو اجتماعى أو لغوى).
ولا يهدف هذا الكتاب، وليس من حقه أن يهدف، إلى تغيير حقائق وقواعد اللغة العربية أو النحو العربى الجمعى أو الإعراب الجمعى السليقى، بل يريد أن يعيد النظر بعمق فى نحو النحاة، فى النحو الوضعى، ليس باعتباره نحوا تتمثل مشكلته الوحيدة فى أنه نحو صحيح تماما غير أنه معقد يحتاج إلى تبسيط وتيسير وتسهيل، بل باعتباره ابن زمانه ويحتاج بالتالى إلى التجديد والتصحيح والتطوير، للعودة به إلى بساطة منبعه الحقيقى، إلى اللغة العربية ومنطقها الداخلى، إلى البساطة التى لا مبرر لتعقيدها، إلى البساطة التى هى سمة النحو بالذات فى كل اللغات، بالطبع فى مفاهيمه وتصنيفاته الأكثر ضرورية للاستخدام السليم للغة من جانب كل أفراد الجماعة اللغوية، مع الاعتراف بوجود جوانب قد يختص بها علماء النحو ودارسوه وطلابه على أعلى المستويات باعتباره استقصاءً تفصيليا لا تستوعبه إلا ذاكرة المتخصصين، ومع الإقرار بأن تطويع هذا النحو للمعالجة الآلية للمعلومات إنما هو فرع علمى معقد يجمع بين علوم اللغة ومنها النحو وعلم الكمپيوتر، وليس من المتصور أن يستوعبه كل أفراد الجماعة اللغوية مهما استفادوا بثماره.
ولن أستعرض تتابع موضوعات فصول الكتاب، ويكفى إلقاء نظرة على فهرس المحتويات لمعرفتها. وسأكتفى بالإشارة إلى فصل من فصوله الأخيرة يعرض عرضا نقديا أعظم محاولة فى القرن العشرين لتجديد النحو العربى، وقد قام بهذه المحاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف العمومية، وتجسدت فى القرار التاريخى للمجمع المذكور فى عام 1945 كما تجسدت فى كتاب "تحرير النحو العربى" الذى صار مقررا على طلاب المدارس الإعدادية فى مصر فى منتصف الخمسينات، وهى المحاولة التى قضى عليها أعداء تطوير النحو العربى، كما سهّل عليهم القيام بهذه المهمة ما كانت تنطوى عليه تلك المحاولة من نقاط ضعف سوف نتناولها فى الفصل المعنىّ، إلى جانب مآثرها ومنجزاتها التى ستظل منارة يستضيئ بها ويسترشد كل من يتطلع حقا إلى تطوير النحو العربى، بدلا من دعاوى تجديد النحو الملصقة على كتابات وكتب هى استمرار مباشر لمسار التكرار المتواصل البدائى الطابع لما سبق قوله تقديسا لعلم النحو والنحاة كوسيلة لفرض القيود الثقيلة على حرية البحث العلمى فى مجال النحو العربى، ولمنع كل اجتهاد فيه.
پيزا – روما، إيطاليا
8-15 أكتوبر 2008








1
تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية
ازدواج غريب وخاطئ

يميز النحو العربى بين نوعين من الجمل: الجملة الاسمية والجملة الفعلية. ولا تخرج جملة عربية عن هذا النوع أو ذاك من وجهة نظر هذا النحو. وللجملة الاسمية ركناها الأساسيان وهما: المبتدأ والخبر. وللجملة الفعلية بدورها ركناها الأساسيان وهما: الفعل والفاعل. وتتميز الجملة الاسمية من الجملة الفعلية بأن الأولى تبدأ باسم، بينما تبدأ الثانية بفعل.
وللوهلة الأولى يبدو هذا التصنيف للجمل موضوعيا للغاية، ووصفيا للغاية، وغير قابل للجدل. فهذه جملة بدأت باسم؛ فما وجه الخطأ فى تسميتها كما بدأت جملة اسمية، وفى أن نسمى ما بدأت به المبتدأ بحكم بداهة الابتداء به؟ فلا بأس إذن بالجملة الاسمية والمبتدأ والخبر. وتلك جملة بدأت بفعل؛ فما وجه الخطأ فى أن نسميها كما بدأت جملة فعلية، وفى أن نسمى فاعل الفعل فاعلا؟ فلا بأس إذن بالجملة الفعلية والفعل والفاعل والمفعول به.
وما دمنا نسمع أو نقرأ جملة تبدأ باسم وأخرى تبدأ بفعل، فلا مجال لإنكار أن الجملة تبدأ من الناحية العملية بفعل أو اسم. ولكننا نسمع ونقرأ جملة تبدأ بحرف، وجملا أخرى تبدأ بأشياء أخرى. ومن شأن تطوير فهم النحو العربى لأقسام الكلام، بدلا من الاقتصار على الاسم والفعل والحرف، أن يبين أن هذه الأشياء إنما هى من أقسام الكلام كالاسم والفعل والحرف، وأن يبين أن الاسم فى النحو العربى مفهوم فضفاض ينطوى على أقسام كلام أخرى (الضمير، الصفة، الظرف)، بالإضافة إلى التقسيم الواجب للحرف نفسه إلى أقسام كلام متمايزة: حروف أو أدوات الجر والنصب والعطف والتعجب. فإلى أين ينتهى بنا تقسيم الجمل حسب أقسام الكلام التى تبدأ بها؟!
وقد يبدو أن النحو العربى اختار البدء بالاسم والفعل دون غيرهما معيارا لتقسيم الجملة، ليس فقط لأن الاسم والفعل قسمان من أقسام الكلام، بل لأن الفعل - إلى جانب كونه من أقسام الكلام - مفهوم نحوى أساسى يمكن أن نسميه بالاصطلاح الحديث عنصرا من عناصر الجملة وهى: 1: الفاعل (أو المسند إليه) 2: الفعل 3: المفعول به 4: متمم الفاعل أو المفعول به 5: الظرف، ولأن الاسم - إلى جانب كونه من أقسام الكلام - هو "المبتدأ"، فهو بالتالى عنصر أساسى من عناصر الجملة لأن مفهوم المسند إليه ينطبق عليه.
وإذا كان هذا يصح على "الفعل" فهو فى المعجم قسم من أقسام الكلام، وهو فى النحو عنصر من عناصر الجملة؛ فإنه لايصح على "الاسم" فهو فى المعجم قسم من أقسام الكلام(وإنْ كان مفهوما فضفاضا ينطوى بداخله على عدد من أقسام الكلام الأخرى)، غير أنه فى النحو ليس عنصرا من عناصر الجملة. فالاسم لا يأتى "مبتدأ" فقط، بل إن الجملة المسماة بالاسمية لا تبدأ فقط "بالمبتدأ" فقد تبدأ أيضا "بالخبر" أى المسند. و"الخبر" (المسند) ليس عنصرا من عناصر الجملة (إلا فى الحد الأدنى "للخبر"، وحسب مفهوم بعينه "للخبر") بل قد يشتمل "الخبر" على عدد من عناصر الجملة، وقد تبدأ الجملة المسماة بالاسمية بعنصر منها كالمفعول به، أو متمم الفاعل أو متمم المفعول به، أو الظرف.
ومعنى هذا أن تسمية الجملة بما تبدأ به من أقسام الكلام ستضيف إلى الجملة الاسمية والجملة والفعلية أنواعا أخرى من الجملة؛ كجملة الحرف، والجملة الضميرية، والجملة الظرفية، وجملة الصفة، إلخ.. إذا طوّرنا ووسّعنا - كما ينبغى - مفهوم أقسام الكلام فى النحو العربى. كما أن تسمية الجملة بما تبدأ به من عناصر الجملة ستضعنا أمام تسميات أخرى جديدة إلى جانب الجملة الفعلية؛ كالجملة الفاعلية (أو جملة المسند إليه)، والجملة المفعولية (أو جملة المفعول به)، وجملة متمم الفاعل أو متمم المفعول به، والجملة الظرفية.
وليس هناك مانع مبدئى من الاحتفاظ بالتصنيف الحالى أو من توسيعه فى هذا الاتجاه أو ذاك، بشرط أن يكون له مغزى نحوى حقيقى، حتى رغم ما ينطوى عليه هذا التصنيف من ازدواج ومن تعقيدات لا أول لها ولا آخر. غير أن العلاقات النحوية بين كلمات أو عناصر أو مكونات الجملة لا تتغير فى لغة تقوم على الإعراب ومرونة ترتيب عناصر الجملة بالبدء بهذه الكلمة أو تلك، بالاسم أو بالفعل، بالفاعل أو بالمفعول، الأمر الذى يستبعد أى مغزى نحوى لهذا التصنيف المزدوج للجملة العربية على أساس ما تبدأ به من اسم أو فعل.
والحقيقة أنه لا مجال لتقسيم الجمل بصورة تنطوى على مغزى نحوى حقيقى، إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولا إلى غيرهما، لا فى لغة تقوم على الإعراب ومرونة ترتيب عناصر الجملة ولا فى لغة تقوم على إسقاط الإعراب وتقييد ترتيب عناصر الجملة. وذلك لأن لغة مرونة الترتيب تعنى بالبداهة حرية التقديم والتأخير لعناصر الجملة (مع أخذ الترتيب الإلزامى لبعض الكلمات فى الجملة فى الاعتبار، مثل: حرف الجر قبل المجرور) دون أن تتأثر العلاقات النحوية بين هذه العناصر، لأن هذه العلاقات إنما تتأثر بمورفيمات وعلامات الإعراب فى أواخر الكلمات (أو فى أوائلها أو حتى بأحوالها الصفرية فى بعض اللغات). أما لغة تقييد الترتيب فتعنى بالبداهة أيضا تثبيت الكلمات التى تمثل العناصر النحوية المحورية للجملة فى أماكن بذاتها، فى ترتيب بذاته، وكثيرا ما يقوم ترتيب هذا النظام لعناصر الجملة على أسبقية الفاعل للفعل وهذا للمفعول، إلا فى أحوال كالنفى أو الاستفهام أو لأغراض بلاغية، مع مرونة بعض العناصر، فى بعض أحوالها، من حيث مكانها فى الجملة.
والنتيجة أن تصنيف النحو العربى للجمل إلى جملة اسمية وجملة فعلية يضعنا أمام عالمين للجمل يقوم بينهما سور صينى عظيم. وتنفرد الجملة الاسمية بركنين أساسيين ينفردان بلقبيهما الخاصين وهما المبتدأ والخبر، اللذين لا ينبغى أن يختلطا بالركنين الأساسيين اللذين تنفرد بهما الجملة الفعلية، واللذين ينفردان بدورهما بلقبيهما الخاصين وهما الفعل والفاعل.
ومن مبادئ هذا التصنيف أنه لا يجوز النظر إلى المبتدأ فى الجملة الاسمية على أنه فاعل الفعل الذى يليه رغم إسناده إليه وتصريفه معه، كما لا يجوز، وفقا له، النظر إلى الفاعل فى الجملة الفعلية على أنه مبتدأ تأخر عن خبره، ولا إلى فعل الجملة الفعلية على أنه خبر تقدم، وهكذا.
والجملة المسماة بالفعلية، فى أبسط أشكالها أى فى الجملة المسماة بالمستقلة، وهى أحد نوعى الجملة المسماة بالأصلية أى المقتصرة على الإسناد دون الدخول فى تركيب؛ مثل: ظَهَرَ الحقُّ ، جملة بلا تعقيدات، غير أنه عندما يغدو "الفعل" ... "خبرا" فى الجملة المسماة بالاسمية (وهنا يسمون ذلك الفعل مع فاعل يفترضون أنه ضمير مستتر جملة فعلية خبرا فى محل رفع) تبدأ التعقيدات، أما الجملة المسماة بالاسمية فهى المجال الطبيعى، حتى فى أبسط صورها أى فى الجملة المسماة بالبسيطة وهى النوع الثانى من الجملة المسماة بالأصلية؛ مثل: العلمُ نورٌ ، لتعقيدات لا أول لها ولا آخر.
فكيف أقيم هذا السور العظيم؟ وما منشأ هذا الازدواج؟ وما كل هذا التعقيد بلا مبرر حقيقى؟ وهل هناك وسيلة أو وسائل نحوية لهدم هذا السور، وإزالة هذا الازدواج، وتبسيط هذا التعقيد؟
وينبغى أن نلاحظ قبل كل شيء أن هذه المفاهيم والتصنيفات لأنواع الجمل، ولأركان كل نوع منها، إنما هى من ابتداع علم النحو، فهى تنتمى جميعا إلى النحو الوضعى أو العلمى، وهو نحو النحويين أو النحاة. فلسنا إذن إزاء عناصر متنافرة فى اللغة العربية ذاتها، ولا فيما تنطوى عليه من منطق داخلى فى تكوين الجمل، وفى تحديد العلاقات النحوية بين كلماتها أو مكوناتها أو عناصرها، أى النحو الموضوعى أو الطبيعى أو الجمعى، الماثل دوما فى صميم كل لغة تنطق و/أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية (العرب فى حالتنا). وإنما نحن إزاء تناقضات مفاهيم نحو النحاة. فلا مناص إذن من محاولة قطع تلك المسافة بل الهوة القائمة دوما بين النحويْن، الموضوعى والوضعى، ذهابا وإيابا، إلى أن نهتدى إلى إدراك واضح لطبيعة وأبعاد وأضرار هذا الازدواج ولسبل إزالته.
وينبغى أن يكون واضحا أن ازدواج التصنيف للجملة العربية الواحدة، إلى جملة اسمية وجملة فعلية، إنما يرتبط بصفة خاصة بقاعدتيْن نحويتين خاطئتين من وضع النحاة تكفى كل قاعدة منهما لخلق هذا الازدواج ويكفى اجتماعهما لتأبيده.
والقاعدة الأولى هى قاعدة تقدُّم الفعل على فاعله. وبهذا فإن المبتدأ (أو المفعول به - لفعل سابق - أو المنصوب بأحد حروف إن وأخواتها أو المجرور) الذى يليه فعل مسند إليه ومصرَّف معه، ومتطابق معه فى النوع والعدد، لا يكون مع ذلك فاعله. وعندما يأتى بعد ما يسمى بالمبتدأ فعل فلابد من البحث له عن فاعل يتقدمه هذا الفعل، ولا بد من العثور على هذا الفاعل إما فى صورة أو بالأحرى فى "شبح" ضمير مستتر تقديره كذا يعود على المبتدأ، وإما فى صورة ما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل، تاركين على كل حال ذلك الفاعل الحقيقى الذى أسند إليه الفعل من الناحية العملية، والذى هو فاعله دون شك، والذى لا مناص من ربط الفعل به بضمير مزعوم، بارز أو مستتر، يعود عليه فى نهاية الأمر.
وبالإضافة إلى هذه القاعدة التى تنطلق من الجملة الفعلية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة اسمية (نتيجة تأخير الفعل عن الفاعل)، هناك القاعدة الأخرى التى تنطلق من الجملة الاسمية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة فعلية (نتيجة لتقديم الفعل على المبتدأ).
وتحت عناوين، مثل: وجوب تأخير الخبر، وجوب تقديم الخبر، جواز تقديم الخبر وتأخيره، نجد موجبات حقيقية مقنعة لا أمل بدون مراعاتها فى منع التباس المعانى. غير أننا نجد بين أسباب وجوب تأخير الخبر سببا غريبا للغاية. فالفعل الذى يلى المبتدأ واجب التأخير فلا يجوز تقديمه. فهذا الفعل المتأخر، الذى يصنع مع فاعله الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل المزعوميْن ما يسمونه جملة فعلية هى خبر المبتدأ، لا يجوز تقديمه لأنه إنْ تقدَّم يغدو فاعلا وليس مبتدأ. فوجوب التأخير يرجع إلى خشية الالتباس بين المبتدأ والفاعل. وسبب تأخير الفعل وجوبا هنا غريب حقا لأنه لا يزيل التباسا فى فهم معنى الجملة، أى فى اللغة ذاتها من حيث هى لغة، وهو التباس غير قائم أصلا، بل يزيل الالتباس النحوى بين مفهومين نحويين من وضع النحاة أنفسهم وهما المبتدأ والفاعل. فالخوف من الالتباس ليس على اللغة أو المعنى، بل على علم النحو كما وضعه هؤلاء العلماء! وهكذا نعرف من صاحب معجم النحو السبب الثانى الموجب لتأخير الخبر وهو:
أن يُخاف التباس المبتدأ بالفاعل نحو "على اجتهد"
وهاتان القاعدتان (قاعدة تقدم الفعل على فاعله، وقاعدة تأخير الفعل الذى يلى المبتدأ وجوبا) تصنعان ازدواج تصنيف الجمل وتؤبدانه، كما أنهما تأتيان من هذا الازدواج وتتغذيان عليه. والحقيقة أنهما غريبتان على اللغة العربية وعلى منطقها الداخلى، ذلك أن اللغة ذاتها ظلت على مرونتها حيث تتقدم عناصر الجملة أو تتأخر ما شاء الناطقون أو الكاتبون بها ذلك، بشرط أمن اللبس أو التشويش أو الاضطراب فى المعانى وليس بأى شرط غريب على اللغة. أما تقييد هذه المرونة فلا أساس له إلا فى تصورات ونظريات وأوهام ومزاعم علماء النحو الذين لا يقيدون مرونة اللغة، ولا يريدون أصلا تقييدها، وإنما يقيدون فى الحقيقة أدوات الاستيعاب النحوى النظرى لهذه المرونة فى اللغة عن طريق مفاهيم نحوية متحجرة.
وبطبيعة الحال فإن هاتين القاعدتين تجدان مكانهما ضمن نسق كامل من المفاهيم النحوية التى تصنع وتؤبد تعقيدات نحوية لا تحصى ولا تعدّ. والحقيقة أن إلغاء هاتين القاعدتين يكفى (مع إعادة النظر فى النسق بكامله) لإعادة الوحدة للمفهوم النحوى للجملة العربية بعيدا عن الجملتين الاسمية والفعلية. وبهذا وحده يمكن إزالة السور والازدواج والتعقيد فى آن معا .
وأكتفى هنا بإشارة موجزة إلى تصنيف آخر للجملة العربية إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ليس على أساس الابتداء بالاسم فى الأولى والابتداء بالفعل فى الثانية، بل على أساس أن الجملة الفعلية هى تلك التى تشتمل على فعل مهما كان مكانه فيها، وأن الجملة الاسمية هى تلك التى لا تشتمل على أى فعل مطلقا. وهذا التصنيف المزدوج لا ينطوى بدوره على مغزى نحوى حقيقى من حيث العلاقات النحوية بين عناصر الجملة بافتراض وجود جُمل تشتمل على الفعل وأخرى لا تشتمل عليه. على أننا سنعود إلى هذه النقطة فى الفصل الثانى لنبحث مسألة: هل هناك أصلا جملة لا تشتمل على فعل؟ وهى نفسها مسألة: هل هناك مسند (أو خبر) لا يشتمل على فعل؟ وذلك عندما نبحث مسألة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
ويعنى كل هذا بطبيعة الحال ضرورة الاكتفاء بالمفهوم النحوى الأساسى المتمثل فى الجملة وإلغاء التصنيف المزدوج إلى جملة اسمية وجملة فعلية، وكذلك ضرورة أن يحل محل مفهوم الركنيْن الأساسيين لكل نوع منهما (المبتدأ والخبر فى الأولى والفعل والفاعل فى الأخرى) مفهوم ركنين وحيدين للجملة مهما كان ما تبدأ به. وهذان الركنان الوحيدان اللذان استخدمهما علماء النحو القدماء أنفسهم (على الأقل منذ الخليل بن أحمد الفراهيدى وسيبويه) ولكن جنبا إلى جنب (أو بصورة ثانوية أو فرعية) مع التصنيف المزدوج إلى جملتين اسمية وفعلية وبركنين "أساسيين" لكل منهما (وليس بالطبع بركنين وحيدين لجملة عربية واحدة وحيدة) وبكل ما يترتب على هذا التصنيف من مذاهب مضللة، واللذان أحياهما ثم أماتهما من جديد علماء محدثون نتيجة للحدود الضيقة لتصوراتهم عما يسمونه بتيسير النحو، وكذلك نتيجة لقوة أعداء كل تجديد حقيقى للنحو فى مصر والعالم العربى، ..... هذان الركنان الوحيدان للجملة هما: المسند إليه والمسند، ولا يميز بينهما ابتداء ولا تقدُّم فعل بل يميز بينهما المعنى فى المحل الأول.
وكان يجدر بنا أن نكتفى بالإشارة إلى الجملة العربية "الواحدة" بركنيها الوحيدين أى المسند إليه والمسند (بعيدا عن مفهوم الفضلة فى النحو العربى وعن مفهوم التكملة فى النحو الفرنسى)، فى سبيل الانطلاق إلى الموضوعات الحقيقية لهذا البحث، غير أن واقع سيادة التصنيف المزدوج للجملة، وما يترتب على هذا من تصنيفات أركان الجملتين، يرغمنا على تعميق المناقشة لإنقاذ المفاهيم الأصيلة، إدراكا منا لحقيقة أن عمق تأصيل هذه المفاهيم هو الأساس الحقيقى المتين للتغلب نهائيا على هجوم أعداء تجديد النحو العربى.

























2
المسند إليه والمسند

تشمل مرفوعات الأسماء كما تسمَّى فى النحو العربى: المبتدأ، والفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان وأخواتها (بما فى ذلك أسماء أفعال المقاربة وأفعال الرجاء وأفعال الشروع)، إلى جانب خبر المبتدأ (وخبر إن وأخواتها).
وقد تعمدتُ تأخير الخبر فى العبارة السابقة للإشارة إلى أن من الواضح تماما أن الخبر يختلف عن بقية مرفوعات الأسماء فى أمر جوهرى هو أن الفعل إنما يُسند إلى هذه المرفوعات ويجرى تصريفه معها دون الخبر، الذى يُسند هو ذاته إلى المسند إليه فيما يُعْرَف بالمبتدأ. ولهذا فإن مفهوم المسند إليه يشمل كل هذه المرفوعات دون "الخبر"، فيما يندرج هذا الأخير تحت مفهوم المسند الذى يشمل، إلى جانب "الخبر"، الفعل المتقدم على المسند إليه، وهذا فى أبسط أشكال المسند.
ونقرأ فى لسان العرب، لابن منظور، فى مدخل "سَنَدَ" هذا الاقتباس الطويل إلى حد ما عن المسند إليه والمسند:
قال: وقول سيبويه هذا باب المسند والمسند إليه؛ المسند هو الجزء الأول من الجملة، والمسند إليه الجزء الثانى منها، والهاء من إليه تعود على اللام فى المسند الأول، واللام فى قوله والمسند إليه وهو الجزء الثانى يعود عليها ضمير مرفوع فى نفس المسند، لأنه أقيم مُقام الفاعل، فإنْ أكّدْتَ ذلك الضمير قلتَ: هذا باب المسند والمسند هو إليه. قال الخليل: الكلام سَنَدٌ ومُسْنَدٌ، فالسند كقولك عبد الله رجل صالح، فعبد الله سَنَدٌ، ورجل صالح مُسْنَدٌ إليه .
ويعلّق الأستاذ عبد الله على الكبير،أحد محققى لسان العرب، على ذلك بقوله فى الهامش:
هكذا فى الأصل. والمعروف أن المسند هو الفعل فى الجملة الفعلية والخبر فى الجملة الاسمية. والمسند إليه هو الفاعل أو نائبه فى الجملة الفعلية، والمبتدأ فى الجملة الاسمية .
ورغم حديث سيبويه فى "الكتاب" عن المسند والمسند إليه فقد ظل يحتفظ، كما احتفظ مَنْ بعده، بمفهومى المبتدأ والخبر، بل شاع وساد هذان الأخيران واحتلا مكان الصدارة. ويقول سيبويه فى مؤلفه "الكتاب":
هذا باب المسند والمسند إليه – وهما لا يغنى [أو: لا يستغنى - المحقق] واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدا. فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبنى عليه [يعنى الخبر - المحقق] .
ويقول أيضا:
هذا باب الابتداء - فالمبتدأ كل اسم ابتدئ به ليُبنى عليه كلام. والمبتدأ والمبنى عليه رَفْعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبنى عليه. فالمبتدأُ الأولُ والمبنى ما بعده عليه فهو مسند ومسند إليه .
وتعريف "المعجم الوسيط"، الذى أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مدخل: "جَمَلَ"، للجملة هو ما يلى:
الجملة (عند البلاغيين والنحويين): كل كلام اشتمل على مسند ومسند إليه .
وهنا نتخلص من التمييز الذى تتضمنه عبارة سيبويه، ومَنْ بعده، ومنهم الأستاذ عبد الله على الكبير، بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وكذلك بين الفاعل (ونائبه) من ناحية والمبتدأ من ناحية أخرى. على أنه تخلُّص مؤقت ذلك أن هذا المعجم كان متأثرا بطبيعة الحال بقرارات الدورة الحادية عشرة للمجمع ومنها إلغاء التمييز بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وبين المبتدأ والفاعل، وغير ذلك، وهذا ما تراجع عنه المجمع فيما بعد كما رأينا وكما سنرى. وفى سياق هذا التطور المؤقت جاء تعريف "المعجم الوسيط" (فى مدخل: سَنَدَ) للمسند والمسند إليه كما يلى:
المسند (فى العلوم العربية): المحكوم به. والمسند إليه: المحكوم عليه .
وتختفى لفظة "المبتدأ" من مدخل "بدأ"، ويختفى المعنى النحوى الاصطلاحى للفظة "الخبر" فى مدخل "خبر"، مع بقاء هذا المعنى للفظة "الفعل" و"الفاعل" فى مدخل "فعل" فى المعجم المذكور، بطبيعة الحال .
فهل هناك معنى نحوى حقيقى لإدراج كل تلك المرفوعات المتنوعة (ما عدا المسند أو الخبر) فى مفهوم واحد وحيد هو المسند إليه؟
قلنا منذ قليل إن المسند إليه يشمل كل هذه المرفوعات (بالاستثناء المذكور) لأن الفعل يُسند إليها ويُصرَّف معها (كما يُسند إليها "الخبر") وهذا معنى نحوى مشترك لا سبيل إلى الشك فى أهميته الجوهرية. غير أن الأمر يحتاج إلى المزيد والمزيد من الإيضاحات.
ونبدأ بالاختلاف البادى بين المبتدأ وبقية أنواع المسند إليه.
وهناك، أوَّلا، الواقع اللغوى الصرفى المتمثل فى أن إسناد الفعل يختلف حسب تقدمه على المسند إليه أو تأخره عنه. ويظهر هذا الاختلاف عند تصريف الأفعال مع ضمائر الغائب (فى المثنى بنوعيه والجمع بنوعيه) فى الماضى كما فى المضارع. فعندما يتقدم الفعل فاعله (وينطبق هذا على كل المرفوعات التى تندرج تحت اسم المسند إليه باستثناء ما يُسمى بالمبتدأ)، يكون تصريف الفعل فى المفرد المذكر مع كل مذكر (مفرد أو مثنى أو جمع)؛ وفى المفرد المؤنث مع كل مؤنث (مفرد أو مثنى أو جمع). وعندما يتأخر الفعل عن فاعله (أى ما يُسمى بالمبتدأ) تظهر كل نهايات التصريف فى الماضى وبوادئ ونهايات التصريف فى المضارع (وهى النهايات التى يزعم النحو العربى أنها ضمائر الرفع البارزة المتصلة، والبوادئ التى يسميها حروف المضارعة) وفقا للنوع والعدد.
ويتضح هذا الاختلاف من الأمثلة التالية:
الفعل قبل الفاعل الفعل بعد الفاعل
المثنى المذكر: تفوق/ يتفوق التلميذان التلميذان تفوقا/ يتفوقان
المثنى المؤنث: تفوقت/ تتفوق التلميذتان التلميذتان تفوقتا/ تتفوقان
جمع المذكر: تفوق/ يتفوق التلاميذ التلاميذ تفوقوا/ يتفوقون
جمع المؤنث: تفوقت/ تتفوق التلميذات التلميذات تفوقن/ يتفوقن
والحقيقة أن هذا الاختلاف فى الإسناد إلى الضمائر المذكورة بين ما يسمى بالمبتدأ وبقية أنواع المسند إليه، لا يمكن أن يبرر بحال من الأحوال الاحتفاظ بازدواج/ تعدد مفاهيم المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم كان وأخواتها وأسماء أفعال المقاربة والرجاء والشروع، بل يكفى إيضاح هذا الاختلاف فى الإسناد (التصريف) بين الفعل الذى يتقدم على فاعله والفعل الذى يتأخر عن فاعله فهو الفاعل فى الحالين مهما اختلف التصريف مع أربعة ضمائر من أصل ثلاثة عشر ضميرا، وحتى بافتراض اختلاف التصريف مع كافة الضمائر. ذلك أن العلاقة النحوية بين الفعل المسند والفاعل المسند إليه تختلف بهذه الاختلافات فى تفاصيل (وليس فى جوهر) التصريف والإسناد.
وبطبيعة الحال فإن من النتائج الإيجابية لإلغاء هذا التمييز بين المبتدأ وبقية أنواع المسند إليه حقيقة أننا نتخلص بذلك من افتراض وجود فاعل بعد الفعل الذى يلى المبتدأ يعود على هذا الأخير (فى هيئة ضمير مستتر) أو يربطه بالمبتدأ (فى هيئة ضمير رفع بارز متصل كما يسمونه وذلك مع كافة ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب باستثناء ضمير الغائب المفرد بنوعيه)، ونتخلص بالتالى مما يسمى بالخبر الجملة الفعلية.
ولعلنا نلاحظ هنا أن هذا الفعل الذى "تأخر" عن المبتدأ قد "تقدَّم" فى الوقت نفسه على الفاعل المزعوم (الضمير المستتر أو البارز المتصل) وأن الإسناد يعامله على أساس "تأخره" على المبتدأ وليس على أساس "تقدمه" على الفاعل المفترض الذى لا وظيفة له سوى تعقيد النحو والإعراب.
وهناك، ثانيا، الواقع اللغوى النحوى الإعرابى المتثل فى أن الفاعل الذى يتقدم عليه فعله مرفوع دوما (إلا فى حالات قليلة يعتبرون فيها أن الفاعل مجرور، فى محل رفع، بحرف جر زائد، مثل: "وكفى بالله شهيدا" )، أما الفاعل الذى يتأخر عنه فعله (أى ما يسمى بالمبتدأ) فهو مرفوع ما لم يسبقه ناصب أو جارّ، وهذا كثير لأن "المبتدأ" قد يأتى منصوبا بعد حرف ناسخ أومفعولا به منصوبا لفعل سابق وقد يأتى مجرورا بحرف الجر أو الإضافة.
ومرة أخرى فإن هذا الاختلاف الإعرابى بين الحالة التى يتقدم فيها الفاعل والحالة التى يتقدم فيها الفعل لا يبرر بحال من الأحوال ذلك التمييز النحوى التقليدى بين المبتدأ وبقية أنواع المسند إليه، بكل التعقيدات التى يجلبها ذلك التمييز ويفتعلها افتعالا. ويكفى أن نعرف أن الفاعل (المسند إليه) الذى يتقدمه فعله مرفوع دوما (بالاستثناء النادر المذكور أعلاه)، وأن الفاعل الذى يتأخر عنه فعله مرفوع إنْ لم تسبقه عوامل/ أسباب/ مؤثرات نصب أو جر لفظية أو معنوية يخضع لها بدلا من الرفع الذى يمثله وضعه الإعرابى الأصلى كفاعل ينبغى تمييزه بالرفع من المفعول به المنصوب على قاعدة المخالفة النحوية الإعرابية.
وهناك، ثالثا، اختلاف يبدو فى البداية بالغ الأهمية بين ما يسمى بالمبتدأ وبقية أنواع المسند إليه. فالفاعل يُسند إليه الفعل دوما (إذا وضعنا الحذف جانبا)، بينما المبتدأ لا يُسند إليه الفعل بالضرورة فهذا لا يحدث إلا فى حالة ما يُسمى بالخبر الجملة الفعلية حيث يأتى المبتدأ يليه الفعل. وهنا يبدو من السخف التام أن نجمع فى مفهوم واحد هو المسند إليه، بين الفاعل الذى لا يستغنى عن فعل قبله والمبتدأ الذى قد يستغنى عن فعل بعده فلا يحتاج إليه إلا فى نوع واحد من ثلاثة أنواع من الخبر (أعنى الخبر الجملة الفعلية) حسب مذاهب أو مزاعم النحو العربى.
فهل تكمن الحقيقة فى هذا الذى "يبدو"، أم أن هناك "مسافة" ينبغى أن يحاول العلم "دوما" أن يقطعها بين ما يبدو وبين الحقيقة؟
وهناك، من الناحية العملية، جمل لا تحصى ولا تعد، نسمعها أو نقولها، نقرأها أو نكتبها، فلا نجدها تشتمل على الفعل أصلا. وهذا ينطبق على كل "جملة اسمية" لا يكون خبرها "جملة فعلية". فهل هناك حقا جملة خالية من الفعل فى اللغة العربية؟ وما دام المبتدأ ليس فعلا ولا يفترض فيه أن يكون فعلا (إلا فى مثل قولنا: يأكل فعل مضارع)، وما دام الخبر هو الذى يشتمل أو لا يشتمل على الفعل، فمن المنطقى أن نتوقع أن التحليل الدقيق المعمق لما يسمى بالخبر هو الذى سيقودنا إلى الإجابة عن السؤال المذكور آنفا عن حقيقة وجود أو عدم وجود جملة خالية من الفعل، ومن المنطقى أيضا أن ينقلب السؤال إلى: هل هناك خبر خال من الفعل؟
وهنا يحضرنى أن المرحوم الدكتور مهدى علام، النائب الأسبق لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، أشار ذات مرة، ضمن تقديمه لكتاب لا أذكر الآن ماذا كان، إلى أن الجملة الاسمية لا ينبغى أن تشمل تلك التى خبرها جملة فعلية لأن هذه الجملة البادئة بالاسم تشتمل مع ذلك على الفعل، وإنما الجملة الاسمية، فى اعتقاده، هى تلك الخالية من الفعل تماما، بينما الجملة الفعلية هى تلك التى تشتمل على الفعل مهما كان مكانه داخل الجملة. وأضاف أن الجملة الاسمية الخالية من كل فعل لا وجود لها فى لغة كالإنجليزية التى لا تعرف سوى الجملة الفعلية بمعنى الجملة المشتملة على فعل مع أن مكانه ليس، نموذجيا، فى بداية الجملة.
ولا يسعنى إلا أن أتفق مع الدكتور مهدى علام فى نقطة أن مكان الفعل (فى أول أو وسط أو آخر الجملة) لا يهم "نحويا"، فلا يبرر بالتالى تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية. لكننى أبادر إلى إبداء الشك العميق فى أن الجملة العربية، أية جملة عربية، يمكن أن تخلو من "الفعل"، اللهم إلا فى إطار مفهوم "الحذف"، وهذا مفهوم واسع لا يقتصر على الفعل بل يمتد ليشمل المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل (تحت مسمى الضمير المستتر)، وكل مفهوم من هذه المفاهيم يحمل لقب "عُمدَة"، كما يمتد من باب أولى من "العمدة" إلى "الفَضْلة" كالمفعول به وغيره.
وشبيه برأى الدكتور مهدى علام رأى المستشرق ج. برجشتراسّر Bergstraesser فى كتابه "التطور النحوى للغة العربية"، إذ يقول:
والجملة مركبة من مسند ومسند إليه فإن كان كلاهما اسما أو بمنزلة الاسم فالجملة اسمية، وإن كان المسند فعلا أو بمنزلة الفعل فالجملة فعلية .
وفيما كنت أتصفح بسرعة كتاب "المرجع فى قواعد اللغة القبطية" لأعرف ما إذا كان النحو القبطى يعرف هذا التمييز الغريب بين جملة اسمية وجملة فعلية، لفت نظرى أن أجد فكرة الدكتور مهدى علام موجودة فى هذا النحو. ونقرأ فى الكتاب المذكور ما يلى:
تنقسم الجملة إلى جملة فعلية واسمية. والجملة الفعلية هى التى تحتوى على فعل يجيء فى أى صيغة من الصيغ، والجملة الاسمية هى التى لا تحتوى على فعل .
ونقرأ فيه أيضا:

الجملة الاسمية البسيطة هى التى لا تحتوى على فعل وإنما تحتوى على مبتدأ وخبر فقط. ويكون المبتدأ اسما أو ضميرا، أما الخبر فيكون اسما موصوفا أو جارّا ومجرورا. والجملة الاسمية تدل على حكم عام له دلالة الحاضر .
وأنا لا أعرف اللغة القبطية ولا النحو القبطى، ومن يعرفهما يمكن ان يعلق على هذا التصنيف للجملة فى تلك اللغة، غير أن اللافت للنظر هو أن الحديث يدور حول جملة اسمية من المبتدأ والخبر باعتبارها "تدل على حكم عام له دلالة الحاضر"، وهو كل ما يمكن أن يقال عن الجملة المسماة بالاسمية فى النحو العربى (باستبعاد "الجملة الاسمية التى خبرها جملة فعلية") لأن الجملةالاسمية التى لها "دلالة الحاضر"، هى الجملة التى تعطى دلالة المضارع دون أن يكون هناك فعل ظاهر صريح (منطوقا أو مكتوبا)، وهذا ما لا يحدث إلا فى حالة الفعل الرابط المحذوف فى المضارع المثبت، لأن دلالة الزمن لا تأتى دون فعل، ولأن ظهور دلالة زمنية للجملة بدون ظهور الفعل، أى: بدون فعل صريح، إنما يعنى وجود فعل محذوف تظهر حقيقته بالمقارنة مع صياغة الماضى والمستقبل والنفى للمعنى الذى تتضمنه نفس الجملة، مع ملاحظة أن المضارع هو قبل كل شيء، وفى لغات عديدة على الأقل، هو زمن التعبير عن الحقائق العامة.
ورغم أن الإسراف فى تقدير الأشياء المستترة والمحذوفة وما إلى ذلك، كما يفعل النحو العربى، تعقيد غير مقبول، ويقوم بصفة عامة على الوهم، إلا أن هناك ما يدعو إلى افتراض فعل محذوف فى الجمل الخالية عمليا من فعل ظاهر صريح. والمحذوف هو الفعل الرابط فى المضارع المثبت.
والاستنتاج العام هو أن الجملة العربية التى تخلو من فعل غير فعل الكينونة تشتمل على فعل الكينونة ظاهرا صريحا فى الماضى والمستقبل المثبتين والمنفيين، وفى المضارع المنفى، وفى بعض صور المضارع المثبت، وتنطوى عليه غير صريح، أى: محذوفا فى المضارع المثبت، وهذا مع ما يسمى بالخبر المفرد، والخبر الجملة الاسمية الخالية من فعل تام، والخبر شبه الجملة. ومن الجلى بطبيعة الحال أن هذا الاختفاء أو الحذف لفعل الكينونة فى المضارع المثبت، وبالأحرى فى أكثر أحواله شيوعا فى المضارع المثبت، إنما يرجع إلى الاقتصاد اللغوى.
وهنا يتضح بجلاء أن ما يسمى بالخبر المفرد، وهو المرفوع عمليا فيما يسمى بالخبر، والذى قيس عليه رفع الخبر كله، بكل أنواعه، "رفعا مَحلّيا"، ليس فى الحقيقة سوى ما يسمى بخبر كان ( كما يتضح من الماضى والمستقبل مثبتين ومنفيين ومن المضارع منفيا وحتى مثبتا فى بعض الأحوال)، ولم يصبح مرفوعا إلا بصورة عرَضية وظاهرية وعشوائية لأن أصله النصب بعد كان، وعندما تم حذف هذا الأخير فى المضارع المثبت، اختفى بالتالى السبب اللفظى الصريح للنصب وصار ما يسمى بالخبر المفرد مرفوعا، فى سياق أشبه ما يكون بما يسمى بنزع الخافض المؤدى إلى النصب بعد سقوط حرف الجر، فهنا يؤدى "نزع" الناصب إلى هذا الرفع الظاهرى العشوائى.
والخلاصة أن كل مبررات تقسيم الجملة العربية إلى اسمية وفعلية تبدو ضعيفة واهية، بالإضافة إلى أن هذا التقسيم كان ولا يزال بالغ الضرر على النحو العربى، وبالتالى فإن أركان الجملتين: الاسمية (المبتدأ والخبر)، والفعلية (الفعل والفاعل) ينبغى أن تترك مكانها لمفهوم سليم لكل من المسند إليه والمسند.
ويتعارض هذا المفهوم السليم بطبيعة الحال مع الاحتفاظ إلى جانب المسند إليه والمسند بكل المسميات التى تدل على التقسيم إلى الجملة الاسمية والجملة الفعلية، والمبتدأ والخبر والفعل والفاعل كأركان أساسية لهما، وتقدم الفعل وجوبا على فاعله، وتأخر الفعل وجوبا عن المبتدأ؛ كما يفعل الكثيرون؛ من سيبويه والنحاة القدامى، إلى العقيد الركن أنطوان الدحداح ، إلى الدكتور مهدى المخزومى، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الرياض .
على أن بلورة المفهوم السليم لكل من المسند إليه والمسند ما تزال بحاجة إلى المزيد من النقاش، وسنبدأ بالمسند إليه.








3
المسند إليه

رأينا من قبل أن مرفوعات الأسماء كما يسميها النحو العربى، وهى تشمل إلى جانب بقية المرفوعات ما يسمى بالخبر (أى: المسند)، تختلف جميعا عن هذا الأخير فى واقع أن الأفعال إنما يتم إسنادها إليها، وتصريفها معها، الأمر الذى يجعلها جميعا، باستثناء المسند، متطابقة مع مفهوم المسند إليه، أى تلك الأسماء، والضمائر، إلخ.. التى يتم إسناد الأفعال إليها وتصريفها معها.
وبعد ذلك رأينا أن مايسمى بالمبتدأ يختلف عن بقية أنواع المسند إليه فى تفاصيل بذاتها فى تصريف الأفعال معه مع بعض ضمائر الغائب، وفى الإعراب، وفى مجيء ما يسمى بالمبتدأ دون أن يليه فعل على الإطلاق فى أنواع الخبر المسماة بالخبر المفرد، والخبر شبه الجملة، والخبر الجملة الاسمية. وانتهينا إلى أنه لا سبيل إلى الشك فى أن ما يسمى بالمبتدأ هو فى الحقيقة نوع من أنواع المسند إليه، وإلى أنه لا ينبغى أن يستقل الفاعل عندما يتقدم على فعله بلقب خاص كالمبتدأ الذى لم يدخل مفهومه إلا من باب ذلك التمييز المبدئى المبالغ فيه بين مسند إليه يتقدمه فعله ومسند إليه يليه فعله، فى ارتباط وثيق بتقسيم الجملة العربية الواحدة إلى جملة اسمية وجملة فعلية.
والخلاصة هى ان المسند إليه مفهوم ينطبق على "مرفوعات" الأسماء، باستثناء المسند المسمى بالخبر. والمسند إليه والمسند هما الركنان الوحيدان للجملة العربية (دون تمييز بين جملة اسمية وجملة فعلية)، وسنرى أنهما كل شيء فى الجملة، فكل شيء فى الجملة غير المسند إليه هو المسند، وكل ما فيها غير المسند هو المسند إليه.
على أن المسند إليه يواجهنا من جديد ببعض التناقضات التى ينطوى عليها مفهومه النحوى. صحيح أنه هو ما نسند إليه الفعل ونصرّفه معه حسب عدده ونوعه، وصحيح أنه هو المرفوع من حيث المبدأ على قاعدة المخالفة مع نصب المفعول به، وصحيح أنه هو موضوع الحديث، والمحدَّث عنه، والمحكوم عليه، وأننا نحكم عليه بالمعنى المثبَت أو المنفى الذى يتضمنه المسند الذى هو الركن الآخر للجملة، أى المحكوم به، أو المحمول، أو المتحدَّث به.
غير أننا نواجه مع ذلك مجموعة من التناقضات. وإذا استعدنا حقيقة أن المسند إليه هو فاعل الفعل، وأن لفظ "الفاعل" ربما كان بديلا موفقا عن (وحتى أفضل فى كثير من الأحوال من) تعبير "المسند إليه"، يواجهنا فى الحال ذلك السؤال الملح عن معنى "الفاعلية" وكيف تنطبق هذه الكلمة بدلالاتها اللغوية المعروفة على الفاعل ونائب الفاعل؛ باعتبار هذا الأخير فاعلا للفعل المبنى للمفعول أو المسند إلى المفعول والمصرَّف معه، وكيف تنطبق الفاعلية على فاعل كل من الفعل المتعدى والفعل اللازم، وكيف تنطبق مع الإرادة وانعدامها، مع الدلالة على الحدث ومع الدلالة على مجرد الربط (فعل الكينونة بصفة خاصة)؟ وكيف نطبق مفهوما كالمسند إليه بمعنى الفاعلية على "محمود"، على قدم المساواة، فى جمل مثل: "قَتَلَ محمودٌ اللصَّ بعد مطاردة رهيبة"، و"قُتِلَ محمودٌ فى الحادث"، و"غَرِقَ محمودٌ"، و"كان محمودٌ شاعرًا كبيرًا"؟؟!!
ولا شك فى أن الأفعال بكل أحوالها المشار إليها (التام والناقص، المتعدى واللازم، المبنى للمعلوم والمبنى للمفعول)، وبكل الدلالات المعجمية للأفعال وبكل دلالاتها فى أبنية مجرد الثلاثى والرباعى ومزيداتهما، إنما يتم تصريفها مع المسند إليه بمختلف أنواعه، غير أن السؤال يظل مطروحا فيما يتعلق بطبيعة العلاقة الدلالية القائمة بين المسند إليه وفعله، فالفاعلية فى الأفعال التى تدل على أحداث، غير الكينونة فى الأفعال التى تدل على مجرد الكينونة أو على أوقات الكينونة، بالإضافة إلى حقيقة أن نائب الفاعل إنما هو الفاعل بالمعنى النحوى الذى هو المسند إليه من حيث الإسناد الصرفى (تصريف الفعل المبنى للمفعول مع المسند إليه وتسميته نائبا للفاعل)، ومن حيث الإعراب (فهو مرفوع كما ينبغى للمسند إليه أو الفاعل أن يكون) ولكنه فى الوقت نفسه مفعول به فى المعنى، إذ يدل بناء الجملة على وجود فاعل محذوف أحدث ما أحدث فى هذا المسمى بنائب الفاعل والذى لا يمكن أن نتصور عقلا أن ينوب عن الفاعل؛ اللهم إلا فى حالات نادرة فى مثل قولنا: "أنيب محمودٌ عن رئيسه" فمحمود هنا نائب عن الفاعل (أى: عن رئيسه) إذا كان رئيسه بنفسه هو الذى أنابه عنه.
وربما ألقى ضوءًا باهرا على هذا الالتباس واقع أن الأفعال بكل الأبنية ذات الدلالات المتباينة، وبكل أحوالها من حيث التعدية واللزوم أو البناء للمعلوم أوالمجهول؛ إلخ.....، تحمل جميعا، مع كل هذا، لقب "الفعل"، ولهذا فإن التباين الدلالى لمفهوم الفعل ذاته يقود بيسر إلى فهم وتفسير التباين الدلالى لمفهوم الفاعل.
على أن تعريف الفاعل، وهو مقتصر أصلا على المفهوم الأصلى للفاعل، أى بدون بقية المسند إليه، بدون المبتدأ، وبدون نائب الفاعل، وبدون أسماء "كان وأخواتها"، يقدِّم حلا سليما لتناقضات الفاعلية كما يطرحها الفاعل بمفهومه الأصلى، فالفاعل هو مَنْ (أو: ما) قام بالفعل، أو قام به الفعل، أو اتصف بالفعل، أو أسنِد إليه الفعل (طبعا بشرط أن يكون مبنيًّا للمعلوم وهو شرط يستبعد نائب الفاعل، وأن يكون فعلا تاما وهو شرط يستبعد الأفعال الناقصة وبالتالى اسم "كان وأخواتها"، وأن يتقدم على فاعله وهذا شرط يستبعد المبتدأ). ويتمثل الحلّ فى أن الفاعل بالمعنى النحوى لا يتصف بالضرورة بالدلالة اللغوية للفاعلية. وإذا قلنا: "يجرى الماء فى النهر"، فالفاعل هنا لا يقوم بفعل إرادى، وإذا قلنا: "غرق فلان فى البحر"، فالفاعل هنا ضحية الفعل وموضوعه وليس فاعله الحقيقى (وربما كان الفاعل الحقيقى هو البحر)، وإذا قلنا: "عَظُمَ فلانٌ"، فإن المقصود هو أن الفاعل عظيم، فهو لم يفعل شيئا بل اتصف به، أى: بالعَظَمَة.
كل هذا مقبول كفاعل، ومن السهل للغاية أن يمتد هذا المعنى النحوى للفاعلية إلى المبتدأ بالذات، لأن الفاعل والمبتدأ لا يختلفان فى الحقيقة إلا فيما فرضه عليهما النحاة من تقديم وجوبى للفعل على الفاعل وتأخير وجوبى للفعل على المبتدأ انطلاقا من نظرياتهم وليس من واقع اللغة العربية ذاتها. فلا صعوبة إذن فى إدراك أن "المبتدأ" الذى يليه فعل تام، مبنى للمعلوم، إنما هو الفاعل بعينه. وهكذا نجد أن المبتدأ والفاعل بمفهوميهما الأصليين أقرب إلى بعضهما (وهما فى الحقيقة نفس الشيء) من الأنواع الأخرى للمسند إليه، لأن كل ما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر من حيث "معنى" الفاعلية.
أما نائب الفاعل فمن الجلى أنه ذو طبيعة مزدوجة. فهو مسند إليه من حيث الإسناد والتصريف والإعراب: كفاعل يسبقه فعله المبنى للمفعول [للمجهول]، أو كمبتدأ يليه فعله المبنى للمفعول (وهو فى الحالين "فاعل" لفعل مبنى للمفعول) لأن هذا الفعل يُسنَد إليه ويُصَرَّف معه كما يقوم إعرابه بالرفع كفاعل على إسناد هذا الفعل إليه. غير أنه من ناحية أخرى [من ناحية المعنى] ليس فاعلا، فهو بالأحرى مفعول به لأنه المقتول وليس القاتل فى جملة: "قُتِلَ فلانٌ". غير أن فاعل الفعل المبنى للفاعل [للمعلوم] قد يكون بدوره ضحية للفعل الذى أُسنِد إليه بصورة لا تقلّ عن هذا المفعول الذى بُنِى له الفعل فصار نائب فاعل وفقا للنحو التقليدى. وفى جُمَل: "ماتَ فلانٌ"، أو "فلانٌ ماتَ"؛ أو: "غَرِقَ فلانٌ"، أو: "فلانٌ غَرِقَ"؛ أو: "تاهَ فلانٌ"، أو: "فلانٌ تاهَ"؛ يظلّ الفاعل هو "فلانٌ" (إذا وضعنا ما يسمى بالمبتدأ جانبا) فهو الميت، وهو الغريق، وهو التائه، وهناك فاعل مفترض، معلوم يُخْشَى منه أو عليه أو مجهول، وغير مذكور عادةً، هو الذى أماتَ (وقد يكون عزرائيل)، وأغرقَ (وقد يكون البحر أو الموج أو الدوار أو عدم إتقان السباحة)، وأتاهَ (وقد يكون الطريق أو الجهل بمسالكه). فلا فرق إذن من ناحية الفاعلية بين الفاعل لأفعال كثيرة (بحكم طبيعة هذه الأفعال) ونائب الفاعل، فهما من حيث المعنى مفعولان وليسا فاعليْن. غير أنهما يصلحان كلاهما للإدراج تحت مسمى المسند إليه أو الفاعل بالمعنى النحوى للكلمة.
فلا يبقى إذن سوى ما يُسمى اسم "كان وأخواتها" (وأفعال المقاربة والرجاء والشروع). وتدل هذه الأفعال على الكينونة، والتوقيت بالصباح أو الضحى أو النهار أو المساء أو الليل، وبيان المدة، والتحول، والنفى، والاستمرار (كان وأخواتها بالمعنى الضيق)، أو على قرب وقوع "الخبر" (أفعال المقاربة)، أو على رجاء (تَمَنِّى) وقوع "الخبر" (أفعال الرجاء)، أو على "البدء" فى وقوع "الخبر" (أفعال الشروع).
غير أن هذه الأفعال بدلالاتها المذكورة لا تزيد ابتعادًا عن الدلالة اللغوية للفاعلية عن كثرة من الأفعال اللازمة ولا عن الأفعال المبنية للمفعول. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأفعال لا تقوم بالربط فقط بين المسند إليه والمسند، بل تضيف معانى الاستمرار، أو الوشوك، أو الصيرورة، أو النفى؛ إلخ. إلخ.. إلى بقية المسند من أفعال وغيرها. والأهم من كل هذا أن فعل الكينونة بالذات يتجاوز الربط إلى تكوين عدد من الأزمنة المركبة مع الأفعال الأخرى فى اللغة العربية تماما كما يفعل فى الإنجليزية والفرنسية وكثرة من اللغات الأوروبية [بل ينفرد فعل الكينونة فى لغتنا بأنه يقوم فى مجال تكوين الأزمنة المركبة بما يقوم به فعل الكينونة وفعل الملكية معًا فى هذا المجال فى كثرة من اللغات الأوروپية].
ومعنى هذا أن الاسم الحقيقى لما يسمى باسم كان وأخواتها بكل أنواعها هو المسند إليه أو الفاعل. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نظرة النحو العربى إلى أفعال "كان وأخواتها" على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر تواجهنا بمشكلة جديدة. ذلك أنه عندما يُزاح مصطلحا المبتدأ والخبر جانبا تحتاج كل "نواسخهما" المزعومة هذه من أفعال ترفع المبتدأ وتنصب الخبر (كان وأخواتها وأفعال المقاربة والرجاء والشروع)، أو تنصب المبتدأ والخبر على أنهما مفعولان، كما يدعى هذا النحو (ظن وأخواتها: أفعال القلوب وأفعال التصيير)، ومن حروف تنصب المبتدأ وترفع الخبر (إن وأخواتها) إلى إعادة نظر شاملة.
على أن الجانب الأكبر من إعادة النظر الشاملة هذه، بعد النظر كمسند إليه (كفاعل) إلى اسم "كان وأخواتها"، أو اسم "إن وأخواتها"، الذى تليه كان الصريحة أو المحذوفة أو أخواتها [تختلف أفعال "ظن وأخواتها" فى أن لها فاعلا أصلا قبل ما يسمى بدخولها على المبتدأ والخبر ونصبهما كمفعوليْن فيما يزعم النحاة]،إنما يتجه إلى المسند (الخبر)، مع ملاحظة أن ما ينطبق على ما يسمى بخبر المبتدأ ينطبق أيضا على ما يسمى بخبر "كان وأخواتها" أو ما يسمى بخبر "إن وأخواتها"، مع فارق مهم هو أن الفعل "كان" يأتى صريحا فى حالة "كان وأخواتها"، وهنا يأتى ما يسمى بخبر "كان" منصوبا، ويأتى صريحا مع "إن وأخواتها" وهنا يأتى ما يسمى بخبر "كان" منصوبا أيضا وهنا يتكون من فعل "كان" مع الفاعل المزعوم بعده من ضمير مستتر أو ضمير رفع بارز متصل، فيما يزعم النحاة، خبر "إن" وهو من النوع المسمى عند هؤلاء بالخبر الجملة الفعلية، وقد يختفى فعل "كان" محذوفا بعد "إن وأخواتها" وفى هذه الحالة الأخيرة يأتى ما يسمى بخبر "إن" مرفوعا إنْ كان مفردا؛ فى غياب الناصب الصريح.
ومعنى هذا أن "كان وأخواتها" و"إن وأخواتها" لا تمثلان عالميْن مختلفيْن متباعديْن بينهما سور صينى عظيم، بل هما متداخلتان تماما، ذلك أن "إن وأخواتها" لا تستبعد أخوات "كان" صريحة ولا فعل "كان" صريحا أو "محذوفا" (فى حالة المضارع المثبَت) بعد المسند إليه بعد "إن وأخواتها"، إلا إنْ كان الفعل المسند فعلا آخر غير "كان وأخواتها". ذلك أن بوسعنا أن نقول: "إن الليل كان طويلا"، أو: "إن الليل سيكون طويلا"، أو: "إن الليل طويل"؛ وفى الجملة الأخيرة نفترض حذف "كان" قبل "طويل" تماما كما نفترض فى جملة: "الليل طويل" حذف "كان" قبل أو بعد "الليل"، وهذا الأخير هو المسند إليه أو الفاعل فى الحالين.
وقبل أن نقف وقفة متأنية عند العبارات والتراكيب اللغوية التى يمكن أن يتحقق من خلالها المسند إليه (أو: الفاعل)، نتوقف قليلا لمقارنة عابرة مع "نحو" لغة أخرى، هو "نحو" اللغة الإنجليزية، لنرى كيف أمكن لنحو تلك اللغة، وهو بالمناسبة نحو متطور للغاية، خاصة بفضل الثورة التى شهدها فى العقود الأخيرة، أن يقرر أن الفاعلية بالمعنى النحوى متحققة بلا أدنى شك فى أشكال شتى للمسند إليه (الفاعل) وفى أنواع وأشكال ودلالات وأحوال شتى للأفعال التى يجرى إسنادها إليه.
ونعتمد هنا على كتاب: A University Grammar of English [قواعد النحو الإنجليزى للجامعات] من تأليف راندولف كويرك Randolph Quirk، الأستاذ بجامعة لندن، وسيدنى جرينباوم Sidney Greenbaum، الأستاذ بجامعة ويسكونسين (والكتاب حديث نسبيا فهو صادر فى 1988) .
والمسند إليه (الفاعل) subject هو عادة مجموعة اسمية a noun phrase (اسم أو ضمير مع أو بدون صفة أو اسم موصول مع أو بدون صلة الموصول)، أو مجموعة جُمْلِيَّة (= "جُمَيْلَة" ) a clause (بادئة ﺒ "أنَّ" that-clause) ذات وظيفة اسمية a nominal function.
* والدور الدلالى الأكثر نموذجية للمسند إليه هو أنه فاعل agentive [أداتيّ] أى: مَنْ يقوم بحدث، وهو الكائن الحى الذى يُحْدِثُ الحدث الذى يدل عليه الفعل، مثل ما بين القوسين:

(چون) فتح الرسالة.

* وبالإضافة إلى وظيفته الفاعلية يكون للمسند إليه عادة دور مساعد أو مؤثِّر، أى أنه يعبر عن السبب المادى غير المقصود (غير الحى عادة) لحدث، مثل ما بين القوسين:

(الانهيار الجليدى) دمر منازل عديدة.

* ومع الأفعال اللازمة يكون للمسند إليه عادة دور متأثر affected، وهو الدور النموذجى للمفعول به، مثل ما بين القوسين:

(چاك) وقع على الأرض.
(القلم) كان موضوعا على المنضدة.

* ويمكن أيضا أن نمدّ الوظيفة الأخيرة إلى الأفعال التوكيدية intensive verbs، مثل ما بين القوسين:

(القلم) كان على المنضدة.

* ويغدو من الممكن الآن أن نلاحظ وجود علاقة منتظمة، من حيث وظيفة " المجموعة الجُمْلِيَّة " clause function، بين الصفات أو الأفعال اللازمة والأفعال المتعدية التى تناظرها والتى تعبِّر عن معنى سببى causative، مثل ما بين القوسين:

المسند إليه الفعل المفعول به فاعل/مؤثر متأثر(چون/المفتاح) فتح الباب(الجليد) قتل الزهور ***فاعل/مؤثر متأثر(هم) ضيَّقوا الطريق(سلوكه) أغضب ............ نى ***فاعل متأثر(أنا) كنتُ أُنزِّه كلبى المسند إليه الفعل متأثر(الباب) انفتح(الزهور) ماتت ***متأثر المتمم(الطريق) صار أضيق(أنا) صرتُ غاضبا ***فاعل(كلبى) كان يتنزه

* ويمكن أن يكون للمسند إليه أيضا دور [وظيفة] المتلقِّى recipient مع أفعال مثل: "يملك"، مثل ما بين القوسين:

(سميث) يملك جهاز راديو............. [اشتراه أو اشتراه له أبوه]

* وقد تكون للمسند إليه وظيفة بيان المكان أو الزمان، مثل ما بين القوسين:

(هذا الطريق) يَعُجُّ بالنمل.
(يوم الجمعة) سيكون عيد ميلادى.

* وهناك المسند إليه الدال على ترتيب أو نشاط متفق عليه، مثل ما بين القوسين:

(الحفل الموسيقى) سيكون يوم الخميس.

وهكذا، فبفضل تراثنا النحوى الذى أعطى لفاعلية المسند إليه (الفاعل) دلالة نحوية دقيقة: قيامه بالفعل، أو: قيام الفعل به، أو: اتصافه بالفعل، وكذلك بالاستفادة بهذه المقارنة مع النحو الإنجليزى الذى شهد ثورة عميقة خلال العقود الأخيرة، نعود مطمئنين أكثر إلى إحلال مفهوم الفاعل أو المسند إليه محل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء المسند (الخبر)، والحقيقة أن هذا الأخير ما كان ينبغى إدراجه أصلا ضمن مرفوعات الأسماء كما سوف نرى.
ويمكننا الآن أن ننتقل إلى بعض تجليات المسند إليه (الفاعل) للإلمام بها، ولمحاولة حلّ عدد من المشكلات التى تتعلق بالمسند إليه، فى الأقسام الثلاثة التالية قبل أن ننتقل إلى المسند (الخبر).







4
المسند إليه
بعض تجلياته أو أشكال تحقيقه

فى "معجم النحو"، الذى وضعه الشيخ عبد الغنى الدقر، نقرأ التعريف التالى "للفاعل":
هو اسم، أو ما فى تأويله، أُسند إليه فعل تام أو ما فى تأويله، مقدَّم عليه، أصلى المحلّ والصيغة .
وأما ما فى تأويل الفعل فهو ما يعمل عمل الفعل، ويشمل الصفة (وهذه تشمل اسم الفاعل، وأمثلة أو صيغ المبالغة، والصفة المشبَّهة، واسم التفضيل) والمصدر واسم الفعل والظرف (كمايقول فى المتن والهامش) . غير أننا لن نقف عند ما يعمل عمل الفعل لأننا نركز المناقشة، طوال هذا البحث، من خلال حصرها فى حدود الفعل دون المؤوَّل به.
وكذلك لن نقف عند عبارة "مقدَّم عليه، أصلى المحلّ والصيغة" لأن المقصود بها، كما ورد فى الهامش ، هو استبعاد المبتدأ والفعل المبنى للمجهول. فقد سبق أن ناقشنا مسألة أن المسند إليه (الفاعل) هو ذاته المبتدأ، وهو ذاته نائب الفاعل، وهو ذاته اسم كان وأخواتها" (بما فى ذلك أفعال المقاربة وأفعال الرجاء وأفعال الشروع).
وإنما يهمنا الآن "الاسم، أو ما فى تأويله" لأننا نتجه الآن إلى مناقشة العلاقة بين المسند إليه من ناحية، وأنواع الكلمة أو الكلمات أو العبارات أو التراكيب التى تكون، أو تصلح لأن تكون، المسند إليه من ناحية أخرى.
والمقصود بالاسم هنا هو الاسم الصريح الظاهر، أو ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة (وهذه الأخيرة ليست فى الحقيقة ضمائر والتقدير السليم لها هو أنها نهايات تصريف الأفعال)، أو ما يسمى بالضمير المستتر (وهذا ليس سوى وهم)، أو الاسم الموصول. أما ما فى تأويله فهو التراكيب المصدرية، مثل ما بين القوسين فى الآية: "أو لم يكفهم (أنَّا أنزلنا)" ، أو فى الآية: "أو لم يأن للذين آمنوا (أنْ تخشع قلوبهم)" .
وهذا لا يختلف من الناحية الجوهرية عن تعريف المبتدأ، فى المعجم المذكور، وهو:
المبتدأ اسم صريح، أو بمنزلته، مجرد من العوامل اللفظية، أو بمنزلته، مُخْبَرٌ عنه، أو وصف رافع لمكتفٍ به .
والمقصود بالاسم هنا هو الاسم الصريح الظاهر، وكذلك ضمير الرفع البارز المنفصل، واسم الإشارة، والاسم الموصول، وأما الذى بمنزلته فهو ما بين القوسين فى الآية: "و(أن تصوموا) خير لكم" .
والمقصود بالمجرد من العوامل اللفظية (الأصلية) هو ما لم تسبقه مثلا حروف جرّ (أصلية) تخرج به عن أن يكون المبتدأ؛ مثل: إلى، على، عن، وأما الذى بمنزلة المجرد من العوامل اللفظية فهو المجرور ظاهريا بحرف جرّ زائد مثل "مِنْ" و"الباء" .
ومن الجلى أن الاسم (الصريح أو الضمير) أو الذى بمنزلته، والمجرد من العوامل اللفظية الأصلية أو الذى بمنزلته، أشياء تنطبق على الفاعل كما تنطبق على ما يسمى بالمبتدأ، فهى كلها تصلح إذن للمسند إليه، أو تكون كلها المسند إليه.
والحقيقة أن التجريد من العوامل اللفظية (الأصلية أو غير الأصلية؟!) لا ينبغى أن يكون شرطا للمسند إليه بأى نوع من أنواعه، وإنما هى نظرة النحو العربى التقليدى الذى لا يتصور مفعولا لفعل وفاعل سابقين قبل أن يصير فاعلا لفعل آخر "جديد" فى الجملة نفسها، والذى لا يتصور مجرورا بحرف جر أصلى أو بالإضافة فاعلا فى الوقت ذاته لفعل يأتى بعده، مع أنه يتصور "ازدواجات" أخرى عديدة إعرابية أو نحوية وإعرابية مثل اللفظة الواحدة منصوبة بعد "إن وأخواتها" مع أنها المبتدأ أو المسند إليه مثلا، أو مثل اللفظة الواحدة التى هى مضاف إليه باعتبار ما قبلها ومضاف باعتبار ما بعدها، مثل لفظة "حجرة" فى جملة: "بابُ حجرةِ الدراسة مفتوح"، فهى مضاف إليه بعد "باب" ومضاف قبل "الدراسة".
أما الوصف الواقع مبتدأ، والذى يستغنى عن خبره بمرفوعه الفاعل (مثل: أَمُرْتَفِعٌ البناءُ؛ ومثل: ما مُكْرَمٌ الجبانُ) حيث البناء فاعل، والجبان نائب فاعل ، بينما احتاج كل من الوصفين إلى فاعل أو نائب فاعل؛ مُرْتَفِعٌ (اسم فاعل) إلى الفاعل، ومُكْرَمٌ (اسم مفعول) إلى نائب الفاعل، فإنه فى نظرى ظاهر التكلف، ويؤكد هذا شرحُهم ذاته وفحواه أن:
بعض أنواع الوصف يُشبه الفعل فى أنه يرفع بعده فاعلا أو نائب فاعل؛ وذلك بشروط معينة ... .
وإذا كان الوصف "مرتفع" ... "يُشبه الفعل"، ويحتاج بالتالى إلى فاعل هو "البناء" - فلماذا لا يعتبرونه نوعا من الفعل والفاعل؟ أو بالأحرى - وببساطة - خبرًا متقدما (مرتفع) ومبتدأً متأخرا (البناء)؟ ولا يغير من هذا فى شيء واقع أن الجملة استفهامية (أمرتفع البناء؟ = أالبناء مرتفع؟ = هل البناء مرتفع؟) أى أننا إزاء المسند إليه (الفاعل) وهو "البناء" وما يسمى بالخبر المفرد المرفوع وهو "مرتفع"، حسب طريقة النحاة، وسوف يتأكد لنا أن هذا المسمى بالخبر المفرد المرفوع ليس خبرا (مسندا) وليس مرفوعا (بل هو ما يسمى فى النحو العربى التقليدى بخبر كان "= متمم الفاعل فى المصطلح النحوى الحديث" بعد حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبَت).
والحقيقة أن هذه الجملة من المبتدأ الوصف والمرفوع الفاعل (أو بإيجاز: هذه الجملة من المبتدأ والفاعل) تمثل ذروة الاضطراب فى نحوهم الذى يفترض، كما يقول ابن عقيل، أن:
المبتدأ على قسمين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له فاعل سدّ مسدّ الخبر .
أما عبارة "مخبر عنه" فهناك بالطبع المسند (الخبر)، وهو الفعل أو الفعل وما صحبه، وبإطلاق التقديم والتأخير فى ترتيب عناصر الجملة لن يكون هناك فرق نحوى حقيقى بين الفاعل (المسند إليه) وما يسمى بالمبتدأ، كما رأينا من قبل.
وهكذا نجد أننا فى الحالين إزاء، أو إزاء ما يصلح لأن يكون، المسند إليه (الفاعل). فما هى الكلمة أو الكلمات أو العبارات أو التراكيب التى تصلح لذلك؟
وبطبيعة الحال فإن الحديث عن الكلمات أو العبارات التى تصلح أو لا تصلح لأن تكون المسند إليه (الفاعل) ينطبق بحذافيره تقريبا على كل المسميات الأصلية التى تندرج تحت مفهوم المسند إليه (من فاعل، ونائب فاعل، ومبتدأ، واسم "كان وأخواتها") كما ينطبق أيضا على المفعول به الذى يكون أيضا اسما صريحا (أو ضميرا بارزا منفصلا أو "متصلا" أو اسما موصولا) أو ما فى تأويل الاسم. على أن التجرد من العوامل اللفظية التى قد تصنع الازدواج النحوى أو الإعرابى ينطبق على بعض أنواع المسند إليه أكثر من غيرها، كما يكون انطباقه على المفعول به أقل بما لا يقاس من انطباقه على المسند إليه.
وينبغى أن يكون واضحا على وجه الخصوص أن هذا الحديث لا ينطبق على المسند (الخبر). فالمسند يختلف جوهريا عن المسند إليه فى حقيقة أن هذا الأخير عنصر من عناصر الجملة (مهما تعددت كلمات هذا العنصر) أما المسند فقد يتكون من مجموع كافة العناصر الأخرى للجملة (الفعل، والمفعول به، ومتمم الفاعل ومتمم المفعول به، والظرف). والحد الأدنى للمسند (الخبر) هو الفعل اللازم. ولأن المسند (الخبر) هو قبل كل شيء الفعل، مع أو بدون عناصر أخرى، فهو جزء من الجملة يختلف عن المسند إليه بكل أشكاله، ولا يُعقل الحديث عن كلمات أو عبارات تصلح أو لا تصلح لأن تكون المسند (الخبر) وإنما يكون الحديث النحوى المنطقى الحقيقى عن عناصر الجملة التى تشكل المسند (الخبر) وأولها الفعل. على أن من المنطقى بعد ذلك أن نلتفت إلى الكلمات أو العبارات أو التراكيب التى تصلح لأن تكون "التحقيق المباشر" لكل عنصر من عناصر الجملة التى يتشكل منها المسند. ومن هذه العناصر: "الفعل" وهو معروف ومتميز، والمفعول به وينطبق عليه بوجه عام ما ينطبق على المسند إليه من حيث تحقُّقُه بالاسم أو ما فى تأويله، وهناك تراكيب خاصة متنوعة لكل من العنصرين الباقييْن: الظرف، ومتمم الفاعل ومتمم المفعول به.
وليس من الوارد هنا بطبيعة الحال أن نستقصى كافة الكلمات أو تراكيب أومجموعات الكلمات التى تصلح أو لا تصلح لأن تكون المسند إليه (الفاعل)، أو لأن تكون عناصر أخرى. ذلك أن التركيز هنا ينصبّ على نقاط بذاتها فى سبيل تطوير النحو ولا يمكن فى مثل هذا السياق التفكير فى الإلمام بكل أبواب النحو أو فى تقديم عرض منهجى منتظم للنحو الجديد المقترح. وعلى هذا فإننا سنقف بإيجاز عند عدد من الكلمات أو أقسام الكلام أو العبارات أو التراكيب أو الصيغ التى تُستعمل عادة فى تحقيق أشكالٍ للمسند إليه (الفاعل).
وقد أشرنا، منذ قليل، إلى "الاسم"، ويمكن أن نضيف إلى الاسم ما يمكن أن يحلّ محلّه كالضمير أو اسم الإشارة المستعمل ضميرا، واسم الموصول، وكذلك التراكيب المصدرية التى يمكن تأويلها بالاسم أو القابلة للقيام بوظيفة اسمية.
على أنه ينبغى النظر إلى "كل لفظة" على أنها تصلح للاستعمال مسندا إليه (فاعلا) فى سياقات بذاتها، وبصفة خاصة فى سياق "التعريف"؛ مثل ما بين القوسين:

(الأسدُ) اسمٌ.

(يَذْهَبُ) فعلٌ.

(إلى) حرفٌ.

فالكلمات المستعملة بين قوسين هنا مستعملة وكأنها "أسماء" بتضمين معنى: "كلمة كذا" (= [كلمة "إلى"] حرف).
على أن الاسم وما فى معناه وما يحلّ محلّه هو المسند إليه (الفاعل). وهنا يمكن الحديث عن المجموعة الاسمية والمجموعة الفعلية. والمجموعة الاسمية تتضمن اسما وحدّها الأدنى هو هذا الاسم. والمجموعة الفعلية تتضمن فعلا وحدّها الأدنى هو هذا الفعل. والمجموعة الاسمية بحدّها الأدنى يمكن أن تكون: أسد، بنت، تلميذ، حسام، فرنسيون. غير أن هذا الحد الأدنى "قابل" للتوسيع بالتحلية ﺒ "ال"، أو بالوصف بكلمة أو أكثر، أو بإضافات متنوعة (بما فى ذلك تحويلها إلى مجموعة اسمية تحتوى على عناصر جملة متعددة دون أن تفقد حقيقة أنها مجموعة اسمية قابلة للقيام بوظيفتها الاسمية)، وهذه المجموعة الاسمية قابلة للاستعمال كمسند إليه لكن أيضا كمفعول به كما أنها صالحة لبعض العناصر الأخرى للجملة.
أما المجموعة الفعلية فيمكن أن تكون، فى حدها الأدنى، فعلا من الأفعال، مثل: أكل، قرأ، فهم، يستقبل. ولكنها أيضا قابلة للتوسيع بالنفى، أو بتكوين المجموعة من كلمات يتمثل رأس المجموعة فيها فى فعل.
وإلى جانب المجموعة الاسمية والمجموعة الفعلية هناك المجموعة الجُمْلية (= الجُمَيْلة) وتسمى هذه المجموعة (الجُمْلية) بالإنجليزية clause وبالفرنسية proposition وهى تتكون من مجموعة اسمية noun phrase (بالإنجليزية) أو groupe nominal (بالفرنسية) ومجموعة فعلية verb phrase (بالإنجليزية) أو groupe verbal (بالفرنسية). وتصلح المجموعة الجُمْلية ذات الوظيفة الاسمية للمسند إليه وللمفعول به، وتبدأ هذه المجموعة الجُمْلية ذات الوظيفة الاسمية بالأدوات: أَنْ، أَنَّ، ما.
والحقيقة أن تمحور النحو العربى حول الإعراب (منذ نشأته المتمحورة حول الإعراب بالذات ضد ظاهرة اللحن الإعرابى الذى كان يشكل خطرا على الإعراب فى مسار تاريخى انتهى بإسقاطه فى لغة الحياة اليومية وفى دوائر واسعة من لغة الكتابة والثقافة) أدَّى إلى تضحية النحاة فى كثير من الأحوال بالمفهوم السليم للمسند إليه كعنصر من عناصر الجملة لصالح اللفظة المفردة التى تحمل علامة الرفع (كما ظلوا يفعلون مع حالات الإعراب الأخرى كذلك)، مما أدَّى بهم إلى اعتبار المسند إليه هو اللفظة التى تحمل علامة الإعراب اللهم إلا فى حالات الإعراب المحلى والجمل التى لها محل من الإعراب، وفقا لمصطلحاتهم الشهيرة.
وعلى سبيل المثال ففى جملة: "سيأتى (معلِّم) المدرسة وليس (معلِّم) السوق"، يعتبر النحاة ما بين القوسين أى كلمة "معلِّم" هو المسند إليه بعد كل من "يأتى” و"ليس"، على حين يتمثل المنطق النحوى السليم فى أن المسند إليه هو "معلم المدرسة" فاعلا للفعل "يأتى” و"معلم السوق" فاعلا للفعل "يأتى” المنفى ﺒ "ليس"، مع إيضاح لا مناص منه هو أن اللفظة الأولى هى التى تأخذ إعراب المسند إليه (أى: الرفع، وعلامته هنا أى: الضمة) دون لفظة المضاف إليه المجرورة بالإضافة رغم أنها "جزء لا يتجزأ"، كما يُقال، من المسند إليه (الفاعل).
وعلى هذا سنورد مجموعة من الجمل وضعنا المسند إليه (الفاعل) فى كل منها بين قوسين، أما ما يرد خارج القوسين فهو المسند سواء جاء "قبل" المسند إليه أو "بعده"، أو جزء منه "قبله" وجزء آخر منه "بعده":
1: (هى) تعزف على الپيانو.
2: (هذه الفتاة الجميلة) تعزف على الپيانو.
3: (تلك الفتاة الجميلة ذات الحسب والنسب) تعزف على الپيانو.
4: (تلك الفتاة الجميلة ذات الحسب والنسب التى غضبت منى أمس عندما تحدثت معها بعصبية لم أقصدها أبدا والله العظيم) تعزف على الپيانو.
5: (هذه) تعزف على الپيانو و(تلك) على الكمان.
6: (صديقى الحميم) سيأتى معه.
7: سيأتى (صديقى الحميم) معه.
8: (أنَّك أتيتَ) كان جميلا منك.
9: (واقع أنَّك أتيتَ) كان جميلا منك.
10: كان جميلا منك على كل حال(واقع أنَّك أتيتَ).
11: (أنْ تعتذر) خير من أن تعاند وتستكبر.
12: (ما تسبب فى انقطاعه المفاجئ) ما يزال غير مفهوم.
13: "و(أنْ تصوموا) خير لكم" .
14: "أوَ لم يكفهم (أنَّا أنزلنا)" .
15: "عزيز عليه (ما عَنِتُّمْ)" .
16: "قل أُوحى إلى ( أنه استمع نفر من الجن)" .
ويمكن بطبيعة الحال مضاعفة المسند إليه (الفاعل) بالعطف مثل ما بين القوسين فى جملة: "(فلان وعلان) قاما بكذا"، أو بإضافة بدل له: "(عبد السلام، صديقى الذى حدثتك عنه أمس،) سيأتى لزيارتنا اليوم"، كما يُحذف المسند إليه (الفاعل) مع فعل الأمر، وكذلك عند تعدد الأفعال المسندة إليه فهو لا يتكرر مع كل فعل جديد.
ونعود هنا إلى نقطة بالغة الأهمية، ألمحنا إليها من قبل، فيما يتعلق بالمسند إليه (الفاعل)، ويمكن أن نصوغ هذه النقطة فى شكل السؤال التالى: هل يمكن أن يكون المسند إليه (الفاعل) شيئا آخر فى الوقت ذاته، بمعنى "نحوى” أى أن يكون عنصرا آخر من عناصر الجملة بالإضافة إلى كونه مسندا إليه (فاعلا)، وبمعنى "إعرابى” بمعنى أن يكون منصوبا أو مجرورا رغم أن حكمه الرفع على أنه المسند إليه على كل حال؟
ونحن نعلم أن النحو العربى يميز بطبيعة الحال بين المسند إليه الذى يتقدمه الفعل (وهو الفاعل ونائبه واسم "كان وأخواتها") والمسند إليه الذى يتأخر عنه الفعل "وجوبًا" (وهو المبتدأ). وما يتقدمه الفعل مرفوع دائما إلا إذا جَرَّهُ "ظاهريًّا" حرف جرّ "زائد"، ويأتى الفاعل بمفهومه فى النحو العربى التقليدى مجرورا بعد "مِنْ" الزائدة، كما فى الآية: "وأن تقولوا ما جاءنا من بشير" ، أى: "جاءنا بشيرٌ"؛ أو بعد "الباء" الزائدة، كما فى الآية: "وكفى بالله شهيدا" ، أى: كفى اللهُ؛ وهذا على كل حال قليل.
أما المبتدأ فيختلف. فهناك ما يسمى بنواسخ الابتداء أو نواسخ المبتدأ والخبر. ويصبح المبتدأ هنا اسمًا منصوبا للناسخ مع "إن وأخواتها"، ويظل مع ذلك المبتدأ أو المسند إليه. وهناك حروف الجر الزائدة، التى تجر المبتدأ بدوره ظاهريا دون أن تغير طابعه النحوى باعتباره المبتدأ أو المسند إليه. فهو مبتدأ مجرور (فى "محل رفع" طبعا) بعد "مِنْ" الزائدة، كما فى الآية: "هَلْ مِنْ خالقٍ غيرُ اللهِ" ، أو بعد "الباء" الزائدة، فى "بحسبك درهمٌ"، أو كما فى الآية: "بأيِّكم المفتون" .
وهنا يأتى الشرط الخاص بأن المبتدأ مجرد من العوامل اللفظية الأصلية (وليس منها بالطبع حروف جرّ بالذات شاءت لهم براعتهم النحوية أن يسموها زائدة).
أما العوامل اللفظية الأصلية التى تعمل عملا غير الرفع فهى غير متوقعة عندهم مع الفاعل بالمفهوم التقليدى، إلا فى إطار ما يسمونه بحرف الجر الزائد الذى قد يسبق الفاعل، كما رأينا منذ قليل. ومن شأنها، من ناحية أخرى، أن تحوِّل "المبتدأ" إذا سبقه فعل وفاعله إلى "مفعول به"، أو أن تنحرف بالمبتدأ عن معناه أو أن تدمر أصلا كل معنى للجملة (إذا سبقته حروف جر أصلية؛ مثلا: إلى، على، فى، إلخ.).
ونخرج من هذا بأن النحاة يقبلون أن يسبق المسند إليه (الفاعل أو المبتدأ) حرف جر "زائد" لا يخرج به عن مفهومه كعنصر من عناصر الجملة، مع أنه مجرور (فى "محل رفع" بطبيعة الحال). وهم يقبلون نصب (أو رفع) "المبتدأ" بالنواسخ غير أنه يصير عندئذ اسما لهذا الناسخ أو ذاك (اسم "إن" فى النصب أو اسم "كان" فى الرفع).
غير أن هناك حالة، لم يطرحوها أصلا، للتجرد من العوامل اللفظية الأصلية، وهى حالة أن يتقدم المسند إليه (المبتدأ أو الفاعل) فعل ينصبه كمفعول به فتزدوج صفته ازدواجا جذريا بالمعنى النحوى: المسند إليه (الفاعل) لفعل سيكون مفعولا به أيضا لفعل آخر وفاعل آخر، وبالمعنى الإعرابى: المسند إليه (الفاعل) سيكون هنا فى "محل رفع" غير أنه سيكون فى الوقت ذاته منصوبا نصبا حقيقيا بعامل لفظى أصلى. على أن هذا النحو لا يقبل الازدواج الذى يصل إلى حد المرفوع بعامل أصلى والمنصوب فى الوقت ذاته بعامل أصلى أيضا من الناحية الإعرابية، أو إلى حد الفاعل والمفعول به فى لفظة واحدة فى آن معا، من الناحية النحوية. أما حقيقة أن نواسخ المبتدأ والخبر من حروف وأفعال عوامل لفظية أصلية فلا مناص من الالتفاف حولها "بحيل" لا حصر لها ولا حدود لبراعتها. فالألقاب الجديدة: اسم أو خبر "إن" أو اسم أو خبر "كان"، تتكفل بتغطية الفجوة بين الحالة الواحدة التى يريد النحاة أن يفرضوها نحويا وإعرابيا على اللفظة الواحدة وبين طبيعة الحياة ذاتها التى لا تمنع المفعول به من أن يكون فاعلا أو العكس.
والحقيقة أن التحليل الإعرابى النحوى التقليدى يتسم بنفاق لا حد له فى هذه النقطة. فالفاعل الضمير المستتر يعود على (أو ضمير الرفع البارز المتصل يربط به) ما سبق الفعل من مبتدأ، او اسم ناسخ، أو المجرور، أو المفعول به. ويعود الضمير المستتر فاعلا "فى محل رفع" على ما قبله مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا. وتدل هذه العودة على أنهم يقبلون أن يستند المرفوع ("محليا") إلى المرفوع أو المنصوب أو المجرور، بما فى ذلك أن يستند الفاعل ("المرفوع محليا") إلى المفعول به المنصوب (مثل: رأيتُ المدرسَ يشرح موضوعا معقدا بسهولة لا تُصدّق)، فالنحو العربى التقليدى، الذى لا نملك غيره، يجعل فاعل "يشرح" ضميرا مستترا يعود فى "محل رفع" على "المدرس" أى المفعول به المنصوب، بدلا من أن يقبل فكرة أن "المدرس" هو المفعول المرئى لمن رآه والفاعل الشارح لموضوعه المعقد!!
ونضرب بعض الأمثلة مع التحليل النحوى الإعرابى المختصر للنقطة التى تهمنا فى كل منها:
1. السمك يعيش فى الماء.
(يزعمون أن فاعل "يعيش" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على المبتدأ المرفوع: "السمك" = المرفوع يعود على المرفوع = الفاعل فى المعنى وهو المبتدأ = السمك هو الذى يعيش).
2. أعتقد أنّ الحبَّ يقتلُ أحيانا.
(يزعمون أن فاعل "يقتلُ" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على اسم "أنّ" المنصوب: "الحبَّ" = المرفوع يعود على المنصوب = الفاعل فى المعنى هو اسم "أنَّ" = الحب هو الذى يقتل).
3. مررتُ برجلٍ يكلمُ نفسَه.
(يزعمون أن فاعل "يكلمُ" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على المجرور بحرف الجر: "رجل" = المرفوع يعود على المجرور = الفاعل فى المعنى هو المجرور = الرجل هو الذى يكلم نفسه).
4. رأى فلانٌ مناما يدورُ فى عالم غريب.
(يزعمون أن فاعل "يدور" ضمير مستتر "بعده" يعود، فى محل رفع، على المفعول به المنصوب: "مناما" = المرفوع يعود على المنصوب = الفاعل فى المعنى هو المفعول به = المنام هو الذى يدور).
ويتضح من التحليل الموجز السابق لبعض الجمل أن النحو العربى كان يمكن أن يريح نفسه وعلماءه ودارسيه ومستعمليه لو أنه اعتبر "ما يعود عليه الضمير المستتر المُتَوهَّم أو ما يربط به ضمير الرفع البارز المتصل المعلن أنه فاعل مع أنه مجرد نهاية تصريف للفعل"... "فاعلا" للفعل الذى يليه، قابلا، بالتالى، هذين الأمرين المترابطين:
1. المسند إليه (الفاعل) قد يخضع لتأثير عامل لفظى أصلى (غير عامل رفعه كمسند إليه) فينصبه أو يجره مع أن حقه الرفع.
2. المسند إليه (الفاعل) يمكن أن يكون بالإضافة إلى كونه هذا العنصر المحدد من عناصر الجملة عنصرا آخر فى الوقت ذاته، وبالأخص أن يكون مفعولا به لفعل وفاعل سابقين (تحليليا وليس مكانيا بالضرورة) بالإضافة إلى كونه المسند إليه (الفاعل) لفعل لاحق (قد يتعدى بدوره إلى مفعول به أو إلى مفعولين).
ومعنى هذا أن يقوم تحليلنا النحوى الإعرابى، فيما يتعلق بالمسند إليه (الفاعل)، بالبحث عن كل "فعل" فى الجملة، وأن نبحث عن فاعله الذى تم إسناده إليه وتصريفه معه، قبله أو بعده، سواء كان هذا الفعل ناقصا أو لازما أو متعديا، أو مبنيا لفاعل الفعل أو مفعوله، وهنا نرفع هذا المسند إليه (الفاعل) ما لم يكن مجرورا أو منصوبا بعامل من العوامل اللفظية من أدوات أو أفعال أو غيرها.
ومن الجلى أن اعتبارنا لاسم "كان وأخواتها" فاعلا (المسند إليه) يجعل هذا الأخير فاعلا لفعلين يتلوانه أو يسبقانه أو يسبقه أحدهما ويتلوه آخر، بفاصل بينه وبين الفعل، قبله أو بعده، أو بدون فاصل، ففى الجمل:
كان (مراد) يقرأ.
(مراد) كان يقرأ.
كان (مراد) وحده يقرأ.
"مراد" هو المسند إليه (الفاعل) لكل من الفعلين: "كان" و"يقرأ". على أن المسند فى كل الأحوال هو "كان يقرأ" (مع ضم "وحده" إليهما فى الجملة الأخيرة). فنحن إذن إزاء فعلين تم تصريف كل منهما مع المسند إليه (الفاعل) غير أنهما يشكلان معا "مجموعة فعلية" من نوع خاص تضيف فيها أفعال "كان وأخواتها" (وكذلك أفعال المقاربة والرجاء والشروع) دلالاتها المتنوعة إلى دلالة الفعل "التام" معها، وبصفة خاصة فإن فعل الكينونة بالذات يشترك مع الأفعال الأخرى فى تكوين الأزمنة المركبة فى اللغة العربية.



5
ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر
أ: الأفعال المسماة بالناسخة

يقرر النحو العربى أن نواسخ المبتدأ والخبر كما يسميها تدخل على جملة أصلها المبتدأ والخبر فتنسخهما أى تغيِّر إعرابهما. فهل هى حقا نواسخ للمبتدأ؟ وهل تنسخ الخبر حقا؟ وهل تدخل حقا على جملة اسمية أو على جملة أصلها المبتدأ والخبر؟
لقد حاولت المناقشة السابقة تمهيد السبيل أمام إلغاء تقسيم الجمل إلى اسمية وفعلية، وإلغاء مفهوم المبتدأ ليكون مجرد نوع من أنواع المسند إليه (أى: الفاعل)، وإلغاء إعراب المسند (الخبر) وإخراجه من مرفوعات الأسماء، باعتبار أن ما يسمى بالخبر المفرد (وهو مرفوع "عمليا" دون شك لكنه رفع ظاهرى عشوائى كما رأينا وكما سنرى) ليس خبرا لأنه لا يكون خبرا إلا مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت، وباعتبار أن المفهوم السليم للمسند (الخبر) يشمل كل ما هو غير المسند إليه فى الجملة، ولا يُعقل التفكير فى إعراب مجموعة من العناصر النحوية المتنوعة حتى فى حالة إقرار ما يُسمَّى بالإعراب المحلى (فالإعراب المحلى يتعلق على كل حال بالعنصر الواحد من عناصر الجملة سواء أكان مبنيا أم متعدد الألفاظ وليس بعنصرين أو أكثر من هذه العناصر النحوية معا)، وباعتبار أن قياس رفع الخبر على هذا الرفع "العملى” العشوائى "للخبرالمفرد" إنما هو قياس فاسد ظاهر الفساد.
وفى ضوء هذه المناقشة نشعر بأن نواسخ الابتداء هذه تغدو معلقة فى الهواء، بقدر ما يهتز اقتناعنا بمفاهيم الجملة الاسمية والفعلية والمبتدأ والخبر وإعراب (رفع) الخبر.
وإذا نحن تأملنا جملة مثل: "إن الله يغفر الذنوب"، فإننا نجد أن الحرف الناسخ "إن" يمكن استخدامه لتوكيد جملة: "الله يغفر الذنوب" أو لتوكيد جملة: "يغفر الله الذنوب". وفى الحالين لا يمكننا أن نستنتج سوى شيء واحد وهو أن المسند إليه (الفاعل) فى الجملة البادئة بالاسم أو الجملة البادئة بالفعل هو الذى نأتى به بعد الحرف الناسخ "إن"، كما أن التأثير الإعرابى لهذا الأخير يقتصر على المسند إليه (الفاعل) بالنصب.
وبطبيعة الحال فنحن نقرأ أو نكتب، نسمع أو نقول، الجملة التى تشتمل على "النواسخ"، وقد صيغت بالنواسخ ومعها وبافتراض الدلالات اللغوية والبلاغية والنحوية لهذه النواسخ وكذلك بافتراض آثارها الإعرابية. ويبدو من العبث بالتالى بأن نبدأ بتجريد هذه الجمل من النواسخ التى كانت ماثلة فى صميم الجمل المعنية منذ البداية.
والنواسخ على كل حال متنوعة، وينبغى الحديث عن كل نوع منها على حدة وبما يتلاءم مع خصائصه. ونقرأ فى "النحو الوافى” للأستاذ عباس حسن ما يلى:
النواسخ بحسب التغيير الذى تحدثه ثلاثة أنواع: نوع يرفع اسمه وينصب خبره فلا يرفع فاعلا ولا ينصب مفعولا؛ مثل: "كان - وأخواتها"، ونوع ينصب اسمه ويرفع خبره، مثل "إن - وأخواتها"، ونوع ينصب الاثنين، ولا يستغنى عن الفاعل؛ مثل: "ظن - وأخواتها" .
ونبدأ ببحث "كان وأخواتها" بالمعنى الضيق (أى بدون أفعال المقاربة والرجاء والشروع التى سنتناولها بعدها مباشرة).
وأفعال "كان وأخواتها" هى ما يلى:
أ: أفعال التوقيت بزمن: 1: كان 2: أصبح 3: أضحى 4: ظل 5: أمسى 6: بات.
ب: أفعال الاستمرار: 7: زال 8: برح 9: فتئ 10: انفكّ. (وهى لا تعمل عمل "كان" إلا إذا سُبقت بحرف نفى = ما زال، لا زال، لم يزل، وهكذا مع باقى هذه الأفعال).
ج: فعل الصيرورة أو التحول: 11: صار.
د: فعل النفى: 12: ليس.
ه: فعل الدوام أو بيان المدة: دام (بشرط أن يُسبق بما: ما دام).
وهى تختلف من حيث العمل:
أ: ما يعمل عمل "كان" مطلقا: 1: كان 2: أصبح 3: أضحى 4: ظل 5: أمسى 6: بات 7: صار 8: ليس.
ب: ما يعمل عمل "كان" بشرط أن يتقدمه نفى أو نهى أو دعاء: ما، لا، لم، وهى: 9: زال 10: برح 11: فتئ 12: انفكّ.
ج: فعل يعمل عمل "كان" بشرط تقدم ما المصدرية الظرفية: (وهو "دام") 13: ما دام.
كما أنها تختلف من حيث تصرفها من عدمه:
أ: أفعال لا تتصرف: 1: ليس 2: دام.
ب: أفعال تصرفها ناقص: 3: زال 4: فتئ 5: برح 6: انفكّ (لا يُستعمل منها أمر ولا مصدر).
ج: أفعال تصرفها تام: وهى باقى الأفعال.
وقبل أن نطرح على هذه الأفعال تلك الأسئلة التى تصدَّر بعضها هذا الفصل، نقرأ هذه الجمل:
كان العبء ثقيلا.
كان ثقيلا العبء.
العبء كان ثقيلا.
العبء ثقيلا كان.
ثقيلا كان العبء.
ثقيلا العبء كان.
ونلاحظ أوُلا أن هذه التنويعات كلها صحيحة ومستعملة فى اللغة العربية، لأغراض بلاغية أو عروضية أو لمجرد التلاعب بالألفاظ فى سياق يستدعيه.
والمسند إليه (الفاعل) فى كل هذه الأحوال هو "العبء" أما المسند (الخبر) فهو فى كل الأحوال أيضا "كان ثقيلا". وليس هناك شرط من أى نوع (اللهم إلا فى مزاعم النحاة) يحتم أن يتقدم فعل "كان" المسند إليه أو يليه.
وفى كل الأحوال لم ينسخ فعل "كان" شيئا على الإطلاق. و"العبء" ليس اسم "كان" بل هو فاعل "كان". و"ثقيلا" ليس خبر "كان" بل هو منصوب لأن فعل "كان" تم إسناده إلى "العبء" قبله أو بعده (مباشرة أو حتى فى وجود لفظة تفصل بينهما: "ثقيلا" كما فى بعض الجمل السابقة)، و"ثقيلا" متمم للمسند إليه (مع الأفعال الرابطة، والحقيقة أن الأفعال التى تعمل عمل "كان" أوسع عددا فى المعجم من هذا العدد الضئيل الذى يذكره النحاة)، وهذا المتمم للمسند إليه منصوب ولا يكون مرفوعا إلا عند حذف "كان" فى المضارع المثبَت، كما سبق القول.
ومن الجلى أن قاعدة إلغاء اسم وخبر "كان" ليحلّ محلهما المسند إليه (الفاعل) والمسند (وهذا الأخير أى المسند "الخبر" يتركب من: الفعل "كان" + متمم المسند إليه "المنصوب") تنطبق على كل أخوات "كان"، ولا ينفرد فعل "كان" بينها إلا بقاعدة متمم المسند (خبر المبتدأ أو خبر "إن وأخواتها" فى النحو العربى التقليدى) فى حالة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبَت.
فهل يجوز أن نقول، بعد كل هذا، إن فعل "كان" .. "لا يرفع فاعلا ولا ينصب مفعولا" (كما يردد الأستاذ عباس حسن وغيره قول النحاة القدماء أو النحو القديم)؟
بالعكس، "فالعبء" مرفوع لأنه فاعل (ويقول النحاة تشبيها بالفاعل!) و"ثقيلا" منصوب (ويقول النحاة تشبيها بالمفعول به!).
ونقرأ أيضا هاتين الجملتين (ونكتفى بهما اختصارا بدلا من التنويعات والبدائل الممكنة):
كان التلميذ يذاكر.
التلميذ كان يذاكر.
"فالتلميذ" هو المسند إليه (الفاعل) أما المسند (الخبر) فهو "كان يذاكر". و"التلميذ" مرفوع لأنه الفاعل، و"يذاكر" فعْل، فلا علاقة برفعه أو نصبه أو جزمه بفكرة نصب متمم الفاعل (المسند إليه) وكذلك متمم المفعول به (المباشر) بعد "كان وأخواتها"، أما القول بأن "يذاكر" فى محل نصب فإنه يتوقف على الموقف مما يُسمَّى بالإعراب المحلى ككل، وهذا أمر سنناقشه فى المكان الملائم.
إذن لا جملة اسمية (ولا فعلية)، ولا مبتدأ، ولا خبر، ولا اسم "كان"، ولا خبر "كان"، ولا نسْخ من أى نوع، بل نحن إزاء الفاعل المرفوع لفعل "كان" أو "أخواتها"، وإزاء نصب متمم الفاعل (المسند إليه) بعد تصريف أفعال "كان وأخواتها" معه. فلا ينبغى إذن أن نسمى "التلميذ" اسم "كان" أو "يذاكر" خبر "كان"، فالحقيقة أن "التلميذ" و "يذاكر"، على الترتيب، الفاعل (المرفوع) لهذا الفعل ومتمم الفاعل (المسند إليه) وهو منصوب فى بعض أشكال تحقيق هذا المتمم (شكل اللفظة المعربة المفردة التى قد يتبعها النعت أو المضاف إليه، إلخ.) وفى "محل النصب" فى حالة إقرار الإعراب المحلى، ولا يكون مرفوعا إلا فى حالة حذف فعل الكينونة بالذات فى المضارع المثبَت بالذات.
وهناك، كما نعلم، حروف تعمل عمل "كان" وبالأحرى عمل "ليس"، وهى "النافيات المشبهات بليس": 1: ما 2: لا 3: إنْ 4: لاتَ ، ومن أحكامها:
1: "ما": لا تعمل فى لغة بنى تميم وتعمل بشروط فى لغة أهل الحجاز.
2: "لا": لا تعمل فى لغة بنى تميم وتعمل بشروط فى لغة أهل الحجاز.
3: "إنْ": لا تعمل فى مذهب البصريين وتعمل فى مذهب الكوفيين.
4: "لاتَ": مذهب الجمهور أنها تعمل عمل "ليس" فى لفظ "الحين" عند بعضهم، وكذلك فيما رادفها كالساعة وغيرها أيضا عند بعضهم الآخر.
ولنقرأْ الأمثلة التالية أوّلا بافتراض عمل هذه الحروف:
1: "ما": ما زيدٌ قائمًا.
"ما هذا بشرًا" .
ما الشجاعُ خوّافًا.
2: "لا": لا رجلٌ غائبًا.
لا طائرٌ موجودًا.
3: "إنْ": إنْ المرءُ ميتًا.
إنْ هو مستوليًا على أحد إلا على أضعف المجانين.
4: "لاتَ": "ولاتَ حينَ مناصٍ" .
ولاتَ ساعةَ مندمٍ.
وإذا نحن قرأنا أمثلة "ما"، و"لا"، "إنْ"، بدون إعمالها، فلن تكون أمامنا فى كل حالة (على سبيل المثال: "ما زيدٌ قائمٌ") سوى جملة تتكون من المسند إليه (المرفوع) والمسند (الخبر) الذى سقط منه فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبَت، فهو مرفوع "عمليا" رفعا عشوائيا باعتباره ما يسمى بالخبر المفرد لغياب العامل اللفظى المباشر للنصب وهو فعل "كان" المحذوف: "ما الشجاعُ خوافٌ"، "لا رجلٌ غاضبٌ"، "إنْ المرءُ ميتٌ". أما إعمال هذه الحروف فقد "فاجأنا" ببقاء النصب رغم حذف الناصب وهو فعل "كان".
أما إذا أردنا الماضى أو المستقبل فلا مناص من ظهور فعل الكينونة ولا مناص من نصب متمم الفاعل؛ مثلا:
ما كان الشجاعُ خوّافًا.
لا رجلٌ كان غاضبًا.
وليس لكل هذا معنى سوى أننا لسنا إزاء عمل أو عدم عمل "ما"، أو "لا"، أو "إنْ" النافيات بل إزاء عمل أو عدم عمل فعل "كان"، إلا أن المفاجأة كانت (بالقياس إلى ما يسمى بخبر المبتدأ وخبر "كان وأخواتها") بقاء النصب رغم حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبَت فى حالة ما يسمى بإعمال هذه الحروف مع أن الرفع العشوائى هو القاعدة كما سبق أن رأينا، وهذا الرفع العشوائى هو الذى نلقاه فى الحالة المسماة بعدم إعمال "ما" و"لا" كما هو منسوب إلى لغة بنى تميم وعدم إعمال "إنْ" كما هو منسوب إلى مذهب البصريين.
والاستنتاج العام فيما يتعلق بهذه الأحرف الثلاثة هو أنها لا تعمل عمل "كان" لا فى لغة بنى تميم ولا فى لغة أهل الحجاز، وكل ما يميز هذه الأحرف هو أن حذف فعل "كان" معها فى المضارع المثبَت يؤدى كعادته إلى الرفع العشوائى لمتمم الفاعل عند قوم أو مذهب، ولا يؤدى إلى ذلك بل يجعل النصب قائما بشروط رغم الحذف عند قوم أو مذهب. وقد لاحظنا من قبل أن نفى الجملة التى تشتمل على مسند مرفوع عشوائيا يُظهر فعل الكينونة مهما كان الزمن الذى ننفى فيه. فالجملة: "الكتابُ مفتوحٌ" يمكن نفيها فى عدة أزمنة بصيغ منها: "لم يكن الكتابُ مفتوحًا"، "لن يكون الكتابُ مفتوحًا"، "لا يكون الكتابُ مفتوحًا"؛ وهنا، أى فى حالة النفى وظهور فعل الكينونة بالتالى يكون ما يسمى بالخبر المفرد (أى: "متمم الفاعل") منصوبا. فلعلنا نلاحظ أن نصب هذه الأحرف "النافيات المشبهات بليس" إنما أتى مع النفى أيضا فى هذه الحالة المفاجئة (حالة النصب رغم حذف فعل الكينونة) فكأن حذف فعل الكينونة اقتصادًا رغم النفى كان المبرر الموضوعى فى لغة قوم، أو المبرر الوضعى فى مذهب نحوى، لإعمال "كان"، فتصوَّر النحاة أن ما جرى إعماله هو هذه "النافيات" وليس "كان".
والدليل على أن هذه الحروف "النافيات المشبهات بليس" لا تعمل عمل "كان" (أو عمل "ليس" إلا من حيث النفى) هو الحاجة إلى ماضى ومستقبل فعل الكينونة لتغيير الزمن، بالإضافة إلى أن إدخال مضارع "كان" لا يتناقض مع وجود هذه الحروف، الأمر الذى يتسق مع كل نفى لمثل هذه الجمل محذوفة الكينونة، والمنطق وراء هذا الحذف هو الاقتصاد اللغوى فى أسلوب خاص يستند إلى منتهى الإيجاز.
أما "لاتَ" فهى: "حرف نفى بمعنى ليس، مختص بالوقت" ، وهى (وفقا للمعجم الوسيط): "كلمة معناها [ليس]، تقع على لفظ الحين خاصة عند سيبويه، فتنصبه. وهى تعمل عمل ليس، ولكن لا يُذكر بعدها إلا أحد المعمولين. والغالب أن يكون المحذوف هو المرفوع" ، وهى (وفقا للمعجم الوسيط أيضا): "أداة نفى. وهى عند جمهور النحاة كلمتان: لا النافية والتاء لتأنيث اللفظ، تعمل عمل ‘ليس‘ وفى الأزمان غالبا، ولا يُذكر بعدها إلا أحد المعمولين. والغالب أن يكون المحذوف اسمها" ، وتختص "لات" إذن: "بأنها لا يُذكر معها الاسم والخبر معًا" ، فنلقى فى: "ولاتَ حينَ مناصٍ" تقدير حذف الاسم وبقاء الخبر، فيكون التقدير: "ولاتَ الحينُ حينَ مناصٍ"، فالحينُ "اسم لاتَ" مرفوع وحينَ "خبر لاتَ" منصوب. أى أن "لات" هى "ليس" ذاتها مع خصوصية حذف "اسمها" فهى إذن أخت من أخوات "كان" ومن هنا تختلف تماما عن النافيات الأخرى "المشبهات بليس".
ويشتمل ما يسمى بخبر أفعال المقاربة والرجاء والشروع على فعل مضارع، وعندهم أن هذه الأفعال لا ترفع فاعلا ولا تنصب مفعولا، بل تنسخ المبتدأ فترفعه اسمًا لها وتنسخ خبر المبتدأ فتجعله خبرا لها فى "محل نصب" لأنه فعل مضارع.
وتدلّ أفعال المقاربة على قرب وقوع المسند، وهى: 1: كادَ 2: كَرَبَ 3: أوشكَ (ويكون المضارع مسبوقا "بأنْ" المصدرية مع "أوشك" وغير مسبوق بها مع "كادَ" و"كَرَبَ").
وتدلّ أفعال الرجاء على رجاء ("تَمَنِّى”) وقوع المسند، وهى: 1: عَسَى 2: حَرَى 3: اخلولق (ويكون المضارع مسبوقا "بأنْ" المصدرية معها جميعا).
وتدلّ أفعال الشروع على البدء فى حدوث المسند، وأشهر هذه الأفعال: 1: شرع 2: أنشأ 3: طَفِقَ 4: أخذ 5: عَلِقَ 6: جعل 7: قام 8: هبَّ (لا يكون المضارع مسبوقا معها "بأنْ" المصدرية).
ونقرأ قليلا من الجمل:
1: الرجال كادوا يبكون.
2: الرجال أوشكوا أن يبكوا.
3: الرجال عسى أن يصمدوا.
4: الرجال أخذوا يضحكون.
وفى الجملة (1) تم تصريف الفعلين "كادوا" و"يبكون" مع فاعلهما أى: الرجال، والمسند هو: "كادوا يبكون". وينطبق الشيء نفسه على الجملة (4). وعبارة "أوشكوا أن يبكوا" هى المسند فى الجملة (2)، وقد تم تصريف الفعلين "أوشكوا" وأن "يبكوا" مع فاعلهما أى: الرجال. وتختلف الجملة (3) فى أنه فيما يتعلق بفعلى "عَسَى" وأن "يصمدوا" فى عبارة المسند "عَسَى أن يصمدوا"، تم تصريف "يصمدوا" مع المسند إليه (الفاعل) أى: الرجال، أما "عَسَى" فهو غير متصرف سواء جاء قبل الفاعل أو قبل المصدر المؤول، أى: "أن يصمدوا".
والأفعال المستعملة مع أفعال المقاربة والرجاء والشروع تنحصر فى المضارع، مثلا: "كاد الجو يعتدل"، أو: "لم يكد الجو يعتدل"، والمصدر المؤول (فى صورة: أنْ + المضارع)، مثلا: "أوشك الجو أن يعتدل"، أو: "عَسَى الجو أن يعتدل". والمسند فى كل هذه الجمل خارج الإعراب ككل مسند. أما الإعراب الداخلى لمكونات المسند فإننا نكتفى هنا بالإشارة إلى أن هذا البحث لا يركز على إعراب الفعل، وقد نقف مع ذلك فى مكان ملائم عند مثل هذه التركيبات الفعلية.
ومهما يكن من شيء فإننا لسنا إزاء جملة اسمية، أو مبتدأ، أو خبر، أو نسخ من أى نوع، بل نحن إزاء الفعل والفاعل المرفوع، أما المسند (الخبر) فهو يتكون من فعلين يسبقان المسند إليه، أو يليانه، أو يضعانه بينهما، وهو خارج الإعراب كما ينبغى للمسند أن يكون فلم يحدث له نسخ أو تغيير. ولا مبرر إذن لتسمية المسند إليه (الفاعل) مع أفعال المقاربة أو الرجاء أو الشروع اسما لهذه الأفعال ولا لتسمية الفعل الآخر المصرَّف مع هذه الأفعال خبرا لنواسخ الابتداء المزعومة هذه. والحقيقة أن هذه الأفعال إنما هى أفعال تسبق أفعالا preverbs فتضيف إليها معانى اقتراب أو وشوك أو تمنِّى أو ترجِّى أو بدء حدوثها؛ ومن الصعوبة بمكان اعتبارها نواسخ.
وقبل أن نتناول ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر من الحروف، أى الحروف المسماة بالناسخة، من الأفضل أن نواصل هنا مناقشة بقية الأفعال المسماة بالناسخة، ونعنى أفعال "ظن وأخواتها". وهذه المجموعة الأخيرة من الأفعال وثيقة الصلة بمجموعتين أخريَيْن من الأفعال. مجموعة أفعال "أعطى وأخواتها"، ومجموعة أفعال "أعلمَ وأرى وأخواتهما". ويمكن تلخيص هذه الصلة فى أن هناك أفعالا تتعدى إلى مفعوليْن ditransitive verbs (بالإنجليزية)، وهى موجودة فى كل اللغات، ويمكن أن نقول فى لغة إعراب كاللغة العربية إن هذه الأفعال "تنصب مفعوليْن". وأفعال "أعطى وأخواتها" هى التى تأخذ أو تنصب مفعوليْن، وأحد هذين المفعولين مفعول مباشر والآخر مفعول غير مباشر وتعريفه هو أنه متلقِّى أو مستلم أو مستقبِل أو recipient (بالإنجليزية) المفعول المباشر. ففى جملة: "أعطى الأستاذُ التلميذَ كتابًا": المفعول به المباشر هو "كتابًا"، ومتلقيه، أى: المفعول به غير المباشر، هو "التلميذَ". ولأن النحاة توهموا أن أفعال "ظن وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن أصلهما المبتدأ والخبر، لأنها تدخل على الجملة الاسمية فى اعتقادهم فتعمل هذا العمل، فقد ميزوها من أفعال "أعطى وأخواتها" أو هذه من تلك بالقول بأن أفعال "أعطى وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن ليس أصلهما المبتدأ والخبر. مع أن الفارق الحقيقى كما سنرى بعد قليل هو أن "أعطى وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن (فى مختلف اللغات وليس فى اللغة العربية وحدها)، على حين أن أفعال "ظن وأخواتها" لا تأخذ أو تنصب مفعوليْن، وصحيح أن لها منصوبيْن غير أن أحدهما مفعول به والآخر شيء آخر لا يُعقل أن يكون مفعولا به بل هو متمم المفعول به (المباشر). أما أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" فإنها ترتبط بأفعال "ظن وأخواتها" لاعتقاد النحاة أن تعدية بعض أفعال "ظن وأخواتها" (المتعدية أصلا إلى مفعوليْن كما زعموا) بالهمز أو التضعيف تعطينا أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" المسماة بالمتعدية إلى ثلاثة مفاعيل. والحقيقة أن هذه المجموعة الأخيرة من الأفعال، شأنها فى هذا شأن أفعال "أعطى وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعوليْن لا ثالث لهما. أما المنصوب الثالث الذى يظهر معها فإنه ليس سوى متمم المفعول به المباشر.
وأفعال "أعطى وأخواتها" هى: 1: أعطى 2: سألَ 3: منحَ 4: منعَ 5: كسَا 6: ألبَسَ، وهى، بلغة النحاة، تنصب مفعوليْن ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
وهناك عدة ملاحظات ينبغى أن نكتفى بها فى هذا المجال الذى يضيق بأى توسُّع فى النقاط التى لا تُعَدّ محورية من وجهة نظر هذه المناقشة المحددة.
وأولى هذه الملاحظات هى أن أفعال "أعطى وأعلمَ وأخواتهما" (كما تنبغى التسمية لإزالة الالتباس الحالى) أىْ: الأفعال التى تتعدى إلى مفعوليْن، تصل إلى عشرات الأفعال فلا تقتصر أبدا على ستة أفعال فى مجموعة "أعطى" وسبعة أفعال فى مجموعة "أعلمَ"، والمجموعتان هما فى الحقيقة مجموعة واحدة وحيدة من حيث التعدى إلى (أو: أخْذ، أو نصْب) مفعولين.
والملاحظة الثانية هى أن ما يجعل هذه الأفعال قابلة للتعدى إلى مفعوليْن هو معناها الذى يفترض مفعولا به غير مباشر تلقَّى مفعولا به مباشرا (والمعنى مشترك بين كافة اللغات، ذلك أن المحسن يعطى "السائلَ" "مالا" مهما كانت اللغة).
والملاحظة الثالثة هى أن هذه الأفعال قابلة للاستعمال بأخذ مفعول واحد (حسب نموذج واحد للجملة) وبأخذ مفعوليْن (حسب نموذج آخر للجملة). ويصدق هذا على مجموعتى "أعطى" و"أعلمَ" فهما كما قلنا مجموعة واحدة. وهناك بطبيعة الحال حقيقة أن عشرات الآلاف من الأفعال التى تتعدى إلى مفعول واحد - وتسمى بالإنجليزية monotransitive verbs - يمكن استعمالها لازمة، أى بدون مفعول به صريح أو حتى محذوف، مع تغيير دلالة الفعل بطبيعة الحال، وعلى سبيل المثال يمكنك أن تستعمل الفعل "يأكل" متعديا: "أكل الضيوف الوجبة" ولكنك تستطيع أن تستعمله لازما فتقول: "الإنسان يأكل"، بمعنى أن هذا الفعل من خصائص وسجايا الإنسان. وكذلك يمكن استعمال الفعل المتعدى إلى مفعوليْن متعديا إلى مفعول واحد وحتى لازما أى: بدون مفعول به.
والملاحظة الرابعة هى أن التركيز على الإعراب هو الذى جعلهم يتحدثون عن "نصب مفعوليْن". والواقع أن النحو أوسع من الإعراب، ويتحقق المفعول به بأشكال منها التعدى بالنصب المباشر ومنها التعدى بحرف الجر (المفعول به المجرور)، وبأشكال منها ما يستدعى عندهم فكرة الإعراب المحلى. وينبغى أن نتعرف على المفعول به غير المباشر فى مختلف الأشكال الممكنة بما فى ذلك شكل المفعول به المجرور.
والملاحظة الخامسة، وهى التى ينبغى أن ننتقل إلى مناقشة تفاصيلها، تتمثل فى أن أفعال "ظن وأخواتها" تنتمى إلى عشرات الآلاف من الأفعال التى تتعدى إلى مفعول به واحد، غير أنها قابلة مثل أفعال كثيرة أخرى منها مجموعة "أعطى" و"أعلمَ" لاستعمال متمم المفعول به المباشر، وهذا الأخير هو ما ظنه النحاة القدامى واللاحقون (بالتبعية) مفعولا به ثانيا فى حالة مجموعة "ظن وأخواتها"، ومفعولا به ثالثا فى حالة مجموعة "أعلمَ وأخواتها"، ولم يتصوروا وروده "منصوبا ثالثا" مع مجموعة "أعطى وأخواتها" (مثلا: أعطى الأستاذُ التلميذَ الكتابَ جديدًا)، أو مع أفعال أخرى من غير هذه الأفعال التى ذكروها فى مجموعات "الأخوات".
على أن كون الأفعال لازمة أو متعدية إلى مفعول أو مفعوليْن (مع قبولها للاستعمال لازمة) أو كونها قابلة "للمنصوب" الذى نسميه متمم المفعول به المباشر (كعنصر إجبارى فى جملة نموذج "ظن")، أو متمم المفعول به المباشر (كعنصر إجبارى فى حالة استعمال هذا المتمم فى أحد أشكال نموذج "أعطى" و"أعلمَ") لا يُلغى تصنيفات للأفعال لا حصر لها يمكن وينبغى إجراؤها من نواح عديدة منها ما هو دلالى ومنها ما هو نحوى. وعلى سبيل المثال فإن ضم الأفعال المسماة بالناسخة، بكل أنواعها، إلى بقية الأفعال جميعا، من حيث أن لكل فعل منها فاعلا، لا يعنى عدم تصنيف الأفعال من حيث قبولها دائما أو فى دلالات بالذات للاستعمال فى نماذج بذاتها للجمل.
ومن هذه التصنيفات قبول أفعال "كان وأخواتها" (وهى أكثر من 13 فعلا يذكرها النحاة) لنموذج الجملة يقتضى الفعل والفاعل ومتمم الفاعل(مهما كان شكل تحقيق هذا الأخير)، ولنموذج آخر للجملة يقتضى الفعل والفاعل والظرف (مهما كان شكل تحقيق هذا الأخير أيضا)، وهذان التصنيفان يقومان على عناصر إجبارية فى كل نموذج من نموذجى الجملة المذكوريْن. ومن هذه التصنيفات نموذج جملة: الفعل والفاعل والمفعول (وهذا ينطبق على كل فعل متعدٍّ يُستعمل مع مفعول واحد حتى إنْ كان قابلا للتعدى إلى مفعوليْن)، ونموذج جملة: الفعل والفاعل والمفعول به ومتمم المفعول به (وهذا ينطبق على كل فعل مستخدم مع مفعول واحد، مثل: "ظننتُ الخبرَ يقيناً"، أو "أعطيتُ الكتابَ جديدا"، أو "أعلمتُ الخبر يقينا"، وفى كل من الجملتين الأخيرتين فعل يتعدى إلى مفعولين غير أنه مستخدم هنا مع مفعول واحد مع متممه). وهناك بالطبع نماذج أخرى؛ نموذج: الفعل والفاعل والمفعول غير المباشر والمفعول المباشر، ونموذج: الفعل والفاعل والمفعول غير المباشر والمفعول المباشر مع متممه، ونموذج: الفعل اللازم او المستعمل لازما وهو لا يقتضى سوى الفعل والفاعل. وإذا كانت تلك النماذج تشتمل على عناصر إجبارية (أى ضرورية للنموذج من حيث هو نموذج مهما كان مدى قبول الفعل الواحد للاستعمال فى عدة نماذج للجمل)، فهناك عناصر جملة اختيارية قابلة للاستعمال (دون تغيير خصائص النموذج) مع أى نموذج من النماذج المذكورة.
وتنقسم أفعال "ظن وأخواتها" وهى من الأفعال المسماة بالناسخة للابتداء إلى قسمين:
1. أفعال القلوب.
2. أفعال التحويل أو التصيير.
وتنقسم أفعال القلوب إلى قسمين:
أ. ما يدل على اليقين: 1. رأى (وقد تُستعمل للظن) 2. عَلِم 3. وجد 4. دَرَى 5. تَعَلمْ (وهى التى بمعنى اعلمْ).
ب. ما يدل على الرجحان: 1. خالَ (وقد تستعمل لليقين) 2. ظن (وقد تستعمل لليقين) 3. حسب 4. زعم 5. عَدّ 6. حَجا 7. جعل (الذى كاعتقد وليس بمعنى صيّر من أفعال التحويل أو التصيير) 8. هَبْ.
وأفعال التحويل أو التصيير هى:
1. صيَّر 2. جعل 3. وهب 4. تخذ 5. اتخذ 6. ترك 7. ردّ.
فهل تنصب هذه الأفعال المسماة بالناسخة مفعولين (أصلهما المبتدأ والخبر) حقا؟ ولنضع مسألة الجملة الاسمية والمبتدأ والخبر جانبا. فأين المفعولان؟ الحقيقة أن هذه الأفعال لا تنصب مفعولين بحكم بداهة أنه يتم استعمالها مع "منصوبين" يصلحان كمسند إليه ومسند. فالمفعولان لفعل واحد إنما يكون أحدهما مفعولا مباشرا ويكون الآخر مفعولا غير مباشر، أى متلقيا لهذا المفعول المباشر (مثلا: أعطى المدرسُ التلميذَ كتاباً)، وهذا لا يصلح مع المسند إليه والمسند. وإذا قلنا: "الهرم عريق" فلا مجال لتصور أن يتلقى المسند إليه "الهرم" المسند "العريق"، أو العريق الهرم، ولهذا لا يصح أن نقول: "أعطيت الهرمَ العريقَ"، كما أننا لا يصح أن نقول "أعطيتُ التلميذَ يذاكر"، فالحقيقة أن "التلميذ" (المسند إليه فى الجملة الاسمية الأصلية المفترضة) و"يذاكر" (المسند فى الجملة الأصلية ذاتها) لا يبدو أحدهما ملائما لتلقى الآخر.
ولنأخذ بعض أمثلة نصب أفعال "ظن وأخواتها" لمفعولين من كتاب "تجديد النحو" للدكتور شوقى ضيف، الرئيس السابق لمجمع اللغة العربية بالقاهرة:
1. رأى عمرو (السماءَ ممطرةً).
2. حسب زيد (الشمسَ طالعةً).
3. جعل على (زيداً متفوقاً).
4. ظن خالد (الجوَّ حارًّا).
5. رأيتُ (عمرًا يقرأ).
6. حسبت (خالداً يحاضرُ) .
فالمنصوبان الموضوعان بين قوسين فى كل من الأمثلة من 1 إلى 4، وكذلك المنصوب والفعل بعده ( فى "محل" نصب) والموضوعان بين قوسين فى كل من المثالين 5، 6، يرى النحو العربى أنهما مفعولان لأفعال "ظن وأخواتها". ويمكن للقارئ أن يتأكد من أقل تدقيق، من أن المنصوب الأول مفعول به دون شك، ومن أن المنصوب الثانى لا يمكن أن يكون مفعولا به بحال من الأحوال، فإنما هو فى الحقيقة متمم للمفعول به، فالألفاظ المنصوبة "ممطرةً"، و"طالعةً"، و"متفوقاً"، و"حارًّا"، إنما هى أوصاف متممة للمفعول به. فالجملة الأولى لا تريد الاكتفاء بمعنى أن عمرا رأى السماء، بل تريد بالذات معنى أنه رآها ممطرة، وهكذا فى الباقى، وهذا ينطبق بوجه عام على الفعلين "يقرأ" و"يحاضر".
بل يذهب هذا النحو إلى حد اعتبار أن: "أن" واسمها وخبرها "سدت مسد مفعولى ظن وعلم وأخواتهما" فى جملة "ظننتُ أنَّ زيداً مسافرٌ" ، مع أن من الجلى أن "المجموعة الجُمْلية": "أنَّ زيداً مسافرٌ" مفعول به واحد، ذلك أن "سفر زيد" هو بالضبط ما ظنه المتكلم، بغض النظر عن الإعراب الداخلى "للمجموعة الجُمْلية"، وهى خالية على كل حال من أى مفعول به من أى نوع.
لسنا إذن إزاء مفعولين لأفعال "ظن وأخواتها"، كما يزعم النحو العربى، الذى لم ينتبه إلى أن ما يسميهما "المبتدأ والخبر" لا يصلحان مفعولين لفعل واحد فى الجملة، كما لم ينتبه إلى أن أفعال "أعطى وأخواتها" التى تأخذ مفعولين (لا شك فى أنهما كذلك) تحتاج إلى مفعولين ليس أصلهما "المبتدأ والخبر" بالذات، لأن هذين لا يصلحان مفعولين، لأن "المبتدأ" لا يصلح متلقيًا "للخبر"، ولا الثانى للأول، وهذا شرط تعدى الفعل الواحد (عن غير طريق العطف) إلى مفعولين، ليس فى اللغة العربية بل فى مختلف اللغات.
ويتمثل فى أحكام النحو العربى بشأن "أعلم وأرى وأخواتهما" خطأ لا يقل فداحة عن اعتبار منصوبى "ظن وأخواتها" مفعولين فى النحو العربى. فقد ظن النحو العربى أولا أن "المبتدأ والخبر" يصلحان مفعولين لأفعال "ظن وأخواتها"، ثم ظن أن بعض هذه الأفعال قابلة للمزيد من التعدية بالهمز أو التضعيف لهذا المتعدى المزعوم إلى مفعولين، ثم ظن أنه إزاء أفعال تتعدى بالتالى إلى ثلاثة مفاعيل، رغم أن هذه الأفعال وهى "أعلم وأرى وأخواتهما" (وهى: 1. أرى 2. أعلم 3. أنبأ 4. نبّأ 5. أخبر 6. خبّر 7. حدّث) "تنصب مفعولين" تماما مثل أفعال "أعطى وأخواتهما"، أما المنصوب الثالث فليس سوى متمم المفعول به المباشر مع مجموعة "أعلم" تماما كما مع مجموعة "أعطى".
والاستنتاجات التى نخرج بها من التحليل السابق لما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر من الأفعال يمكن إيجازها فيما يلى (مع إلغاء اعتبارها أفعالا ناسخة):
1: أفعال "كان وأخواتها" لها فاعل كباقى الأفعال ولا ينبغى أن يسمى "اسم كان"، أما ما يسمى "خبر كان" (وهو فى النحو العربى التقليدى كخبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها": مفرد، أو جملة اسمية، أو جملة فعلية، أو شبه جملة) فهو إما متمم للفاعل (صفة أو اسم أو جار ومجرور فى غير معنى الظرف أو أى شكل يتحقق به متمم الفاعل)، وإما ظرف (ومنه الجار والمجرور الدالان على الظرف). فهذه الأفعال تقدم إذن (بعد توسيع عددها وتدقيق دلالاتها) نموذجين للجملة، كما سبق القول، وهما نموذج: فعل + فاعل + متمم الفاعل؛ ونموذج: فعل + فاعل + الظرف.
2: أفعال "ظن وأخواتها" تتعدى إلى مفعول واحد وليس إلى مفعولين، أما "المنصوب" الثانى فهو عند استعماله متممٌ للمفعول به. وهكذا يمكن استخدام هذه الأفعال مثل بقية الأفعال المتعدية إلى مفعول واحد، وحتى لازمة مثلها جميعا. فهى قابلة إذن للاستعمال فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى لمفعول + الفاعل + المفعول به، وفى نموذج الجملة: الفعل اللازم + الفاعل، غير أن النموذج الأمثل والأكثر شيوعا وتمييزا لهذه الأفعال هو نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعول + الفاعل + المفعول به + متمم المفعول به.
3: أفعال "أعطى وأخواتها" تتعدى إلى مفعولين وهى قابلة طبعا للاستعمال لازمة فى نموذج الجملة: الفعل اللازم + الفاعل، ومتعدية إلى مفعول واحد فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعول واحد + الفاعل + المفعول به، أو فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعول واحد + الفاعل + المفعول به + متمم المفعول به، ومتعدية إلى مفعولين فى نموذج الجملة: الفعل المتعدى إلى مفعولين + الفاعل + المفعول به غير المباشر + المفعول به المباشر، وكذلك فى نموذج الجملة الذى يضيف إلى هذه العناصر عنصر: متمم المفعول به المباشر.
4: أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما"، بكل خصوصياتهما الدلالية (المرتبطة بأفعال "ظن وأخواتها") جزء من أفعال "أعطى وأخواتها"، فهى جميعا، ويضم المعجم العربى عشرات منها وليس القليل الذى يذكره النحاة، أفعال تتعدى إلى مفعولين.
لقد توقفنا فى سياق هذا الفصل عند نماذج شتى للجملة العربية، فبالإضافة إلى المسند إليه (الفاعل) والفعل (مسند الحد الأدنى) واللذين لا تخلو منهما جملة، فهما الحد الأدنى للجملة، هناك عناصر إجبارية لا تقوم بدونها قائمة للجملة فى نماذج شتى منها. وإذا كان النحو العربى قد جعل من المسند إليه "عُمْدَة" ومن المسند "عُمْدَة"، بمعنى أن الجملة لا تستغنى عنهما، وإذا كان قد اعتبر المكونات الأخرى للجملة "فَضْلة" يمكن الاستغناء عنها أو التكملة بها، وإذا كان النحو الفرنسى التقليدى قد سمى تلك المكونات بدوره تكملات أو مكملات، فإن نماذج الجملة التى تجعل عناصر بذاتها إجبارية فى نموذج بذاته من حيث هو نموذج تجعل من الضرورى إلغاء مفاهيم العمدة والفضلة والتكملة (وهذه الكلمة الأخيرة هى التى استعارها مجمع اللغة العربية بالقاهرة من النحو الفرنسى التقليدى فى محاولته الكبرى مع وزارة المعارف لتيسير النحو، وهى المحاولة التى انتهت إلى الفشل الذريع للسبب المزدوج المتمثل فى نقاط ضعف المحاولة من داخلها وفى قوة أعدائها من خارجها، وقد ألصق أعضاء لجنة التيسير كلمة التكملة بالكثير من المفاهيم النحوية وذلك بحكم الثقافة الفرنسية لبعضهم وللدكتور طه حسين بالذات، ويبدو أن كلمة التكملة تتشبث بمكانها بعناد حتى فى أحدث ما أخرجته المطابع الفرنسية فى التسعينات حتى بالنسبة للمفعول به الذى لا يزالون يلصقون به كلمة التكملة).
ومهما يكن من شيء فإن علينا أن ننتقل إلى الحروف المسماة بالناسخة: "إن وأخواتها" و"لا النافية للجنس".
***
أودّ أن أضيف هنا بعض الملاحظات بشأن أعداد بعض أنواع الأفعال التى ناقشناها فى هذا الفصل فى علاقاتها الوثيقة بنماذج بعينها للجمل. وأعتقد أن من شأن دراسة موسَّعة للأفعال العربية أن توضح، بين أشياء أخرى، حقيقة أن أعداد هذه الأفعال أكثر كثيرا مما يُعتقد.
أفعال "كان وأخواتها" أو الأفعال الرابطة: وهى: 1: كان 2: أصبح 3: أضحى 4: ظل 5: أمسى 6: بات (وهى أفعال التوقيت بزمن) 7: زال 8: برح 9: فتئ 10: انفكّ (مسبوقة بـ ما / لا / لم وهى أفعال الاستمرار) 11: صار (فعل الصيرورة أو التحول) 12: ليس (فعل النفى) 13: دام (مسبوقا بـ ما وهو فعل الدوام أو بيان المدة).
ويضيف معجم الدقر ، ومعجم الدحداح ، اثنىْ عشر فعلا بمعنى الصيرورة: 1: آض 2: ارتدّ 3: استحال 4: انقلب 5: تبدَّل 6: تحوَّل 7: حار 8: راح 9: رجع 10: عاد 11: غدا 12: قعد. وانفرد معجم الدقر بفعل "قعد" فيما انفرد معجم الدحداح بفعليْن هما "انقلب"، و "تبدَّل". ويضيف معجم الدحداح فعلىْ "أقبل" و "عَلِق" إلى أفعال الشروع.
وتضيف مراجع أجنبية إلى هذا النوع من الأفعال أفعالا أخرى كثيرة مقاربة لها فى المعنى باعتبارها أفعال الحالة المتغيرة (مثل: صار، زاد، مضى، تحوّل، إلخ) أو أفعال الحالة غير المتغيرة (مثل: بقى، مكث، بدا، ظهر، إلخ) .
وهكذا فإن تحديد متمم المسند إليه (الفاعل) المرتبط بنموذج "كان" للجملة يتوقف على معرفة كاملة بالأفعال التى تُستعمل بهذه المعانى فتطلب المتمم (أو الظرف) كعنصر إجبارى مع الفعل الرابط. ويمكن أن يترتب على هذا اعتبار الكثير مما يُعتبر "حالا" ... "متمما للفاعل" عند توسيع أعداد الفعل الرابط، أما قبل ذلك فلا مناص من أن يحلل الناس أو يُعربوا وفقا للمعانى دون استرشاد كامل بنتائج استقصاء معجمى شامل.
أفعال "ظن وأخواتها": وتتعدى هذه الأفعال إلى مفعول به واحد غير أنها "تطلب" متمم المفعول به المباشر أو الظرف، وهى أفعال القلوب ومنها ما يدل على اليقين: 1: رأى 2: عَلِم 3: وجد 4: درَى 5: تَعَلَّمْ، ومنها ما يدل على الرجحان: 6: ظن 7: حسب 8: زعم، وأفعال التحويل والتصيير: 9: صيَّر 10: جعل 11: وهب 12: تخذ 13: اتَّخذ 14: ترك 15: ردَّ.
ويضيف كتاب القواعد الأساسية إلى أفعال اليقين "أَلْفَى" وإلى أفعال التحويل "حوَّل" . كما يضيف الدكتور شوقى ضيف "أَلْفَى" . ويضيف معجم الدحداح إلى أفعال القلوب أفعالا توافقها فى المعنى وتُلْحَق بها وهى: 1: نظر 2: أبصر 3: تفكَّر 4: سأل ("يسألون أيّان يومُ الدين" ) 5: استنبأ ("ويستنبئونك أَحَقٌّ هو" ).
ويمكن أن يضيف البحث عن هذا النوع من الأفعال فى المعجم العربى على اتساعه بالاستفادة من النحو المقارن المزيد من الأفعال بمعانٍ تتوافق مع هذه المعانى، مثلا: أفعالا بمعنى يعتبر/ ينتخب / يختار / يرشِّح / يُعيِّن / يسمِّى / يتوِّج / يُعلن (شخصا مّا رئيسا / ملكا إلخ)، وكذلك أفعالا بمعنى ظن، مثل: تصوَّر، تخيَّل، توهَّم، وغير ذلك. ويجد القارئ فى المراجع الأجنبية المذكورة منذ قليل قوائم طويلة بأفعال القلوب والتصيير ("ظن وأخواتها").
أفعال "أعطى وأخواتها": وهذه الأفعال التى تتعدى إلى مفعولين هى: 1: أعطى 2: سأل 3: منح 4: منع 5: كسا 6: ألبس، ويضيف الدكتور شوقى ضيف أفعالا أخرى مثل: 1: زوَّد 2: أهدى 3: وهب 4: أطعم 5: سقى ، ويوضح أن المتعدِّى إلى واحد يصير متعديا إلى مفعولين بالهمزة أو تضعيف الحرف الأوسط، مثل: "مَلَكَ" الذى يصير "أَمْلَكَ" أو "مَلَّكَ" .
ويؤكد معجم الدحداح أن أفعال "أعطى" "كثيرة لا يمكن ضبطها"، ويذكر "أكثرها استعمالا" وهى: 1: كسا 2: رزق 3: أطعم 4: سقى 5: زوَّد 6: أسكن 7: أعطى، ويضيف: 1: أنسى 2: حبَّب 3: جزى 4: أنشد 5: استصنع، كما يذكر ضمن أفعال "تنصب" مفعولين يُستعاض فيها عن "المفعول الثانى" بالجار والمجرور، مثل: 1: أمر (أمر الناس خيرا / بالخير) 2: استغفر 3: اختار 4: كنَّى 5: سمَّى 6: دعا 7: صدَّق 8: زوَّج 9: كال . ويضيف تحرير النحو العربى : "علَّم" ("علَّم الإنسان ما لم يعلم" )، و"آتى" ("وآتيناه الحكمة وفصلَ الخطاب" ).
ويمكن دون شك إضافة الكثير من الأفعال، مثل: "أفهم" (أفهمه المسألة بوضوح)، أو "سلب" (سلبه اللصُّ مالَه)، ، "أَدْخَل"َ (أدخله المدرسة عندما بلغ السادسة)، أو "عرَّف" (عرَّفه الخير)، أو نَقَدَ (نقده مالا)، وغيرها وغيرها.
ويقدم النحو المقارن أفعالا كثيرة فى هذا الباب منها الأفعال القليلة التى يشيع إيرادها فيه فى كتب النحو العربى، مثل: "أعطى" give, و "سأل" ask، و "زوَّد" provide، إلخ، ومنها أفعال أخرى كثيرة، ومنها بالمناسبة الأفعال التى نسميها "أعلم وأرى وأخواتهما"، ومنها "أعلم" inform و "أرى" show، كما نجد فى المراجع الإنجليزية المذكورة منذ قليل.
أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما": وهى الأفعال التى يُقال إنها تنصب ثلاثة مفاعيل، وقد أوضحنا أنها "تأخذ" مفعولين فقط، وهى أفعال: 1: أرى 2: أعلم 3: أنبأ 4: نبَّأ 5: أخبر 6: خبَّر 7: حدَّث. ويُقال إن بعض هذه الأفعال تأتى بتعدية أفعال "ظن وأخواتها" المتعدية إلى مفعولين إلى ثلاثة مفاعيل، غير أن هذا يقتصر، فى حدود الأفعال التى يشيع إيرادها فى هذين البابين، على فعليْن اثنين هما "رأى" الذى يصير "أرى" و "عَلِمَ" الذى يصير "أعلمَ". والأهم هو أن أفعال "أعلم" مزدوجة الارتباط بأفعال "ظن" من حيث إنها "تحتاج" مثلها إلى متمم المفعول به المباشر، وبأفعال "أعطى" من حيث إنها "تأخذ" مثلها مفعولين. وهنا مسألة دقيقة: إذا كانت أفعال "أعلم" "تطلب" متمم المفعول به المباشر أو الظرف، فهل ينطبق هذا الشيء ذاته على أفعال "أعطى"؟
ولا شك فى أن الاستقصاء المعجمى عن هذه الأفعال من شأنه أن يوضح ما إذ كان المتمم والظرف يشملان كل أفعال "أعطى" أم لا، غير أن من الواضح أن الكثير من هذه الأفعال تكتمل لها خصائص نموذج أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" من حيث أخذ المتمم والظرف، وعلى سبيل المثال فإن فِعْل "أفهمَ"، الذى لم يقل أحد إنه من أفعال "أعلم" (وإنْ كان على كل حال قريب المعنى من أفعال "ظن" المتعدية إلى مفعول به واحد وأفعال "أعلم" المتعدية إلى مفعولين قبل المتمم فى الحالتين)، قابل للاستعمال مثل نموذج "أعلم"، مثل: "أفهمته الخبر يقينا"، وبالطبع فإن "علَّم" (الذى لا يُذكَر مع "ظن" أو "أعطى" أو "أعلم") هو مثل "أعلم" فى المعنى ويمكن استعماله بالطريقة نفسها.
ومن المحتمل أن يكون الكثير مما يُعتبر "حالا" متمما كما فى نموذج "أعلم"، بشرط أن يكون متمما للمفعول به المباشر فلا يكون مرتبطا بالمفعول به غير المباشر: على سبيل المثال قد يُعتبر "صبيًّا" فى: "وآتيناه الحكم صبيًّا" "حالا"، لأن صاحب الحال أىْ المفعول به غير المباشر هو المقصود بلفظة "صبيًّا" وهو "يحيى" فى الآية، فيما يمكن اعتبار "خالصا" فى مثل: "أعطيناه الحكم خالصا" متمما لأن "الحُكْمَ" أىْ المفعول به المباشر هو المقصود بلفظة "خالصا".
وعلى كل حال فإن هذه المسألة الدقيقة لن يحسمها سوى العمل الدءوب من جهتين: الاستقصاء المعجمى الشامل كأساس للتصنيف الواسع النطاق لأفعال اللغة العربية من جهة، وبحث طبيعة ومفهوم "الحال" واحتمال ردّ الكثير من حالاته إلى الظرف بالذات، واحتمال ردّ كثير منها أيضا إلى نوع من أنواع المتمم، وكل هذا مع التفاعل العميق مع منجزات النحو المقارن. كذلك فإن تطوير بحث اللزوم والتعدى والأفعال المتعددة الكلمات multi-word verbs ، التى تتعدى دون أن "تنصب" بحال من الأحوال، يمكن أن يضيف الكثير إلى فهمنا لهذه الأنواع الخاصة من الأفعال ونماذج الجمل التى ترتبط بها.

6
ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر:
ب: الحروف المسماة بالناسخة

الحروف المسماة بالناسخة، على العكس من الأفعال المسماة بالناسخة، "ناسخة" حقا، ولكنْ بصفة جزئية، وبالأدق فهى "عوامل" نصب للكلمات المعربة التى تليها من غير الفعل.
ويعتبر النحو العربى "إن وأخواتها"، وكذلك "لا النافية للجنس"، حروفًا ناسخة للابتداء، "تدخل" على ما يسمى بالجملة الاسمية فتنصب "المبتدأ" .. "اسما لها" وترفع "الخبر" .. "خبرا لها".
وينبغى أن نضع حكاية الجملة الاسمية والمبتدأ والخبر جانبا، لكن بعد إشارة موجزة. ذلك أن الحرف من حروف "إن وأخواتها" لا يتخذ مكانه بحرية قبل أو بعد المسند إليه، كما تفعل الأفعال المسماة بالناسخة أو غيرها من الأفعال، بل يكون دائما قبله. والمسند إليه يكون اسما أو ضميرا؛ إلخ.. غير أن الاسم المعرب هو الذى يأتى بعد الحرف الناسخ الذى ينسخه ويغيّر إعرابه فينصبه. ويعنى هذا أن ما بعد الحرف الناسخ يبدو جملة بادئة باسم، هو "المبتدأ" فى "الجملة الاسمية". غير أننا رأينا من قبل أن الصواب هو أن نقول إن "التقاط" الحرف للاسم بعده يجرى بصرف النظر عن افتراض أن العبارة "الأصلية" كانت بادئة باسم أو فعل، ففى الحالين سنأخذ الاسم ونضعه بعد الحرف الناسخ ثم نأتى بعد ذلك بما نشاء لأن هذه الحروف لا تتبعها الأفعال مباشرة.
وسواء أكانت الجملة الأصلية المفترضة: "الله يغفر الذنوب" أم "يغفر الله الذنوب"، فلا مناص من القول: "إن الله يغفر الذنوب".
وحروف "إن وأخواتها" تنصب الاسم بعدها. ولابد أن نلاحظ أن هذا الاسم هو المسند إليه فى المجموعة الجُمْلية البادئة بحرف من هذه الحروف، وهى مجموعة جُمْلية دائما لأنها لا تخلو من فِعْل، حتى فى صورة الفعل المضارع المثبت المحذوف لفعل الكينونة. وهكذا فرغم أن "حقه" الرفع كفاعل (مسند إليه) إلا أن الحرف من هذه الحروف ينصبه.
والقاعدة بسيطة للغاية: تمامًا كما يجرّ حرف الجر الاسم بعده، مع إضافة هذا المعنى أو ذاك من معانى حرف بذاته من حروف الجر، تنصب حروف أو أدوات نصب الاسم هذا الاسم الذى يأتى بعد الحرف منها مع إضافة معنى خاص بهذا الحرف أو ذاك من حروف نصب الاسم. مع فارق هام هو أن المجرور قد يكون مسندا إليه، أى يليه مسند إليه، مثل: "مررت برجل يكلم نفسه"، وقد لا يكون مسندا إليه، مثل: "ذهبت الأسرة كلها إلى السينما". أما المنصوب بعد حروف نصب الاسم هذه ("إن وأخواتها") فهو مسند إليه دائما لمجموعة جُمْلية أى تحتوى على فعل "إجبارى”، مع فارق بين "أَنَّ" وبقية هذه الحروف. وليس فى الكلام العربى شيء من قبيل: "نعرف أن الأستاذ" يحسن السكوت عليه، أى: يفيد معنى. أما فى جملة "يعرف التلاميذ أن أستاذهم يشرح الدروس جيدا"، فإن المجموعة الجُمْلية: "أَنَّ أستاذهم يشرح الدروس جيدا" هى المفعول به لفعل "يعرف" وفاعله "التلاميذ".
وهذه "الحروف" التى يمكن أن نسميها أدوات نصب الاسم (ونقصد بالاسم هنا غير الفعل والحرف من أقسام الكلام كنوع من الاقتصاد ولأن النحو العربى لم يبدأ بعد عملية واسعة من إعادة النظر فى أقسام الكلام)، وهى أدوات "إن وأخواتها" كما يسمونها (وهى: 1: إنَّ 2: أنًّ 3: كأنَّ 4: لكنَّ 5: ليتَ 6: لعلَّ)، تربط فى المجموعة الجُمْلية التى تشتمل عليها الجملة السابقة بين المسند إليه (الفاعل) أى: "أستاذهم" والمسند (الخبر) أى: "يشرح الدروس جيدا"، بمعنى خاص لهذا الربط: "أَنَّ" لمجرد الربط، "إنّ" للتوكيد، "كأنّ" للتشبيه، "لكنّ" للاستدراك، "ليتَ" للتمنى، "لعلّ" للترجِّى.
أما ما يسمى "بخبر إن وأخواتها" فإننا سنجده كعهده دائما، أى: مثل ما يسمى "بخبر المبتدأ"، والخبر شبه جملة (الظرف أو الجار والمجرور). وهذه الأشياء تظل كما هى من حيث الإعراب ومن حيث العنصر النحوى، مثل "خبر المبتدأ". ولا تمسّها حروف أو أدوات "إن وأخواتها" بشيء من تغيير، اللهم إلا التغيير الدلالى المتمثل فى إضافة معنى الحرف من هذه الحروف.
ولهذا فإننا لسنا إزاء حروف ناسخة للمبتدأ والخبر. ولا ينبغى أن نسمى هذين الأخيرين "اسم وخبر إن وأخواتها"، على الترتيب. ذلك أن ما يسمى "بخبر إن وأخواتها" لا يحدث له شيء على الإطلاق: لا النسخ المزعوم (وخبره المفرد مرفوع بالطبع مثل الخبر المفرد للمبتدأ، ويقيسون على إعرابه بالرفع إعراب باقى أنواع الخبر)، ولا كعنصرٍ نحوى.
وليس ما يسمونه "بالخبر المفرد" للمبتدأ أو الحروف "إن وأخواتها" سوى متمم الفاعل. أما "الخبر شبه الجملة" كما يسمونه أيضا، فمنه الظرف بما فى ذلك شكل الظرف المكوَّن من جارّ ومجرور، ومنه متمم الفاعل المكوَّن من جارّ ومجرور. وينبغى أن نتذكر أن الخبر المفرد والخبر شبه الجملة إنما يأتيان، باستثناء ما يسمى "بخبر كان وأخواتها"، بدون فعل، أى: مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت.
أما الخبر المسمى بالخبر الجملة الاسمية فإما أنه يحتوى على فعل "كان" ظاهرا أو محذوفا، وإما أنه يحتوى على فعل تام عادى وفاعله المضاف الذى يسبقه المضاف إليه الذى يعربونه المبتدأ الأول. وأما الخبر المسمى بالخبر الجملة الفعلية فإما أنه يحتوى على فعل "كان" ظاهرا، وإما أنه يحتوى على فعل تام عادى مع فاعل وحتى مع مفعوله.
وفى كل هذه الأشياء يتطابق ما يسمى "بخبر إن وأخواتها" مع ما يسمى "بخبر المبتدأ"، كما يتطابق فى كثير من هذه الأشياء مع ما يسمى "بخبر كان وأخواتها"، اللهم إلا فيما يتعلق بالربط البحت أو المقترن بدلالات بعينها لأدوات نصب الاسم كما رأينا منذ قليل.
ومع أننا سنتناول المسند (الخبر) فى فصول خاصة به، ونتوقف من جديد بالتالى عند الوضع الحالى لأنواع الخبر، فى إطار النحو التقليدى، وعند مصيرها فى إطار النحو الجديد، فلابد لغرض استكمال هذه المناقشة هنا من بحث أنواع "خبر المبتدأ"، وسيتطابق البحث وتتطابق النتائج ككلّ (بالاستثناء الدلالى المذكور) مع خصائص أنواع "خبر إن وأخواتها"، وفى نقاط تقاطع بذاتها: مع خصائص أنواع "خبر كان وأخواتها".
وخير وسيلة هى أن نبدأ بالخبر المفرد والخبر شبه الجملة، كما يسميهما هذا النحو، لأن فعل الكينونة محذوف معهما فى المضارع المثبت، وسنرتّب هذه الأمثلة مع عناصر جملة، مثل: متمم الفاعل، ظرف، إلخ..:
متمم الفاعل - اسم: هند (بنت): ما بين القوسين "خبر مفرد".
متمم الفاعل - صفة: هند (متفوقة): ما بين القوسين "خبر مفرد".
متمم الفاعل - جارّ ومجرور: هند (فى غاية الجمال): ما بين القوسين "خبر شبه جملة".
ظرف: هند (فوق سطح البيت): ما بين القوسين "خبر شبه جملة" (ظرف).
ظرف: هند (فى المكتبة): ما بين القوسين "خبر شبه جملة" (جارّ ومجرور).
ونلاحظ أن متمم الفاعل يتحقق بأشكال منها الاسم والصفة والجارّ والمجرور (اللذان لا يحملان معنى الظرف)، أما الجارّ والمجرور اللذان يحملان معنى الظرف فهما من الأشكال العديدة التى يتحقق بها الظرف كعنصر جملة.
والآن ماذا سيعنى أن نبدأ الجمل السابقة بأداة نصب الاسم "إن"، على سبيل المثال، لتوكيد معانى هذه الجمل؟ لن يتغير سوى نصب "هند" (وهى المسند إليه) فى كل الجمل، أما الكلمة التى بين القوسين من "خبر مفرد" أو "خبر شبه جملة" فستبقى فى كل الجمل كما هى تمامًا من حيث الإعراب الموضوعى الجمعى، أى أن ما يسمى بالخبر المفرد سيظل مرفوعا (رفعا عشوائيا)، فى حين أن ما يسمى بالخبر شبه الجملة سيظل ظرفا منصوبا وحده أو مع مضاف إليه مجرور بالإضافة، كما سيظل حرف الجرّ المبنىّ مع مجروره، على حالهما الآن. أما من حيث عناصر الجملة فسيبقى كل شيء على حاله كما هو الحال مع "خبر المبتدأ".
والآن ما الذى يحدث إذا أدخلنا فعل "كان" على الجمل المذكورة؟ ستبقى "هند" على الرفع (وهى المسند إليه) فى كل الجمل، أما متمم الفاعل - الاسم (بنت)، والصفة (متفوقة) فإنهما يصبحان منصوبين ويحتفظان فى النحو القديم بلقب الخبر المفرد مع نسبته إلى كان وأخواتها (خبر كان وأخواتها). أما "الخبر شبه الجملة" فيبقى على حاله، ويقيس النحاة نصبه مع "كان وأخواتها" على خبر كان المفرد المنصوب، كما يقيسون رفع بقية أنواع "خبر المبتدأ" و"خبر إن وأخواتها" على رفع "خبر المبتدأ" أو "خبر إن" المفرد، وكل هذا فى إطار ما يسمى بالإعراب المحلى.
وننتقل الآن إلى الخبر الجملة عندما تخلو الجملة من فعل ظاهر:
متمم الفاعل - اسم: هند صديقاتها (بنات).
متمم الفاعل - صفة: هند صديقاتها (مثقفات).
متمم الفاعل - جارّ ومجرور: هند صديقاتها (فى غاية الذوق).
ظرف - جارّ ومجرور: هند صديقاتها (فى القاهرة).
وليس هنا من تعقيد سوى فى المسند إليه (الفاعل) فالفاعل الحقيقى فى الجمل السابقة (صديقاتها) بمعنى (صديقات هند)، وقد تعرضنا لهذه المشكلة عند مناقشة المسند إليه. والآن فإن دخول "إن وأخواتها" لا يفعل سوى نصب "هند" ويبقى كل شيء على ما هو عليه. فماذا يفعل دخول "كان وأخواتها"؟ لن يحدث سوى "نصب" متمم الفاعل - الاسم: "بنات" فى جملة: "هندُ كانت صديقاتُها بناتٍ"، أو "هندُ صديقاتها كُنَّ بناتٍ"،، و"نصب" متمم الفاعل - الصفة: "مثقفات"، فى جملة: هندُ كانت صديقاتُها مثقفاتٍ"، أو "هندُ صديقاتُها كُنَّ مثقفات". ويبقى الجارّ والمجرور متمما للفاعل أو ظرفا على حالهما الآن.
ونكتفى الآن بقراءة جملتين "خبراهما" جملة تشتمل على فعل تام:
هند (تقرأ الأدب الرفيع منذ الصغر).
هند صديقاتُها (يقرأن الأدب الرفيع مثلها).
وهنا وضعنا المسند بين القوسين والمسند إليه خارجهما (قبلهما عمليا). ولن يفعل إدخال "إن وأخواتها" سوى نصب "هند"، كالعادة، ويبقى كل شيء آخر على حاله الآن. ولم يعد لدينا متمم للفاعل لأنه إنما يأتى مع أفعال "كان وأخواتها". أما التحليل النحوى والإعرابى للمسند فنجد فيه عناصر جديدة من عناصر الجملة. ففى الجملة الأولى، نجد: الفعل "تقرأ" (وهو عنصر جملة)، والمفعول به (وهو عنصر جملة) وهو "الأدبَ الرفيعَ" الذى يتكون من اسم وصفة (نعت)، كما نجد الظرف - "ظرف زمان" (وهو عنصر جملة) وهو "منذُ الصِّغَرِ" الذى يتكون من ظرف الزمان "منذ" ومجروره بالإضافة.
فماذا يفعل إدخال "كان وأخواتها" على الجملتين السابقتين؟ ستغدوان كالتالى:
هند (كانت تقرأ الأدب الرفيع منذ الصغر).
هند صديقاتها (كُنَّ يقرأنَ الأدب الرفيع مثلها).
فما هو الجديد؟ الجديد هو صيغة "كانت تقرأ" و"كُنَّ يقرأنَ". وأعتقد أن اعتبار "كان وأخواتها" أفعالا مساعدة عند استخدامها مع أفعال تامة أكثر صوابا من اعتبار هذه الأخيرة أشكالا خاصة "فعلية" لتحقيق متمم المسند إليه (الفاعل) مع كان وأخواتها. وبهذا تكون صيغة "كانتْ تقرأ" أو كُنَّ يقرأنَ" مجموعة جُمْلية أو مجموعة فعلية كشكل من أشكال تحقيق الفعل باعتباره عنصرا من عناصر الجملة (راجع مسألة عناصر الجملة وأشكال تحقيقها).
والاستنتاج العام إذن هو أننا لسنا إزاء حروف ناسخة للمبتدأ والخبر كما يسميها النحاة، بل إزاء أدوات نصب للاسم تماما مثل حروف أو أدوات جرّ الاسم.
وتستقل "أَنَّ" عن بقية أدوات نصب الاسم ("إِنَّ وأخواتها") بأن هذه الأدوات تستخدم مع الجملة ككل بينما تُستخدم أداة الربط الناصبة للاسم: "أنَّ" لتكوين مجموعة "أنَّ" الجُمْلية that-clause وهى عبارة تبدأ "بأنَّ" وتحتوى على فعل، وهى ليست جملة لأنها لا تعطيك معنى مفيدا. وفى جملة "الأستاذ يَعْلَمُ (أَنَّ تلاميذه يحبونه)"، نجد المجموعة الجُمْلية الموضوعة بين القوسين، وهى "أنّ تلاميذه يحبونه"، لا يمكن القول إنها جملة فهى لا تكفى وحدها لمعنى مفيد رغم أنها تشتمل بعد أداة الربط الناصبة للاسم: "أنَّ"، على فعل: "يحبون"، وفاعل: "تلاميذه"، ومفعول به: "الهاء" فى "يحبونه"، وهذه العبارة كلها مفعول به لفعل: "يعلم"، وفاعله: "الأستاذ".
وجدير بالذكر أن المجموعة الجُمْلية البادئة "بأَنَّ" تصلح مسندا إليه (فاعلا)، كما تصلح مفعولا به، وقد تصلح عناصر أخرى فى الجملة.
وينبغى أن يكون واضحا أن الأداة "أن" رابطة (أداة ربط) وليست للتوكيد الذى تختص به أداة التوكيد والنصب "إِنَّ". والنظر إلى "إنَّ" وأَنَّ" وكأنهما لفظة واحدة تُكسر همزتها فى مواضع وتُفتح فى مواضع أخرى خطأ جسيم، فهما كلمتان مختلفتان تماما، ولا تشتركان إلا فى كونهما من الأدوات الناصبة للاسم، ولا ينبغى الالتفات إلى مجيء صوت الهمزة وبعده صوت النون فى هاتين الكلمتين المختلفتين نتيجة اختلاف صوت الحركة (الكسرة هنا والفتحة هناك). إنهما كلمتان مختلفتان اختلاف كلمة "مِنْ" (حرف جر) مع كلمة "مَنْ" (الاسم الموصول) رغم اشتراك الأصوات أو الحروف.
ولشقيقى على كلفت اجتهاد مهم، مكتوب منذ سنوات طويلة، لكنه غير منشور إلى الآن. وهو يدور حول: "إِنَّ" و"أَنَّ" متحديا ما حفظناه منذ الصغر من أن: "إنّ" و"أن" للتوكيد، ثم يتركز اجتهاده أو إحياؤه للصحيح فى النحو على كسر وفتح الهمزة. وكم أتمنى أن يخرج ذلك البحث إلى النور، ليقرأه المهتمون بدلا من هذه الإشارة المبتسرة التى اضطررت إليها هنا اضطرارا لكى لا يظن أحد أن بعض تأكيداتى الخاصة بحرفى أو أداتى: "إنّ" و"أنّ"، من اجتهادى الشخصى، مع أننى مسئول عن صياغاتى المستقلة فى كثير من الأحيان. وربما حررنا نشر اجتهاد على كلفت من المراجعين الذين يعتقدون دون مبرر من لغة أو نحو أن ما يسمونه بكسر همزة "إنّ" مطلق بعد القول، فلا يقتصر على المحكى بالقول كما كان ينبغى أن يفهموا.
أما أدوات نصب الاسم الأخرى فهى لأغراض مختلفة غير مجرد الربط، بالإضافة إلى استعمالها مع الجملة ككل:
إِنَّ: أداة نصب للاسم تفيد التوكيد، ولا تستخدم إلا للتوكيد، وتؤكد كافة مواضع استعمالها أنها تأتى فى أول الجملة، ولا ينال من هذا: القول أو القسم أو غيرهما لأنك فى كل الأحوال تؤكد كل معنى الجملة، كما تؤكد استعمالاتها أن غرضها بلاغى بحت، فلا يصحّ أبدا استعمالها للربط على الإطلاق، فأداة الربط ضرورة نحوية لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن أن تقوم فى نفس الوقت بدور بلاغى هو التوكيد، فما العمل إذا عدلنا عن غرض التوكيد مع بقاء أداة الربط كضرورة نحوية؟! والحقيقة أن أداة الربط "أَنّ" هى الأداة الوحيدة الإلزامية بعد القول وبعد أفعال القلوب ولا مجال على الإطلاق لاستعمال "إن" البلاغية التوكيدية فى مجال الربط.
كأنّ: أداة نصب للاسم تفيد التشبيه، وهى تستعمل مع الجملة بكاملها، مثل: "كأن الممرضة ملك رحيم" ، أو فى مجموعة جُمْلية تصلح للوصف والتشبيه أو كحال، مثل: "إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله كأنهم بنيان مرصوص" .
لكنّ: أداة نصب للاسم تفيد الاستدراك، ويبدو أنها منحوتة من "لا" النافية و"كأنّ" المركبة من كاف التشبيه وأداة الربط الناصبة للاسم "أَنَّ". وهى لاستدراك جملة كاملة من جملة كاملة أخرى، مثل: "قضية فلسطين عادلة ولكن الاستعمار يأبى حلها"( ).
ليتَ: أداة نصب للاسم تفيد التمنى، وهى تُستعمل مع الجملة بكاملها، مثل: "ليت وجه الاستعمار يختفى من العالم"( ).
لعلَّ: أداة نصب للاسم تفيد الترجى أو الرجاء، وهى تُستعمل مع الجملة الكاملة، مثل: "لعل النصر قريب"( ).
وهناك تخفيف النون بتأثيره فى عمل الأدوات التى آخرها النون، وهناك أيضا "ما" الكافة عن العمل: إنما، أنما، كأنما، لكنما، ليتما، لعلَّما. غير أن المجال لا يتسع لمثل هذه الاستقصاءات فى التفاصيل.
ومن "أخوات إنّ": "لا النافية للجنس"، وهى التى يليها اسم نكرة، فتنفى المسند عن جميع أفراده نفيا عاما شاملا( ). وهى عند النحاة ككل حروف "إن وأخواتها" حرف ناسخ للابتداء، تنصب المبتدأ اسمًا لها وترفع الخبر خبرًا لها. والمسند إليه (ما يسمى الاسم هنا) منصوب: إذا كان نكرة، ومتصلاً بها غير منفصل عنها بفاصل، وإذا كانت "لا" غير مقترنة بحرف الجرّ. ويكون المسند إليه منصوبا غير منون فى حالة إفراد "لا"، ومنصوبا غير منون أو مرفوعا منونا فى حالة تكرارها. ويكون المسند إليه مرفوعا إذا فُصل بين "لا" النافية والنكرة. وإذا دخل عليها حرف الجر يتم جرّ ما بعد "لا" بحرف الجرّ وتصبح "لا" لمجرد النفى، مثلا: "يضلّ مَنْ يسير بِلا وَعْى”( ).
والاستنتاج العام الذى نخرج به من هذه المناقشة الموجزة حول "إن وأخواتها" هو أن أدوات نصب الاسم هذه، بتنوع دلالات هذه الأدوات (التوكيد، الربط، التشبيه، الاستدراك، التمنى، الرجاء، ونفى الجنس فى حالة "لا"، مع تعقيدات فى تفاصيل هذه الأخيرة) تنصب المسند إليه بعدها ولا تفعل شيئا فى المسند؛ فلا نسخ إذن ولا يحزنون. ويمكن الحديث عنها كأدوات لنصب الاسم تماما مثل حروف أو أدوات جرّ الاسم. وبالمناسبة فهذه الأخيرة أكثر عددا وكل أداة منها تتعدد دلالاتها، ومع ذلك فقد كانت أدوات النصب أوفر "حظا" من أدوات الجرّ، فهذه الأخيرة لم يصطنع لها أحد أدوارا ولم يخصص لها أحد أبوابا، وقد آن الأوان لانتهاء هذه التعقيدات التى لا مبرر لها من لغة أو منطق.












7
المسند أو ما يسمى بالخبر

بعد أن أشار إلى المبتدأ، يقدّم الأستاذ عباس حسن، صاحب الموسوعة الشهيرة "النحو الوافى”، تعريف الخبر بقوله:
... وبعده كلمة تُتَمّم المعنى الأساسى للجملة: (أى: تتضمن الحكم بأمر من الأمور لا يمكن أن تستغنى الجملة عنه فى إتمام معناها الأساسى [....] ذلك أن الاسم يسمى: "مبتدأ" والكلمة الأخرى تسمى خبرا: "خبر المبتدأ"، وكلاهما مرفوع) .
فالخبر حكم على المبتدأ بشيء، وهو كلمة، وهو مرفوع. ولا شك فى أن المسند أو الخبر حكم، فالمسند إليه محكوم له والمسند محكوم به، والمسند إليه متحدَّث عنه والمسند متحدث به، والمسند إليه موضوع والمسند محمول. ولكن هل المسند كلمة (أى كلمة واحدة) وهل هو مرفوع؟
لقد أشرنا من قبل، مرارا وتكرارا، إلى ان ما يسمى بالخبر المفرد مرفوع، وإلى أن رفعه عشوائى، وإلى أنه فى الأصل "خبر كان" المنصوب، وإلى أن الاقتصاد اللغوى اتجه بالجماعة اللغوية العربية عبر قرون ما قبل عصر الرواية فى اتجاه حذف المضارع المثبت من فعل "كان" قبل الخبر المفرد (وبالطبع قبل ما يسمى بالخبر شبه الجملة، وقبل ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية التى خبرها مفرد أو شبه جملة)، وإلى أن قياس رفع الخبر بوجه عام، فى كل أنواعه ("رفعا محليا" بالتالى) على رفع الخبر المفرد قياس فاسد.
أولا: لأن ما يسمى بالخبر المفرد ليس خبرا أصلا إلا مع المضارع المثبَت المحذوف من فعل الكينونة قبله.
وثانيا: لأن هذا مجرد رفع عرضى، ظاهرى، عشوائى، لحذف العامل اللفظى لنصبه أى فعل الكينونة، فى إطار من الاقتصاد اللغوى حيث يظهر بكل جلاء زمن الجملة دون ذكر الفعل فى هذا الزمن، ولأن معناه أيضا واضح بدون ذكره لأنه يدل على الكون العام، فاجتمعت هنا ثلاثة أمور لابد من اجتماعها للحذف، فمعنى الكون العام لا يتيح الحذف إلا فى هذا الزمن وإلا فى حالة الإثبات، كما أن هذا الزمن، حتى فى حالة الإثبات، لا يتيح حذف فعل غير معنى الكون العام (إلا كاستثناءات تقوم على منتهى الإيجاز فى جوامع الكلم كما سنرى فى موضع لاحق).
وثالثا: وهذا هو الأكثر أهمية بما لا يقاس، لأن المسند (الخبر) قسم من الجملة خارج مسألة الإعراب أصلا فلا رفع له ولا نصب ولا جرّ ولا شيء من الإعراب على الإطلاق (أى لا شيء من الإعراب حتى فى حالة التبنى الكامل لفكرة الإعراب المحلى، لأن ما يخضع لما يسمى "بالإعراب المحلى” هو ما يخضع للإعراب أصلا أى العنصر الواحد من عناصر الجملة مهما كان شكل تحقيقه فى صورة لفظة مرفوعة أو مبنية أو عبارة متعددة الألفاظ).
على أن اكتشاف أو إثبات أن المسند أو الخبر غير مرفوع، لأنه خارج مسألة الإعراب أصلا، لن يتحقق إلا بأن نعرف أوّلا: ما هو الخبر؟ فهل الخبر حقا "كلمة" تتمم مع المبتدأ معنى الجملة؟
ووفقا للنحو العربى ينقسم الخبر إلى ثلاثة أنواع: الخبر المفرد، والخبر الجملة: الاسمية أو الفعلية، والخبر شبه الجملة: الظرف أو الجارّ والمجرور. وينطبق هذا على ما يسمى بخبر المبتدأ، وعلى ما يسمى بخبر "إن وأخواتها"، وعلى ما يسمى بخبر "كان وأخواتها" (وعلى ما يسمى بخبر المبتدأ الثانى عندما يكون الخبر جملة اسمية فى كل هذه الأنواع للخبر).
وكان لنا حديث طويل لم تعد بنا حاجة إلى تكراره: عن وحدة الجملة بدلا من تقسيمها إلى اسمية وفعلية، وعن إلغاء "ألقاب" المبتدأ والخبر، باعتبارهما ركنين للجملة الاسمية؛ والفعل والفاعل، باعتبارهما ركنين للجملة الفعلية، وعن التقسيم النحوى الضرورى المطلوب للجملة العربية إلى جزءيْن أو قسميْن أو ركنيْن هما المسند إليه (الفاعل) والمسند (الخبر)، وعن الأفعال المسماة بالناسخة والتى انتهينا إلى أنها أفعال لها فاعلون وأن القسم الذى يعتبره النحاة خبرا بدون "دخول" هذه الأفعال يظل هناك بأنواعه الثلاثة، رغم تغيرات إعرابية محدودة بالقياس إلى إعراب ما يسمى بخبر المبتدأ (وتنحصر هذه التغيرات الإعرابية فى "نصب" ما يسمى بالخبر المفرد مع الأفعال المسماة بالناسخة) ليس لأنها نسخت "الخبر" بل لأنها أفعال تأخذ بصفة إجبارية: عنصر الجملة المسمى بمتمم الفاعل، أو عنصر الجملة المسمى بالظرف، وكل منهما منصوب فى شكل من أشكال تحقيقه، أى فى شكل الكلمة المعربة، وعن الحروف المسماة بالناسخة ("إن وأخواتها") والتى انتهينا إلى أنها أدوات نصب للأسماء وغيرها من الكلمات المعربة من غير الفعل (تنصبها كما تجرها حروف أو أدوات الجر) بلا تأثير من أى نوع على إعراب ما يسمى بالخبر بأنواعه الثلاثة بالمقارنة مع ما يسمى بخبر المبتدأ أيضا.
وهكذا يمكننا الآن التركيز على مسألة: ما هو المسند (الخبر)؟ وهل هو كلمة (للحديث بالتالى عن إعرابها أو عن رفعها بالذات) أو هو كلمات متنوعة؟ وهل هو عنصر من عناصر الجملة ليجوز فيه الإعراب كما هو الحال مع المسند إليه (الفاعل) وهو مرفوع دون شك؛ أو هو مفهوم أوسع من مفهوم عنصر الجملة بحيث يقتصر على عنصر واحد أو يشتمل على أكثر من عنصر من عناصر الجملة؟
ولنبدأ بهذه الأمثلة للخبر بمفهومه التقليدى فى النحو العربى، وسنضع بين قوسين ما يسميه هذا النحو بالخبر:
1: خبر مفرد: أ: الكتاب (مفيدٌ).
ب: الكتاب (سلعةٌ).
2: خبر ظرف: الكتاب (فوقَ) المنضدةِ.
3: خبر جارّ ومجرور: الكتاب (على المنضدةِ).
4: خبر جملة اسمية خبرها مفرد: أ: الكتاب (غلافه "أزرقُ").
ب: الكتاب (غلافه "تحفة").
5: خبر جملة اسمية خبرها ظرف: الكتاب (غلافه "فوقَ") المنضدةِ.
6: خبر جملة اسمية خبرها جارّ ومجرور: الكتاب (غلافه "على المنضدةِ").
7: خبر جملة اسمية خبرها جملة فعلية: الكتاب (غلافه "يلمعُ").
8: خبر جملة فعلية: الكتاب (يفيدُ) القارئَ.
وكما هو واضح هناك خبر "1" من كلمة واحدة هى أ: صفة ب: اسم، وخبر آخر "2" من كلمة واحدة هى ظرف، وخبر ثالث "8" من كلمة واحدة هى فعل (مع أن النحاة يعربون هذا الفعل جملة فعلية مع فاعله الضمير المستتر المزعوم)، وهناك أكثر من خبر: الأمثلة من "3" إلى "7"، كل خبر منها من أكثر من كلمة وهى كلمات ذات وظائف متنوعة منها الجارّ والمجرور (شبه جملة عندهم كالظرف أيضا) والجملة (الاسمية أوالفعلية). غير أن كل "خبر" يتمم مع الكتاب جملة مفيدة.
ومع هذا تصدمنا حقيقة أن هذا "الخبر" غير متجانس إلى هذا الحد: فكيف يكون "صفة" أو "اسمًا" ويكون "فعلا"، ويكون "مفردا"، ويكون "شبه جملة" ("ظرفا" أو "جارّا ومجرورا")، ويكون "جملة اسمية" تبدأ بمبتدأ جديد مرة مع "الفعل"، ومرة أخرى مع "الصفة" أو "الاسم"، ومرة ثالثة مع "الظرف"، ومرة رابعة مع "الجارّ والمجرور"؟
ونلاحظ أن لدينا، ضمن هذا التعداد، بعض عناصر الجملة كما حددناها من قبل، لدينا "الفعل"، ولدينا "الظرف"، ولدينا "المفعول به"، ولدينا ما أشرنا إليه باعتباره "متمم الفاعل أو المفعول به".
كما نلاحظ أن هذه العناصر تختلف للغاية من حيث الإعراب، فالفعل يختلف معنى إعرابه عن معنى إعراب غير الفعل ولعله مجرد بقايا لفظية من نظام قديم نجهل خصائصه. وهناك كلمات منصوبة كالظرف وأخرى مرفوعة كالخبر المفرد أو المبتدأ الثانى وكلها لعناصر (أو لأجزاء من عناصر) متباينة للجملة.
ويؤدى بنا أدنى تأمل فى كل هذه المفارقات إلى الشك العميق فى إعراب "الخبر" الذى يتضح أنه مجموع من الألفاظ أوسع من أن يقبل الإعراب. فما هو ذلك الإعراب الواحد للخبر الذى من شأنه أن يقبل هذه الإعرابات المتنوعة لمكوّنات الخبر ذاته؟! كما أنه يؤدى بنا إلى الشك العميق فى أن يكون الخبر عنصراً من عناصر الجملة كالمسند إليه أو كالمفعول به أو الفعل أو الظرف أو متمم الفاعل أو المفعول به، ما دام هو ذاته يشتمل على بعض أو كل هذه العناصر باستثناء المسند إليه (الفاعل).
ويمكن أن نلجأ إلى المعنى، معنى المسند (الخبر) فلعله يسعفنا. ولنقرأ هذه الجملة:
الفلاح يزرع القمح عندما يكون سعره مجزياً.
فما الذى نقوله عن الفلاح وهو المسند إليه (الفاعل) هنا؟ من الجلى أن "يزرع" لا يصلح بمفرده ولا مع "القمح" لأنْ يكون ما نريد أن نقوله عن الفلاح فى هذه الجملة، فما نريد أنْ نقوله ليس أنه "يزرع" فقط، وليس أنه "يزرع القمح" فقط، بل أنه ("يزرع القمح") فى حالة محددة أو فى ظرف محدّد، أى: "عندما يكون سعره مجزيا".
ويتضح أن كل باقى الجملة (باستثناء الفلاح) هو المسند (الخبر)، وأنه يشمل فعلا وهو "يزرع"، ومفعولا به وهو "القمح"، وظرف زمان وهو "عندما يكون سعره مجزيا"، وهذه العبارة الظرفية تتركب بدورها من عناصر عديدة من عناصر الجملة.
غير أننا، عندما نعود إلى الأمثلة السابقة للخبر بمعناه التقليدى فى النحو العربى، نجد أن "كل باقى الجملة" يكون أحيانا كلمة واحدة، وهذه الكلمة الواحدة ذاتها غير متجانسة: مرة لدينا "فعل"، ومرة لدينا "اسم"، ومرة لدينا "صفة"، بالإضافة إلى الجملة وشبه الجملة بكل مكوّنات كل منهما. ومعنى هذا أن "كل باقى الجملة" (أى غير المسند إليه أو الفاعل) قد يكون له حدّ أدنى من كلمة واحدة من عنصر واحد كما أنه قد يكون أكثر من كلمة وأكثر من عنصر من عناصر الجملة، أى أنه قد يكون عنصرا واحد أو عنصرين، أو ثلاثة أو أربعة عناصر (فقد استبعدنا عنصرا واحداً فقط هو المسند إليه أو الفاعل من أصل خمسة عناصر) مع احتمال تكرار بعض أو كل العناصر لاحتضان المعانى المتنوعة المحتملة فى جملة بسيطة أو مركَّبة أومعقدة.
فما هو الحد الأدنى الممكن للمسند (الخبر)؟
وإذا قلنا إنه كلمة (أو ما فى حكم كلمة) فكيف نهتدى إلى طبيعة العنصر النحوى الذى تمثله هذه الكلمة بغضّ النظر عما تمثله من دلالات كمدخل فى المعجم؟
وربما كان من المفيد أن نقوم بتقليب الجمل التى تحتوى على هذا الحدّ الأدنى على وجوهها لنصل إلى ما قد يكون مختفيا تحت سطحها. ونأخذ من الأمثلة التى أوردناها من قبل جملتين من هذا النوع هما:
1: الكتاب يفيد.
2: الكتاب مفيد.
ولا يفيد التقديم والتأخير فى إظهار ما يختفى. فرغم الاختلاف المحتمل أحيانا من الناحية البلاغية إلا أن المستوى النحوى (مستوى العلاقات النحوية بين العنصرين فى كل جملة) سيبقى على ما هو عليه بطبيعة الحال. فى الجملة الأولى، مثلا، سيغدو مسندا (خبرا) وهو "يفيد" يتلوه المسند إليه (الفاعل) وهو "الكتاب" بدلا من وضعها الحالى: المسند إليه ("الكتاب") يتلوه المسند ("يفيد").
وتتمثل طريقة مفيدة فى أن ننظر إلى زمن الجملة. ومهما كانت الوسائل التى تعبر بها لغة عن الزمن فإنها ستضع الجملة نفسها فى الزمن المقصود. ومن المعروف أن الفعل هو الذى يدل على الزمن من خلال نظام صرفى نحوى بذاته. فما العمل إزاء جملة تخلو من الفعل من الناحية العملية؟
وفيما يتعلق بالجملة التى تحتوى على الفعل "يفيد" يمكننا أن نضعها فى الماضى: "الكتاب أفاد" أو: "أفاد الكتاب"، وفى المستقبل: "الكتاب سيُفيد" أو: "سيُفيد الكتاب". ويتأكد لنا بمزيد من الثقة أن المسند فى هذه الجملة بتقلباتها فى الزمن هو الفعل: "أفاد" أو: "يفيد" أو: "سيُفيد". وفى حالة النفى أيضا سيكون:"لم يُفد" أو: "لا يفيد" أو: "لن يفيد"، على الترتيب.
أما الجملة التى لا تحتوى على فعل ظاهر صريح فقد صار من الجلى أن زمنها هو المضارع، وأن الزمن فى كل الجمل المماثلة هو المضارع. والمقصود أن الجملة الخالية من الفعل موضوعة كجملة فى المضارع، ومن المفهوم أن المضارع هو زمن الحقائق العامة والعادات قبل أن يكون زمن التعليق اللفظى خلال الحاضر المراوغ الهارب دوما. وهذا بالضبط ما نفهمه عندما نقرأ أو نسمع جملة بدون فعل وهو بالضبط ما نقصده عندما نكتب أو نقول جملة بدون فعل. وسنقوم الآن بوضع هذه الجملة فى الأزمنة الأخرى، مثبتة ومنفية.

الزمن الجملة الفعل

المضارع المثبَت: أ: الكتاب مفيدٌ ---
المضارع المثبَت: ب: الكتاب يكون مفيدًا يكون
المضارع المنفى: أ: الكتاب ليس مفيدًا ليس
المضارع المنفى: ب: الكتاب لا يكون مفيدًا لا يكون
الماضى المثبَت: الكتاب كان مفيدًا كان
الماضى المنفى: أ: الكتاب لم يكن مفيدًا لم يكن
الماضى المنفى: ب: الكتاب ما كان مفيدًا ما كان
المستقبل المثبَت: أ: الكتاب سيكون مفيدًا سيكون
المستقبل المثبَت: ب: الكتاب سوف يكون مفيدًا سوف يكون
المستقبل المنفى: الكتاب لن يكون مفيدًا لن يكون

ونلاحظ بكل سهولة أن الفعل ظهر فى كل الأزمنة المذكورة فى الإثبات والنفى، باستثناء حالة واحدة هى أكثر حالات المضارع المثبَت شيوعا فى اللغة العربية لفعل الكينونة. والفعل الذى ظهر فى كل الأزمنة، فى الإثبات والنفى، هو بلا استثناء فعل الكينونة (وفعل "ليس" لا يمثل استثناءً لأنه نفى للكينونة، ويبدو أن تاريخ هذه الكلمة يكشف عن نحت أدمج أداة النفى مع صورة قديمة لفعل الكينونة). وفى الحالة الوحيدة التى لم يظهر فيها الفعل وجدنا ما يسمى بالخبر المفرد مرفوعًا، وفى كل الحالات الأخرى التى ظهر فيها الفعل مثبَتًا أو منفيًّا وجدنا ما يسمى بالخبر المفرد منصوبًا.
وفى كل باقى أزمنة هذه الجمل (باستثناء المضارع المثبَت، أى: فى جملة تمثل حالة واحدة وحيدة فى اللغة العربية)، ظهر إذن "فِعْل"، وكان هذا الفعل هو "فعل الكينونة"، وفيها جميعا كان ما يسمى بخبر المبتدأ منصوبا باعتباره ما يسمى بخبر "كان" (وينطبق هذا على خبر "إن وأخواتها" فهو أيضا منصوب باعتباره خبر "كان" باستثناء المضارع المثبَت أيضا) مقابل خبر المبتدأ (وخبر "إن وأخواتها") فى المضارع المثبَت والذى يأتى بدون فعل ظاهر فى الحالة الأكثر شيوعا، كما يأتى مرفوعا فى هذه الحالة.
وما دام تغيير الزمن، والتغيير من الإثبات إلى النفى لا يأتيان، فى اللغة العربية، بفعل ليس فى الجملة فلا مناص من أن نستنتج بلا تردد عدة استنتاجات فيما يتعلق بالجملة الخالية من الفعل (والتى تتجسد فى هذه الحالة وحدها دون غيرها):
1: ما يسمى بالخبر المفرد، وهو مرفوع دائما، لا يأتى إلا فى الجملة الموضوعة فى المضارع المثبَت.
2: وهذا الخبر المفرد كما يسمى يسبقه فعل محذوف نستنتجه من الحالات الأخرى للجملة (الماضى إثباتا ونفيا، والمستقبل إثباتا ونفيا، والمضارع نفيا، والمضارع إثباتا أحيانا).
3: وهذا الفعل المحذوف هو فعل الكينونة (وليس تقديره الفعل: "استقرّ" ولا اسم الفاعل: "كائن" أو "مستقرّ" كما قيل قديما وكما سوف نرى).
4: وهذا الحذف لفعل الكينونة مصحوب برفع ما يسمى بالخبر المفرد، وهذا يعنى أن أصل هذا الأخير هو "خبر كان"، فهو إذن منصوب أصلا يُرفع عند حذف هذا الفعل.
5: وهذا الحذف ليس وجوبا، وليس لغرض بلاغى، بل هو نتيجة تراكمية فى الأمد الطويل لمبدأ الاقتصاد اللغوى.
والاستنتاج الأعم الذى لا يمكن تفاديه هو أن الجملة العربية لا تخلو من الفعل، وأن الحالة الوحيدة التى تخلو عمليا (أى من حيث هى حالة) من الفعل إنما تحتوى على فعل محذوف "فعل كان فى المضارع المثبَت" يعطى الجملة زمنها، كما يعطيها المعنى المقتصر على مجرد الفعل الرابط الذى يدلّ على الكون العام.
غير أنه يبقى سؤال: ما هو الخبر؟ وهل هو ما يسميه النحو العربى بالخبر؟
ولكى نتوصل إلى تصور واضح حول طبيعة الخبر ينبغى أن ندقق أوّلا فى مفهوم النحو العربى عن الخبر. ومن الأفضل أن ننتقل فى بحثنا واستقصائنا وتدقيقنا من الأقل صعوبة إلى الأكثر صعوبة، على الأقل فى البداية.
ولنبدأ بما يسمى بالخبر الجملة الفعلية. وفى جملة: "الكتاب يفيد" يتمثل الخبر فى نظر النحو العربى فى جملة "يفيد" التى تتكون فيما يزعمون من هذا الفعل وفاعله الضمير المستتر وتقديره هو ويعود فى محل رفع على المبتدأ "الكتاب". وقد سبق أن رأينا أن "الضمير المستتر" ليس سوى "شبح" وأن ضمائر الرفع البارزة المتصلة ليست سوى "نهايات تصريف أفعال" وأن الفاعل ليس فى الحقيقة سوى ما يسمونه بالمبتدأ.
فالخبر الجملة الفعلية فى زعمهم ليس إذن فى الحقيقة سوى فعل واحد هو فعل "يُفيد" وهو المسند الذى يأتى قبل المسند إليه (الفاعل) أو بعده. ويمكن بالطبع أن يأتى المفعول به: "القارئ" بعد الفعل: "يفيد". وكما أشرنا منذ قليل فإن المسند سيغدو مكوّنا من الفعل والمفعول به فى هذه الحالة، ولا مانع من إضافة متمم للمفعول به أو ظرف من أى نوع من أنواعه العديدة، ولا مانع من تكرار هذا العنصر أو ذاك فى نفس الجملة وضمن نفس المسند، كأن يكون هناك أكثر من مفعول به، أو أكثر من متمم للمفعول به، أو ظرف مكان مع ظرف زمان مع ظرف آخر من أى نوع، وهكذا، وسيكون كل هذا هو المسند (الخبر)، غير أن الاستنتاج هنا يتعلق بأن الحد الأدنى للمسند (الخبر) لا يمكن إلا أن يكون فِعْلا واحداً هو هنا "يُفيد". وسنرى أن هذا الحد الأدنى للمسند (الخبر) يتخذ شكله النموذجى فى صورة الفعل اللازم الذى لا يحتاج نموذجه (كنموذج أى كعنصر إجبارى فى النموذج) إلى أى عنصر جملة آخر مع المسند إليه (الفاعل)، مثل: "غرق فلان" أو: "فلان غرق"، مع أن نموذج الحدّ الأدنى هذا للجملة وللمسند (الخبر) لا يمنع ظرف الزمان والمكان وغيرهما فى أبسط أشكال مثل هذه الجملة؛ مثلا: "غرق فلان فى النيل فى الساعة العاشرة مساءً بتوقيت القاهرة".
ويعتبر النحو العربى هذا الفعل ("يفيد") جملة فعلية لأنه يفترض الفاعل الضمير المستتر، أو الفاعل ضمير الرفع البارز المتصل فى مثل: "يفيدون" أو "أفادوا". وبإلغاء الفاعل فى صورة الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل، كما سبق أن أوضحنا، يصبح الفعل مجرد فعل تم تصريفه مع المسند إليه (الفاعل) قبله أو بعده، فهو ليس إذن جملة من أى نوع. كما أن إضافة أية عناصر أخرى إلى هذا الفعل لا تجعله جملة لأن المسند إليه (الفاعل) منفصل أصلا عن المسند (الخبر)، ولا جملة بطبيعة الحال بدون اجتماعها بالإثبات أو النفى.
والاستنتاج الأشمل هو أن المسند (الخبر) لا يكون جملة فعلية، وإنما يكون "فعلا" بمفرده فى حالة مسند الحدّ الأدنى، أو مع بعض أو كل العناصر الثلاثة الأخرى التى قد يأخذها المسند إلى جانب الفعل وهى: المفعول به، والظرف، ومتمم الفاعل أو المفعول به (المباشر)، كعناصر "إجبارية" فى بعض النماذج الأساسية للجمل العربية، وعناصر "اختيارية" للإحاطة ببعض تنوعات معانى الجملة.
وننتقل مباشرة إلى ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية، وبالذات فى حالة من حالات هذا النوع من الخبر، أعنى حالة "الخبر الجملة الفعلية" .... "للخبر الجملة الاسمية" فى هذا النحو العربى التقليدى.
ففى جملة: "الكتاب غلافه يلمع" يزعم هذا النحو أن المبتدأ هو "الكتاب" وأن الخبر هو الجملة الاسمية "غلافه يلمع" وأن مبتدأ جملة الخبر أى ما يسمونه بالمبتدأ الثانى هو "غلاف" وأن الفعل "يلمع" مع فاعله الضمير المستتر خبر المبتدأ فى جملة الخبر.
ومن ناحية أخرى فإن تقديم "يلمع" يجعل الجملة: "الكتاب يلمع غلافه"، أى أنه الخبر المسمى بالخبر الجملة الفعلية وقد رأينا منذ قليل تهافت منطق الخبر الجملة الفعلية.
يبقى أن ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية (بكل أنواع خبر جملة الخبر هذه: الخبر المفرد، والخبر شبه الجملة، والخبر الجملة الفعلية) يأتينا بعنصر جديد بالغ الأهمية وهو ما يسمى بالمبتدأ الثانى، بما يثيره من إشكالية طبيعة أو حقيقة ما يسمى بالمبتدأ الأول، ولنقرأ مرة أخرى هذه الجمل:
1: جملة اسمية خبرها مفرد: أ: الكتاب (غلافه) أزرق.
ب: الكتاب (غلافه) تحفة.
2: جملة اسمية خبرها ظرف: الكتاب (غلافه) فوق المنضدة.
3: جملة اسمية خبرها جارّ ومجرور: الكتاب (غلافه) على المنضدة.
4: جملة اسمية خبرها جملة فعلية: الكتاب (غلافه) يلمع.
وعندهم أن "الكتاب" فى هذه الجمل هو المبتدأ الأول (أو بالتعبير الأدق: المسند إليه الأول، أو الفاعل الأول) وعبارة "غلافه" فى هذه الجمل هى المبتدأ الثانى (أى: المسند إليه الثانى). غير أن الغلاف (وليس الكتاب) هو الأزرق، وهو التحفة، وهو الذى فوق المنضدة، أو على المنضدة، وهو الذى يلمع. والمسند إليه الثانى (وليس المسند إليه الأول) هو الذى يتم إسناد الفعل إليه وتصريفه معه، مثلا:
الكتاب غلافه يلمع. أو الكتاب يلمع غلافه.
مصر رجالها استبسلوا. أو مصر استبسل رجالها.
هذه المرأة أعداؤها يكثرون. أو هذه المرأة يكثر أعداؤها.
والمسند إليه الثانى يرتبط بالمسند إليه الأول بضمير، مثلا: "غلافه"، "رجالها"، "أعداؤها".
على أن المسند إليه "الحقيقى” هو الثانى وليس الأول، سواء من حيث الإسناد عمليا إليه، أو التصريف عمليا معه، أو من حيث المعنى، فالتقدير السليم لمعانى الجمل السابقة هو:
(غلاف الكتاب) يلمع. أو يلمع (كتاب الغلاف).
(رجال مصر) استبسلوا. أو استبسل (رجال مصر).
(أعداء هذه المرأة) يكثرون. أو يكثر (أعداء هذه المرأة).
فالمسند إليه الأول ليس فى هذه الجمل سوى المضاف إليه والمضاف اللاحق هو المسند إليه الحقيقى.
وهناك جمل لا يصلح فيها إضافة المسند إليه المسمى بالثانى إلى ما يبدو أنه المسند إليه الأول؛ مثل: "النخل ثمره نأكله" أو: "النخل نأكل ثمره"، فالمضاف والمضاف إليه هنا وهما "ثمر النخل" هما المفعول به فى الحقيقة، أما ما يبدو أنه المسند إليه الثانى (وهو المسند إليه الحقيقى والوحيد) فهو الضمير "نحن" (كما نفهم من "النون" فى "نأكل" فالنون هنا حرف مضارعة من حروف "نأيتُ" كما تسمى وهى فى حقيقتها "بوادئ" تصريف الأفعال فى المضارع وينبغى التعامل معها مثل نهايات تصريف الأفعال فى الماضى والمضارع والأمر وهى التى يسميها النحو العربى التقليدى بضمائر الرفع البارزة المتصلة). والمعنى المقصود هو: "نحن نأكل ثمر النخل".
والواقع أن ما يبدو وكأنه المسند إليه الأول ليس فى الحقيقة مسندا إليه، لأن قاعدة المسند إليه ينبغى أن تتمثل فى البحث عن الفعل ثم البحث عن المسند إليه الذى تم تصريفه معه، وعندئذ يتضح أن المضاف الذى كان جديرا بأن يجرّه، إنْ تقدَّم كما ينبغى له فى وضعه النموذجى، تأخر وهو المسند إليه الحقيقى والوحيد.
فالمبتدأ الأول كما يسمونه (أو المسند إليه الأول كما جاء فى العبارات السجالية السابقة) ليس فى أصله سوى المضاف إليه المجرور بالإضافة والذى رفعه عشوائيا تأخُّر الجارّ أى المضاف، تماما مثلما قد يظل المفعول به مرفوعا إذا جرى الابتداء به (أو سبق ناصبه) وذلك لتأخر العامل اللفظى الناصب؛ فى مثل: "الولدُ ضربه أبوه" أو: "الولدُ أبوه ضربه".
ومثل هذه المرفوعات "العشوائية" ومنها ما يسمى بالخبر المفرد (مع المبتدأ أو "إن وأخواتها" أو كخبر فى جملة الخبر الاسمية) من شأنها أن تُربك وضع قاعدة بسيطة لإعراب الكلمات المعربة من غير الفعل ما لم نتقن معرفة مواضعها القليلة على كل حال.
ومهما يكن من شيء فإن ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية لا يشتمل عمليا على أى فعل فى عدد من الجمل، وقد رأينا أن غياب كل فعل فى المسند (الخبر) إنما يعنى أن فعل الكينونة محذوف فى المضارع المثبت. ويعنى هذا أن بقية أنواع خبر جملة الخبر الاسمية (باستثناء وحيد هو الفعل الذى يأتى خبرا للمبتدأ الثانى فى جملة الخبر الاسمية حسب مسميات النحاة) تشترك فى خلوّها من الفعل "الصريح" مع الخبر المفرد ومع الخبر شبه الجملة.
وينقلنا هذا مباشرة إلى استقصاء أحوال ما يسمى بالخبر المفرد والخبر شبه الجملة فى فصل مستقل.
8
المسند (الخبر) ومتعلَّق الظرف أو الجارّ والمجرور

توصَّلنا فى نهاية الفصل السابق إلى استنتاج مؤداه أن المسند (الخبر) لا يكون جملة فعلية، لا خبرًا للمبتدأ أو لحروف "إن وأخواتها"، ولاخبرًاً للخبر الجملة الأسمية، كما يسمى النحو العربى التقليدى هذه الأشياء جميعا. على أن الأفعال المستعملة فى الأمثلة كانت أفعالا تامة (أعنى غير "كان وأخواتها")، بالإضافة إلى أننا لم نستقص أنواع هذه الأفعال من حيث اللزوم أو التعدى إلى مفعول أو مفعولين، باختلاف نماذج الجمل التى تُصاغ من كل ذلك.
غير أن ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية (مع المبتدأ، أو مع "إن وأخواتها"، أو مع ما يسمى بالمبتدأ الثانى فى الخبر الجملة الاسمية) يمكن أن تكون من الأفعال التامة كما يمكن أن تكون من الأفعال المسماة بالناقصة: أفعال "كان وأخواتها".
وفى هذه الحالة الأخيرة يهمنا، بصفة خاصة، فعل الكينونة لأنه كما سبق القول هو الفعل الوحيد الذى "يظهر" و"يختفى” فى الجملة ضمن قانون صارم ينبغى اكتشافه بعيدا عن الصور المألوفة لظاهرة "الحذف" للأفعال وغيرها، فى اللغة العربية وغيرها.
وعندما يظهر فعل الكينونة "صريحًا" فإننا نكون من جديد أمام ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية؛ وهو ما أصبحت طبيعته الحقيقية واضحة الآن تماما. فالخبر هنا قسم أو جزء من الجملة، ولا يكون جملة بحكم بداهة أنه بدون المسند إليه، والحدّ الأدنى للمسند (الخبر) هو الفعل، وحدّه الأقصى هو باقى عناصر الجملة باستثناء عنصر الجملة المتمثل فى المسند إليه (الفاعل).
غير أن فعل الكينونة يختفى أيضا. وعندما يختفى نكون إزاء ما يسمى بالخبر المفرد أو الخبر شبه الجملة أو الخبر الجملة الاسمية الخالية فى خبرها الجديد من "فعل" [فعل الكينونة أو غيره]، وكل هذا فى خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها" وخبر "كان وأخواتها"، وهى جميعا مسميات بحاجة إلى إعادة نظر جذرية (شكلا وموضوعا كما يقال).
وسيكون من الأفضل أن نُنْعم التفكير فى ظهور واختفاء (أو حذف) فعل الكينونة بعد أن نلقى نظرة فاحصة على الجُمَل التالية (والمسند إليه موضوع بين قوسين):


بحذف فعل الكينونة بظهور فعل الكينونة

1: خبر مفرد "اسم": (الرَّجُل) نجار. (الرَّجُل) كان نجارًا.
كان (الرَّجُل) نجارًا.
2: خبر مفرد "صفة": (الرَّجُل) ناجح. (الرَّجُل) كان ناجحًا.
كان(الرَّجُل) ناجحًا.

3: خبر جارّ ومجرور "بمعنى الوصف وليس بمعنى الظرف":
(الرَّجُل) فى غاية الذوق. (الرَّجُل) كان فى غاية الذوق.
كان (الرَّجُل) فى غاية الذوق.
4: خبر جارّ ومجرور "بمعنى الظرف":
(الرَّجُل) فى البيت. (الرَّجُل) كان فى البيت.
كان (الرَّجُل) فى البيت.
5: خبر ظرف: (الرَّجُل) فوق الجبل. (الرَّجُل) كان فوق الجبل.
كان (الرَّجُل) فوق الجبل.

* * *
6: خبر مفرد "اسم" لخبر جملة اسمية:
الرَّجُل (أصدقاؤه) نجارون. الرَّجُل (أصدقاؤه) كانوا نجارين.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) نجارين.
7: خبر مفرد "صفة" لخبر جملة اسمية:
الرَّجُل(أصدقاؤه) ناجحون. الرَّجُل (أصدقاؤه) كانوا ناجحين.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) ناجحين.

8: خبر جارّ ومجرور لخبر جملة اسمية "بمعنى الوصف وليس بمعنى الظرف":
الرَّجُل(أصدقاؤه) فى غاية الذوق. الرَّجُل (أصدقاؤه) كانوا فى غاية الذوق.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) فى غاية الذوق.
9: خبر جارّ ومجرور لخبر جملة اسمية "بمعنى الظرف":
الرَّجُل(أصدقاؤه) فى البيت. الرَّجُل(أصدقاؤه) كانوا فى البيت.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) فى البيت.
10: خبر ظرف لخبر جملة اسمية:
الرَّجُل(أصدقاؤه) فوق الجبل. الرَّجُل(أصدقاؤه) كانوا فوق الجبل.
الرَّجُل كان (أصدقاؤه) فوق الجبل.

ومن أبسط مقارنة لحالات حذف فعل الكينونة من الخبر المفرد، والخبر شبه الجملة، والخبر الجملة الاسمية، مع الحالات التى تناظرها مع ظهور فعل الكينونة، يتضح بكل جلاء ما يلى:
1: الخبر المفرد المرفوع (الاسم) "نجارٌ" يناظره .. "نجارًا": "كخبر مفرد" منصوب ﻟ "كان".
2: الخبر المفرد المرفوع (الصفة) "ناجحٌ" يناظره .. "ناجحًا": "كخبر مفرد" منصوب ﻟ "كان".
3: الخبر شبه الجملة (جارّ ومجرور بمعنى الصفة وليس بمعنى الظرف) "فى غاية الذوق": باق كما هو بعد "كان".
4: الخبر شبه الجملة (جارّ ومجرور بمعنى الظرف) "فى البيت": باق كما هو بعد "كان".
5: الخبر شبه الجملة (الظرف "ومجروره") "فوق الجبل": باق كما هو بعد "كان".
ونجد الشيء نفسه فى الجُمَل الخمس التالية 6 - 10. والجديد فى هذه الجمل الأخيرة هو أن المسند إليه (الفاعل) الحقيقى هو الموضوع بين قوسين، وليس بحال من الأحوال "الرجل" المذكور قبل "أصدقاؤه". والرجل مرفوع ولكنه ليس المسند إليه ما دام شرط هذا الأخير هو إسناد الفعل إليه وتصريفه معه، ومن الواضح هنا أن فعل الكينونة (الظاهر وكذلك المحذوف) مسندان إلى "أصدقاؤه" وليس إلى "الرجل" الذى ينبغى النظر إليه على أنه مضاف إليه مرفوع عشوائيا لأنه سبق المسند إليه المضاف بعده (= أصدقاء الرجل نجارون، إلخ.). وينبغى أن نتذكر أيضا ما سبق تأكيده من أن هذا المرفوع العشوائى المضاف إليه والذى يليه مضافُهُ أى المسند إليه الحقيقى ينبغى تمييزه عن المضاف إليه المرفوع عشوائيا والذى يرتبط بمضافه المفعول به بعده، فى جملة مثل: "المرأة قضيتها نحترمها ونقدّرها ونقف بصلابة معها". فالمرأة هنا مضاف إليه والمضاف اللاحق هو "قضيتها" فالجملة إنما تعنى: "نحن نحترم قضية المرأة ونقدّرها ونقف بصلابة معها". ولا يمكن إضافة "المرأة" هنا إلى المسند إليه، بعكس "الرجل" فى الجمل من 6 إلى 10. على أن هناك المضاف إليه المرفوع عشوائيا والذى يرتبط بالمسند إليه (الحقيقى) بعده، ويرتبط فى الوقت نفسه بضمير المفعول العائد عليه، فى جملة مثل: "المرأة أصدقاؤها يحترمونها"، فإضافتها إلى المسند إليه بعدها قائمة مع أنها المفعول به فى حالة الفعل التام المتعدى: (= أصدقاء المرأة يحترمون المرأة = أصدقاء المرأة يحترمونها).
ومن الجلى أن المسند إليه الذى من نوع "كان نجارًا"، أو "كان ناجحًا"، أو "كان فى غاية الذوق"، أو "كان فى البيت"، أو "كان فوق الجبل"، أو "كانوا نجارين"؛ إلخ. ... فى الجمل ا-10 يعربه النحو العربى التقليدى على أنه "كان" و"خبر كان"، فلا ينتبه إلى حقيقة أن المسند (الخبر) هو فعل "كان" وما يليه أو يسبقه (مباشرة أو مع فاصل) من غير المسند إليه (الفاعل)، وللإنصاف فهذا خطأ شائع فى النحو التقليدى للغات عديدة وليس فى اللغة العربية وحدها وإلى وقت قريب جدا (وحتى إلى الآن فى كثير جدا من المراجع النحوية والمعجمية البالغة الأهمية) .
والاستنتاج الذى يفرض نفسه هنا هو أن المسند (الأخير) ليس ما يسمونه الخبر المفرد، وليس ما يسمونه بالخبر شبه الجملة "من ظرف أو جارّ ومجرور)، وليس ما يسمونه بالخبر الجملة الاسمية، وليس ما يسمونه بالخبر الجملة الفعلية (وهذا ما تبيَّن فى الفصل السابق)، وإنما هو، ولنكرر: كل ما هو غير المسند إليه فى الجملة. أما التحليل النحوى الداخلى للمسند فسوف يعطينا عناصر الجملة بأنواعها كعنصر الفعل (من لازم ومتعدّ وناقص)، وعنصر متمم الفاعل ومتمم المفعول به (ويأتى متمم الفاعل مع "كان وأخواتها" بما فى ذلك حالة حذف "كان" فى المضارع المثبَت، ويأتى فى شكل الاسم وفى شكل الصفة وفى شكل الجارّ والمجرور اللذين لا يدلان على ظرف المكان أو الزمان) وعنصر الظرف، وعنصر المفعول به.
ويمكن، بطبيعة الحال، تكوين جملة مفيدة من الفعل اللازم (أو المستعمل لازما حتى إنْ كان يتعدَّى إلى مفعول واحد أو مفعوليْن)، مثل: "غرق محمود" أو "محمود غرق". أما الفعل المتعدّى المستعمل متعدّيا فلا تتكون منه بمفرده مع المسند إليه جملة مفيدة فهو "يطلب" المفعول به أو المفعوليْن وربما متمم المفعول به أو الظرف حسب نموذج الجملة، إلا فى حالة استعماله لازما (مثل الفعل المتعدّى: "يقرأ" المستعمل لازما فى جملة مثل: "هذا الرجل يقرأ" بمعنى أنه يعرف القراءة). وأما أفعال "كان وأخواتها" (إلا عند استعمال القليل منها كأفعال تامة) فهى مسماة بالأفعال الناقصة لأنه لايمكن الاكتفاء معها بالفعل بمفرده مع المسند إليه (الفاعل)، وهى تجعل من الضرورى استعمال عنصر الجملة المتمثل فى متمم المسند إليه (الفاعل) مهما كان شكل تحقيقه (من اسم أو صفة أو جارّ ومجرور لا يدلان على الظرف) فى نموذج للجملة، أو استعمال عنصر الجملة المتمثل فى الظرف وهو ظرف مكان فى الغالب الأعم وظرف زمان فى القليل المحدود (كعنصر إجبارى) ويتحقق الظرف فى هذين النوعين وغيرهما من أنواع عديدة من خلال أشكال متنوعة ومن هذه الأشكال الكثير جدا مما يعتبر جارّا ومجرورا فيما يسمى بالخبر شبه الجملة (فى خبر "المبتدأ" أو خبر"إن" أو خبر "كان").
وأعتقد أننا بدأنا الآن نقترب من الاطمئنان التام، من خلال تحليل الجمل الخالية من الفعل من الناحية العملية، إلى أن فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبَت ماثل فيها، كما تؤكد الدلالة الزمنية لمعنى مثل هذه الجمل، وكما يؤكد إخضاعها لعديد من الإجراءات والاختبارات النحوية والإعرابية، وإلى أن هذا الحذف إنما يحدث فى الإطار العام للاقتصاد اللغوى، وإلى أنه يؤدى إلى الرفع العفوى لما يسمى بالخبر المفرد المرفوع، وإلى أن المسند (الخبر) إنما يتكون من الفعل الظاهر أو المحذوف مع متمم الفاعل أو مع الظرف أو مع أية عناصر إجبارية فى نموذج للجملة (وبالطبع مع أية عناصر اختيارية واردة عمليا فى الجملة مهما كان نموذجها).
على أن هناك طريقا لم نسلكه إلى الآن سوف يوصلنا إلى نفس النتيجة، وبالذات إلى أن الجملة الخالية من الفعل من الناحية العملية تحتوى على فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبَت.
وهذا الطريق الذى ينبغى أن نسلكه الآن إنما هو "إحياء" ما نجده صحيحا، ولكنْ منزويا أو مهمَّشا أو غير سائد فى النحو العربى التقليدى، للاستفادة، بهذا "الإحياء" لأفكار نحوية صائبة، فى تصحيح الانحرافات الكبرى فى هذا النحو.
والمقصود هنا هو "إحياء" مفهوم مُتَعَلَّق المجرورات، ذلك المفهوم الذى لقى - على شهرته - من الإهمال أو الهجوم الضارى ما فرض عليه الانزواء، أمام سطوة ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع.
ولو جرى المزيد من تحليل وتعميق وتوسيع نطاق مفهوم "المتعلَّق" (بفتح اللام المشدَّدة) ليمتدّ من الظرف و/أو الجارّ والمجرور إلى ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع بالذات لما كان هناك مناص من تدمير تلك الأسطورة، ومعها أسطورة الجملة الخالية من كل فعل بما فى ذلك فعل الكينونة المحذوف فى حالة واحدة وحيدة قاطعة التحدد: حالة المضارع المثبَت.
ونقرأ فى ألفية ابن مالك:

وأَخْبَرُوا بظرفﹴ أو بحرف جَرّْ ناوين معنى "كائن" أو "استقرّْ"

وفى معرض شرحه لهذا البيت يقول ابن عقيل إن الخبر الظرف أو الجارّ والمجرور:
كل منهما متعلِّق بمحذوف واجب الحذف، وأجاز قوم - منهم المصنف - أن يكون ذلك المحذوف اسمًا أو فعلا نحو: "كائن" أو "استقرَّ" فإنْ قدّرت "كائنا" كان من قبيل الخبر بالمفرد، وإنْ قدّرت "استقرَّ" كان من قبيل الخبر بالجملة .
ويواصل ابن عقيل:
واختلف النحويون فى هذا؛ فذهب الأخفش إلى أنه من قبيل الخبر بالمفرد، وأن كلا منهما متعلِّق بمحذوف، وذلك المحذوف اسم فاعل، والتقدير "زيدٌ كائن عندك، أو مستقرّ عندك، أو فى الدار" وقد نُسب هذا لسيبويه .
ويواصل ابن عقيل:
وقيل إنهما من قبيل الجملة، والتقدير "زيدٌ استقرّ - أو يستقرّ - عندك، أو فى الدار" ونُسب هذا إلى جمهور البصريين، وإلى سيبويه أيضا .
ويضيف ابن عقيل:
وقيل: يجوز أن يُجعلا من قبيل المفرد، فيكون المقدر مستقرًّا ونحوه، وأن يُجعلا من قبيل الجملة؛ فيكون التقدير "استقرّ" ونحوه، وهذا ظاهر قول المصنِّف "ناوين معنى كائن أو استقرّ" .
ومن هذا يتضح أن النحو العربى القديم اهتم منذ البداية، أو منذ وقت مبكر جدا، بمسألة ما يربط بين المسند إليه من جهة والظرف أوالجارّ والمجرور من جهة أخرى، وأن اجتهادات النحاة فى هذه المسألة انتهت إلى افتراض أن ما يربط بينهما هو أن الظرف أو الجارّ والمجرور متعلِّق (بكسر اللام المشدَّدة):
1: بمحذوف يدل على معنى الكون والاستقرار.
2: واجب الحذف.
3: يرى بعض النحاة أنه "اسم" وهو اسم فاعل تقديره: "كائن" أو "مستقر"، وفى هذه الحالة يكون الخبر من قبيل الخبر بالمفرد.
4: ويرى بعضهم الآخر أنه "فعل" وهو فعل "استقر"، وفى هذه الحالة يكون الخبر من قبيل الخبر بالجملة.
5: وقيل إن من الجائز تقدير "الاسم" فيكون الظرف أو الجار والمجرور من قبيل المفرد، أو تقدير "الفعل" فيكون كل منهما من قبيل الجملة.
ولنبدأ فى تحليل هذه الاجتهادات حول متعلَّق (بفتح اللام المشدّدة) الظرف أو الجار والمجرور.
ويتفق هؤلاء النحاة على وجود "محذوف" قبل ما يسمى بالخبر الظرف أو الجار والمجرور. وهذا صحيح وسليم غير أن من المؤسف أنهم لم يمدوا هذا التصور إلى الخبر المفرد، وهذا يدل على أن بحثهم كان يركز على حذف عامل الظرف والجار والمجرور فى علاقته بالخبر وغير الخبر كما سوف نرى، على حين أنهم لم يفكروا فى البحث عن عامل يؤثر فى الخبر المفرد المرفوع لأن عامل رفع الخبر (وغيره رفعا محليا) كان يتمثل فى رأيهم فى المبتدأ (وفى الابتداء أيضا عند بعضهم) الذى رفع هنا الخبر أو فى "الترافع" المتبادل بين المبتدأ والخبر.
أما قولهم إن هذا المحذوف واجب الحذف فيدلّ على أن استقصاءهم لم يكن كاملا، ولهذا لم يعرفوا أن المحذوف إنما يقع فى زمن للجملة دون زمن، وبالأحرى يقع فى زمن واحد من الأزمنة المتعددة للجملة، وفى حالة الإثبات فقط فى هذا الزمن الوحيد، وليس فى كل حالات هذا الزمن الوحيد حتى فى حالة الإثبات. ومن المؤسف أن هذا الاستقصاء لم يتم وإلا لأدركوا ليس فقط أن ما يعتبرونه واجب الحذف إنما يذكر أو يحذف حسب الزمن، وأن ما يسمونه بالوجوب إنما هو نتيجة تراكمية للاقتصاد اللغوى فى حالة بذاتها حيث يمكن فهم زمن الجملة بدون فعل الكينونة فى هذه الحالة. بل لكان بوسعهم أن يدركوا أن المحذوف "فعل" وليس "اسما"، وأنه بالذات "فعل الكينونة"، وكان يكفى أن يأتوا بالماضى والمضارع والمستقبل فى الإثبات مرة وفى النفى مرة أخرى ليعرفوا على وجه اليقين أن المحذوف هو فعل الكينونة دون سواه.
وكان يمكنهم، بمزيد من الاستقصاء، أن يتفادوا افتراض أن الفعل المحذوف هو "استقرَّ" أو "يستقرُّ"، لأن هذا الفعل مستعمل فى اللغة دون حذف واجب مزعوم.
أما قولهم إن الخبر سيكون فى حالة تقدير الفعل "استقرَّ" أو "يستقرُّ" من قبيل الخبر بالجملة (الفعلية بالطبع) فيرجع إلى تصورهم عن فاعله المستتر أو فاعله ضمير الرفع البارز المتصل (وقد سبق أن رأينا حقيقة هذين الفاعلين المزعومين)، حيث تكون الجملة من هذا الفعل المُقدّر وفاعله المتوهم فى "محل رفع" خبرا.
كما كان بوسعهم، بمزيد من الاستقصاء، أن يتفادوا افتراض أن المحذوف اسم أو اسم فاعل هو "كائن" أو "مستقر"، لأن "تقليب" الجملة بتقديرها الجديد على بقية الأزمنة كان من شأنه أن يوضح لهم أن هذا الخبر بالمفرد، كما قالوا فى هذه الحالة التى لم يروا فيها محذوفا بحكم تصورهم عن الخبر المفرد المرفوع، سيحتاج إلى "تقدير" أو افتراض محذوف من جديد، وأن هذا المحذوف سيكون فعل الكينونة بالذات بالضرورة:
زيد عندك.
زيد (كائن) عندك.
زيد (يكون كائنا) عندك.
زيد (كان كائنا) عندك.
زيد (سيكون كائنا) عندك.
زيد (لا يكون كائنا) عندك.
زيد (ما كان كائنا) عندك.
زيد (لم يكن كائنا) عندك.
زيد (لن يكون كائنا) عندك.
وينطبق نفس الشيء على اسم الفاعل الآخر: "مستقر"، فإنه سيحتاج بدوره إلى: "يكون"، أو "كان"، أو "سيكون"، أو "سوف يكون"، أو "لا يكون"، أو "ليس"، أو "لم يكن"، أو "ما كان"، أو "لن يكون"، كما احتاج كائن إلى كل ذلك حسب ضرورات استيعاب دلالات الزمن والإثبات والنفى.
على أن الرأى المنسوب "إلى جمهور البصريين، وإلى سيبويه أيضا"، بأن المحذوف "فعل" وأن مثل هذا الخبر من قبيل الخبر بالجملة ("وإن قدرت "استقر" كان من قبيل الخبر بالجملة" وهذه صياغة للشارح استنادا إلى النحاة أفضل من صياغته الأخرى، استنادا إليهم أيضا: "إنهما من قبيل الجملة" أو "وأن يجعلا من قبيل الجملة"، والمقصود بهما: الظرف والجار والمجرور، لأن الصياغة الأولى تضم الفعل إلى الخبر أو تجعل الفعل هو الخبر بصورة مباشرة وواضحة) – هذا الرأى يضعنا مباشرة أمام حقيقة أن هؤلاء النحاة اكتشفوا، تحت الجملة المجردة من الفعل، ذلك الفعل المحذوف، وأثبتوا بذلك أنه لا يمكننا أن نتصور الخبر الذى ليس فعلا أو الذى لا يشكل الفعل مكوّنه الإجبارى الذى لا يستغنى عنه.
ويتضح هذا أكثر من تعليق هام للمحقق الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد:
...اختلف النحاة فى الخبر: أهو متعلَّق الظرف والجار والمجرور فقط أم هو نفس الظرف والجار والمجرور فقط، أم هو مجموع المتعلَّق والظرف أو الجار والمجرور؟ فذهب جمهور البصريين إلى أن الخبر هو المجموع؛ لتوقف الفائدة على كل واحد منهما، والصحيح الذى نرجحه أن الخبر هو نفس المتعلق وحده، وأن الظرف أو الجار والمجرور قيد له، ويؤيد هذا أنهم أجمعوا على أن المتعلَّق إذا كان خاصا فهو الخبر وحده، سواء أكان مذكورا أم كان قد حذف لقرينة تدلّ عليه، وهذا الخلاف إنما هو فى المتعلَّق العام، فليكن مثل الخاص، طردا للباب على وتيرة واحدة .
ورأى المحقق ("الخبر هو نفس المتعلَّق وحده") يتسق (عند اتخاذ المحذوف فى الاعتبار) مع الاتجاه العام فى النحو العربى فى إعراب الخبر الفعل (الخبر الجملة الفعلية) والخبر المفرد (اسم الفاعل هنا) فهذا أو ذاك هو الخبر ولا خبر غير ذلك (إلا ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية) فى هذا النحو.
وإذا تذكرنا الرأى الذى عبرنا عنه مرارا وتكرارا فى سياق هذا البحث، وهو أن المسند (الخبر) هو كل الجملة باستثناء المسند إليه (الفاعل)، يتضح أن أقرب رأى هو هذا الرأى المنسوب إلى جمهور البصريين وهو أن "الخبر هو المجموع"، مع ملاحظة أن "المجموع" عندهم هو مجموع الفعل "استقرَّ" أو "يستقرُّ" وفاعله المستتر والظرف أو الجار والمجرور، أما المسند (الخبر) بالمعنى النحوى السليم فهو، فى مثل هذه الجملة الخالية عمليا من الفعل، فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت مع الظرف أو الجار والمجرور، بالإضافة أية عناصر أخرى إجبارية او اختيارية ترد فى الجملة غير المسند إليه (الفاعل).
على أن النحاة يشيرون إلى أن الحذف لا يكون للكون العام فقط بل قد يكون للكون الخاص أيضا. ويذكر الأستاذ المحقق فى هامش آخر ما يلى:
وجعل ابن هشام فى المعنى من هذا الأخير [أى أن يكون المتعلَّق خاصا قامت القرينة الدالة عليه] قوله تعالى: "الحر بالحر والعبد بالعبد" أى الحر يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد .
ويقول فى هامش ثالث:
...الأصل عند الجمهور أن الخبر - إذا كان ظرفا أو جارا أو مجرورا - أنْ [كذا] يكون كل منهما متعلِّقا بكون عام، وأن يكون هذا الكون العام واجب الحذف، كما قرره الشارح العلامة، فإن كان متعلَّقهما كونا خاصا وجب ذكره [....] فإن قامت هذه القرينة جاز ذكره وحذفه، وذهب ابن جنى إلى أنه يجوز ذكر هذا الكون العام لكون الذكر هو الأصل .
ويتركز بحثنا هنا بطبيعة الحال على الكون العام أو الوجود المطلق الذى يدل عليه فعل الكينونة ولا يتعلق الأمر بالحذف بوجه عام (حذف الفاعل أو الفعل أو المفعول، إلخ.). وإنما يكفينا أن هؤلاء النحاة القدامى اكتشفوا المحذوف فى الجملة الخالية من الفعل، وأن اتجاها رئيسيا بينهم يرى أن المحذوف فعل، وأنه يدل على الكون العام حتى إن ربطوا هذا بفعل "استقر" وليس بفعل "كان" كما كان ينبغى، وأن هذا الفعل مع ما يليه هو الخبر.
وكل هذا يؤدى بنا إلى مزيد من الاطمئنان إلى فرضية أن الجملة لا تخلو من الفعل، وأن المسند (الخبر) لا يخلو من الفعل، وأنه المكان "الطبيعى” أو المنطقى لوجود الفعل، وأن الفعل هو الحد الأدنى لتحققه.
على أن المتعلَّق المحذوف عندهم ليس الخبر أو جزءا من الخبر فحسب بل يمتد إلى الصفة والحال والصلة (صلة الموصول). ويقول ابن عقيل:
وكما يجب حذف عامل الظرف والجار والمجرور - إذا وقعا خبرا - كذلك يجب حذفه إذا وقعا صفة، نحو: "مررت برجل عندك أو فى الدار"، أو حالا، نحو "مررت بزيد عندك، أو فى الدار" أو صلة، نحو: "جاء الذى عندك أو فى الدار". لكن يجب فى الصلة أن يكون المحذوف فعلا، والتقدير: "جاء الذى استقر عندك، أو فى الدار". وأما الصفة والحال فحكمهما حكم الخبر كما تقدم .
والحقيقة أن التحليل عن طريق زمن الكلام يؤيد صدق حدسهم. فمثلا إذا قلنا: "مررت برجل كان عندك، أو سيكون عندك، أو لم يكن عندك" فإن المحذوف يظهر بنفس وضوح ظهوره فى حالة "الخبر". وكان من شأن اعتبار المحذوف فعلا دون غيره بعيدا عن اسم الفاعل مثل "كائن" أو "مستقر" أو الضمير، وفعل الكينونة دون غيره بعيدا عن "استقرَّ" أو غيره، فى هذه الحالات جميعا، أن يُنقذ النحو العربى من اضطراب كبير يتعلق بالخبر وبغيره.
ومن هذا الاضطراب ما يؤكده الأستاذ عباس حسن من أن "الرفع المحلى للظرف والجار والمجرور" يرجع إلى أن:
الأصل أن يكون الخبر مفردا مرفوعا، إذ المفرد "بسيط" و"البسيط" أصل المركب فجاء الظرف والجار والمجرور وحلا فى محل ذلك الأصل (...) فلو قلنا: "ظرف منصوب خبر المبتدأ" أو: "جار مع مجروره خبر المبتدأ"؛ من غير أن نزيد شيئا ما حصل قصور، ولا وقعنا فى خطأ، ولكان مساويا فى صحته لقولنا: إن شِبْهَى الجملة متعلقان بمحذوف هو الخبر... لكن قد يكون الأخذ بالإعراب الأول أنسب؛ لأنه أوضح ظهورا، لمراعاة الأصل، والغالب فيه .
وهكذا يتساوى عند الأستاذ الكبير أن يكون الخبر هو المتعلَّق المحذوف أو الظرف (أو الجار والمجرور)، وكأن من غير المنطقى أن نهتم بمسألة: ما هو الخبر على وجه الدقة والتحديد؟ وكما رأينا فإن الأستاذ الكبير يفضل مع ذلك الرفع المحلى للظرف أو الجار والمجرور خبرا للمبتدأ، ويضيف الأستاذ عباس حسن:
فاعتبار الظرف هو الخبر من غير أن يتعلق بشيء آخر وكذلك اعتبار الجار الأصلى مع مجروره هو الخبر - مذهب قديم من عدة مذاهب (...) والأخذ به يريحنا من بحوث جدلية مضنية، وتقسيمات متعددة، لا نفع لها اليوم وليس فيها إلا العناء العقلى الذى تضيق به الناشئة .
وهكذا ينطلق علامة النحو الكبير، فى هذه النقطة، من تصوُّر مبسَّط عن تبسيط النحو، بعيدا عن ضرورة الفهم الصحيح الدقيق للنحو أولا قبل البحث الضرورى بعد ذلك عن وسائل وطرق وأساليب العرض "الذى لا تضيق به الناشئة". على أن الأستاذ الكبير يواصل عرضه لمذاهب وآراء متعددة لكى ينهل الدارسون المتخصصون من معرفته الموسوعية الواسعة ما يقفون عنده "وقفة الفاحص" لكن "لا للأخذ بها" كما يقول مع أن التمهيد للأخذ بالصحيح ينبغى أن يكون الهدف السليم للفحص العميق.
ولعلنا ننهل من العلم الغزير للأستاذ العلامة:
أن الخبر فى الأصل هو المحذوف (...) ويتعلق به كل واحد من هذين [أى: الظرف والجار والمجرور]. ولما كان كل منهما صالحا لأن يتعلق بالفعل المحذوف، ويدل عليه بغير خفاء ولا لبس - كان شبه الجملة بمنزلة النائب عنه، والقائم مقامه. والفعل مع فاعله جملة؛ فما ناب عنها وقام مقامها فهو شبه بها، لذلك أسموه: "شبه الجملة". وأوجبوا حذف متعلَّقه إن كان كونا عاما وقع خبرا، أو: صفة، أو: حالا..." وكذلك إن كان صلة لموصول .
وكذلك فى موضع سابق من نفس الهامش:
الظرف أو الجار الأصلى مع مجروره متعلق بمحذوف خبر؛ سواء أكان المحذوف فعلا مع فاعله (أى جملة فعلية؛ مثل: استقر، أو: ثبت، أو: "كان" التى بمعنى: "وُجد" وهى: كان التامة)، أم كان مفردا (أى: اسما مشتقا؛ مثل مستقر، او كائن المشتقة [كذا] من "كان" التامة، أو: موجود أو: شيئا آخر يصلح عاملا)... .
ويؤكد الكاتب العلامة أنه:
إنصافا للنحاة نذكر أن رأيهم فى وجوب تعلُّق شبه الجملة سديد، وأن حجتهم فى تحتيم ذلك قوية (...) فالظرف (...) لا يستقل بنفسه فى إحداث معنى جديد، لأنه وعاء - كالوعاء الحسى - لابد له من مظروف (...) وهذا المظروف هو ما يسمى: "المتعلَّق" وهو الذى لابد أن يقع فى الظرف، وإلا فسد المعنى بغيره تماما، وما يقال فى الظرف يقال فى الجار الأصلى مع المجرور، إذ لا فائدة منهما إلا بمتعلَّقهما .
غير أن من المؤسف أن كل هذا لا يكتمل بامتداد مفهوم "المتعلَّق" (بفتح اللام المشدَّدة) إلى ما يسمى بالخبر المفرد، ولا يكتمل بعناصر أخرى سبقت الإشارة إليها، ومنها عدم إدارك أن "المتعلَّق" هو فعل الكينونة من أفعال "كان وأخواتها" وليس "كان" التامة، لأن هذه الأخيرة تفسد المعنى وتربكه وتجعله يضطرب تماما.
وبهذه الطريقة نكون قد استفدنا من "إحياء" مفهوم "المتعلق" فى النحو العربى القديم مع إيقافه على قدميه بتصحيح انحرافاته، تماما كما استفدنا من "إحياء" السند والمسند المنسوبين إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى، أو المسند والمسند إليه عند سيبويه، أو من "إحياء" مجمع اللغة العربية بالقاهرة لهذين المفهومين بطريقة مترددة أربكت النحو والنحاة، كما أربكت التعليم والمعلمين والمتعلمين، خلال عقود طويلة سابقة.
ويمكننا الآن أن نتجه مباشرة إلى تحليل العناصر النحوية الأساسية (عناصر الجملة) التى يشتمل عليها المسند (الخبر).





















9
المسند أو الخبر: تحليل لعناصره المكونة

توصَّلْنا فى سياق مناقشة المسند إليه والمسند فى الفصول السابقة إلى أن المسند هو كل الجملة باستثناء المسند إليه، فهو كل ما نقوله عن هذا الأخير، وبعبارة أخرى فالمسند هو كل ما نثبته أو ننفيه عن المسند إليه.
وهكذا انقسمت الجملة إلى قسمين أو تجزَّأت إلى جزءين هما المسند إليه والمسند. وقد رأينا أن النحو العربى لا يقسّم الجملة هذا التقسيم. وحتى عندما يستعمل تعبيرى المسند إليه والمسند (إلى جانب كافة الألقاب الأخرى من مبتدأ وخبر للجملة الاسمية أو فعل وفاعل للجملة الفعلية - وهذا عند "كل" النحاة والمذاهب "تقريبا"، قديما وحديثا؛ أو بدلا من هذه التسميات جميعا فى حالة نادرة تمثلها محاولة فاشلة فى الثلاثينات والأربعينات والخمسينات لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف المصرية) ... حتى عند استعمال هذين التعبيرين يعتبرهما النحو العربى التقليدى (الذى لا نملك غيره) ركنين أساسيين وليس وحيدين، حيث تشتمل الجملة على غيرهما، تشتمل على المفعول به وعلى الظرف، وعلى الحال، وعلى أشياء لا حصر لها، حيث يضيِّق هذا النحو نطاق المسند (الخبر) بأنواعه المزعومة المعروفة.
وهناك لغات أخرى لا يقسم نحوها الجملة بأكملها إلى قسمين كما نفعل هنا. وإذا حكمنا بكتاب ليس حديثا جدا (إذْ يرجع إلى 1975) وهو: "قواعد اللغة الفارسية" للدكتور عبد النعيم محمد حسنين، نجد النحو الفارسى يجعل أجزاء الجملة الفارسية (الأصلية) ثلاثة: المسند إليه والمسند والرابطة التى تربط بينهما، أما عندما يكون المسند فعلا، غير الرابطة والفعل الرابط، فإن الفعل يقوم مقام المسند والرابطة معا
وكان النحو الفرنسى لا يُدخل فعل الكينونة فى المسند إلى عهد قريب، مثلا: "معجم لا روس الصغير"، طبعة 1978 ، الذى كان لا يزال يخلط بين المسند وما نسميه هنا بمتمم الفاعل، غير أن أحدث المطبوعات الفرنسية (من معاجم لغة وكتب نحو) المنشورة فى التسعينات تدلّ على أن النحو الفرنسى أخذ يلحق بثورة النحو الإنجليزي فى العقود الأخيرة، وهذا النحو الأخير يتبنى التقسيم الثنائى للجملة بأكملها إلى المسند إليه والمسند، جاعلا هذا الأخير كل ما نثبته للأول أو ننفيه عنه، وهكذا يشكل الفعل اللازم أو المتعدى أو الرابط بكل ما يصحب كل نوع منها بصفة إجبارية فى نماذج بذاتها أو بصفة اختيارية جزءًا لا يتجزأ من المسند الذى يقتصر حده الأدنى على الفعل اللازم أو المستعمل لازما.
وكما سبق القول فإن المسند، بعكس المسند إليه، مفهوم فضفاض يشتمل على عناصر قد تتعدد من عناصر الجملة، فيما بين مسند الحد الأدنى، المكون من عنصر واحد هو الفعل، ومسند الحد الأقصى، المكون من أربعة عناصر هى الفعل والمفعول به والظرف والمتمم (متمم الفاعل أو المفعول به).
ولهذا، أىْ: بسبب اشتماله على عناصر ومكونات وتراكيب متعددة، يخرج المسند من دائرة الإعراب، ولكنه يخرج أيضا من دائرة المفاهيم النحوية التحليلية الفعالة التى ينبغى أن تكون أضيق نطاقًا، وهى التى ينطبق عليها مفهوم عنصر الجملة.
ولهذا فإن الحديث عن تقسيم الجملة إلى المسند إليه والمسند ينبغى ألا يكون أبدا موضوعا للاهتمام النحوى البالغ ولا موضوعا للتحليل الإعرابى أو النحوى المتواصل. بل تكفى الإشارة فى البداية، أو أحيانا كنوع من التذكير، إلى هذا المسند الذى ينبغى "إهماله" إلى أبعد حدّ بعد ذلك، على أن يتم الاحتفاظ بما يحتويه هذا الوعاء المسمى بالمسند من مكونات أو عناصر، إلى جانب المسند إليه لأن هذا الأخير عنصر جملة.
وقبل أن ننتقل إلى هذه المكونات أو العناصر ينبغى أن نشير إلى أن المسند يأتى بعد المسند إليه أو قبله، وقد تأتى كلمة أو كلمات منه قبله وكلمة أو كلمات منه بعده فى الجملة الواحدة، وفى الجمل التالية وضعنا المسند بين قوسين:
(تفوقت) عزة.
عزة (تفوقت).
(يتفوق) التلميذ المجتهد (لأنه يعتمد على نفسه).
(إن) حب الوطن (من الإيمان).
(كان) الناس (لا يرون بعضهم من كثافة الشبورة).
هذه المرأة أعداؤها (يكثرون).
ومن الجلى أن عبارة "هذه المرأة"، فى الجملة الأخيرة، ليست المسند إليه مقابل المسند الجملة (وريث الخبر الجملة الاسمية): "أعداؤها يكثرون"، والتى يعتبر أن المسند إليه فيها هو: "أعداؤها"، وأن المسند فيها: "يكثرون"، كما يفعل كتاب: "تحرير النحو العربى” السابق الذكر مع مثل هذه الجملة. والحقيقة أن المسند إليه دون غيره هنا هو "أعداؤها"، أما عبارة "هذه المرأة" فهى ما يمكن أن نسميه بالمضاف إليه لمضاف لاحق (فاعل هنا ومفعول به فى أحوال أخرى) ولفظة "المرأة" هنا مرفوعة رفعًا سبق أن أسميناه بالرفع العشوائى لأنها سبقت بالتقديم عامل جرّها بالإضافة.
وأفضل طريقة لمنع التقدير العشوائى للمسند إليه، كما يفعل الكتاب المشار إليه منذ قليل، وكما يفعل غيره، وكما يفعل النحو العربى كله، هى البحث أوّلا وقبل كل شيء عن الفعل أو الأفعال فى الجملة، ثم البحث بعد ذلك عن فاعل (مسند إليه) لكل فعل. وبهذا يمكننا أن نتفادى التقدير العشوائى للمفاهيم والعناصر النحوية، وإنْ كنا لا نملك إلا الاحترام الكامل والإذعان الكلى للإعراب العشوائى والرفع العشوائى (رغم حق النصب أو الجرّ)، فى حديثنا كما فى كتابتنا، لأن هذا النوع من الإعراب صار أصلا من أصول النحو الجمعى، واللغة، كما شاءت سليقة الجماعة اللغوية العربية، أى العرب.
والمسند إليه هو فاعل الفعل (بما فى ذلك الفعل المحذوف فى المضارع المثبت لفعل الكينونة أو فعل الأمر أو المضارع المنفى للنهى أو غير ذلك من حذف تحفل به كل لغة)، وهو المرفوع ولا مرفوع سواه اللهم إلا بصورة عشوائية وفى مواضع قليلة يمكن إتقان معرفتها.
ومن الجلى أن إعراب الفعل (من رفع ونصب وجزم) يختلف جوهريا عن إعراب الاسم (والاسم يرمز هنا لكل ما يعرب، من غير الفعل المضارع، كالصفة والظرف) لأن هذا الإعراب الأخير يقوم دون الأول بوظيفة تمييز الفاعلية من المفعولية، ومختلف العلاقات النحوية من بعضها، وتوابع هذا العنصر من توابع ذاك، وما إلى ذلك. ولا يرتبط إعراب الفعل بشيء من هذا رغم محاولات الاجتهاد فى مجال الربط بين الإعراب والمعنى، وبين الإعراب والزمن. وسيجد القارئ فصلا كاملا من كتاب: "اللغة والزمن" لمؤلفه مالك يوسف المطلبى، وهو الفصل الخامس وعنوانه "الزمن والإعراب" حافلا بالمناقشات حول هذه النقطة .
وعلى الجانب الآخر، منطقيًّا وتحليليًّا وليس مكانيًّا، نجد فى "قلب" دائرة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، وفى مقابل المسند إليه (الفاعل) مباشرة، المفعول به الذى يدخل مع المسند إليه فى علاقة مخالفة فى الوظيفة النحوية (ما يقوم بالفعل المتعدى وما يقع عليه ذلك الفعل أو المؤثر والمتأثر بالفعل المتعدى) وكذلك فى الاعتبار الإعرابى المتخالف بالتالى بينهما والمتمثل فى الرفع لأحدهما والنصب للآخر. فالذى يخالف المسند إليه (الفاعل)، وهو عنصر جملة، ليس المسند (الخبر)، وهو ليس عنصر جملة وإنما مجموع عناصر الجملة غير المسند إليه، بل هو المفعول به. وهذا هو المنصوب، عن كل حق فى النصب بحكم المخالفة النحوية، وبالتالى الإعرابية. وينبغى أن يكون واضحا أن ما يسمى بمنصوبات الأسماء إنما هى عناصر جملة تتحقق فى شكل من أشكالها بالنصب، لأنها تتحقق أيضا بالألفاظ المبنية أو بالتراكيب المتعددة الألفاظ والتى لا تقبل - كتراكيب - علامات الإعراب بالتالى.
ويتبقى عنصران هما الظرف والمتمم (متمم الفاعل ومتمم المفعول المباشر).
ونصطدم هنا بحقيقة أننا أمام مهمة ليست باليسيرة تتمثل فى التوفيق وليس التلفيق بين ثلاثة عناصر من عناصر الجملة (المتمم والظرف والمفعول به) وكثرة من منصوبات الأسماء. وإذا تذكرنا أن المفعول به بالذات واضح تماما من حيث مفهومه الجوهرى الذى لن يقابلنا بمفاجآت بالاتساع لمنصوبات أخرى، اللهم إلا تلك التى يجرى فصلها عادة ضمن "أساليب" بذاتها، تأكد لنا أن المهمة أقلّ يسرا وأشدّ صعوبة لأن مفهومى الظرف والمتمم هما المرشحان النحويان الوحيدان لاستيعاب كل تلك الكثرة من منصوبات الأسماء.
على أن الوقت لم يحن بعد لهذه المحاولة التى ستأتى بعد وقفة متأنية، بعد هذا الفصل، عند الإعراب من حيث طبيعته، ووظيفته، وعلاقته بعناصر الجملة، ومبادئ وأساليب ووسائل تبسيط عرضه وتسهيل استيعابه، وكذلك النتائج التى تترتب، بصفة جوهرية، على مناقشتنا للنحو من ناحية وللإعراب من ناحية أخرى.
أما هنا فنواصل مناقشتنا لمكونات أو عناصر المسند (الخبر)، وهى ذاتها بالإضافة إلى المسند إليه (الفاعل) عناصر الجملة.
والمقصود بعناصر الجملة هى تلك العناصر التى يمكن تقسيم الجملة إليها من حيث العلاقات النحوية القائمة بين تلك العناصر فى الجملة. وهى العناصر التى تبنى منها أو بها الجملة، ولهذا فإنها تتناول مختلف جوانب الحدث أو المعنى الذى تتضمنه الجملة. فمن هو فاعل الحدث أو المعنى أو الفعل بالمعنى النحوى للفاعل؟ وهذا هو عنصر المسند إليه (الفاعل). وما هو الحدث الذى تتضمنه الجملة؟ وهذا هو عنصر الفعل الذى يربط بين دلالة الحدث وزمنه. ومَنْ الذى (أو ما الذى) وقع عليه الفعل؟ وهذا هو عنصر المفعول به. ويأتى عنصر الظرف ليوجّه أسئلة جديدة عن مكان الحدث أو زمانه أو سببه أو غايته أو نتيجته أو الطريقة أو الكيفية التى تم بها أو أشياء أخرى كثيرة سيأتى تفصيلها فى المكان الملائم.
وهناك عنصر المتمم (متمم الفاعل ومتمم المفعول به المباشر). وقد يكون صفة أو اسما أو ضميرا أو جارًّا ومجرورا.
ويأتى متمم الفاعل مع "كان وأخواتها"، أى مع ما يسمى بالأفعال الناقصة. وينبغى توسيع نطاق هذه الأفعال، والمعجم يحتوى على أكثر بكثير من التعداد الذى يقدمه النحو العربى التقليدى، وسنقف عند هذه النقطة عند مناقشة متمم الفاعل فى قسم خاص به أو بالمتمم ككل. ونكتفى هنا بأن المتمم كله من المنصوبات فى الأشكال التى تقبل علامة النصب من أشكال تحقيقه، باستثناء متمم الفاعل المرفوع بحذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
أما متمم المفعول المباشر فيأتى مع المفعول الواحد أو المفعولين، كما أنه قد يكون اسما أو صفة أو ضميرا أو جارّا ومجرورا.
ومتمم المفعول المباشر بعد مفعول واحد هو ذاته ما يسمى بالمفعول الثانى المزعوم مع أفعال "ظن وأخواتها". ومتمم المفعول بعد مفعول واحد أو مفعولين قابل للربط بالمفعول المباشر الذى يتممه بفعل الكينونة أو بغيره من أفعال "كان وأخواتها"، وهذا هو المعنى الجوهرى لقول النحاة إن أفعال "ظن وأخواتها" ... "تدخل" على جملة أصلها المبتدأ والخبر بعكس أفعال أعطى وأخواتها.
ومتمم المفعول به مع مفعولين هو ذاته المفعول الثالث المزعوم مع أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما"، هذه الأفعال التى يزعمون أنها تنصب ثلاثة مفاعيل، وأنها تأتى بتعدية الأفعال المتعدية إلى مفعولين (مع "ظن وأخواتها" فيما يزعمون)، بالهمز أو التضعيف، إلى مفعول ثالث ليس فى حقيقته سوى هذا المتمم للمفعول المباشر.
وتأتى أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" بمفعول جديد بالإضافة إلى المفعول به الحقيقى الذى تأتى به أفعال "ظن وأخواتها"، وبالإضافة إلى متمم المفعول به المزعوم مفعولا به ثانيا مع هذه الأفعال الأخيرة. والمفعول المباشر ومتممه هو الذى يمكن أن نطبّق عليه صيغة النحاة: "أصلهما المبتدأ والخبر"، بمعنى أنه يمكن الربط بينهما بالكينونة أو بالأفعال الناقصة.
على أن الحقيقة التى لا مراء فيها هى أن أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" ليست سوى قسم من أفعال "أعطى وأخواتها"، أو بالأحرى: من الأفعال المتعدية إلى مفعولين (وهى أكثر بكثير من تعداد النحاة). وكما يمكننى أن أقول: "أعلمتك الخبر"، يمكننى أن أقول: "أعطيتك الكتاب". وكذلك يمكننى أن أقول: "أعلمتك خبرا" أو "أعطيتك كتابًا". وكذلك: "أعلمتك الخبر يقينا" أو: "أعطيتك الكتاب جديدا". وفى كل هذه الأحوال ليس لدينا سوى مفعولين: الكاف و"الخبر"، والكاف و"الكتاب"، أو الكاف و"خبرا" والكاف و"كتابا". أما "يقينا" و"جديدا" فكل منهما متمم للمفعول المباشر أى "الخبر و"الكتاب" على الترتيب. ويأتى متمم المفعول نكرة مع المفعول "المعرفة" الذى يتممه، وإذا كان هذا الأخير نكرة فإن النكرة بعده ستكون "نعتا". على أن دقائق هذه المسائل ستتضح أكثر فى القسم الخاص بمتمم المفعول به.
ودون اشتراط أو استبعاد وجود عناصر الجملة جميعا فى جملة واحدة، ودون اشتراط أو استبعاد تكرار هذا العنصر أو ذاك، "إجباريا" (أى وفقا لنموذج) أو "اختياريا" (مهما كان النموذج)، ودون اشتراط أو استبعاد ترتيب بالذات لهذه العناصر فى الجملة (إلا بصفة جزئية قد توجبها مراعاة مقتضيات أولية للنحو ومنطقه، مثل حقيقة أن وجود مفعول أو مفعولين إنما يقرره نوع الفعل من حيث اللزوم أو التعدى إلى مفعول أو مفعولين)، يمكن إيجاز ما سبق فى عناصر الجملة التالية، وينبغى أن ندرك أن وجود المسند إليه فى كافة نماذج الجملة يعنى أن هذه الأخيرة إنما تتمايز بتمايز نماذج المسند (الخبر):

الجملة
المسند إليه (الفاعل) المسند (الخبر)

الفعل المفعول به متمم الفاعل أو المفعول به الظرف


وكما سبق القول فإن المسند (الخبر) ينبغى أن يترك مكانه لعناصر الجملة التى يتكوَّن منها ويشكِّل مجموعها. وعندما نكفّ عن الوقوف طويلا أو كثيرا عند المسند (الخبر) بدلا من التحليل النحوى الإعرابى الأزلى القائم على المسند إليه والمسند أو المبتدأ والخبر، على أساس أن مجرد تحديد المسند إليه يعنى فى حد ذاته أننا حددنا المسند لأنه "كل الباقى” ولأن البحث عنه سيكون، بالتالى، سخيفا، تغدو عناصر الجملة، والأشكال التى تتحقق من خلالها، والأحكام الإعرابية للعناصر المعربة أو للأشكال المعربة من هذه العناصر، فى مكان الصدارة، لتصبح الموضوعات الحقيقية للتحليل النحوى الإعرابى للجملة، وكذلك أدواته الفعالة.
وأرجو أن يعذرنى القارئ على الازدواج الذى احتفظت به فى هذا الكتاب بين تعبير "المسند إليه" وتعبير "الفاعل"، وذلك رغبةً منى فى إحداث نوع من الملاءمة فى تسمية قسمى الجملة بالمسند إليه والمسند، وفى تسمية عناصر الجملة وبالذات الفعل والفاعل والمفعول، لأن العلاقة الاشتقاقية بين هذه الألفاظ الأخيرة توضح بسهولة نوع العلاقات النحوية فيما بين هذه العناصر من فاعلية ومفعولية عبْر توسُّط الفعل، مع التحذير من الفهم التقليدى للفاعل فهو يساوى عندى المسند إليه بكل أنواعه ذات الألقاب المتعددة فى النحو العربى التقليدى.
وعلى هذا يمكن التوصُّل إلى قائمة أولية بالنماذج الأساسية للجمل، والتى يؤدى أخذ أشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة فى كل نموذج منها فى الاعتبار إلى خريطة بالغة التعقيد، قد تحتوى على عشرات النماذج الفرعية، ويحتاج إعدادها إلى جهود مضنية لكوكبة من علماء أو باحثى النحو، الذين سيكون عليهم أن يدرسوا "كافة" أفعال المعجم العربى فى "كافة" استعمالاتها الحديثة والقديمة، وأن يدرسوا كل فعل من مائة زاوية، وليس فقط من زاوية الدلالات المعجمية المألوفة، أو من زاوية اللزوم والتعدى، وأن يكون استقراؤهم الشامل من كل ذلك هو الأساس لتوزيع نتائجه على أفعال المعاجم العربية بإيراد نماذج الجمل القابلة للتطبيق على كل استعمال لكل دلالة من دلالات كل فعل عربى، كما تفعل معاجم عديدة، منذ عقود، فى اللغة الإنجليزية.
فهذه إذن قائمة أولية بالنماذج الأساسية للجملة العربية، وهى تتكون من العناصر الإجبارية لكل نموذج، دون اعتبار للعناصر الاختيارية، ومع كل نموذج أساسى جملة واحدة (أو أكثر فى قليل من الأحوال) لإيضاح قليل من أشكال تحقيقه بكلمة واحدة أو بمجموعة من الكلمات:

1: فاعل + فعل ناقص + متمم الفاعل (اسم): حسينٌ كان رجلا.
فاعل + فعل ناقص + متمم الفاعل (صفة): حسينٌ كان طيّبًا.
فاعل + فعل ناقص + متمم الفاعل (جار ومجرور): حسينٌ كان من الأفذاذِ.
2: فاعل + فعل ناقص + ظرف مكان: عزةُ كانت فوق السفينةِ.
فاعل + فعل ناقص + ظرف مكان (جار ومجرور): عزةُ كانت فى المكتبةِ.
فاعل + فعل ناقص + ظرف زمان: الحفل سيكون الليلةَ.
فاعل + فعل ناقص + ظرف زمان (جارّ ومجرور): الحفل سيكون فى الساعة الثامنة.
3: فاعل + فعل لازم (أو مستعمل لازما): الطفل بكى.
4: فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر: عزةُ تحبُّ هندًا.
5: فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + متمم المفعول به (اسم): عزت ظن محمدًا طبيبًا.
فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + متمم المفعول به (صفة): عزت ظن محمدًا قادمًا.
فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + متمم المفعول به (جار ومجرور): عزت ظن محمدًا من العباقرةِ.
6: فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + ظرف مكان: عزت ظن الحفل فى البيتِ.
فاعل + فعل متعد إلى مفعول + مفعول مباشر + ظرف زمان: عزت ظن الحفل الليلةَ.
7: فاعل + فعل متعد إلى مفعولين + مفعول غير مباشر + مفعول مباشر: أعطى حسنٌ حسامًا الكتابَ.
8: فاعل + فعل متعد إلى مفعولين + مفعول غير مباشر + مفعول مباشر + متمم المفعول: أعطى حسنٌ حسامًا الكتابَ جديدًا.
9: فاعل + فعل متعد إلى مفعولين + مفعول غير مباشر + مفعول مباشر + ظرف زمان: أعطى حسنٌ حسامًا الكتابَ فى موعدِه.

وبطبيعة الحال فإن هذه القائمة الأولية بالنماذج الأساسية للجمل، والتى تحتوى تسعة نماذج، قابلة للزيادة قليلا أو للاختصار قليلا، غير أن الأهم من ذلك تطويرها إلى خريطة شاملة للنماذج الفرعية التى تتكون بإضافة أشكال تحقيق كل نموذج، وهذا بالطبع فوق طاقة كتاب، وفوق طاقة فرد.
ويمكن إدماج هذه القائمة مع شكل سابق لعناصر الجملة فى الشكل التالى:


على أن تحليل المسند إليه (الفاعل) فيما يسمى بالخبر الجملة الاسمية كان قد كشف لنا من قبل أن الفاعل الحقيقى فى مثل هذه الجمل هو ما يسمى بالمبتدأ الثانى وهو فى الحقيقة مسند إليه (فاعل)، أما ما يسمى بالمبتدأ الأول فهو مضاف إليه لمضاف لاحق فاعل أو مفعول. وهذا المضاف إليه مرفوع عشوائيا، مثل: "السماءُ أمطارُها تسقط"، إنْ لم ينصبه ناصب، مثل: "إن السماءَ أمطارُها تسقط"، أو يجره جارّ مثل: "من السماء أمطارُها تسقط". فالفاعل فى كل الأحوال "أمطارُ السماء". وقد يكون المضاف إليه المرفوع عشوائيا لمضاف لاحق مفعول به، مثل: "النخلُ نأكل ثمرَه"، إنْ لم ينصبه ناصب، مثل: "إن النخل نأكل ثمره"، أو يجرّه جارَ، مثل: "من النخلِ نأكل ثمره"، فالمفعول به فى كل الأحوال: "ثمر النخل".
ولا ينبغى أن تُربكنا مثل هذه الجمل التى تحتوى على المضاف إليه لمضاف لاحق فاعل أو مفعول، أى ما يسمى المبتدأ الأول، أو المبتدأ الذى خبره جملة اسمية فى النحو العربى التقليدى، لأن ما يهمنا دائمًا فى نماذج الجملة هو عنصر الجملة الحقيقى، وبالتالى المسند إليه (الفاعل) الحقيقى.
















10
الإعراب: خطيئة تمحور النحو حول الإعراب

نقرأ فى مادة "عَرِبَ" فى "المعجم الوسيط" (الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة) ما يلى:
الإعراب لغةً: الإفصاح والإبانة؛ والإعراب اصطلاحًا: الإتيان بالكلام وفق قواعد النحو وكذلك تطبيق قواعد النحو عليه، وهو تغييرٌ يلحق بأواخر الكلمات العربية من رفع ونصب وجرّ وجزم، على ما هو مبين فى قواعد النحو .
وفى مادة "نَحا" فى المعجم نفسه نقرأ:
النحو لغةً: القصد والطريق والجهة والمثْل والمقدار والنوع؛ والنحو اصطلاحًا: علم يُعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناءً .
وعبارة مادة "عَرِبَ": تتضمن معنيين للإعراب:
* الإتيان بالكلام وفق قواعد النحو، وكذلك تطبيق هذه القواعد عليه.
* "تغييرٌ" يلحق بأواخر الكلمات العربية من رفع ونصب وجرّ وجزم، على ما هو مبين فى قواعد النحو.
وهذا التعريف الثانى للإعراب سليم بوجه عام، لأنه يتضمن خصوصيته: تغيير أواخر الكلمات، ولأنه يربط هذا التغيير بقواعد النحو.
ولكن ما هى قواعد النحو؟ أو بالأحرى: ما هو النحو؟ وهنا تُسعفنا مادة "نَحا" بتعريف "المعجم الوسيط" للنحو وهو أنه: "علم يُعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناءً".
ويتضمن هذا التعريف أن علم النحو هو أساس معرفة أحوال أواخر الكلم، وأن هذه الأحوال لا تخص الإعراب فقط بل تشمل الإعراب والبناء معًا.
غير أن هذا التعريف يعانى عيبين جوهريين:
الأول: أنه يخلو من تحديد خصوصية النحو.
والثانى: أنه يحصر وظيفة النحو وقواعده فى معرفة أحوال الإعراب والبناء.
ويعنى كل هذا أن النحو العربى يعانى إلى يومنا هذا خلطا لا يغتفر بين النحو والإعراب، والحقيقة أنه ليس مجرد خلط، بمعنى: الأخذ بشيء من النحو مع شيء من الإعراب. فبالإضافة إلى أن هذا النوع من الخلط قائم إلا أن الأخطر منه هو أن التوازن مختل لحساب الإعراب على حساب النحو، مع أن الإعراب ليس فى الحقيقة سوى أداة من أدوات النحو الذى هو علم أوسع بما لا يقاس، وهو علم ضرورى فى اللغة التى تقوم على الإعراب مثلما هو ضرورى فى اللغة التى تقوم على أداة بديلة عن الإعراب.
وبطبيعة الحال فإن هذا الاختلال فى التوازن يأتى على حساب النحو غير أن هذا ليس لصالح الإعراب. ذلك أن الإعراب الذى تتضح طبيعته وأدواته بفضل المفاهيم النحوية الواضحة الفعالة ظل يعانى من غياب أو غموض مثل هذه المفاهيم فى كثير من الأحوال.
ورغم أن علماءنا القدماء طوّروا نحوًا بالغ العمق والنضج والتعقيد، خاصةً بمقاييس زمنهم، إلا أن التركيز البالغ على الميتا-إعراب، أو: ما وراء الإعراب، من جانب، وعلى الإعراب ذاته من جانب آخر، أهدر إمكانات المزيد من إنضاج المفاهيم العميقة التى توصلوا إليها.
والمقصود بالميتا-إعراب، أو: ما وراء الإعراب، هو ذلك البحث الذى يتسم بطابع علم الكلام والفقه والمنطق والفلسفة والميتافيزيقا عما وراء الإعراب من عوامل، والإسراف فى هذا البحث، والقياس المسرف للقاعدة من القاعدة، بدلا من التركيز الكلى على استقراء اللغة العربية واستخراج قواعدها وبحث المنطق وراء القواعد الموضوعية الجمعية التى تنطوى عليها هذه اللغة.
وأنا لا أتهم، ولا أجرؤ على أن أتهم، علماء اللغة العربية القدماء، الذين أُجلهم كل الإجلال، بالتواضع أو المحدودية أو القصور. لقد قدموا إنجازات علمية تحسدهم عليها إن جاز القول لغات أخرى عظيمة، ولا تزال تحتفظ بقيمتها العلمية ولا تزال كل دروسها بعيدة عن أن يكون قد تم استنفادها. وتدل معاجمهم وموسوعاتهم ونظرياتهم فى اللغة والبلاغة والنحو على عظمتهم. ولا سبيل إلى إنكار أن عظمة إنجازهم ارتبطت بالعمل الوصفى الواسع النطاق، والاستقراء الشامل لكلام العرب، والقياس عليه.
ولا يتجه نقدنا أبدا إلى إنجازاتهم العظيمة التى عجزنا نحن عن الحفاظ عليها وتطويرها، بل يتجه إلى أخطائهم، إلى إسرافهم فى البحث والاستقصاء فى اتجاهات بذاتها، ولا جدال فى أن هذه الأخطاء الناتجة عن الإسراف على هدى توجهات بعينها إنما ترجع إلى زمنهم، وحُكْم زمنهم. ولهذا فإن نقدنا ينصبّ فى المحل الأول على زمنهم لإرجاع هذه الأخطاء والعيوب والنواقص والنقائص إلى ذلك الزمن بالحدود التى تحكم على كل زمن بالقصور بالمقارنة بالأزمنة التالية كاتجاه تاريخى تصاعدى عام. كما أن النقد موجه إلينا نحن بوجه خاص، إلى خيانتنا لإنجازاتهم التى لا يمكن الحفاظ عليها إلا بتطويرها وقد عجزنا عجزا فاضحا عن هذا التطوير. ويمكن تفسير إنجازهم العلمى التاريخى فى مجال النحو وغيره، رغم أخطائهم، بالنهضة الحضارية-الثقافية العربية الإسلامية الكبرى التى كانوا حاملى مشاعلها. أما عجزنا نحن عن نقد وتطوير إنجازهم فيمكن تفسيره بأزمنة التخلف والتأخر والتبعية والتدهور التى نعيشها؛ هذه الأزمنة التى حكمت على كل نهضة جديدة تتحقق فى العالم العربى طوال هذا القرن العشرين بأن تسقط بسرعة فى براثن التخلف، وبأن يتوقف نموها، كما حكمت عليها بطابع قزمى وحجم قزمى، وحكمت على عمالقتها بالتراجع والنكوص والردة، وعلى أنصارهم بالانفضاض من حولهم.
والآن، بعد أن أعطيت علماء النحو العربى القدماء ما يستحقون أضعاف أضعافه من التقدير لإنجازاتهم العلمية التاريخية التى لا يملك إنكارها إلا جاحد جاهل، أشير إلى إسرافهم غير المبرر فى البحث فى ما ورائيات اللغة وما ورائيات النحو، بحيث يقع فى روع الناس، وبالأخص المتأخرين منهم، أن هذه الماورائيات المعقدة الغامضة الملتبسة إنما هى من صلب اللغة وهى بريئة منها فى الحقيقة، ومن صلب النحو الموضوعى الجمعى الكامن فى اللغة ذاتها وهو بريء منها فى الحقيقة. ومن ذلك تلك المناقشات البالغة التعقيد حول اللغة ذاتها: اصطلاح هى أم توقيف؟ وكانت النتيجة أن أعظم العلماء التطوريين الذين أيدوا بعمق فكرة أن اللغة اصطلاح وعُرْف اضطروا اضطرارا إلى صبّ أفكارهم التطورية العميقة الجدلية فى قالب التوقيف، والإيمان بالتوقيف، وحرق البخور للتوقيف.
أما فى مجال الإعراب بالذات فلدينا ما يسمى بنظرية العوامل. فما الذى رفع المبتدأ؟ إنه عامل معنوى (أى: غير لفظى) هو الابتداء. وما الذى رفع الخبر (الذى زعموا أنه مرفوع) إذن؟ إنه عامل لفظى هو المبتدأ ذاته (بالإضافة إلى العامل المعنوى المتمثل أيضا فى الابتداء). لكن ما دام السؤال مطروحا فلا مناص من الاختلاف: المبتدأ لم يرفعه الابتداء، بل المبتدأ رفع الخبر والخبر رفع المبتدأ. لقد ترافع المبتدأ والخبر كما قال بعضهم. غير أن هذا الترافع يحصر العامل فى نطاق الألفاظ وتأثيرها الإعرابى فى بعضها البعض الآخر، فلا مناص إذن من رأى آخر: إن أحوال الإعراب من عمل المتكلم نفسه وليس من عمل الألفاظ.
ويقتبس الدكتور أحمد عبد الستار الجوارى، فى كتابه: "نحو التيسير - دراسة ونقد منهجى” (من مطبوعات المجمع العلمى العراقى) من "خصائص" ابن جنى ما يلى:
وإنما قال النحويون عامل لفظى وعامل معنوى ليُروك أن بعض العمل يأتى مسببا عن لفظ يصحبه كمررت بزيد وليت عمرا قائم، ويأتى بعضه عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به، كرفع المبتدأ بالابتداء ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم. هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول.
فأما الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجرّ والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره.
ويعلق الدكتور الجوارى على ذلك بقوله:
ونحن نلمح فى هذا الخلاف بين الرأيين ملامح الفلسفة أو التفلسف، ونشمّ فيه رائحة علم الكلام الذى كان له سلطان أى سلطان على عقائد الفرق الإسلامية المختلفة، وأثر أى أثر على الفكر العربى الإسلامى.
فمذهب ابن جنى هو مذهب المعتزلة الذين يقولون بخلق الأفعال، وأن الإنسان هو الذى يوجدها وأن له إرادة واختيارا فى ما يصدر عنه من الأفعال، بخلاف الذين يذهبون إلى أن الأشياء تتفاعل ويؤثر بعضها فى بعض .
وفى "كتاب الرد على النحاة" لابن مضاء القرطبى، من تحقيق الدكتور شوقى ضيف ، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، نقرأ فى سياق دعوة ابن مضاء إلى إلغاء نظرية العوامل:
فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض [أى: الجرّ] والجزم لا يكون إلا بعامل لفظى، وأن الرفع منها يكون بعامل لفظى وبعامل معنوى (....) فظاهر هذا أن العامل أحدث الإعراب، وهذا بيِّن الفساد .
ثم يشير ابن مضاء إلى الرأى الذى تقدم لابن جنى ويعلّق عليه، ويقدّم رأيه الذى هو رأى أهل الحق كما يقول، بقوله:
وهذا قول المعتزلة. وأما مذهب أهل الحق فإن هذه الأصوات إنما هى من فعل الله تعالى، وإنما تُنسب إلى الإنسان كما يُنسب إليه سائر أفعاله الاختيارية.
وأما القول بأن الألفاظ يُحْدث بعضها بعضًا فباطل عقلا وشرعا، لا يقول به أحد العقلاء .
ثم يقول:
فإنْ قيل بم يُرَدّ على من يعتقد أن الألفاظ هى العاملة؟ قيل: الفاعل عند القائلين به إما أن يفعل بإرادة كالحيوان، وإما أن يفعل بالطبع كما تحرق النار ويبرد الماء، ولا فاعل إلا الله عند أهل الحق، وفعلُ الإنسان وسائر الحيوان هو فعلُ الله تعالى، كذلك الماء والنار وسائر ما يَفْعَل، وقد تبين هذا فى موضعه. وأما العوامل النحوية فلم يقل بعملها عاقل، لا ألفاظها ولا معانيها، لأنها لا تفعل بإرادة ولا بطبع .
وبعد ذلك مباشرة تأتى فقرة يمكن اعتبارها إلغاءً لدعوته إلى إلغاء نظرية العوامل، وهو الهدف الجوهرى الساذج لكتابه، فهو يقول:
فإنْ قيل إن ما قالوه من ذلك إنما هو على وجه التشبيه والتقريب، وذلك أن هذه الألفاظ التى نسبوا العمل إليها إذا زالت زال الإعراب المنسوب إليها، وإذا وُجدت وُجد الإعراب، وكذلك العلل الفاعلة عند القائلين بها، قيل: لو لم يَسُقْهم جعلها عوامل إلى تغيير كلام العرب، وحطِّه عن رتبة البلاغة إلى هُجْنَة العى، وادعاء النقصان فيما هو كامل، وتحريف المعانى عن المقصود بها لسومحوا فى ذلك، وأما مع إفضاء اعتقاد كون الألفاظ عوامل إلى ما أفضت إليه فلا يجوز اتباعُهم فى ذلك .
أى أن إفضاء الاعتقاد فى العوامل اللفظية إلى تغيير كلام العرب، وإلى الاتهامات الأخرى الموجَّهة إلى النحاة القدماء، هو الخطيئة التى لولاها لسامحهم ابن مضاء. ومن الغريب أن ينسب أحد إلى النحاة ككل كل هذه الاتهامات المنكرة. ذلك أن عملهم لم يكن "تغيير كلام العرب"، إلخ.. قائمة الاتهامات، وإنما تمثَّل على العكس من ذلك فى: وصف "كلام العرب" واستقرائه واستخراج قواعده ثم القياس على هذا الكلام وعلى هذه القواعد.
وليس ما سبق سوى عينة نموذجية من الإسراف فى بحث ما ورائيات الإعراب والنحو بين القائلين بزعامة سيبويه بأن عوامل الإعراب تتمثل فى الألفاظ ومعانيها، والقائلين (ابن جنى) بأن المتكلم هو العامل، وابن مضاء القرطبى القائل بأن العمل، ككل عمل، هو عمل الله سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن التسليم بأن اللغة اصطلاح وعُرْف كان من شأنه أن يقود ببساطة إلى أن الإعراب أيضا (بكل أحواله وبكل عوامل أو مؤثرات أو أسباب تلك الأحوال) اصطلاح وعُرْف، وكذلك النحو كله، وكذلك كافة الظواهر اللغوية الموضوعية الجمعية. وكان من شأن هذا أن يكون أساسا واضحا للحكم على عمل النحاة بالتوفيق أو الإخفاق بدلا من الانحراف بالبحث النحوى، ومنه فرع الإعراب، إلى متاهات لا مخرج منها.
وإذا اتفقنا على أن الإعراب علامات فى الألفاظ مرشدة فى كشف المعانى النحوية (وليس المعجمية بطبيعة الحال)، وعلى أن نظام أو نسق الإعراب نشأ كاصطلاح نشوءًا تاريخيا تراكميا وتطوريا، فمن السهل أن نكتشف أن الاختلاف لا ينبغى أن يكون حول اللفظ والمتكلم والله، حول أى الثلاثة هو عامل أو مؤثر أو سبب الإعراب من رفع أو نصب أو جرّ أو جزم، فالمسألة تنحصر فى الحقيقة فى حدود أبسط من كل هذا بكثير، وهذا لا يحتاج إلى مزيد من بيان.
وبالإضافة إلى ما ورائيات اللغة وما ورائيات النحو والإعراب، كان لتمحور النحو حول الإعراب (أى حول فرع من فروعه وأداة من أدواته) أثره البالغ على كل منهما كعلم.
أما اللغة العربية ذاتها فقد سارت منذ وقت مبكر فى طريق يتسم بطابع الازدواج النحوى الإعرابى، وهو طريق إسقاط الإعراب وتَبَنِّى بديل الإعراب وهو نظام تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة، مع الاحتفاظ بالإعراب فى مستوى بعينه أو داخل نطاق دائرة خاصة من المستويات ومن المجالات. وهو الازدواج اللغوى النحوى الذى كانت مراحله المبكرة من الأسباب المباشرة المروية عن اللحن بصفة عامة، واللحن الإعرابى بصفة خاصة، وراء نشأة علم النحو ذاته. فقد كان فى بؤرة نشأة النحو ذلك الإعراب الذى كان قد أخذ يزداد صعوبة على العرب الأقحاح أنفسهم، لأنه كان قد أخذ يخرج من سليقتهم، وقد روَّع ذلك قادة القوم الغيورين على الإعراب، فكان وضع النحو وقيل بإشارة من على بن أبى طالب.
وكان لا مناص، بالتالى، من أن يتمحور النحو حول الإعراب والبناء إلى أقصى الحدود، وذلك بتركيز الاهتمام على المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والمجزومات، وعلى عوامل كل ذلك. وكان من المنطقى أن تكون اللفظة الواحدة التى يتغير آخرها أو لا يتغير بين المعجم والجملة محور الاهتمام. فاللفظة المبنية هى تلك التى لا تتغير فتظل فى الجملة على حالها فى المعجم مهما كانت وظيفتها النحوية. أما اللفظة المُعْربة فهى المحور الحقيقى من حيث الإعراب وأحواله وأسبابه وعلاماته فى كل حالة. فللإعراب أحواله من رفع ونصب وجرّ وجزم، ولكل حالة (الرفع مثلا) علاماتها حسب اللفظ من حيث السالم والمعتل، ومن حيث الإفراد والتثنية والجمع، حيث يتميز المفرد وجمع التكسير (وجمع المؤنث السالم فى الرفع والجرّ) بما يسمى بالعلامات الأصلية، والمثنى وجمع المذكر السالم (وجمع المؤنث السالم فى النصب) بما يسمى بالعلامات الفرعية. وهناك الصرف والمنع من الصرف (أى التنوين من عدمه)، وما يصحب الممنوع من الصرف من إعراب بعلامات فرعية. وهناك أيضا الإعراب التقديرى والإعراب المحلى. واللفظة الواحدة عندهم ينبغى أن تكون هى ذاتها الحالة النموذجية لمفهوم العنصر النحوى من مبتدأ أو خبر أو فاعل أو فعل أو مفعول أو حال أو ظرف أو غيرها، لأن الرفع مثلا لن يظهر إلا مع اللفظة المفردة وكذلك النصب أو الجرّ (أو الجزم فى الفعل). ولهذا كان ينبغى فى نظرهم أن تكون هناك لفظة مفردة يمكن اعتبارها هى المبتدأ والمرفوع فى آن معا، أو الفاعل والمرفوع فى وقت واحد، أو المفعول والمنصوب فى الوقت ذاته، فى اتجاه نوع من التطابق المباشر لهذه المفاهيم النحوية مع ظهور الحالة الإعرابية. ويغدو هذا التطابق الوهمى بين الفاعل والمرفوع، مثلا، فى لفظة واحدة الأساس الحقيقى لانفصال الفاعل الإعرابى عن الفاعل النحوى. وأولهما يغدو الفاعل دون أوصاف أخرى بينما ينزوى الفاعل النحوى كمفهوم مستقل عن الإعراب وقائم بالإعراب وبدونه.
ويتحقق هذا الاتجاه إلى التطابق الوهمى بين ما هو نحوى وما هو إعرابى كأساس حقيقى لانفصالهما لحساب ما هو إعرابى، عندما تغدو اللفظة التى تتخذ علامة الرفع مثلا هى المبتدأ، فيجرى إهمال ألفاظ ربما كانت أكثر أهمية فى سياق ترابطها معا فى التعبير عن العنصر النحوى من عناصر الجملة. وبدلا من اختصاص لفظة بالرفع كجزء من المبتدأ مع ضمها إلى بقية الألفاظ باعتبارها جميعا المبتدأ، يبدأ هذا الفصل ويتسع بحيث تنقلب الألفاظ الأخرى إلى "مجرد" مضاف إليه أو تابع من التوابع أو ما أشبه ذلك، وبحيث تغيب عن بؤرة الاهتمام مسألة ما هى الكلمة الرئيسية فى مجموعة اسمية يمكن تسميتها المبتدأ. وإليك هذه الجملة: (كلُّ العرب الذين يعيشون فى المشرق العربى) مشارقة. فالنحو السليم هو الذى يعتبر كل الألفاظ التى بين القوسين أى كل الألفاظ الواردة فى الجملة باستثناء كلمة مشارقة (وهى متمم المسند إليه بعد فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت كما تكرر من قبل) هى المسند إليه، لكنهم كانوا يرون التجسُّد النحوى كمبتدأ والإعرابى كمرفوع فى لفظة "كلًّ" دون غيرها (وكما سبق القول، وللإنصاف، وللابتعاد عن جلد الذات، لم يكن هذا خطأ النحو العربى وحده، بل كان خطأ النحو التقليدى بصفة عامة فى اللغات التى تقوم على الإعراب كما فى تلك التى تقوم على بديله مع إسقاط الإعراب).
وكان من شأن هذا التمحور حول الإعراب أن يحكم على المفاهيم النحوية الضرورية كأدوات للتحليل النحوى بأن تظل غامضة وغير متبلورة رغم كل تلك الذخيرة المثيرة للإعجاب من الألقاب التى لا حصر لها والتى تسمِّى أشياء حقيقية إلا أنها سيئة التحديد من ناحية، وتعانى من فوضى التبويب من ناحية أخرى.
ولهذا ترك التحليل النحوى مكانه للإعراب، وصار النحو علم الإعراب، كما صار عاجزا عن جنى الثمار الناضجة لإنجازاته العظيمة ولاستقصاءاته اللانهائية. وهى كلها جهود عبقرية، بل هى معجزة، ليس فقط لأنها جهود فوق طاقة البشر، بل بالأخص لأنها جهود ذكية ومبدعة وخلاقة وبذلك الحجم المعجز. غير أنها ظلت عاجزة مع ذلك لأن العرب لم يستطيعوا رغم دخولهم مرحلة الفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية والإنسانية المتطورة أن يستعينوا بمنجزات هذه المرحلة فى ترويض الإعراب ليعود كما كان فى الأصل مجرد أداة بالغة الأهمية (ولا غناء عنها فى غياب أداة أخرى بديلة) من أدوات النحو الذى يمكن أن نفهم مجاله بسهولة باستبعاد كل من إعراب الكلمات وترتيب الكلمات: إن مسائل النحو التى تبقى بعد الاستبعاد "التحليلى” للإعراب ولبديله هى المسائل الحقيقية للنحو، وهى بالمناسبة مسائل مشتركة فى كل نحو فى كل لغة. وهل هناك لغة لا تحتاج إلى أغلب مفاهيم النحو المشتركة مع استبعاد بعض العناصر التى تخص لغة دون أخرى، أو مرحلة من مراحل نفس اللغة دون مرحلة أخرى؟!
وهكذا، فبدلا من أن يتطور النحو كعلم لبناء أو تكوين الجمل بكل نماذجها الممكنة (إلى جانب الصرف كعلم لبناء أو تكوين الكلمة (والحقيقة أن الصرف كعلم كان موفقا غاية التوفيق فى إدراك وتحقيق دوره الحقيقى)، مع منح جانب من اهتمامه للإعراب الذى ينصبّ على الكلمات المعربة فى هذه الجملة (وحتى للإعراب التقديرى والمحلى)، تحوَّل النحو إلى خادم أمين للإعراب هذا الإعراب الذى حوّله سير الجماعة اللغوية ذاتها، أى العرب أنفسهم، فى طريق إسقاط الإعراب، وبالتالى اللحن الإعرابى الذى تَفَشَّى بينهم منذ القديم، إلى قدس أقداس النحو العربى الذى نشأ للدفاع عنه وليس للبحث عن هويته كنحو ولصقل فهمه للإعراب كأداة من أدواته.
وربما كان هذا الاستطراد حول تمحور النحو العربى حول الإعراب، بماورائياته الميتافيزيقية وبمسائله الحقيقية، ضروريا للغاية من أجل إدراك مدى جناية طريقة فهم النحاة للإعراب على النحو العربى، وكذلك من أجل البحث عن فهم صحيح للإعراب، وعن أسلوب فعّال لتبسيطه، للوصول إلى هدف ثمين هو تحرير النحو العربى ليس من الإعراب بحال من الأحوال بل من طريقة فى فهم طبيعته وخصائصه، حتى يعود هذا النحو إلى قضاياه ومسائله ومباحثه الحقيقية للعمل على تطوير شامل للنحو العربى قبل أن يفوت أوان اللحاق بقطار علم وتقنية معالجة المعلومات بالكمپيوتر، فبدون نحو صحيح ودقيق وبالغ النضج والتقدم والتعقيد لا أمل فى اللحاق بالقطار الذى ركبته لغات أخرى، بكل جدارة، بفضل تطويرها لنحوها بوجه خاص.
ولن يكون هذا التطوير إلا الثمرة الناضجة لجهود جيل جديد من علماء النحو، بدلا من أولئك الذين يعملون من الناحية الفعلية على تأبيد جمود النحو العربى فلا يخدمون بهذا دينًا ولا لغةً كما يزعمون، بل يحولون دون فهم أبسط وأقرب لتراثنا الثرى بكل ينابيعه، تماما كما يقفون عقبة كأداء بين لغتنا ونحونا من جهة والمستقبل الذى أصبح من شروطه تطوير هذا النحو من جهة أخرى.
ولا يتجاوز طموحى أن يكون هذا البحث الموجز مجرد كاسحة ألغام تمهّد السبيل أمام جيل جديد من علماء ودارسى النحو العربى الذين سيقع على كاهلهم عبء تطوير هذا النحو الجديد.
على أن كل هذا يقتضى أن نقترب أكثر فأكثر من الإعراب لنفهم طابعه الموضوعى كأداة للنحو العربى الجمعى قبل وبعد ظهور علم النحو والنحاة والنحويين، وهذا ما ينبغى أن نتجه إليه الآن.






11
الإعراب: وظيفته كأداة من أدوات النحو

ونقف هنا وقفة متأنية عند الإعراب، للتدقيق فى إدراك حقيقته وطبيعته ووظيفته.
ويمتلئ معجم كل لغة متطورة بمئات الآلاف أو من الملايين من الكلمات التى تنتمى إلى مختلف أقسام الكلام. ويقوم النظام الصرفى لكل لغة بتوسيع الكلمات وبتغيير بعض أنواعها (كالأسماء والصفات) من حيث النوع والعدد، وبتغيير نوع بالذات (الفعل) من حيث الإسناد إلى مختلف الأسماء والضمائر فى مختلف الأزمنة.
وتصلح هذه الكلمات بأعدادها الهائلة لتكوين مليارات ومليارات من الجمل. غير أن هذه الجمل تحتاج، لكى تتم فائدتها، ولكى تكتمل قدرتها على التعبير، ولكى تكون جُملا أصلا، ولكى تتطور أساليبها من الأدنى إلى الأعلى، إلى وسائل خاصة ليست كامنة فى الكلمات ذاتها. وإذا كانت الكلمات تكتسب أشياء من استعمالها معا فى جمل (إلى جانب دلالاتها المعجمية) فإنها تظل مفتقرة إلى أشياء أخرى لا تكفى أية كلمات أخرى لتعويضها (أو بالأحرى: لتعويضها بطريقة تنطوى على الاقتصاد اللازم لكل لغة متطورة).
فالكلمة الواحدة قابلة للاستعمال فى جمل لا حصر لها، وهذه الكلمة قد تأتى مفعولا أو فاعلا أو غير ذلك. ولا توجد فى هذه الكلمة فى حدّ ذاتها ما يدلّ على أنها فاعل أو مفعول أو تابع لهذا أو لذاك أو غير ذلك، فلابد إذن من وسيلة تُغنى الناطقين بها عن كلمات يحددون بها الوظيفة النحوية داخل الجملة لكل كلمة يقولونها أو يكتبونها، أو يسمعونها أو يقرأونها. ولا يمكن تصوًّر هذه الوسيلة إلا بتقييد الكلمة بقيد يصطلح الناطقون بلغة على معناه النحوى: القيد الفلانى للفاعل، والقيد العلانى للمفعول، وهكذا. وهذا القيد قد يكون تغييرا فى الكلمة يدخل مع الفاعل، وتغييرا آخر يدخل مع المفعول وهكذا، وكذلك يمكن أن يكون القيد تقييدا للكلمة فى مكان من الجملة، مثلا أن يأتى الفاعل قبل الفعل، والفعل قبل المفعول.
وتقييد الكلمة حسب وظيفتها النحوية بعلامات خاصة تدخل على الكلمة بعدها أو قبلها أو داخلها هو نظام الإعراب. أما تقييدها بمكان فى الجملة فإنه يُغنى عن الإعراب ويقوم بالتالى على إسقاطه (ذلك أن إسقاط الإعراب يأتى بعد مرحلة طويلة من الإعراب فى اللغة الواحدة)، وتقييد الكلمة بمكان فى الجملة هو نظام ترتيب الكلمات.
لدينا إذن نظامان نحويان لتمييز الوظائف النحوية للكلمات فى الجملة، وهما نظام تقييد الكلمات بالعلامات المتباينة لكل كلمة فى الجملة (على قاعدة المخالفة فى العلامات وفقا للمخالفة فى المعنى النحوى) وهو الإعراب، ونظام تقييد الكلمات بأماكن فى الجملة (على قاعدة المخالفة فى الأماكن وفقا للمخالفة فى المعنى النحوى) وهو نظام ترتيب الكلمات مع إسقاط الإعراب.
وإذا كان من المنطقى أن نظام تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة بأماكن تميز وظائفها النحوية فيها لا يحتاج إلى الإعراب ويقوم على إسقاطه (فالإعراب يسقط تلقائيا وبالتدريج وقد تبقى منه آثار تركيبية كالزائدة الدودية فى الإنسان)، فإن نظام تقييد الكلمات بعلامات تميز وظائفها النحوية لا يحتاج إلى التقييد بالأماكن فلا تكون هذه الأخيرة مأخوذة فى الاعتبار، ويقوم هذا النظام بالتالى على مرونة ترتيب الكلمات فى الجملة.
ومن حيث ترتيب الكلمات فى الجملة أو ترتيب عناصر الجملة إن شئنا الحديث بلغة نحوية أحدث وأدق، يمكننا الحديث إذن عن نظامين أو نسقين: نسق مرونة ترتيب عناصر الجملة (وهو نسق الإعراب)، ونسق تقييد ترتيب عناصر الجملة (وهو نسق إسقاط الإعراب).
غير أنه ينبغى أن ننتبه إلى حدود كل من المرونة والتقييد. ذلك أن كلمات الجملة ليست كلها عناصر جملة، كما أن عناصر الجملة لا تتساوى من حيث محورية العلاقات بينها فى تكوين الجملة أو من حيث فهم معناها. بهذا يمكن رغم مرونة الترتيب فى نسق الإعراب أن نتصور مثلا مكان الصفة بعد الموصوف، وكذلك أماكن محددة لأشياء أخرى عديدة. كما يمكن رغم تقييد الترتيب فى النسق الخاص به أن نتصور أن تتقدم أو تتأخر بعض عناصر الجملة بحرية حسب رغبة المتكلم أو الكاتب فلا يخطئ فهمها السامع أو القارئ. فالأمر الأكثر أهمية فى كل من المرونة والتقييد يتمثل فى تلك العلاقات الأكثر محورية والتى يمثل التمييز بينها قيد الإعراب بعلاماته المتمايزة أو قيد المكان بمواضعه المتمايزة.
وعلى هذا فإن إعراب الكلمات وترتيب الكلمات لا يخرجان إذن عن أن يكونا أداتين يستخدم النحو فى اللغة المعنية إحداهما (إلا فى حالة الازدواج النحوى بين هاتين الأداتين والذى قد يستمر قرونا كما هو الحال الآن فى اللغة العربية) للدلالة على بعض العلاقات المحورية بين عناصر الجملة.
وتستخدم اللغة العربية المضرية (بالضاد) أداة الإعراب، شأنها فى ذلك شأن العديد من اللغات الأخرى. فهناك لغات عديدة هى لغات إعراب ومرونة فى ترتيب الكلمات فى الجملة كاليونانية واللاتينية القديمتين، أو الروسية أو النوبية أو غيرها من اللغات المعاصرة. أما اللغة العربية التى ينطق العرب بها، بكل لهجاتها، حاليا فإنها تستخدم أداة الترتيب، شأنها فى ذلك شأن العديد من اللغات الأخرى التى هى لغات تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة مع إسقاط الإعراب؛ كالإنجليزية والفرنسية والإسپانية والپرتغالية والإيطالية وغيرها.
وينبغى أن نلاحظ هنا الفرق بين النحو والإعراب. فإذا كان الصرف فى أية لغة هو نظام تكوين الكلمات وأبنيتها وزيادتها وتغييرها للتعبير عن اختلاف العدد والنوع أو للتعبير عن اختلاف الأزمنة، فإن النحو هو نظام تكوين الجمل فى لغة من اللغات، وبعبارة أخرى فهو نظام تكوين العلاقات بين كلمات - أو بالأحرى: عناصر - الجملة. أما إعراب الكلمات أو ترتيب الكلمات (مع إسقاط الإعراب) فكل منهما أداة (تُغنى الواحدة منهما عن الأخرى) من أدوات النحو للتمييز بين عناصر الجملة. أداة يستخدمها النحو فى هذه اللغة أو تلك، فى هذه المرحلة أو تلك. فالنحو، أى تكوين الجمل، نظام قائم فى الحالين، أى فى وجود هذه الأداة أو تلك. وإذا ركزنا على الإعراب، فالنحو يوجد بأداة الإعراب أو بدون الإعراب، غير أن هذا الأخير لا يوجد بدون النحو، ذلك أن الإعراب أداة بديلة يستخدمها النحو الذى يمكن أن يستخدم الأداة البديلة عن الإعراب، أى أداة ترتيب الكلمات.
ويختص الإعراب بالأحوال والعلامات التى تميز الفاعل وبتلك التى تميز المفعول به، مثلا؛ أما النحو فهو الذى يميز الفاعل من المفعول، مثلا، وهذا التمييز الأخير قائم فى كل نحو فى كل لغة بصرف النظر عن وجود أو غياب نظام الإعراب. وبعبارة أخرى فإن تحديد اصطلاحات ومفاهيم عناصر الجملة، واستخدامها بعضها أو كلها فى الجملة الواحدة، واستقراء النماذج الممكنة للجمل فى كل لغة وأشكال تحقيق هذه النماذج من خلال الكلمات والعبارات والمجموعات والتراكيب المتباينة، هى مجال النحو. أما الإعراب فليس (رغم أهميته المحورية فى حالة وجوده) سوى أداة من أداتين لتمييز الكلمة الواحدة بعلامات أو أماكن توضح اختلاف عنصر الجملة الذى تمثله هذه الكلمة فى كل استخدام من استخدامات تلك الكلمة فى جمل، باختلاف نماذج الجمل، وباختلاف أشكال تحقيق كل نموذج منها.
وأنا أسوق هذه الإيضاحات للتمييز بين النحو والإعراب، وأعيد وأزيد فيها، لأن من أسوأ ما يعانى منه كل من النحو والإعراب فى اللغة العربية هو الخلط بينهما بدلا من التمييز الدقيق رغم علاقات التداخل. ولولا هذا الخلط لأمكن، منذ قرون وقرون، تحرير النحو من ربقة تمحوره المزمن حول الإعراب الذى هو أداة من أدواته وليس كل جوهره، أو كل مفاهيمه، أو كل وسائله وأدواته، ولأمكن لذلك النحو المتحرر أن يركز على مفاهيمه وقضاياه الحقيقية، على أشكال ونماذج بناء الجمل، على عناصر الجمل والعلاقات بينها، على الأبعاد الهائلة لمفهوم وأشكال تحقيق كل عنصر منها، على أشياء لا حصر لها تشكّل فى مجموعها الثورة النحوية الشاملة والعميقة والتى تعيشها، خلال العقود الأخيرة بوجه خاص، لغات أخرى تجنى الآن ثمار تلك الثورة، بعد أن صارت بفضل ذلك كله جاهزة تماما لتطبيقات علم وتقنية معالجة المعلومات آليا (علم وتقنية الكومپيوتر)، بينما تقف لغتنا عاجزة بنحوها التقليدى، وبتجديده الوهمى السلفى، الذى يعيش على أمجاد إنجازاته فى الماضى البعيد، دون أن يجرؤ على أن يخطو أى خطوة جريئة إلى الأمام.
وهنا تمييز واجب بين ما هو موضوعى وما هو وضعى فى كل من النحو والإعراب.
فالنحو الموضوعى نظام أو نسق نحوى ماثل فى صميم تكوين اللغة كما تتكلم و/أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية بصرف النظر عن وجود، أو مدى تطور ونضج النحو الوضعى (أى: علم النحو) الذى يدرس ذلك النحو الموضوعى. وهناك مسافة ماثلة دوما بين النحو الموضوعى والنحو الوضعى يعمل هذا الأخير دوما على قطع جزء منها لاستيعاب ظواهر قديمة أو جديدة ينطوى عليها النحو الموضوعى. وهذا الأخير، أى النحو الموضوعى أو "الطبيعى”، أو نحو العقل الجمعى، لدى جماعة لغوية بعينها هو المرجع والأساس والأصل، أما نحو العلم المعروف بهذا الاسم، نحو النحاة أو النحويين أو الدارسين أو العلماء، نحو الاجتهاد فى فهم النحو الموضوعى، فإنه قابل دوما لإعادة النظر. والنحو الموضوعى الجمعى يتغير تاريخيا، ولا يملك أحد التلاعب بحقائقه، أما النحو الوضعى، نحو النحاة، فلا موجب لتقديسه، بل الأجدر بنا هو العمل دوما على تصحيحه وتطويره انطلاقا من تطور النحو الجمعى من ناحية، ومن تطور مناهج دراسته من ناحية أخرى.
وينطبق الشيء ذاته على الإعراب (وكذلك على بديله). فالإعراب الموضوعى الجمعى الماثل فى صميم السليقة اللغوية الأصلية لا يملك تعديله أو تغييره أو إسقاطه سوى الجماعة اللغوية ذاتها، وبصورة تاريخية، أما فهم النحاة لهذا الإعراب، وعوامله، والعلاقات بين حقائقه، فهو اجتهاد قابل دوما للمزيد من الاجتهاد.
ومن الجلى أن كل محاولتنا للاجتهاد فى مسائل النحو والإعراب فى اللغة العربية القريشية أو المضرية (بالضاد) إنما تنصبّ على فهم النحاة للنحو والإعراب، والمرجع دوما هو النحو الموضوعى والإعراب السليقى كما يتجسدان فى كلام العرب (من نثر وشعر) كما حفظه لنا تراثهم الغنى بكل عيونه وينابيعه ومصادره.
ولعل من الجلى تماما الآن أن إدراك وظيفة الإعراب يساعد على إدراك أن المسند (الخبر) يظل خارج نطاق الإعراب، وناهيك بالرفع، رغم الرفع العملى لما يسمى بالخبر المفرد. ذلك أن قياس رفع الخبر بكل أنواعه على هذا الرفع العملى العشوائى لهذا الذى يعتبرونه خبرا مفردا إنما هو قياس فاسد لا ينبغى الالتفات إليه، ليس فقط لأن هذا "المفرد" ليس خبرا، وليس فقط لأن رفعه ليس إلا عشوائيا ناتجا عن الاقتصاد اللغوى فى حالة خاصة جدا، وليس فقط لأن ما يسمى بالخبر ليس دوما اسما معربا كما هو الحال فيما يسمى بالخبر المفرد، بل لأن المفهوم الحقيقى للمسند (الخبر) يتمثل فى الفعل بمفرده كحد أدنى أو مع مجموعة تقل أو تكثر من الكلمات، وليس مثل هذا مجال الإعراب.
والحقيقة أنه لا علاقة لإعراب الفعل (المضارع فقط بالطبع)، وهو أمر لفظى تماما (أو تقريبا: إذا أخذنا فى اعتبارنا بعض التفاصيل الجزئية الضئيلة التى تُساق فى هذا المجال)، بإعراب الاسم الذى يميز الوظائف النحوية، كما أن إعراب كل عنصر من عناصر المسند يختلف عن افتعال إعراب شامل لهذا الأخير فى مجموعه. إن المسند لا ينطبق عليه الإعراب، ولا الإعراب "المحلى”، لأن المسند ليس عنصرا من عناصر الجملة، ولا يدخل فى علاقة تقتضى التمييز بالمخالفة الإعرابية مع عنصر آخر من عناصر الجملة.
ومن الجلى أن اقتران عبارتى المسند إليه والمسند قد يُحدث التباسًا يبدوان معه وكأنهما متخالفان فى المعنى ومتقابلان نحويا. وهذا بعيد تماما عن الحقيقة. ذلك أن المسند إليه (الفاعل) إنما يقابله نحويا ويخالفه إعرابيا عنصر جملة اسمه المفعول به. فالحدث قام به المسند إليه (الفاعل) فوقع على المفعول به، فالفاعل والمفعول به هما المؤثر والمتأثر، هما مُحْدث الفعل والمتأثر به، ولهذا فإنهما يتخالفان إعرابيا لمعرفة الفاعل من المفعول. وإذا كان المرفوع هو الفاعل والفاعل هو المرفوع فى اللغة العربية، كما فى غيرها من لغات الإعراب، فإن الأهمية النحوية لهذا الرفع إنما تتضح فى علاقته بنصب المفعول به. ذلك أن الفاعل والمفعول به، وهما عنصران حاسمان من عناصر الجملة، إنما يتمايزان بالرفع والنصب. ولأن المفعول به عنصر من عناصر الجملة التى تشكل المسند فمن البديهى أن المسند (الخبر) لا يدخل بحال من الأحوال فى علاقة تمايز وتقابل ومخالفة مع المسند إليه (الفاعل)، أو مع أى عنصر آخر من عناصر الجملة بحكم بداهة أن المسند (الخبر) هو كل أو بعض بقية عناصر الجملة باستثناء عنصر المسند إليه (الفاعل)، وبالتالى فإن المسند (الخبر) لا يُعرب وإنما تُعرب أجزاؤه أو مكوناته أو عناصره أو كلماته التى تتحقق من خلالها عناصر الجملة.
على أن كل هذا لا يمسّ بحال من الأحوال حقيقة أن ما يسمى بالخبر المفرد مرفوع، مهما كانت حقيقة هذا الرفع. وهناك أشياء أخرى قليلة مرفوعة يسهل الإلمام بها وربما سهل أيضا تأويلها ضمن مفهوم المسند إليه باستثناء ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع رفعا عشوائيا لأن أصله النصب فى حالة ظهور فعل الكينونة، وباستثناء مرفوع عشوائى آخر هو "المبتدأ" الذى خبره جملة (اسمية أو فعلية) فهذا المضاف إليه (والذى يرتبط بفاعل مضاف يُسند إليه الفعل) ليس أبدا فاعلا، وليس أبدا مسندا إليه، بل هو مضاف إليه حقه الجرّ غير أن تقدمه على المضاف أخفى العامل المباشر للجرّ فارتفع كما سبق أن أوضحنا.
وهنا تبدو فى الأفق ملامح تسهيل للإعراب، على أن يكون مفهوما جيدا أن التسهيل نسبى فلابد للمرء، لكى يستفيد من مثل هذا التسهيل، أن يعرف جيدا المبنى من المعرب، وأن يعرف جيدا المنقوص والمقصور، وأن يعرف جيدا أحوال الإعراب وعلاماته فى كل حالة، وأن يعرف جيدا وبدقة أشياء أخرى تتعلق بالبناء والإعراب الظاهر "والتقديرى والمحلى”.
ونحن نعرف أن إعراب المضارع سهل ميسور. فالفعل المضارع ليس مجالا حقيقيا للإعراب المتداخل مع النحو فهو إعراب لفظى بلا وظيفة نحوية. وربما كان إعراب الفعل المضارع نظاما نحويا إعرابيا موغلا فى القدم فلا نعرف حقيقته، ولا نعرف حقيقة هذه البقايا الباقية منه. ولا قيمة حقيقية لدعوى أن إعراب الفعل المضارع ينطوى على بعض المعانى فى أحوال قليلة دقيقة لأن مثل هذه التفاصيل النادرة للغاية والفرعية للغاية لا تُغيِّر، حتى إنْ صحّتْ، من جوهر "معنى" إعراب المضارع.
على أن ما يهمنا أكثر فى مجال تيسير الإعراب هو أن إعراب الفعل المضارع سهل ميسور لأن قاعدته بسيطة للغاية، وهى أن الفعل المضارع مرفوع ما لم يسبقه ناصب أو جازم، وما دامت النواصب والجوازم قليلة تسهل معرفتها بدقة، وما دامت علامات الرفع والنصب والجزم معروفة جيدا، فإن المرء لن يجد صعوبة تذكر فى إتقان إعراب الفعل المضارع.
وهنا يمكن أن نطمح إلى صياغة قاعدة بسيطة فيما يتعلق بإعراب الاسم (والصفة والظرف المعرب أيضا): الاسم المعرب منصوب ما لم يكن مرفوعا أو مجرورا.
والجرّ سهل لأن المجرور مسبوق بالجارّ المضاف أو حرف الجر (بالإضافة إلى توابع المجرور).
ويغدو المرفوع سهلا لأن قاعدته صارت تتمثل فى أن المسند إليه (الفاعل) هو المرفوع وفى أن المرفوع هو المسند إليه (الفاعل)، وباختصار فالفاعل دون سواه هو المرفوع. وذلك باستثناءات قليلة. فهناك الرفع العملى العشوائى الذى تُسهل معرفة مواضعه. والموضع الأكثر أهمية للرفع العشوائى هو ما يسمى بالخبر المفرد (وهو متمم الفاعل مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت). ويليه فى الأهمية ما يسمى بالمبتدأ الذى خبره جملة. وهناك حالات ومواضع بسيطة للرفع يسهل الإلمام بها وهى فى الأغلب الأعم أشكال من المسند إليه.
ولا يحتاج تطبيق هذه القاعدة إلى أكثر من البحث فى الجملة عن كل فعل، وعن المسند إليه (الفاعل) الذى تم تصريف هذا الفعل معه. وهذا المسند إليه مرفوع وكذلك المرفوعات العشوائية المشار إليها منذ قليل. ويعنى هذا أن كل اسم معرب غير المسند إليه (الفاعل)، وغير المرفوعات العشوائية الأخرى، وغير المجرور بحرف الجر أو بالإضافة، منصوب.
غير أن هناك مشكلة يمكن أن تطعن، وإنْ بصورة جزئية، فى هذا التسهيل.
فالمسند إليه (الذى يتأخر عنه فعله) قد يسبقه عامل نصب أو جرّ فنلقاه منصوبا (بعد أدوات نصب الأسماء: "إن وأخواتها" أو بعد فعل سابق نصبه مفعولا قبل أن يغدو مسندًا إليه "فاعلا" أى قبل أن نسند إليه ونصرّف معه الفعل الجديد)، وقد يكون مجرورا وليس مرفوعا.
والجرّ سهل يمكن إتقان معرفته، وتكمن الصعوبة فى أن النصب الذى نريد تسهيله (وهو الذى يمثل حالة الإعراب الأكثر عددا والأشد صعوبة) بتخصيصه لغير المرفوع والمجرور (على أساس سهولة تحديد هذين الأخيرين) يعود فيدخل فى تحديد غير المرفوع. على أن هذه الصعوبة تتراجع إلى حد كبير عندما ندرك أن المسند إليه تنصبه - نموذجيا - نواصب يسهل تمييزها وتتلخص فى شيئين بسيطين للغاية:
الأول: أدوات نصب الاسم ("إن وأخواتها")، وهذه الأدوات يمكن أن تكون بنفس سهولة حروف أو أدوات الجر متى فهمناها على الوجه الصحيح.
والثانى: الفعل المتعدى السابق للمسند إليه والناصب له مفعولا به قبل أن يحدث إسناد الفعل "الجديد" إليه.
وينطبق هذان الشيئان البسيطان على المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف وهو ما يسمى فى النحو التقليدى بالمبتدأ الذى خبره جملة.
وبطبيعة الحال فإن متمم المسند إليه مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت يكون مرفوعا دائما.
وهكذا فإن المرفوع هو المسند إليه ما لم يسبقه ناصب أو جارّ، والمضاف إليه لمسند إليه مضاف بعده ما لم يسبقه ناصب أو جارّ، ومتمم المسند إليه مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
أما المجرور فمعروف فى كل أحواله بما فى ذلك مجيئه مسندا إليه أو مضافا إليه لمسند إليه مضاف بعده.
إذن، بصرف النظر عن الفعل، تكون الكلمة المعربة (غير المبنية) منصوبة إذا لم تكن مرفوعة أو مجرورة.
وينطبق على التوابع فى كل الأحوال ما ينطبق على متبوعاتها من رفع أو نصب أو جرّ.
وبطبيعة الحال فإن المزيد من الاستقصاء فى هذا المجال يمكن أن يحوّل تركيز أغلب مرفوعات الأسماء فى مفهوم المسند إليه (الفاعل) إلى أداة لتسهيل الإعراب على مَنْ يتحدث أو يكتب، أو يسمع أو يقرأ، أو يحلل إعرابيا، من خلال اعتبار المنصوب من الكلمات المعربة (غير المبنية) باستثناء الأفعال هو:
أولا: كل ما ليس مرفوعا، أى كل ما ليس المسند إليه، أو المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف بعده، أى: المبتدأ الذى خبره جملة فى النحو العربى التقليدى (فى غير الحالتين الثانية والثالثة)، أو متمما للمسند إليه مع حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت.
ثانيا: كل ما تنصبه أدوات نصب الاسم ("إن وأخواتها") حتى إنْ كان المسند إليه لفعل لاحق أو المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف بعده ("المبتدأ الذى خبره جملة").
ثالثا: كل ما تنصبه الأفعال المتعدية مفعولا به حتى إن كان المسند إليه لفعل لاحق أو المضاف إليه قبل المسند إليه المضاف بعده ("المبتدأ الذى خبره جملة").
رابعا: كل ما ليس مجرورا بحرف الجر أو بالإضافة حتى إنْ كان المسند إليه لفعل لاحق أو "المبتدأ الذى خبره جملة".
ويمكن أيضا صياغة ما سبق بطريقة أخرى... المنصوب (من غير الأفعال) هو الكلمة المعربة غير:
1: المسند إليه أو "المبتدأ الذى خبره الجملة"، إلاّ إذا سبقته أداة من أدوات نصب الأسماء ("إن وأخواتها")، أو سبقه فعل وفاعل يقومان بنصبه مفعولا به قبل أن يصير المسند إليه أو "المبتدأ الذى خبره جملة".
2: متمم المسند إليه مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت (= فى النحو التقليدى: الخبر المفرد).
3: المجرور (حتى إنْ كان المسند إليه أو "المبتدأ الذى خبره جملة").
وبطبيعة الحال فأنا لا أملك سوى التسليم بإمكان وضع صياغات أفضل وأوجز وأدق وأبسط. غير أن هناك شيئا قد يؤدى إلى تبسيط جزئى وهو أنه ليس هناك إجماع بين علماء النحو فى لغات أخرى على قبول جمع "الكلمة" بين وظيفة المسند إليه لفعل ووظيفة المفعول به لفعل وفاعل سابقين. وهذا على كل حال موضوع قابل للجدل والاختلاف، غير أن استبعاد هذا الجمع بين الوظيفتين النحويتين فى اللغة العربية التى تقوم على الإعراب سيحذف هذا النوع من المسند إليه ومن "المبتدأ الذى خبره جملة" من القائمة الواردة أعلاه. وصحيح أن هذا يفيد فى تبسيط الإعراب غير أن التحرر من التمحور حول الإعراب يعنى بحث المغزى النحوى بصورة مستقلة عن الإعراب.
وبطبيعة الحال فإن الإصلاح المعجمى يظل مطلوبا فى كل الأحوال. فالأفضل دائما أن نعرف من المعجم ما إذا كانت هذه الكلمة أو تلك مبنية أو معربة (وتكفى بالطبع الإشارة إلى الكلمة المبنية دون المعربة على سبيل الاقتصاد).
كذلك من الأفضل بطبيعة الحال أن يتم تصحيح أقسام الكلام بحيث يفسح الاسم وهو قسم فضفاض المجال لظهور الأقسام التى ينطوى عليها فى المعجم وفى كتب قواعد النحو العربى. وباختصار فهناك إصلاحات معجمية عديدة من شأنها تيسير النحو والإعراب، ومن ذلك قبول فكرة أن قسم الكلام قد لا يقتصر على كلمة واحدة، بل يمكن أن يشمل أكثر من كلمة.
على أن تسهيل الإعراب عن طريق تسهيل النصب، استنادا إلى تسهيل الرفع بتركيز المرفوع فى مفهوم نحوى واحد بسيط كما نفعل فى هذا البحث، وباعتبار المنصوب غير المرفوع وغير المجرور، لا يمكن أن يكون بديلا عن استقصاء المنصوبات ذاتها واكتشاف كامل منطق نصبها باكتشاف كامل منطق مفاهيمها النحوية كعناصر جملة، الأمر الذى يُيَسِّر انطلاق تسهيل الإعراب بتسهيل النصب من أكثر من اتجاه، وبالأخص من الاتجاه النحوى المتمثل فى اكتشاف عناصر الجملة التى تمثلها المنصوبات أو تمثل شكلا من أشكال تحقيقها، ومن اتجاه وضع قاعدة إعرابية بسيطة تهتدى بقاعدة إعراب المضارع (قاعدة رفع المضارع ما لم يسبقه ناصب أو جازم)، وإنْ كانت القاعدة المنشودة لإعراب الأسماء والصفات والظروف المعربة لن تطمح إلى الوصول إلى مدى بساطة قاعدة إعراب المضارع.
ولا شك فى أن تسهيل الإعراب سوف يساعد بالضرورة على تحرير النحو من الدوران حول محور الإعراب كما ظل يفعل قرونا، ليتفرغ لقضاياه الحقيقية التى تحتاج إلى ثورة نحوية جذرية كتلك التى شهدها نحو اللغة الإنجليزية طوال العقود الأخيرة بوجه خاص.
وقبل أن نحاول الإلمام بالخطوط العريضة لتطوير النحو العربى، لا مناص من مواصلة الحديث عن الإعراب الذى ما تزال بعض جوانبه بحاجة إلى الإلمام، والتعليق، والربط، والتفكيك.

12
الإعراب وعناصر الجملة

هناك أسئلة نحوية هامة تدور حولها فكرة عناصر الجملة: ما هو الحدث الذى تشتمل عليه الجملة وفى أىّ زمن؟ وهذا هو عنصر "الفعل". ومَنْ هو أو ما هو فاعل هذا الفعل أو المتصف به أو حتى المتأثر به والذى قمنا فى كل الأحوال بإسناد الفعل إليه وتصريفه معه؟ وهذا هو عنصر "المسند إليه" من حيث إسناد الفعل إليه ومن حيث إسناد كل المسند (الخبر) أيضا (من فعل وغيره) إليه، وهو فاعل الفعل بالمعنى النحوى للفاعلية. ويأتى سؤال ثالث هام يختص بالفعل المتعدى إلى مفعول به أو مفعولين وهو: مَنْ الذى أو ما الذى وقع عليه الفعل أو الحدث فتأثر به (دون أن يتم تصريفه معه كما فى بعض أحوال المسند إليه)؟ وهذا هو عنصر "المفعول به". وسنؤجل الآن السؤالين اللذين يتعلقان بالعنصرين الرابع "الظرف" والخامس "متمم الفاعل أو المفعول".
والفعل والفاعل والمفعول مفاهيم واضحة للغاية، مهما انطوى كل منها على مسائل وتفريعات معقدة وحتى بالغة التعقيد.
والفاعل (المسند إليه) مرفوع ما لم يكن مبنيا، أو منصوبا كمفعول به لفعل وفاعل سابقين أو بأدوات نصب الأسماء، وما لم يكن مجرورا بحرف الجرّ أو بالإضافة أو بما يسمى بحرف الجر الزائد.
والمفعول به منصوب إلا إن كان مبنيًّا أو مجرورا بما يسمى بحرف الجر الزائد، وهذا قليل.
وهناك بالطبع فيما يتعلق بكل من الفاعل والمفعول حالة تعذر قبول الكلمة لمورفيمات أو علامات الإعراب (المنقوص والمقصور) الأمر الذى يطرح مسألة الإعراب التقديرى، وحالة الإعراب "المحلى" للمبنىّ وللتراكيب والصيغ التى لا تقبل بحكم طبيعتها الإعراب المباشر المختص بمواضع فى الكلمة الواحدة وبالأخص بأواخر الكلم، وسيكون هناك فصل خاص بالإعراب المحلى والتقديرى.
ونعود الآن إلى الفاعل والمفعول به. وقد أشرنا إلى إعراب كل من الفاعل والمفعول به. فما علاقة الإعراب بالفعل؟
ومن الجلى أن الفعل عنصر هام من عناصر الجملة فهو "الحدث وزمنه فى آن معا"، وحوله تتمحور الجملة من فاعل قام به أو اتصف به، ومن مفعول وقع عليه، ومن ظرف وقع فيه من حيث المكان أو الزمان أو الطريقة أو الغاية أو أشياء أخرى كثيرة، ومن متمم إجبارىّ للفاعل مع الأفعال الناقصة ومن متمم إجبارى للمفعول به المباشر مع العديد من الأفعال المتعدية إلى مفعول أو مفعولين. إن الفعل هو محور الجملة ولا وجود لجملة تخلو منه أو من الفاعل (المسند إليه). وهذا بالطبع هو الحد الأدنى للجملة عندما يكون الحد الأدنى للمسند هو الفعل. غير أن العناصر الثلاثة الأخرى من عناصر الجملة محورية بدورها وإجبارية بدورها فى النماذج الخاصة بها للجمل فلا مجال للتقليل من شأنها وإنما هى نماذج للجمل تقتضى نماذج للمسند، وفقا لنوع الفعل ودلالاته واستخدامه لازما أو متعديا، ويظل الفعل والفاعل ماثليْن دوما فى كل جملة. وتتعدد النماذج حسب الاكتفاء بهما إجباريا (أى كعنصرين إجباريين لنموذج) أو إضافة عناصر إجبارية أخرى إليهما، ومن ذلك تكرار العنصر الواحد (لنوعين من نفس العنصر وهو المفعول به بالذات) فى نموذج بذاته. أما الإضافات الاختيارية للعناصر فلا حدود لها، إلا حدود المعانى المطلوبة، لكنها لا تغيّر نماذج الجمل ذاتها كنماذج بحال من الأحوال.
فما علاقة الفعل بالإعراب؟
وهناك زوايا متباينة يمكن تأمُّل هذا السؤال منها.
فكما قلنا عن الفاعل يمكننا أن نقول إن الفعل مرفوع ما لم يكن مبنيا وما لم يسبقه ناصب أو جازم.
غير أننا أثبتنا أن المسند ليس مرفوعا وليس معربا أصلا بل هو خارج نطاق مسألة الإعراب. والآن فإن الفعل فى جملة من فعل وفاعل هو المسند (الخبر). فهل هذا الفعل وهو المسند مرفوع كما زعم النحو العربى للمسند أم هو خارج مسألة الإعراب من رفع وغيره؟
ونحن نعرف أن الفعل "مبنى” فى أغلب أحواله. إنه مبنى فى الماضى والأمر والمضارع إذا اتصلت به نون النسوة أو نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة اتصالا مباشرا (أما الاتصال غير المباشر فيكون عند تصريف الفعل مع ألف الاثنين، أو واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، أو نون النسوة، ويكون المضارع معربا فى الأحوال الثلاثة الأولى، أما مع نون النسوة فيكون مبنيا على السكون).
فماذا عن إعراب المضارع المعرب؟ هل إعرابه هو الأصل باعتباره الفعل المضارع المعرب أم باعتباره مسندا (خبرا)؟
ولا شك فى إعراب المضارع (بالاستثناء المحدود المذكور منذ قليل). غير أن إعرابه لا يعنى رفعه، فهو مرفوع ما لم يسبقه ناصب أو جازم.
غير أننا نقول هذه العبارة الأخيرة ذاتها مع إحلال الجارّ محل الجازم عن المرفوع الذى لا مرفوع من حقه الرفع سواه أى: المسند إليه (الفاعل). ولكن الفرق هو أن الحديث عن رفع الفعل المضارع المعرب (ما لم يسبقه ناصب أو جازم) يختلف جذريا عن الحديث عن رفع الفاعل (ما لم يسبقه ناصب أو جارّ).
وإذا كان رفع المضارع المعرب يعنى الاكتفاء بالدلالات المعجمية للفعل فإن نصبه أو جزمه يضيف إلى هذه الدلالات المعانى التى تنطوى عليها عوامل وأدوات النصب أو الجزم.
ونواصب الفعل تُضيف معانى جديدة:
1: أَنْ (المصدرية) 2: لَنْ (النفى فى المستقبل) 3: كى (التعليل) 4: إِذَنْ (جواب كلام قبلها) 5: لام (التعليل) 6: لام (الجحود أو الإنكار) 7: فاء (السببية) 8: واو (المعية) 9: حتى (الغاية والتعليل).
وكذلك تُضيف جوازم الفعل معانى جديدة:
1: لم (نَفْى المضارع وقلب زمنه إلى الماضى) 2: لَمَّا (نَفْى المضارع وقلب زمنه إلى الماضى واستمرار النفى إلى الحاضر) 3: لام (الأمر لجعل المضارع يفيد الطلب) 4: لا (الناهية).
ومنها ما يجزم فعلين بمعان جديدة أيضا تضاف إلى الدلالات المعجمية (والمقصود أدوات الشرط الجازمة):
1: إِنْ (رَبْط جواب الشرط بفعل الشرط) 2: مَنْ (للعاقل) 3: ما (لغير العاقل) 4: مهما (لغير العاقل) 5: متى (للزمان) 6: أيّانَ (للزمان) 7: أين 8: أينما 9: أَنَّى 10: حيثما (وكلها من 7-10 للمكان) 11: كيفما (للحال) 12: أى (للعاقل وغيره وللزمان والمكان والحال بحسب ما تضاف إليه).
ولا شك فى أن أدوات نصب الفعل وأدوات جزم الفعل تضيف المعانى المذكورة إلى المعانى المعجمية للأفعال، تمامًا كما تضيف أدوات نصب الأسماء ("إن وأخواتها") وأدوات جرّ (الأسماء) معانيها للأسماء أو الصفات أو الظروف المعنية.
غير أن إعراب المضارع (بالاستثناء المذكور آنفا) لا يتجاوز بأحواله من رفع ونصب وجزم مجال الدلالات والمعانى اللغوية من إثبات، أو نفى، أو تعليل، أو مصدرية، أو شرط، وما شابه ذلك. وحتى إذا أضفنا البناء إلى الإعراب فسوف نظل فى مجال الزمن والإطار النحوى للزمن فلا نتجاوز ذلك أبدا إلى المجال المحدّد للعلاقات النحوية بين عناصر الجملة.
وهكذا فإن الفعل اللازم يكون بمفرده مسندا (خبرا) وهو مسند الحد الأدنى. وهو مبنى إن لم يكن مضارعا. وإنْ كان مضارعا فهو معرب (بالاستثناء المذكور). وهو فى هذه الحالة مرفوع أو منصوب أو مجزوم وفقا لغياب أو وجود أدوات النصب أو أدوات الجزم. ولكن هل المضارع مرفوع لأنه مسند؟ والإجابة هى أن المسند (الخبر) خارج الإعراب من رفع وغيره، وأن إعراب الفعل يختلف جذريا عن إعراب غير الفعل، فلا مجال للحديث حتى عن الإعراب المحلى للمسند أو الفعل الذى يمثله أو يمثل جزءًا منه.
وينبغى أن ندرك مغزى أن النحو العربى يجعل المسند إليه والمسند (المبتدأ والخبر) مرفوعين، أى أنه لا يُقيم بينهما مخالفة فى الإعراب. ومعنى هذا أن النحو العربى لم يشعر بحاجة إلى التمييز عن طريق الإعراب بين المسند إليه والمسند، من خلال اختصاص أحدهما بإعراب يختلف عن الإعراب الذى يختص به الآخر، بأن يكون أحدهما مرفوعا مثلا والآخر منصوبا مثلا.
والنحو العربى محق تماما فى عدم إحساسه بالحاجة إلى التمييز بالإعراب بين المسند إليه والمسند. ويؤكد هذا واقع أنه قام بقياس فاسد من الرفع العشوائى لما يسمى بالخبر المفرد، دون أن تُجبره أنواع الخبر الأخرى على افتراض أنها مرفوعة، وبهذا جعل هذين المفهومين النحويين مرفوعين.
وبطبيعة الحال فإن علم النحو لا يملك رفع شيء لم ترفعه اللغة ولا نصب شيء لم تنصبه اللغة. وقد رفعت اللغة المسند إليه فأدرك النحو قاعدة ومغزى هذا الرفع، غير أنه "توهم" أن المسند (الخبر) بدوره مرفوع، فلم يجد غضاضة فى أن يكون الشيئان مرفوعين، ولم يشعر بالحاجة إلى المخالفة بينهما بالرفع لأحدهما والنصب للآخر، مثلا، بل تمادى فى "توهم" الرفع فقام بقياس كل أنواع خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها" وخبر ما يسمى بالمبتدأ الثانى فى الخبر بالجملة الاسمية (من ظرف وجارّ ومجرور وجملة اسمية وجملة فعلية). وإذا كان النحو العربى قد أخطأ عندما "توهم" أن المسند (الخبر) مرفوع، فقد أصاب إذْ أدرك أنه إزاء مفهومين نحويين لا مبرر للمخالفة الإعرابية بينهما.
والسرّ وراء ذلك، كما رأينا من قبل، هو أن المسند إليه عنصر من عناصر الجملة، فهو فاعل الفعل، فى حين أن المسند مفهوم فضفاض بمعنى أنه يتسع لكل بقية عناصر الجملة، فهو كل ما تقوله الجملة - إثباتًا أو نفيّا - عن المسند إليه من خلال عناصر متعددة لا معنى لإعرابها ككل.
ونجد بين عناصر الجملة التى ينطوى عليها المسند (الخبر) عنصرًا يقابل مباشرة عنصر المسند إليه (الفاعل): إنه المفعول به. فالفاعل يقابل المفعول به وليس المسند. والمفعول به منصوب على أساس مخالفة نصبه لرفع الفاعل. وهنا يقوم الإعراب بوظيفة نحوية مباشرة فى التمييز بين الفاعل المرفوع والمفعول به المنصوب.
وهناك بطبيعة الحال منصوبات أخرى غير المفعول به، فكل ما هو غير الفاعل ("والفعل" كما أوضحنا)، من عناصر الجملة منصوب إذا كان كلمة معربة. ونحن لا نريد أن ندخل فى جدال عقيم عن "العلة" وراء النصب الذى يلازم الكلمة المفردة المعربة عندما تكون متمما للفاعل أو المفعول أو على الظرفية. ومن المنطقى بطبيعة الحال تمييز المسند إليه (الفاعل) بالرفع دون غيره، الأمر الذى منع رفع غيره إلا عشوائيا وفى أغلب الأحوال نتيجة لتوهم أنه المسند إليه. ولهذا فمن المنطقى أن تكون العناصر النحوية الأخرى غير مرفوعة. فيبقى إذن الجرّ الذى يشترط الإضافة إلى حرف الجرّ أو المضاف فيفعل فعله على أية كلمة مهما كانت وإن كانت المسند إليه (الفاعل). ولا يبقى بعد ذلك من أحوال "إعراب الاسم" سوى النصب. وإذا كانت المخالفة الإعرابية الأكثر أهمية من الناحية النحوية تقوم بين الفاعل المرفوع والمفعول به المنصوب، فإن اشتراك عنصرين آخرين من عناصر الجملة هما المتمم (متمم الفاعل أو المفعول) والظرف (أو تلك الكثرة من المنصوبات) فى النصب مع المفعول به، رغم ضرورة التمييز السهل "نحويا" بين المفعول به وبقية المنصوبات وكذلك فيما بين كل منصوب وآخر من هذه المنصوبات، يعنى شيئا واحدا هو أن التمييز النحوى بين المنصوبات استغنى عن أحوال إعراب أخرى عديدة إلى جانب النصب للتمييز بين هذه الوظائف النحوية لأنه يتحقق من خلال "المعنى" دون صعوبة أو دون صعوبة كبيرة ولأنه يتحقق فى الكثير من الأحوال من خلال أشكال تحقيق هذه الوظائف النحوية بطبيعة وصيغ هذه الأشكال التى لا علاقة لها كمجموعات وتراكيب بمسألة الإعراب ومورفيماته وعلاماته.
وعلى هذا فإن حصر الرفع فى المسند إليه (الفاعل) كان لا يعنى فقط ضرورة المخالفة الإعرابية بالنصب للمفعول به وحسب بل أيضا إطلاق النصب لكل العناصر المتحققة من كلمات معربة، ما دام الجرّ لا يستطيع أن يتقاسم هذه الكلمات أو العناصر مع النصب لأنه (أى: الجرّ) محصور بحكم طبيعته فى الإضافة.
ويقال إن الرفع والنصب والجرّ أحوال إعرابية لا تقتصر وظيفتها الإعرابية فقط على الكلمات ذات الوظائف النحوية التى تنصبّ على العلاقات بين الكلمات (أو العناصر) فى الجملة، بل يقوم الإعراب بأحواله هذه بدور الضابط الإعرابى "لتوابع" كل كلمة أو عنصر فى الجملة، حتى إذا لم تظهر علامة الرفع أو النصب أو الجرّ نتيجة للبناء أو المنقوص أو المقصور أو المصدر المؤول أو ما إلى ذلك. والحقيقة أن الضابط الإعرابى للتوابع لا يتمثل فى الإعراب أو ما يسمى بالإعراب المحلى بل يتمثل فى طبيعة عنصر الجملة المتبوع ونوع الإعراب المرتبط به نموذجيا مع التابع المعرب، كما سوف نرى.
ولا مجال للشك فى أن رفع المسند إليه (الفاعل) ونصب المفعول به، وإخراج المسند (الخبر) من دائرة الإعراب، اتجاه واسع فى اللغات القائمة على الإعراب، وليس فى اللغة العربية وحدها. وفى كل هذه اللغات تقوم المخالفة الإعرابية بين الفاعل والمفعول به على المخالفة النحوية بينهما أى من أجل تمييز الوظيفة النحوية للكلمة فى الجملة رغم أنها كلمة واحدة فى المعجم مهما تعددت دلالاتها اللغوية.
على أن الإعراب لا يقتضى دائما، وفى كل أحواله، وجود علامات مخصوصة لكل حالة مثل علامات الرفع أو علامات النصب. فالرفع يمكن أن يتمثل فى حالة صفرية أى بدون علامات (فعلامة الرفع هنا هى عدم وجود علامة) كما هو الحال فى اللغة الفارسية واللغة النوبية وفى غيرهما حيث الفاعل مرفوع بدون علامة مقابل المفعول به الذى يتخذ علامة تسبقه كما فى الفارسية أو تتبعه كما فى النوبية.
ومن ناحية أخرى فإن علامات الإعراب لا تكون بالضرورة فى أواخر الكلم كما يقول النحو العربى محقًّا بقدر ما يتعلق الأمر باللغة العربية، وكقاعدة أغلبية وليس كقاعدة مطلقة. ذلك أن علامات الإعراب قد تكون فى أواخر الكلمات أو فى أوائلها أو بداخلها، وعندنا فى العربية حذف حرف العلة فى الأجوف بالإضافة إلى "سكون" الجزم فى مثل كلمة: "يَقُلْ" فى جملة: لم يَقُلْ إلا الحق"، لجزم الفعل يَقُولُ"، وهذا مجرّد مثال واحد.
وفى كتابه: "نحو التيسير - دراسة ونقد منهجى”، يشير الدكتور أحمد عبد الستار الجوارى إلى حديث النحاة عن أن "الرفع عَلَم الفاعلية"، ويرى أن ما ذهب إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه: "إحياء النحو" من أن "الضمة وهى علامة الرفع هى "عَلَم الإسناد"... "قد يكون أدنى إلى الصواب" .... "وذلك لأن معنى الفاعلية على وجه الدقة، قد لا يكون واضحا حتى فى الأسماء المرفوعة المسندة إليها الأفعال، كما هو الحال فى أفعال السجايا" .... "كما أنه غير مفهوم فى المبتدأ المتصف بالخبر كقولنا: ’محمدٌ نبيل‘" . ويعقّب على ما قاله الأستاذ إبراهيم مصطفى موضحا أن الضمة، وإنْ كانت حقا علامة الرفع الأصلية، إلا أنه أغفل بذلك علامات الرفع الفرعية، ... "ولو أنه قال الرفع للإسناد لكان ذلك أولى وأقرب إلى الحقيقة" . لماذا؟ لأن طرفى الإسناد، وهما المسند إليه والمسند، يستحقان الرفع .
والحقيقة أن "الرفع عَلَم الفاعلية"، وكل مرفوع غير الفاعل قليل كمواضع إلى جانب أنه مرفوع عشوائيا، كما أنه لا يمثل عنصرا من عناصر الجملة لأن المسند ليس عنصرًا من عناصر الجملة، كما أن ما يسمى بالمبتدأ الأول فى جملة خبرها جملة اسمية كما يقال ليس مسندا إليه فى الحقيقة بل مضاف إليه لمضاف لاحق وليس عنصر جملة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالعناصر الثلاثة التى أشرنا إليها فى بداية هذا الفصل وهى: الفعل والفاعل والمفعول، يمكن القول إن الفعل لا علاقة لإعرابه بإعراب الاسم فهما أمران مختلفان جوهريا. أما الفاعل فمرفوع باستثناءات، وأما المفعول به فمنصوب باستثناء قليل نادر. ولأن عنصرى الجملة الباقيين، وهما عنصر متمم الفاعل أو المفعول به، وعنصر الظرف، منصوبان، كما سبق القول، يمكن القول إذن أن إعراب الأسماء والصفات والظروف المعربة (وهو الإعراب المتصل بعناصر الجملة) يخصّ أربعة عناصر ولا يخصّ العنصر الخامس وهو الفعل. والعناصر الأربعة للجملة (غير الفعل) عبارة عن عنصر واحد مرفوع هو المسند إليه (الفاعل)، مع أخذ الاستثناءات فى الاعتبار، وثلاثة عناصر منصوبة وهى المفعول به، ومتمم الفاعل أو المفعول به، والظرف (مع أخذ الاستثناءات فى الاعتبار أيضا كما سنرى).
وهناك نقطة ينبغى أن نذكرها هنا حتى نلاحظها بوضوح وجلاء عند الدخول فى "بحر" المنصوبات، أى عند محاولة فهم وإعادة تبويب تلك الكثرة من المنصوبات.
لقد أشرنا إلى عناصر الجملة، وسنقف عندها فى موضع لاحق، من حيث تحققها من خلال عبارات وصيغ وتراكيب متنوعة وليس من خلال الألفاظ المفردة. غير أن الإعراب والنحو ينفصلان فى التعامل مع الكلمة الأساسية فى العبارة المحققة لعنصر الجملة. فالكلمة الأساسية من حيث الإعراب هى تلك التى تأخذ علامة الإعراب من رفع ونصب وجرّ وليس الكلمة الأساسية من حيث المعنى النحوى. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ الطبيعى حسب المرجع الموضوعى الجمعى المتمثل فى الجماعة الناطقة بهذه اللغة وهم العرب وطريقتهم فى وضع علامات الإعراب حيث شاءت لهم سليقتهم أن يضعوها. بل يصل الأمر إلى حدّ إعلان النحاة أن الكلمة المعربة هى المسند إليه أو المسند، المبتدأ أو الخبر، الفاعل أو المفعول، أى عنصرا من عناصر الجملة حسب اللغة النحوية الحديثة التى نستخدمها فى هذا البحث.
ولأن قبول علامات الإعراب هو سمة اللفظة المفردة (باستثناء المبنىّ والمنقوص والمقصور) فقد ظل هناك ميل مطلق إلى حصر المفهوم النحوى لعنصر الجملة (باستثناء الإعراب "المحلى") فى اللفظة المفردة التى تحمل علامة الإعراب المعنية. وعلى سبيل المثال، إذا قلنا: "عَرَبُ المشرقِ مشارقةٌ" كانت كلمة "عربُ" هى المرفوع كإعراب وهى الفاعل كنحو، عند النحاة، مع أن الفاعل ينبغى أن يكون "عربُ المشرق" ككل. وإذا أضفنا لفظة "كلّ" فقلنا: "كلُّ عربِ المشرقِ مشارقةٌ" صارت لفظة "كلُّ" هى المرفوع كإعراب، وهى الفاعل كنحو، عند النحاة، مع أن الفاعل ينبغى أن يكون "كلُّ عربِ المشرقِ" ككل. وهذا ما يؤدى بنا إلى ضرورة أن نعطى الإعراب حقه الذى لا سبيل إلى إنكاره، وهو الرفع مثلا لما رفعته العرب، وهكذا فى بقية أحوال الإعراب. لكنْ لا ينبغى أن يأخذ الإعراب أكثر من حقه إلى حد ينتهى معه إلى تشويه المفاهيم النحوية الصحيحة لعناصر الجملة التى قد تتحقق بكلمة واحدة كحد أدنى، وقد تتحقق بعبارة من كلمات عديدة، وحتى كثيرة جدا، وحتى بما يملأ صفحات للعنصر الواحد إذا شاء الكاتب أو القائل وصبر القارئ أو السامع.
ومن هنا فإن تطابق المرفوع والفاعل إنما يكون فى حالة الفاعل الكلمة الواحدة (بالمعنى الدقيق للكلمة الواحدة كمدخل فى المعجم وليس فى طريقة الكتابة فى مثل: "فسيكفيكهم" وهى عبارة متعددة الكلمات). أما فى حالة العبارة التى يتحقق من خلالها الفاعل كعنصر جملة فلا ينبغى النظر إلى الكلمة المرفوعة على أنها الفاعل (بمفردها بدلا من العبارة كلها)، ولا على أنها بالضرورة "رأس" عبارة الفاعل أى الكلمة الرئيسية فيها من حيث تمثيلها للفاعل. إن المرفوع قد لا يكون الفاعل، بل مجرد كلمة من كلماته، عندما يكون الفاعل عبارة من عدة كلمات، كما أنه قد لا يكون حتى رأس عبارة الفاعل عندما يتمثل هذا الرأس فى كلمة أخرى فى العبارة.
وهنا تنفتح أمامنا آفاق التطلع إلى فهم كل عنصر من عناصر الجملة على أنه يتحقق من خلال كلمة أو مجموعة اسمية أو فعلية، كما سبق ورأينا عند بحث تحقيق المسند إليه من خلال الكلمة أو الكلمات أو العبارات أو الصيغ أو التراكيب اللفظية، كما يمكننا أن نقسّم الجملة إلى عناصرها التى تشمل كل كلماتها شمولا مستغرقا مهما كثرت تلك الكلمات، لنبحث تكوين العنصر من الكلمات، وتكوين الجملة من العناصر، بمفاهيم ناضجة بعيدا عن تلك الألفاظ التى حملت علامات الإعراب المعنية. كما يمكننا أن نحدد "رأس" عبارة أو مجموعة عنصر الجملة بوضوح نحوى تام دون أن يفرض علينا التمحور حول الإعراب النظر إلى اللفظة المعربة المعنية على أنها بالضرورة عنصر الجملة أو رأس عبارته أو مجموعته.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بأشكال تحقيق عنصر الجملة، غير الفعل والفاعل، نجد أن العنصر الواحد منها قد يتحقق بالإضافة إلى اللفظة الواحدة القابلة للإعراب بعبارة غير قابلة للإعراب، إلا فى إطار ما يسمى بالإعراب المحلى، وهنا يقوم النحو العربى التقليدى (القديم والاتباعى) بإعلان العناصر المعنية للجملة "منصوبات أسماء". ثم ندرس المنصوب من منصوبات الأسماء فإذا به يأتى منصوبا كلفظة مفردة أو كعبارات متنوعة أيضا. وهذا ينطبق، على سبيل المثال، على المفعول المطلق، والمفعول لأجله، وظرف المكان والزمان، والحال... فكيف ندرسها على أنها "منصوبات" مع أنها عناصر جملة تأتى منصوبات فى حالة اللفظ المفرد كما تأتى فى أنواع وأشكال شتى؟ أليس الأجدر بنا أن ندرسها كمفاهيم نحوية، كعناصر جملة، ثم نبحث أشكال تحقيقها، ومنها شكل النصب الذى يُربك الكاتب والقارئ، أو المتحدث والمستمع، أكثر مما تُربكه أية حالة أخرى من أحوال الإعراب؟
ولهذا فعندما ننتقل إلى ما يسمى بمنصوبات الأسماء برمالها المتحركة، وبأنواع وأشكال وألوان تداخلاتها واشتباهاتها والتباساتها، ستكون الأولوية الأولى للمفاهيم النحوية التى تصلح للغة تقوم على الإعراب، كما تصلح للغة تقوم على إسقاط الإعراب. وهى ليست مفاهيم إعرابية تخنق النحو المتمحور حول الإعراب، بل هى مفاهيم نحوية لا تهمل الإعراب، بل تضعه فى مكانه الصحيح، وتعمل على تيسيره، ولا تحاول ذلك خدمة للإعراب أو لتيسيره فحسب، بل أملا فى أن يساعد تيسير الإعراب فى تحرير النحو العربى من ربقة التمحور حول الإعراب، وبالتالى فى فتح آفاق واسعة أمامه، الأمر الذى لن يتحقق إلا بتضافر جهود جيل جديد من علماء النحو، بشرط أن يتحرروا من تقديس النحاة القدامى، مع إدراك وتقدير عظمتهم، بأن ينقدوا إنجازهم العلمى التاريخى وينطلقوا منه ويطوروه، ناظرين إلى المستقبل بعقلية تستوعب علوم الماضى وتطورها ولا تتحجر عندها، فى عالم لم يعد فيه مكان لمن ينظرون إلى الوراء فى سياق من الجمود والتحجر والنكوص والردة.






13
خرافة الإعراب المحلى والإعراب التقديرى

المعنى الاصطلاحى الأول للإعراب هو التغير الذى يحدث فى أواخر الكلمات العربية المعربة، فى أحوال الرفع والنصب والجر والجزم، باستخدام علامات الإعراب وفقا لطبيعة الكلمات المعربة من حيث الإفراد والتثنية والجمع بأنواعه المختلفة إعرابيا، ومن نواحٍ أخرى كالأسماء الخمسة أو الستة والأفعال الخمسة، وكل هذا فى ارتباط وثيق بالوظائف النحوية للكلمات فى الجملة وذلك للتمييز بين الوظائف النحوية المختلفة للكلمات فى الجملة. وهناك معنى آخر للإعراب باعتباره التتبع المباشر لنص مكتوب أو شفاهى بالتحليل الإعرابى الوثيق الارتباط بالتحليل النحوى.
وبطبيعة الحال فإن كلمات المعجم وبالتالى كلمات الجملة إما معربة وإما مبنية بمعنى أن الكلمة الواحدة منها قد تكون معربة أىْ قابلة للتغير (فى آخر الكلمة كقاعدة أغلبية) وفقا لوظيفتها النحوية فى الجملة، أو مبنية أىْ تلزم حركة واحدة (ضمة، أو فتحة، أو كسرة) أو تلزم غياب كل حركة أىْ السكون. ومن الضرورات الصوتية بالطبع أن يتحرك آخر الكلمة المبنية الساكنة فى الكلام المتصل حركة مناسبة لا صلة لها بدلالة الحركة الإعرابية. كما يحدث الوقف بالسكون على كلمة معربة لضرورة من الضرورات دون أن يكون لهذا السكون أىّ مغزى من قبيل إلغاء الإعراب ودون أن يتجاوز بحال من الأحوال الضرورة الصوتية البحتة فى الموضع المعنىّ فى سياق كلام متصل.
ومعنى هذا أننا يمكن أن نتتبع كل كلمات نص مكتوب أو شفاهى، كلمة كلمة، لنرى ما إذا كانت معربة وبأىّ حركة أو بأىّ حرف أو بالسكون (للمجزوم)؛ أو مبنية وعلى أىّ حركة أو على السكون. ولا شك فى أن الكلمة المعربة ستكون مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة بالحركات المعنية أو بالسكون أو بالحروف (حسب طبيعة الكلمات) وفقا لمواقع نحوية محددة فى الجملة فالرفع للإسناد والجر للإضافة والنصب لغير ذلك (كقاعدة أغلبية بمعنى أن هناك أوضاعا للرفع بغير الإسناد أو للإسناد بغير الرفع وغير ذلك). ورغم أن الكلمات المبنية ستظل مبنية بحركاتها أو سكونها، مهما كانت وظائفها النحوية، فإن كل كلمة منها ستتمتع بكامل وظيفتها النحوية كعنصر من عناصر الجملة أو كجزء من هذا العنصر أو كأداة نحوية بدلالة مّا دون أن تصير لذلك معربة لأنها بالبداهة مبنية أىْ لا يتغير آخرها.
ومعنى هذا أن الكلمة فى الجملة من حيث آخرها معربة وفقا للوظيفة النحوية أو مبنية رغم الوظيفة النحوية. فالارتباط المحقق هنا هو بين النحو والإعراب، بين الوظيفة النحوية أو المنطقية للكلمة فى الجملة من ناحية وبين الإعراب من الناحية الأخرى. أما البناء فإنه بحكم التعريف، بحكم طبيعته، أىْ لأن آخره لا يتغير، بعيد تماما عن أىّ ارتباط بالاعتبار النحوى المنطقى.
ومن ناحية أخرى فإننا يمكن أن نتتبع نفس النص المكتوب أو الشفاهى من وجهة النظر النحوية المنطقية. ويتبين من مثل هذا التتبع أن كل كلمة فى المعجم تصلح للاستعمال كعنصر من عناصر الجملة أو كجزء من عنصر من عناصر الجملة. ذلك أن عنصر الجملة ولنأخذ المسند إليه أو الفاعل مثلا يمكن أن يكون اسما أو ضميرا أو مجموعة من الكلمات. والاسم (الكتاب) فى جملة "الكتاب مفيد" هو المسند إليه، والضمير (هو) فى جملة "هو مجتهد" هو المسند إليه، ومجموعة كلمات (أن تصوموا) فى "وأن تصوموا خير لكم... الآية" هى المسند إليه. وكلمة "أنْ" ليست عنصر جملة هنا (مع أنها قد تصلح كعنصر جملة فى سياق خاص كما سنرى بعد قليل) ولكنها هنا جزء من مجموعة الحد الأدنى (لأنها من كلمتين فقط) لعنصر الجملة المسند إليه أما كلمة "تصوموا" فهى فعل وبالتالى تصلح كعنصر جملة ولكنها هنا جزء من هذه المجموعة التى تمثل عنصر الجملة المسند إليه. كذلك جملة: "يذهب الفلاح إلى الحقل" فكلمة "الفلاح" عنصر جملة فهى المسند إليه وكلمة "يذهب" عنصر جملة فهى الفعل وعبارة "إلى الحقل" جار ومجرور ولكن ما علاقة "الجار والمجرور" بعناصر الجملة؟ "المجرور" وهو الحقل يصلح نموذجيا لأن يكون عنصر جملة ولكنه ليس كذلك هنا و"إلى" حرف جر وهو يصلح لأن يكون عنصر جملة فى سياق خاص (كما سنرى بعد قليل) ولكنه ليس عنصر جملة هنا ولكن الجار والمجرور هنا "إلى الحقل" يؤلفان معا عنصر جملة هو ظرف مكان ويؤلف الفعل مع هذا الظرف "معا" المسند (الخبر). على أن كل كلمة فى المعجم تصلح لأن تؤلف عنصر جملة؛ أكثرها بصورة نموذجية كالاسم والفعل، وبعضها فى سياقات خاصة: مثل (أنْ) فى جملة تعريفية مثل "أنْ المصدرية حرف ناصب" فكلمة "أنْ" هنا هى المسند إليه، وكذلك كلمة "إلى" فى جملة مثل "إلى حرف جر" لأن "إلى" هنا هو المسند إليه.
ومعنى هذا أن كل كلمة فى المعجم قابلة لأن تؤلف عنصر جملة وأن كل كلمة فى جملة إما أن تؤلف عنصرا من عناصر الجملة وإما أن تؤلف مع غيرها عنصر جملة مع أنها هى ذاتها ليست عنصر جملة فى تلك الجملة، كما رأينا منذ قليل.
وهناك، من ناحية أخرى، تمييز أشرنا إليه غير مرة بين أداتين بديلتين من أدوات النحو فى اللغات بوجه عام للتمييز بين الفاعلية والمفعولية وما إلى ذلك هما النسق النحوى الذى أسميه نسق مرونة ترتيب عناصر الجملة اعتمادا على الإعراب بعلامات الرفع والنصب والجر، والنسق النحوى الآخر الذى أسميه نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة المرتبط بإسقاط الإعراب. ويقوم التمييز فى نسق المرونة بتقييد عناصر الجملة بقيد العلامات فالرفع للمسند إليه والنصب للمفعول به وهكذا. ويقوم التمييز فى النسق الآخر بتقييد عناصر الجملة بقيد المكان فالفاعل يسبق المفعول به وهكذا.
ولكننا رأينا أن كلمات المعجم والجملة معربة ومبنية فلماذا نهمل البناء فى تعريف النسق متحدثين عن الإعراب وإسقاط الإعراب دون البناء؟
والبناء قائم فى كل الأحوال، بصورة جزئية تشمل غير الاسم (بمعناه الفضفاض فى النحو العربى التقليدى مع استبعاد المبنيات) والفعل المضارع (الذى لا تلحق به نون النسوة أو نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة) فى نسق المرونة اعتمادا على الإعراب، وبصورة شاملة لكل كلمات المعجم والجملة فى نسق تقييد الترتيب مع إسقاط الإعراب. وبالتالى فإن المتغير أىْ الإعراب وإسقاط الإعراب هو مناط التمييز بين النسقين. كما أن الإعراب يقوم من الناحية العملية بفضل تغيُّر علاماته من حركات وحروف بالمساعدة فى تمييز الفاعل من المفعول وهذا ما لا يملكه البناء. غير أن الإعراب ذاته قد يعجز عن التمييز بين الفاعل والمفعول كلما امتنع الرفع مثلا عن الفاعل المجرور بما يسمى بحرف الجر الزائد أو لغير ذلك من أسباب عديدة. وهنا تتدخل قرائن لفظية ومعنوية عديدة تقوم بالتمييز المطلوب والفيصل فى التمييز هنا هو المعنى.
وعلى هذا فنحن، من حيث جانب من جوانب التمييز بين نسقىْ مرونة ترتيب الكلمات وتقييد ترتيب الكلمات، أمام نسقين يتعلقان بأواخر الكلمات هما الإعراب والبناء مع نسق مرونة الترتيب، والبناء الشامل على الحركات الثلاث والسكون مع نسق تقييد الترتيب. ورغم أن الكلمة المعربة قد تعجز عن المساعدة فى تمييز الفاعل من المفعول، فإن الإعراب مفيد بوجه عام كأداة نحوية لهذا التمييز على حين أن البناء غير مفيد كأداة نحوية لهذا التمييز.
وبهذا يغدو من المنطقى أن ينصبّ اهتمامنا على الإعراب وحده عند تحليل الجملة من حيث المسند والمسند إليه أو من حيث عناصر الجملة أىْ عند التحليل النحوى المنطقى مع إهمال البناء تماما لعدم ارتباطه بالتمييز النحوى. فمن أىّ باب يا ترى دخل الإعراب المحلى أىْ إعراب المبنىّ وما لا يقبل الإعراب عموما مثل إعراب ما يسمى بالجملة وشبه الجملة، ومن أىّ باب يا ترى دخل ما يسمى بالإعراب التقديرى للكلمات التى لا تقبل علامات الإعراب لتعذرها أو ثقلها؟
ويعرب النحو التقليدى الكلمة المبنية أو ما يسمى بالجملة وشبه الجملة فى "محل" رفع فاعلا وغير ذلك أو فى "محل" نصب مفعولا به وغير ذلك أو فى محل جر مجرورا.
ومن الجلى أن "المحل" شيء و"الإعراب والبناء" شيء آخر، فهذان الأخيران يخصان حركة أو سكون آخر الكلمة الواحدة، أما "المحل" أو "الموقع" فهو مفهوم نحوى ويعنى الوضع من حيث الطبيعة أو الوظيفة النحوية للكلمة الواحدة أو لمجموعة من الكلمات كفاعل أو مفعول أو حال أو تمييز وغير ذلك. و"المحل" إذن هو العنصر من عناصر الجملة أو المكون من مكونات الجملة أو الوظيفة من الوظائف النحوية فى الجملة.
فما معنى الإعراب المحلى إذن؟
ومن المفارقات أن تعبير الإعراب المحلى لا ينطوى على أىّ معنى منطقى إلا إذا فسرناه على أنه يعنى إعراب الكلمة المعربة وفقا لـ "المحل" أىْ أننا نرفع مثلا الكلمة المعربة (أىْ القابلة للإعراب) لأنها من حيث "المحل" المسند إليه مثلا، وعلى هذا لن يعنى تعبير "الإعراب المحلى" سوى أن الإعراب أىْ تغيير أواخر الكلمات يكون وفقا للمحل، ولا يمكن أن يمتد هذا المفهوم إلى ما لا يقبل الإعراب لأنه كلمة مبنية أو ما يسمى جملة أو شبه جملة. غير أن استخدام النحو العربى التقليدى لتعبير "الإعراب المحلى" لا يعنى هذا مطلقا بل يخص بالذات "إعراب" ... "غير المعرب" وفقا لـ "المحل". ولا يمكن أن يعنى هذا التعبير بهذا المعنى الذى يمثل تناقضا فى الألفاظ سوى القيام بتحديد "المحل" أىْ الموقع النحوى أىْ عنصر الجملة الخاص بالكلمة المبنية أو ما يسمى الجملة أو شبه الجملة. أىْ أننا نقوم بتحديد أن الكلمة المبنية مثلا فاعل أو مفعول فحددنا بهذا محله، وعندما نقول إن الكلمة المعنية فاعل مثلا فى محل رفع فكأننا نقول إن هذه الكلمة "حقها" الرفع لأنها لو كانت معربة لكانت مرفوعة كما ينبغى للفاعل أن يكون. غير أن "لو" تفيد الامتناع للامتناع أىْ امتناع الرفع لامتناع إعراب الكلمة أىْ لأن الكلمة غير معربة. فلا وجه ولا مسوغ ولا معنى إذن لإعراب كلمة مبنية أو ما يسمى جملة أو شبه جملة رغم أن هذه الكلمات المبنية المفردة أو أىّ كلمات فى تراكيب يمكن أن تكون عناصر جملة بامتياز وذات محل وموقع من الناحية النحوية المنطقية.
ولأن الكلمات المبنية والتراكيب لها محل وليس لها إعراب فالسؤال المنطقى الذى ما يزال معنا هو بالتالى: من أين جاء هذا الإعراب لغير المعرب؟
والحقيقة أن الإعراب يتخذ هنا معنى غير معناه الأصلى. لقد صار يعنى "المحل" والإعراب فى وقت واحد معا بدليل أن ما يسمى بالإعراب يعنى أيضا تحليل كلمات الجملة من حيث كونها وظيفة نحوية ومن حيث كونها تأخذ الرفع أو النصب أو الجر أو الجزم. أىْ أن الإعراب تجاوز مفهومه الأصلى المتمثل فى تغير "أواخر الكلم" ليعنى كل الاعتبارات النحوية، وكان هذا بابا واسعا لدخول ما يسمى بالإعراب المحلى والإعراب التقديرى. لقد صار الإعراب مفهوما ميتافيزيقيا فوق-إعرابى يشمل المعرب والمبنى والتراكيب التى تسمى الجملة وشبه الجملة والكلمات التى لا تقبل الإعراب للتعذر أو الثقل كما صار يشمل قبل كل هذه الأشياء الموقع والمحل والعنصر أىْ الاعتبارات النحوية والمنطقية.
وهناك بالطبع أبواب أخرى لدخول الإعراب المحلى والإعراب التقديرى. والحقيقة أن الإعراب التقديرى ليس سوى نوع مما يسمونه بالإعراب المحلى لأنه يقوم على فكرة أن هناك كلمات لا تقبل التغير الإعرابى، أىْ لا تقبل حركات الإعراب، رغم أنها ليست مبنية، وأن لها مع ذلك محلا يجعل من "حقها" الرفع أو النصب أو الجر أو الجزم.
وهناك بالطبع الباب الواسع الذى تمثله قاعدة أن الفاعل يسبقه فعله وقاعدة تأخير الفعل الذى يلى المبتدأ وجوبا. ذلك أن الفعل الذى يلى المبتدأ يقتضى فاعلا يسبقه هذا الفعل وهنا يأتى الحل السحرى الميتافيزيقى المتمثل فى الفاعل الضمير المستتر الذى يعود على ذات المبتدأ الذى جرى إنكار أن يكون فاعلا مع أنه صار فاعلا بعودة الضمير إليه. وهذا الضمير المستتر المزعوم الذى هو فى محل رفع فاعل الفعل المتأخر وجوبا هو المسئول عن قدر هائل من الإعراب المحلى ولا شك فى أن التخلص من هذا الضمير الخفىّ الميتافيزيقى سوف يخلصنا من هذا القدر من الإعراب المحلى. غير أن الضمير المستتر لا يمكن التخلص منه دون التخلص من قاعدة أن الفعل يسبق الفاعل ويتلو المبتدأ وهى قاعدة خاطئة من وضع النحاة ولا مسوغ لها، ودون إطلاق التقديم والتأخير بين الفعل والفاعل (المسند إليه)، كما سبقت الإشارة غير مرة.
وسوف يؤدى إلغاء هاتين القاعدتين أيضا إلى إغلاق باب آخر للإعراب المحلى هو إعراب ما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل، وهذا الأخير بدوره وهْم من أوهام النحو العربى التقليدى. فالفعل المتأخر عن المبتدأ يفترض الضمير المستتر عندما يكون المبتدأ غائبا مفردا مذكرا لأن الفعل سيكون عندئذ فى حالة صفرية (فَعَلَ أو يَفْعَلُ) فلا تظهر نهاية التصريف الدالة على الشخص والعدد والنوع. ولأن النحو العربى التقليدى يشترط أن يتبع فاعلٌ كلَّ فعل صار من السهل افتراض أن كل نهاية من هذه النهايات يمثل الفاعل لأنه جرى إنكار الفاعلية على الفاعل الحقيقى أو العملى لأنه سبق الفعل أو لأنه محذوف فى سياق الإطار الواسع لظاهرة الحذف فى اللغة العربية وفى اللغات بوجه عام. ولأن هذه النهايات إنما هى نهايات تصريف أفعال ترتبط بالصرف والتصريف وليس بالنحو والإعراب فإنه لا مناص من التخلى عن النظر إليها باعتبارها ضمائر الرفع البارزة المتصلة كما يفعل النحو التقليدى. ولأن ضمير الرفع البارز المتصل هذا هو المسئول عن قدر هائل أيضا من الإعراب المحلى فلا شك فى أن التخلص منه سوف يخلصنا من هذا القدر أيضا من الإعراب المحلى. وبطبيعة الحال فإنه لا سبيل إلى التخلص منه دون التخلص من قاعدة أن الفعل يسبق الفاعل ويتلو المبتدأ وإطلاق التقديم والتأخير بين الفعل والفاعل (المسند إليه).
والحقيقة أن الإعراب المحلى لا يخدم غاية سوى غاية إضفاء شمول ميتافيزيقى وهمى زائف على الإعراب. ذلك أن الإعراب المحلى، بعكس الإعراب، ليس سمة أو قابلية ماثلة فى صميم طبيعة الكلمات تجعله أداة للتمييز النحوى فى اللغة ذاتها وفى النحو الجمعى ذاته. وعلى هذا فإن الإعراب المحلى ليس أداة من أدوات اللغة بل هو أداة يستخدمها النحاة لإجراء تمارين غامضة على كلمات الجملة دون أن تكون مفيدة فى فهم اللغة أو استيعاب نحوها الجمعى. وإذا صح أن المرجع هو اللغة ذاتها فإنه سيكون من البديهى أن المفهوم النحوى الوضعى الذى لا يعكس، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مظاهر حقيقية فى النحو الموضوعى الجمعى إنما هو مفهوم غريب على اللغة وعلى منطق نحوها الداخلى.
ومع أننا لا نرى أىّ فائدة للإعراب المحلى إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل الحديث المتواصل عن فائدة مزعومة لهذا الإعراب تتمثل فى إعراب التوابع على أساس (أىْ بالاسترشاد بـ) الإعراب المحلى للمتبوعات. وعلينا بالتالى أن ننتقل مباشرة إلى محاولة التحقق من احتمال تلك الفائدة والوقوف على حقيقتها. غير أن التابع المعرب يُرفع ويُنصب ويُجرّ وفقا للوضع "النحوى" للمتبوع وليس لكونه معربا. فالتابع المعرب يُرفع إذا كان المتبوع مسندا إليه (ولم يسبقه ناصب أو جارّ)، ويُنصب إذا كان المتبوع المبنى مفعولا به، مثلا، دون حاجة إلى الحديث عن الرفع المحلى للمبنى المسند إليه فى الحالة الأولى أو عن النصب المحلى للمبنى المفعول به فى الحالة الثانية.
والحقيقة أن احتمال فائدة إعراب المتبوع لمعرفة إعراب التابع غير وارد حتى فى حالة الإعراب الظاهر للمتبوع. ذلك أن إعراب التابع يتوقف، مهما كان المتبوع قابلا أو غير قابل للإعراب، ليس على ما "يُظهره" المتبوع من إعراب (ظاهر)، أو ما "نقدِّره" عليه من إعراب (تقديرى)، أو ما "نتوهمه" فيه من إعراب (محلى)، بل على الوضع النحوى للمتبوع كعنصر جملة حقه الرفع أو النصب أو الجر، أو حقه الإعرابى إنْ لم يكن عنصر جملة وذلك نتيجة لمؤثرات سبقته.
ففى جملة: "حقق العالمُ الكبيرُ إنجازًا رائعًا"، لم نرفع التابع: "الكبيرُ" لأن المتبوع: "العالمُ" مرفوع، بل لأن المتبوع: "العالمُ" هو المسند إليه (الذى نرفعه إذا كان كلمة معربة ولم يسبقها ناصب أو جارّ). وينطبق الشيء نفسه على التابع: "رائعًا" الذى لم ننصبه لأن المتبوع: "إنجازًا" منصوب، بل لأن المتبوع: "إنجازًا" هو المفعول به (الذى ننصبه إذا كان كلمة معربة).
وفى جملة: "إن العالمَ الكبيرَ حقق معجزةً علميةً"، لم ننصب التابع: "الكبيرَ" لأن المتبوع "العالمَ" منصوب، بل لأن المتبوع: "العالمَ" هو المسند إليه الذى لا نرفعه إذا كان كلمة معربة سبقها ناصب أو جارّ، فالمتبوع هنا مسند إليه غير أنه مسبوق بناصب ولهذا ينبغى نصب تابعه بغضّ النظر عن نصب المتبوع أو علامة نصبه. ومن الجلى أن حالة المسند إليه الذى يأتى منصوبا أو مجرورا لا تقع فى النحو العربى التقليدى لأن الإعراب السائد هو تحوُّل "المبتدأ" إلى اسم "إن وأخواتها" مع الحروف الناسخة، ولأن جر الفاعل بحروف الجر المسماة بالزائدة هو وحده المعترف به فى هذا النحو وهو قليل، ولأنه لا مجال فيه للاعتراف بمفعول لفعل سابق كفاعل لفعل لاحق.
والدليل على أن إعراب التابع المعرب لا يتحدد بالإعراب الفعلى المباشر للمتبوع هو أن المتبوع غير المعرب ليس من شأنه بطبيعة الحال إظهار حالة أو علامة إعراب ومع ذلك فإن التابع المعرب يأخذ إعرابه من اعتبارات نحوية إعرابية غير إعراب أو بناء المتبوع.
على أننا سنحاول الآن بحث "احتمال" فائدة الإعراب المحلى للمتبوع غير المعرب فى إعراب التابع المعرب.
ونأخذ اسم الإشارة، وهو مبنىّ، لنختبر احتمال فائدة إعرابه محليا كمتبوع لإعراب التابع المعرب. وما يأتى بعد اسم الإشارة هو -كما نقرأ فى النحو الوافى– النعت، أو البدل، أو عطف البيان، و"إذا كان ما بعد اسم الإشارة مشتقا فإعرابه نعتا هو الأفضل. أما إذا كان جامدا فالأفضل إعرابه بدلا، أو: عطف بيان" .
ونقرأ عدة جُمَل:
هذا الكتابُ ممتاز.
أعرف هذا الرجلَ.
مررت بهذا العالمِ.
وفى الجمل السابقة نجد بعد اسم الإشارة ("هذا") المبنىّ: "الكتاب" مرفوعا، و"الرجل" منصوبا، و"العالم" مجرورا. وهى جميعا ألفاظ معربة جاءت بعد اسم الإشارة ("هذا"). فهل يفيد إعراب المبنىّ ("هذا") إعرابا محليا فى معرفة إعراب الألفاظ المعربة التى جاءت توابع فى الجمل المذكورة بعد المتبوع المبنىّ؟ وبعبارة أخرى: هل سنجهل إعراب هذه التوابع المعربة إذا لم نعرب المتبوع المبنىّ إعرابا محليا؟
و"هذا" فى الجملة الأولى هو المسند إليه فى النحو التقليدى ولهذا فإن رفعه المحلى يعنى القول إنه مبنىّ فى محل رفع. وسنرفع "الكتاب" (فى هذا السياق) لأن "الكتاب" عطف بيان، أو بدل، أىْ: تابع وأن متبوعه هو المسند إليه وهو مرفوع، أىْ: لأن تابع المسند إليه مرفوع مثل متبوعه (ما دام لم يسبق هذا الأخير ناصب أو جارّ). ويمكن قول الشيء نفسه عن نصب "الرجل" لأنه تابع (بدل أو عطف بيان) لمتبوع مفعول به؛ على أساس أن التابع المعرب للمتبوع المفعول به منصوب. وكذلك يمكن قول الشيء نفسه عن جرّ "العالم" لأنه تابع (نعت أو صفة) لمتبوع مجرور؛ على أساس أن التابع المعرب للمتبوع المسبوق بحرف جرّ مجرور. وفى كل هذه الأحوال أعربنا المعرب باعتبار الوظيفة النحوية للمتبوع (وكذلك باعتبار الوضع اللفظى فى حالة المتبوع المسند إليه الذى لم يسبقه ناصب أو جارّ)، وذلك دون أن نتورط فى إعراب المبنىّ إعرابا محليا بحال من الأحوال.
وسأكتفى هنا بالإشارة إلى التكييف الخاطئ فى النحو العربى لأسماء الإشارة فبدلا من تقسيمها إلى ضمائر إشارة (فى مثل: هذا كتاب مفيد) وصفات إشارة (فى مثل: هذا الكتاب مفيد) جرى الخلط بين هذين القسمين المتباينين من أقسام الكلام (الضمير والصفة). ولم يتصور هذا النحو أن "هذا" فى الجمل التى حللناها منذ قليل، من حيث التابع والمتبوع، هو التابع وليس المتبوع، لأنه صفة إشارة، رغم مجيئه قبل الموصوف أو المتبوع فى (هذا الكتاب) و(هذا الرجل) و(هذا العالم).
ومعنى هذا أن "الكتاب" لم يكن التابع (البدل أو عطف البيان) للمسند إليه (اسم الإشارة "هذا")، كما لم يكن "الرجل" التابع (البدل أو عطف البيان) للمفعول به (اسم الإشارة "هذا")، كما لم يكن "العالم" التابع (النعت أو الصفة) للمجرور (اسم الإشارة "هذا"). بل كان اسم الإشارة نعتا (صفة إشارة) لكل من "الكتاب" المسند إليه المرفوع، و"الرجل" المفعول به المنصوب، و"العالم" المجرور. على أن الاستفادة الواجبة بمنجزات النحو الحديث تدفعنا إلى النظر إلى "هذا" وما بعده فى كل جملة باعتبارهما معا مجموعة اسمية تحقق من خلالها المسند إليه (ورأس هذه المجموعة هو "الكتاب" المرفوع)، والمفعول به (ورأس هذه المجموعة هو "الرجل" المنصوب)، والمجرور (ورأس هذه المجموعة هو "العالم" المجرور)، أما "هذا" فهو فى كل الأحوال نعت (صفة إشارة) ضمن المجموعة الاسمية التى جاءت مسندا إليه مرة، ومفعولا به مرة أخرى، و"مجرورا" مرة ثالثة.
وهناك باب غير ذلك لدخول الإعراب المحلى. إنه باب المسند إليه الذى يأتى منصوبا على المفعولية (مثل المفعول به المنصوب "مجنونا" الذى أُسند إليه الفعل "يكلم" فى جملة: "رأيت مجنونا يكلم نفسه")، أو يأتى بعد حروف النصب (مثل "عُمَرَ" المنصوب الذى أُسند إليه الفعل "يزور" فى جملة: "علمتُ أن عُمَرَ سيزورنا غدا")، أو يأتى مجرورا بحرف جر (مثل "مدرسٍ" المجرور الذى أُسند إليه الفعل "يشرح" فى جملة: "تعرفت بمدرس يشرح الرياضيات بتمكن")، أو يأتى مجرورا بالإضافة (مثل "نفقٍ" المضاف إليه المجرور الذى أُسند إليه الفعل "يقود" فى جملة: "هذا بابُ نفقٍ يقود إلى الناحية الأخرى من الحى"). وفيما عدا الجر بحرف جر زائد، كما يقال لنا، لا يعترف هذا النحو بهذه الأحوال لأن المفعول به لفعل سابق لن يكون فاعلا للفعل الذى يأتى بعده، ولأن حرف النصب ("الناسخ") سيتلوه اسم "إن وأخواتها"، ولن يُعتبر فاعلَ الفعل الذى يأتى بعده، ولأن فاعل هذا الفعل أو ذاك، أو فاعل الفعل الذى يأتى بعد المجرور، ليس سوى الضمير المستتر الذى يفترضه نحونا التقليدى بعد كل فعل لا يتلوه فاعل صريح (من اسم أو ضمير أو مصدر مؤول).
ومن الجلى أن الناصب والجارّ للمسند إليه (الذى يتلوه فعله) يعطيه إعرابه من نصب أو جرّ، ولا ينبغى الحديث عن رفع المسند إليه محليا، ولا ينبغى توهُّم أن إعراب التابع المعرب لمثل هذا المسند إليه (المعرب أو غير المعرب) يرتبط بالإعراب المحلى لهذا المتبوع.
وهناك باب آخر من أبواب دخول الإعراب المحلى هو باب التراكيب المتعددة الكلمات التى التى يصلح التركيب الواحد منها للاستعمال كعنصر جملة؛ فالفاعل أو المفعول به قد يكون اسما مفردا أو ضميرا أو مجموعة كلمات، كما قد تكون عناصر جملة أخرى مجموعات متعددة الكلمات. ولأن النحو العربى التقليدى يعرب الفاعل أو المفعول به أو الخبر أو غير ذلك إعرابا ظاهرا أو محليا سواء أكان اسما أو ضميرا أو تركيبا متعدد الكلمات فإنه يعرب هذا الأخير إعرابا محليا لأن الإعراب الظاهر لا يكون إلا مع الكلمة المعربة الواحدة. ويشمل التركيب المتعدد الكلمات أيضا المسند (الخبر) الذى لا يقبل الإعراب بحكم طبيعته فالحد الأدنى للمسند هو الفعل اللازم، غير أنه يمكن أن يشمل عناصر جملة عديدة: فاعل فعل الكينونة الظاهر أو المحذوف أو بقية أفعال كان وأخواتها وأفعال المقاربة والرجاء والشروع مع متمم الفاعل أو الظرف، أو الفعل المتعدى والفاعل والمفعول به أو المفعولين مع متمم المفعول به المباشر. وباختصار وكما رأينا غير مرة فإن الخبر خارج مسألة الإعراب، غير أن الخبر فى النحو العربى التقليدى معرب ولا سبيل لإعرابه إلا محليا (إلا فى حالة ما يسمى بالخبر المفرد وهو ليس خبرا على أىّ حال) ومن هنا كان المسند بابا واسعا لدخول الإعراب المحلى. وهذا الباب واسع جدا لأن المسند القائم على فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت (مع أنه فعل واحد فقط فى تصريف واحد له هو المضارع المثبت ومع أن المضارع المثبت لفعل الكينونة يظهر أيضا فى بعض حالاته) لكثرة استعمال هذا المحذوف مع ما يسمى بالخبر المفرد وما يسمى بالخبر الجملة وما يسمى بالخبر شبه الجملة. ويعنى هذا أن إلغاء إعراب المسند (الخبر) باعتباره خارج مسألة الإعراب سيؤدى تلقائيا إلى إلغاء القدر الهائل الباقى مما يسمى بالإعراب المحلى.
ونبدأ مناقشة إعراب هذه التراكيب المتعددة الكلمات بالمصدر المؤول.
وتحت عنوان "إعراب المصدر المؤول"، نقرأ فى كتاب "القواعد الأساسية فى النحو والصرف" ما يلى:
يُعرب المصدر المؤول إعراب المصدر الصريح الذى يحل محله .
ويقع المصدر المؤول، وفقا للكتاب، "مبتدأ"، و"خبرا"، و"فاعلا"، و"نائب فاعل"، و"مفعولا به"، و"مجرورا بالحرف".
ففى مجموعة الألفاظ "وأن تصوموا خير لكم" ، يقع المصدر المؤول "أن تصوموا" (= صيامُكم) مبتدأ. وفى الجملة: "من الخير أن تحسن إلى جارك"، يقع المصدر المؤول "أن تحسن" (= إحسانُك) مبتدأ. وفى الجملة: "الواجب أن تضحى فى سبيل وطنك"، يقع المصدر المؤول "أن تضحى" (= تضحيتُك) خبرا. وفى الجملة "سرَّنى ما أسديتَ الجميل"، يقع المصدر المؤول "ما أسديتَ" (= إسداؤُك) فاعلا. وفى الجملة: "عُرف أنك ذو مروءة"، يقع المصدر المؤول "أنك ذو مروءة" (= كونُك ذا مروءة أو مروءتُك) نائب فاعل. وفى الجملة: "أودُّ أن تخلص فى عملك"، يقع المصدر المؤول "أن تخلص" (= إخلاصُك) مفعولا به. وفى الجملة: "أُشفق عليك من أن تتعجل الأمور"، يقع المصدر المؤول "أن تتعجل" (= التعجُّل) مجرورا بالحرف . وبطبيعة الحال فإنه لا غبار على أن نقول هذا مبتدأ أو خبر وذاك فاعل أو مفعول به، إلخ ... (مع التحفظ بالطبع على هذه الاصطلاحات النحوية) فالحديث هنا عن الوظائف النحوية أو عناصر الجملة. غير أن هذا ليس إعرابا على الإطلاق. وهذه الصيغ أو التراكيب المتعددة الكلمات والتى نسميها بالمصدر المؤول لا تقبل الإعراب بطبيعتها، بل هى خارج مسألة الإعراب والبناء لأن هذين الأخيرين ينطبقان على الكلمة الواحدة وحسب.
وننتقل إلى ما يسمى بالجمل التى لها محل من الإعراب. ونقرأ فى كتاب القواعد الأساسية فى النحو والصرف ما يلى:
قد تقع الجملة موقع الاسم المفرد فتأخذ محله الإعرابى، رفعا، أو نصبا، أو جرا، وقد تقع موقع الفعل المجزوم فتكون فى محل جزم .
وعندهم أن الجملة التى لا محل لها من الإعراب هى الجملة التى "لا يقع موقعها الاسم المفرد" ، والجملة التى لها محل من الإعراب هى التى تقع موقع الاسم المفرد. والمقصود هو أن هناك جملة تصلح للقيام بوظيفة نحوية فتكون خبرا أو مفعولا به أو حالا أو مضافا إليه أو نعتا أو جوابا لشرط أو تابعا لجملة تقوم بمثل هذه الوظيفة، فمثل هذه الجملة هى فى حقيقتها جملة لها ركناها غير أنها مع ذلك جزء من جملة أوسع كما أنها كجزء من هذه الأخيرة تقوم بوظيفة نحوية كالوظائف السابقة، أما الجملة التى لا تصلح للقيام بذلك فهى -فى أغلب الأحوال– جملة مستقلة كاملة ولا يعقل بالتالى التفكير فى أنها "مبتدأ" أو "خبر" أو ما إلى ذلك، أو هى –فى بعض الحالات، مثل: صلة الموصول– جزء من جملة ولا تصلح مع ذلك للقيام بمثل هذه الوظائف النحوية.
ومن الجلى أن الجمل التى يقال إن لها محلا من الإعراب جمل خاضعة أو تابعة أو غير مستقلة فهى إذن أجزاء متميزة من جمل وليست جملا مستقلة قائمة بذاتها. على أن تسميتها حتى جملا خاضعة تفقد مبررها فى كثير من الأحيان كما يتضح من استعراض تلك الجمل .
فجملة الخبر جملة مزعومة وليست جملة حقيقية كما سبق ورأينا (راجع الفصول المتصلة بالمسند أو الخبر). وفى الجملة: "المتسامح يعيش هادئ البال"، يعتبر هذا النحو الفعل خبرا مع فاعله الضمير المستتر المزعوم مع أنه مجرد فعل فاعله هو ما يسمى بالمبتدأ والحقيقة أن هذا الفعل مع عبارة هادئ البال هما المسند (الخبر). وفى الجملة: "القوى حقه غير مضيَّع"، يعتبر هذا النحو "القوى" مبتدأ أول و"حق" مبتدأ ثانيا و"غير" خبرا للمبتدأ الثانى ويعتبر المبتدأ الثانى وخبره جملة اسمية خبرا للمبتدأ الأول. وقد سبق ورأينا أن "المبتدأ" أو بالأحرى المسند إليه الحقيقى هو ما يسمى بالمبتدأ الثانى وأن ما يسمى بالمبتدأ الأول ليس سوى المضاف إليه الذى يتقدم مضافه (= حق القوى غير مضيَّع) وأن المسند هو فعل الكينونة المحذوف فى مثل هذه الجمل مع عبارة "غير مضيَّع" (= متمم المسند إليه فى رأينا). فليس هناك إذن جملة داخل جملة لنعربها جملة اسمية خبرا للمبتدأ. وينطبق الشيء نفسه على ما يسمى بخبر الناسخ": "إن وأخواتها"، أو "كان وأخواتها"، إلخ. وقد رأينا أن المسند (الخبر) بمفهومه الصحيح لا علاقة له بمسألة الإعراب أصلا.
وترد جملة تقع مفعولا به ضمن جملة: "أقول دائما: ‘إن الاتحاد قوة‘". وما تحته خط هو جملة المفعول به، فهو المقول المفعول به. وهنا جملة بطبيعة الحال، وهى مفعول به دون شك، ورغم أنها تصلح لأن تكون جملة قائمة بذاتها إلا أنها هنا خاضعة من الناحية العملية، ومن العبث أن نقول بإعرابها محليا أىْ بأنها فى محل نصب مفعول به.
وترد جملة تقع حالا ضمن جملة: "تغدو الطيور وهى خماص، وتروح وقد امتلأت حواصلها". وكل من عبارة "وهى خماص" وعبارة "وقد امتلأت حواصلها" جملة وتصلح لأن تكون قائمة بذاتها بدون الواو ولكنها مع الواو صارت جملة أو عبارة خاضعة كجزء من جملة أوسع، وهى "حال" (انظر الفصل المعنون: ما يسمى بمنصوبات الأسماء بين عناصر الجملة والإعراب)، غير أن من العبث أن نقول إنها فى محل نصب حال.
ويورد الكتاب المذكور جملة تقع مضافا إليه ضمن جملة: "تحلو الجلسة حيث يطيب النسيم". وبالطبع فإن عبارة "يطيب النسيم" جملة، غير أن عبارة "حيث يطيب النسيم"، وهى ظرف (زمان أو مكان) فى الحقيقة، من العبث أن نقول إنها فى محل نصب ظرف، كما يمكن أن نقول إن جملة "يطيب النسيم" مضاف إليه، غير أن من العبث أن نقول إنها فى محل جر مضاف إليه.
وهناك جملة الجواب لشرط جازم مقترنة بالفاء أو إذا الفجائية، ضمن جملة: "مَنْ يهُنْ فإن الهوان يسهل عليه" أو ضمن جملة: "الأحمق إنْ دعوته إلى الرويَّة إذا هو ينفر منك". ولا شك فى أن جواب الشرط فى كل من الجملتين: "إن الهوان يسهل عليه" و "هو ينفر منك" جملة تصلح لأن تكون قائمة بذاتها غير أن الجملة الأولى مع الاقتران بالفاء أو الجملة الثانية مع الاقتران بإذا الفجائية (وكذلك فى سياق كل منهما فى جملة شرطية) جملة خاضعة كجزء من جملة أوسع وهى جواب شرط، غير أن من العبث أن نقول إن جملة جواب الشرط فى محل جزم.
وهناك الجملة الواقعة نعتا ضمن جملة: "يؤثر فى السامعين خطيب حجته قوية". ذلك أن عبارة "حجته قوية" جملة تنعت الخطيب بقوة الحجة (= قوىّ الحجة). غير أن من العبث أن نقول إن جملة "حجته قوية" فى محل رفع نعت لكلمة "خطيب" المرفوع لأنه المسند إليه (الفاعل). أما عبارة "تقنع السامعين" فى الجملتين الواردتين تحت هذا النوع وهما جملة: "إن لهذا الخطيب حججا تقنع السامعين"، وجملة: "كم لهذا الخطيب من حجج تقنع السامعين" فليست جملة إلا باعتبار الفعل الذى يأتى بعد ما يسمى بالمبتدأ جملة مع الفاعل الضمير المستتر وقد رأينا غير مرة تهافت هذا المنطق. وتقدم كل من الجملتين منصوبا ("حججا") أو مجرورا ("حجج") فاعلا لفعل ("تقنع") الذى يقع على المفعول به ("السامعين"). ولا غبار مع ذلك فى اعتبار عبارة "تقنع السامعين" صفة للمسند إليه (المنصوب أو المجرور) غير أن هذا يختلف عن القول بأن هذه الصفة جاءت فى محل نصب مرة وفى محل جر فى المرة الأخرى.
وتأتى بعد ذلك، وفى النهاية، الجملة التابعة لجملة لها محل من الإعراب. ومن البديهى أن مثل هذه الجملة (الحقيقية أو المزعومة) ينطبق عليها ما قيل أعلاه حسب "الجملة" المتبوعة. ففى جملة: "الأم تصنع الرجال وتربى الأجيال"، نجد الفعل الذى يعتبرونه جملة الخبر "تصنع"، وهى الجملة المتبوعة، والفعل ("تربى") الذى يعتبرونه الجملة التابعة لجملة الخبر باعتبارها جملة خبر أيضا. وفى جملة: "تنتج مصانعنا مصنوعات تمتاز بالجودة، وتتسم بالذوق"، عبارة "تمتاز بالجودة" هى الجملة المتبوعة (وهى فى الأصل النعت التابع للمفعول به "مصنوعات") والجملة التابعة هى "تتسم بالذوق" كنعت للمفعول به أيضا. وفى جملة "تقوى صناعتنا بإنتاجٍ نوعُه جيد، وسعرُه معتدل"، عبارة "نوعُه جيد" أىْ نعت المجرور "إنتاج" هى الجملة المتبوعة، وعبارة "سعره معتدل" هى الجملة التابعة كنعت للمجرور أيضا.
وبطبيعة الحال فمن القليل النادر أن يظهر تابع لمصدر مؤول أو "لجملة لها محل من الإعراب" كما يسمونها بحيث يكون هناك "احتمال" فائدة لإعراب المتبوع محليا فى إعراب التابع. فهذه الجملة، على سبيل المثال، ممكنة: (أقول دائما: "إن الاتحاد قوة" وحقائق أخرى) باعتبار أن الكلمة المعربة "حقائق" تابع للمفعول به ("إن الاتحاد قوة"). وهذه الجملة، أيضا، ممكنة: "علمتُ أنه مشترك فى الجريمة وأمورا كثيرة سأعلنها فى الوقت المناسب"، باعتبار أن الكلمة المعربة "أمورا" تابع للمفعول به "أنه مشترك فى الجريمة". وقد يأتى التابع المعطوف بهذه الطريقة غير أن من السخف أن نقول إن نصب كلمة "حقائق" أو كلمة "أمورا" كان بفضل إدراك أن الإعراب المحلى للمفعول به (الجملة أو المصدر المؤول) كان بالنصب على المفعولية.
كذلك فإن الإعراب التقديرى لا مسوغ له وهو فى حقيقته نوع متميز من الإعراب المحلى كما سبق القول وسيكون إلحاق بعض ألفاظه بالبناء وبعضها الآخر بالإعراب سبيلا مباشرا إلى إلغائه والتخلص من تعقيداته. ويعنى الإعراب التقديرى أن الإعراب الظاهر (الذى يخص الاسم الصحيح الآخر فى حالات الرفع والنصب والجر، والاسم المنقوص فى حالة النصب لخفة الفتحة على الياء، والفعل الصحيح الآخر فى حالات الرفع والنصب والجزم، والفعل المعتل الآخر بالواو أو الياء فى حالة النصب) ليس واردا مع:
1: الاسم المقصور (وهو كل اسم معرب آخره ألف لازمة، مثل: هُدَى، الهُدَى، غِنًى، الغِنَى) وتقدَّر على آخره حركات الإعراب الثلاث (الرفع والنصب والجر) لتعذُّر النطق بها.
2: الاسم المنقوص (وهو كل اسم معرب آخره ياء لازمة مكسور ما قبلها مثل: القاضِى، المحامِى، الداعِى، قاضٍ، محامٍ، داعٍ) وتقدَّر على آخره الضمة والكسرة، فإنْ كان معرَّفا بأل بقيت ياؤه ولم تحذف، وقدِّرت عليها الضمة والكسرة لثقل النطق بهما. وإذا حذفت الياء من المنقوص لتنوينه قدِّرت الضمة والكسرة على الياء المحذوفة.
3: الاسم المضاف إلى ياء المتكلم (مثل: صديقى، أخى، أبى، كتابى، أساتذتى) وتقدَّر حركات الإعراب الثلاث على ما قبل الياء (فى غير المثنى وجمع المذكر السالم).
4: الفعل المضارع المعتل الآخر بالألف فى حالتىْ الرفع والنصب.
5: الفعل المضارع المعتل الآخر بالواو أو الياء فى حالة الرفع.
ومن الجلى أن ما يسمى بالإعراب التقديرى يثير مشكلة مختلفة. فحركات الإعراب كلها أو بعضها تغدو متعذرة أو ثقيلة (بحكم الطبيعة الصوتية لأواخر بعض الكلمات أو بحكم الطبيعة الصوتية للإضافة إلى ياء المتكلم) فيصير الإعراب الظاهر مستحيلا صوتيا أو مكروها لثقله. والإعراب الجمعى السليقى يقف بالمسألة عند هذا الحد حيث يمتنع الإعراب الظاهر (وهو وحده الإعراب بالمعنى الحقيقى) فلا يحدث تغير فى أواخر الكلمات ولاشيء غير ذلك. أما إعراب علماء النحو فيعلن هذه الكلمات معربة، ثم يصطدم بحقيقة أنها غير قابلة للإعراب كليا أو جزئيا، ثم يقفز -كدأبه– إلى تقدير وهمى (لا أساس له من اللغة ذاتها كالإعراب المحلى تماما) لحركات الإعراب على أواخر هذه الكلمات.
ويمكن حل هذه المشكلة بيسر على أساس اللغة ذاتها بما تنطوى عليه من منطق داخلى للإعراب والبناء. فالكلمات التى لا تتغير فى أحوال الإعراب الثلاث ينبغى اعتبارها مبنية. ولا يعدو القول ببنائها تكرار حقيقة أن هذه الكلمات لا تتغير أواخرها مع تغير وظائفها أو أوضاعها النحوية. إنها مبنية بمعنى أنها غير متغيرة ولأنها غير متغيرة فإنه يمكن وصفها ببساطة بأنها مبنية. وينطبق هذا على الاسم المقصور: غِنًى بالتنوين للنكرة، وغِنَى بدون تنوين عند (التعريف بـ) الإضافة، والغِنَى بدون تنوين عند التعريف بأل. كما ينطبق الشيء نفسه على المضاف إلى ياء المتكلم (بالاستثناء المذكور)، فما قبل ياء المتكلم مكسور لا يتغير وهذا يعنى أنه مبنى على الكسرة.
ويبقى المتغير وإنْ اشترك فى حالتين من حالات الرفع والنصب والجر للأسماء أو من حالات الرفع والنصب والجزم للأفعال (تماما كما هو الحال فى إعراب جمع المؤنث السالم المرفوع بالضمة والمنصوب والمجرور بالكسرة أو كما يحدث فى إعراب الممنوع من الصرف).
ونعود إلى الاسم المنقوص. فبدلا من التقدير الوهمى لحركتىْ الإعراب: الضمة والكسرة على آخره، ينبغى الاتجاه إلى إعرابه كما يلى:
الرفع:
1: المضاف والمعرف بأل: يُرفعان بكسر ما قبل الآخر (أىْ بكسر ما قبل حرف العلة: "الياء"):
* وصل قاضِى التحقيق منذ قليل.
* حكم القاضِى بالعدل.
2: النكرة: يُرفع بكسر وتنوين ما قبل الآخر مع حذف الآخر (أىْ حرف العلة: "الياء"):
* ترافع اليوم محامٍ بارعٌ فى القضية.
الجر:
1: المضاف والمعرف بأل: يُجران بكسر ما قبل الآخر (أىْ بكسر ما قبل حرف العلة: "الياء"):
* طلب الدفاع التأجيل من قاضِى التحقيق.
* عرض الدفاع على القاضِى تفاصيل القضية.
2: النكرة: يُجر بكسر وتنوين ما قبل الآخر مع حذف الآخر (أىْ حرف العلة: "الياء"):
* أصغينا إلى محامٍ بارعٍ طوال ساعتين.
النصب:
1: المضاف والمعرف بأل: يُنصبان بفتح الآخر (أىْ حرف العلة: "الياء"):
* رأينا محامِىَ الخصم يتجه إلينا.
* رأينا المحامِىَ يدخل مسرعا.
2: النكرة: يُنصب بفتح وتنوين الآخر (أىْ حرف العلة: "الياء"):
* ظننتُ وكيل النيابة قاضِيًا.
وهذا الإعراب "الوصفى" (بالقياس إلى حقائق اللغة العربية ذاتها) للمنقوص، ينصب بالفتح، ويجر بكسر ما قبل الآخر (مع حذف حرف العلة مع النكرة)، ويرفع بكسر ما قبل الآخر (مع حذف حرف العلة مع النكرة). وسيبدو أغرب ما فى هذا الإعراب "الظاهر" هو الرفع بالكسر بوجه خاص (بكسر ما قبل الآخر). غير أن تداخل حركات الإعراب (النصب بالكسر لجمع المؤنث السالم، والجر بالفتح للممنوع من الصرف، ومن باب أولى الرفع بالكسر بعد حرف الجر "الزائد") يدفعنا إلى قبول هذا الرفع الهامشى بالكسر (أو بكسر ما قبل الآخر) بنفس المنطق.
أما الفعل المضارع المعتل الآخر بالألف أو الواو أو الياء فينبغى القول فيه بالإعراب الظاهر بدلا من الإعراب التقديرى:
بالألف:
يَخْشَى ... ما قبل الآخر مفتوح فى الرفع.
لن يَخْشَى ... ما قبل الآخر مفتوح فى النصب.
لم يَخْشَ ... ما قبل الآخر مفتوح فى الجزم (مع حذف حرف العلة: الألف).
بالواو:
يَسْمُو ... ما قبل الآخر مضموم فى الرفع.
لن يَسْمُوَ ... الآخر مفتوح فى النصب.
لم يَسْمُ ... ما قبل الآخر مضموم فى الجزم (مع حذف حرف العلة: الواو).
بالياء:
يَرْتَقِى ... ما قبل الآخر مكسور فى الرفع.
لن يَرْتَقِىَ ... الآخر مفتوح فى النصب.
لم يَرْتَقِ ... ما قبل الآخر مكسور فى الجزم (مع حذف حرف العلة: الياء).
وباختصار صار إعراب المضارع المعتل الآخر ببقاء حركة ما قبل الآخر على حالها فى الرفع والنصب والجزم (الفتحة فى المعتل الآخر بالألف، والضمة فى المعتل الآخر بالواو، والكسرة فى المعتل الآخر بالياء) مع بقاء الآخر (الألف أو الواو أو الياء) فى الرفع، وبقاء الآخر (الألف) فى النصب، وفتح الآخر (الواو والياء) فى النصب مع المعتل الآخر بالواو والياء، وحذف الآخر (الألف أو الواو أو الياء) فى الجزم. ولا غرابة أيضا فى ملاحظة تغيُّر ما قبل الآخر فى إعراب المضارع المعتل الآخر فنحن نقبل عن طيب آخر حذف حرف العلة فى جزم الأجوف (يقولُ: لم يَقُلْ، يبيع: لم يَبِعْ) مع إسكان الآخر. وعلى هذا فإن اشتراك الرفع والنصب فى الآخر (الألف المقصورة) فى المعتل الآخر بالألف لا يمكن أن ينال من التغير فى كافة الأحوال الأخرى. ووجود أو رصد هذا التغير الحقيقى هو الإعراب الظاهر وهو الإعراب الحقيقى الوحيد أو الإعراب بالمعنى الصحيح، بعيدا عن الإعراب التقديرى للأفعال وتقدير حركات الإعراب على أواخرها.
وعلى هذا فإن الاستنتاج العام الذى نخرج به فيما يتعلق بالإعراب التقديرى هو إلغاؤه لصالح البناء فى الاسم المقصور والإضافة إلى ياء المتكلم، ولصالح الإعراب الظاهر الوصفى على أساس التغير العملى القائم فى أحوال الإعراب (بأنواعه من رفع ونصب وجر وجزم) فيما يتعلق بالاسم المنقوص، وفيما يتعلق بالفعل المعتل الآخر بالألف أو الواو أو الياء.
ركزنا فى الصفحات السابقة على نقد الإعرابين المحلى والتقديرى وعلى ضرورة إلغائهما انطلاقا من أن الإعراب الظاهر هو الإعراب الوحيد بالمعنى الصحيح فلا إعراب سواه، على أساس أن الإعراب هو تغير أواخر الكلمات وفقا لوظائفها النحوية، فهذا التغير هو الإعراب والإعراب هو هذا التغير. ولا سبيل إلى وصف عدم التغير بالإعراب (المحلى أو التقديرى) ولا إلى وصف غير المتغير بالمعرب (محليا أو تقديريا). ذلك أن هذا "التغير الظاهر" هو الذى يقوم بتمييز الوظائف والعلاقات النحوية للكلمات، على حين أنه يستحيل أن يقوم بذلك بحال من الأحوال المبنىّ أو الصيغ والتراكيب المتعددة الكلمات وما إلى ذلك. وهذا يعنى إدراك أن كلمات المعجم (والجملة بالتالى) كلمات معربة وأخرى مبنية وأن الكلمات المعربة هى مجال الإعراب الذى لا ينطبق على الكلمات المبنية، ولا على التراكيب أو الصيغ المتعددة الكلمات كالمصدر المؤول أو الجمل المسماة بالجمل التى لها محل من الإعراب، ولا على أىّ شيء آخر.
ويعنى هذا أن نقدنا للإعرابين المزعومين إنما يقوم على أنهما غريبان على اللغة العربية وعلى منطق نحوها الجمعى وعلى منطق إعرابها السليقى، وعلى أنهما من "عنديات" النحاة، فلا ينبغى الالتفات إليها، ما دام المثل الأعلى للبحث اللغوى قديما وحديثا هو الاستقراء الوصفى الموضوعى بحيث تكون اللغة ذاتها المعيار الحقيقى والمرجع النهائى لعلومها. بالإضافة إلى أن الإعراب المحلى لا جدوى منه، ولا معنى له، وينبغى إلغاؤه والتخلص منه، فهو غير مفيد فى حد ذاته، كما أنه ليس أبدا ذلك الضابط الضرورى لإعراب التوابع كما يتوهم المتوهمون.
ولست أول من يقول بإلغاء الإعراب المحلى والإعراب التقديرى فقد نادى بذلك ابن مضاء القرطبى فى الرد على النحاة، ونادى به مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف ثم التربية كما جاء فى قرارات المجمع فى 1945 قبل تراجعه عن الإلغاء "دون تعليل" وكما تجسد فى كتاب تحرير النحو العربى، كما نادى به الدكتور شوقى ضيف وهو أحد حراس النحو العربى التقليدى رغم دعاوى التجديد فهو مؤلف كتاب تجديد النحو. غير أن التراجع عن إلغاء الإعراب المحلى والإعراب التقديرى أو عدم الأخذ به بالإضافة إلى إلغائهما فى الأصل دون دحض كامل لفكرتهما يدعو إلى مزيد من النقاش.
ونلم إلماما سريعا بآراء تدعو إلى إلغاء هذين الإعرابين المزعومين ليس لأنهما مفهومين خاطئين -كما رأينا– بل من باب التيسير، وسنكتفى هنا بمناقشة لمحاولة مجمع اللغة العربة بالقاهرة ووزارة المعارف فى 1945، ونلم كذلك بسرعة بآراء تدافع عنهما بزعم أنهما مفهومان صحيحان إنْ صح استبعادهما وإلغاؤهما من الدراسة فى مستويات دنيا بعينها فلا يصح استبعادهما وإلغاؤهما من النحو العربى باعتبارهما مفهومين حقيقيين وأساسيين ومفيدين للغاية فى فهم الكلام وفى فهم الوظائف النحوية وفى ضبط التوابع على الإعراب المحلى للمتبوعات، فيما تزعم هذه الآراء، وسنكتفى هنا برأى كل من الأستاذ أمين الخولى والأستاذ عبد الكريم الرعيص.
وكانت اللجنة التى ألفتها وزارة المعارف (فى سنة 1938) للبحث فى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة، فيما يتعلق بالإعرابين المحلى والتقديرى، قد اقترحت ما يلى:
ترى اللجنة وجوب الاستغناء عن الإعراب التقديرى والإعراب المحلى، فإن مثل (الفتى) يعرب بحركات مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، ومثل (القاضى) تقدَّر فيه حركتا الرفع والجر ويقال منع من ظهورها (هكذا! والمقصود ظهورهما) الثقل ومثل (غلامى) تقدر فيه الحركات الثلاث ويقال منع من ظهورها حركة المناسبة، وفى تقدير الحركات وفى الإشارة إلى سبب التقدير مشقة يكلفها التلميذ من غير فائدة يجنيها فى ضبط كلمة أو فى تصحيح إعراب. كذلك الإعراب المحلى فمثل (هذا هدى) -هذا– مبنى على السكون فى محل رفع، ومثل (يا هذا) -هذا– مبنى على ضم مقدر منع منه سكون البناء الأصلى فى محل نصب، وكذلك (يا سيبويه) مبنى على ضم مقدر منع من ظهوره حركة البناء الأصلى فى محل نصب، وهذا عناء مضاعف وجهد يبذل لغير شيء. واللجنة ترى أن يُستغنى عن الإعراب التقديرى والإعراب المحلى فى المفردات وفى الجمل، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم هذا العناء .
وينص القرار (4) من قرارات مؤتمر المجمع (الدورة الحادية عشرة) على ما يلى:
يُستغنى عن الصيغ المألوفة فى إعراب المبنيات، وفى إعراب الاسم الذى تقدَّر عليه الحركات فيقال فى إعراب "مَنْ" فى قولك "جاء مَنْ أكرمنى" مَنْ اسم موصول مبنى مسند إليه محله الرفع.
وفى نحو "جاء الفتى والقاضى" اسمان مسند إليهما محلهما الرفع .
وينص القرار (6) على ما يلى:
يُقتصر على ألقاب الإعراب ولا يكلف الناشئ ببيان حركة المبنى أو سكونه، سواء أكان له محل أم لم يكن، اكتفاء بأن المبنى يلزم آخره حالة واحدة، ولا يكلف الطالب عند تحليل جملة بها كلمة مبنية ذات محل إلا أن يقول إنها مبنية وإن محلها كذا... .
ومما جاء فى القرار (9) ما يلى:
ضمائر الرفع المتصلة بارزة أو مستترة مثل:...... كلها لا محل لاعتبارها ضمائر عند الإعراب وإنما هى فى الضمائر البارزة حروف دالة على المسند إليه أو عدده. أما الضمائر المستترة وجوبا أو جوازا فمصروف عنها النظر .
وكانت لجنة وزارة المعارف قد اقترحت اعتبار ضمائر الرفع البارزة المتصلة علامات وعللت ذلك بقولها:
وتأخذ اللجنة فى ذلك برأى الإمام المازنى القائل إنها علامات لا ضمائر .
ونقرأ فى كتاب تحرير النحو العربى ما يلى:
وقد يكون فى الجملة كلمات لا ينال آخرها تغيير فيكتفى ببيان وظيفتها وصلتها بما معها من الكلمات، ولا يزاد على ذلك فى إعرابها، بل يكتفى بهذا التحليل. أمّا الكلمات التى يتغير آخرها فلابد بعد تحليل الجملة، وبيان وظيفة كل كلمة فيها من أن نبين الحكم الإعرابى للكلمة وما ينبغى أن يضبط به آخرها.
فأمامنا فى إعراب كل جملة خطوتان:
الأولى: أن نحلل الجملة، لنتبين صلة كل كلمة بما معها، ووظيفتها فى الجملة.
الثانية: أن نتبين حكم كل كلمة ينال آخرها تغيير ينبنى على ما فهمنا من تحليل الجملة، وصلة الكلمة بما معها.
وواضح أن الكلمات التى لا ينالها تغيير يكفى فى إعرابها بيان وظيفتها، وصلتها معها، ولا يُتَكَلَّف لها إعراب لا ينطق به، ولا تظهر فى الكلام صورة له .
ونقرأ فى هامش المصدر نفسه ما يلى:
يراد بهذا الإعراض عما يُتَكَلَّف له من الإعراب التقديرى والمحلى .
وبطبيعة الحال فهذه قرارات تاريخية وتطبيقات ممتازة تحسب لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ولوزارة المعارف (ثم التربية) المصرية، رغم تراجع المجمع عنها فى وقت لاحق. ويروى الدكتور شوقى ضيف فى كتابه تجديد النحو أن المجمع:
عاد فى سنة 1979 فرأى الإبقاء على الإعرابين التقديرى والمحلى فى المفردات والجمل دون تعليل .
وما كان لتراجع أواخر السبعينات أن يكون بهذه السهولة ("دون تعليل") لو أن موقف منتصف الأربعينات كان مبنيا على أساس واضح متين من البحث والتعليل العميقين. ويذكر تقرير لجنة وزارة المعارف سببين لاقتراح إلغاء الإعراب المحلى والتقديرى هما ما يترتب عليهما من "المشقة" و"العناء المضاعف" و"الجهد" من جانب، وكونهما "من غير فائدة يجنيها [التلميذ] فى ضبط كلمة أو تصحيح إعراب" وكون هذا العناء بالتالى "لغير شيء" من الجانب الآخر.
ويتصل الجانب الأول باتجاه تيسير النحو العربى أما الجانب الآخر -وهو الأهم فى نظرى- فيتصل باتجاه تصحيح وتطوير النحو العربى. والحكم الذى يتضمنه هذا الموقف لتيسير النحو يتلخص فى أن الإعراب المحلى والإعراب التقديرى عبث لا طائل تحته. ورغم الإيجاز المتوقع فى مثل هذا التقرير، وحتى فى حدود الكلمات الواردة فيه بشأن هذين "الإعرابين"، كان ينبغى أن يعمد التقرير إلى التخطئة المباشرة للنحاة فى اختراعهم هذين الإعرابين المزعومين وأن يوجز أقوى حجج هذه التخطئة. وكان من شأن هذا أن يحول دون الاضطراب الملحوظ فى قرارات المجمع فى 1945 بهذا الصدد ودون تراجع المجمع عنها فى 1979 "دون تعليل".
ويكفى لإيضاح هذا الاضطراب أن نشير إلى أن القرار (4) الذى يعلن الاستغناء عن إعراب المبنيات والإعراب التقديرى يقرر فى الوقت نفسه أن إعراب المبنى أو الاسم المقصور والمنقوص يقتضى الإشارة إلى محله من الإعراب (يشير التقرير إلى المسند إليه الذى جاء مبنيا مرة واسما مقصورا مرة أخرى واسما منقوصا مرة ثالثة) على أن محله الرفع فى كل هذه الحالات. ولا شك فى أن هذا "تراجع" كبير فورى عن القرار فى لحظة اتخاذه، فيكون ما تم التخلص منه بكل وضوح هو فى المحل الأول تلك الصيغ المعقدة المألوفة فى الإعراب المحلى وفى كل إعراب على كل حال.
أما صرف النظر عن الضمائر المستترة واعتبار ضمائر الرفع البارزة المتصلة "حروفا دالة على نوع المسند إليه أو عدده"، كما جاء فى القرار رقم (9)، فإنهما يعنيان التخلص من باب واسع للإعراب المحلى المتصل بإعراب ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية (من الفعل والفاعل الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل) فى محل رفع.
ومن المؤسف أن يفتح أحد هذا الباب من جديد لأن إغلاقه "بالضبة والمفتاح"، كما يقال، يعنى (أو ينبغى أن يعنى) أشياء عديدة فى آن معا: إلغاء إعراب المسند (الخبر) من حيث هو كذلك، إحلال مفهوم المسند إليه محل المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم كان وأخواتها إلخ، فلا نحتاج إلى البحث عن فاعل بعد الفعل التالى للمسند إليه فى صورة الضمير المستتر أو فى صورة ضمير الرفع البارز المتصل، باعتبار ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة نهايات تصريف للأفعال مع الضمائر.
ووفقا لقرار المجمع فى سنة 1979 عاد الإعراب التقديرى فالاسم الفاعل المنقوص مثلا مرفوع بضمة مقدرة، وعاد الإعراب المحلى فى المفردات فالمبتدأ المبنى مثلا محله الرفع، والفعل بعد المبتدأ (مع فاعله المستتر أو البارز المتصل) خبر جملة فعلية . أما الدكتور شوقى ضيف نفسه فقد رأى فى الكتاب –كما يقول– أن يعمم "بين الإعرابين التقديرى والمحلى مكتفيا فى المفردات ببيان أن الكلمة محلها الرفع سواء كانت معربة أو مبنية"... "وبذلك يُعممَّ فى المفردات اصطلاح واحد". أما الجمل فقد عمم فيها "أن تُعَيَّن وظيفتها وأنها خبر أو نعت مثلا دون ذكر محلها من الإعراب" . ولكننا نقرأ فى إحدى الصفحات الأخيرة من الكتاب عن جملتىْ خبر "محلهما الرفع" .
وعلى كل حال فإن إلغاء ما يسمى بإعراب الجمل تقدم كبير، غير أن الاحتفاظ بالإعراب المحلى للكلمة المعربة والمبنية وبالإعراب التقديرى أمر لا مبرر له، فهو تقليص للتيسير من ناحية، واحتفاظ بقاعدة خاطئة من ناحية أخرى. وتبقى صيغة خطوتىْ "إعراب" الجملة؛ الأولى: نحويا لتحليل الوظائف، والثانية: إعرابيا (لإعراب المعرب وحده)، كما رأينا فى كتاب تحرير النحو العربى منذ قليل، رغم التراجع عنها لاحقا، موقفا متقدما مع التحفظ على فكرة أن تحليل الوظائف النحوية إعراب وأن بيان وظيفة الكلمة المبنية إعراب لها.
ويعلق الأستاذ أمين الخولى على اقتراح لجنة وزارة المعارف "وجوب إلغاء الإعراب التقديرى والإعراب المحلى" قائلا:
وما التيسير فى هذا؟! إن الكلمات التى فيها هذا الإعراب، من المقصور والمنقوص، والمضاف لياء المتكلم، والمبنيات ليست مصدر الصعوبة على القارئ أو المتكلم، لعدم تغير الحركات عليها باختلاف مواضعها، بل ليت اللغة كانت كلها من هذا الصنف، إذن لزالت الصعوبة الأساسية .
ولا ينبغى أن يفهم أحد من هذا التمنى الأخير أن الأستاذ أمين الخولى يتمنى إسقاط الإعراب فهذا ما لا تؤيده أفكاره المباشرة. ويضيف:
ثم إن بيان هذا الإعراب التقديرى والمحلى، بقدر ما يعرف متعلم العربية أجزاء الجملة، لا بد منه لفهم المعنى، كما أنه لا بد من معرفة موقع الإعراب للكلمة التى لم تظهر عليها الحركة ليمكن ضبط تابعها بعدها، فمن يقول: جاء الفتى، لا بد له أن يعرف موضع الفتى من الإعراب ليقال بعد ذلك: الأبيض أو الطويل إلخ.. ودع عنك فوق هذا ما لا بد منه فى فهم معنى بناء الكلمة، من معرفة أنها وقعت فى موضع تغيير الآخر بكذا ولم تتغير. فكل الذى يمكن الاستغناء عنه هو الأخذ بالرواسيم والصيغ المتحجرة، فى بيان هذا الإعراب التقديرى والمحلى، وتلك مسألة شكلية يكفى فيها أيسر لفت للمعلمين!! .
أما الأستاذ عبد الكريم الرعيص فيعلق على قرار الاستغناء عن الإعراب التقديرى والمحلى بقوله:
والاستغناء عن هذه الصيغ الدقيقة قد يكون مقبولا فى المراحل الأولى من التعليم ولكن لا ينبغى إهمالها بعد ذلك لما يترتب عليه من نقص وقصور حيث إن هذه الكلمات تقع فى مواقع مختلفة من الإعراب فقد تكون فاعلة أو مفعولة أو مضافا إليها والطالب يعرف حكم هذه الحالات، فماذا نقول له؟ أنقول إنها لا يظهر عليها الإعراب أو هكذا خلقت؟ أم نقرن الحكم بسببه فنبين المحل الإعرابى حتى ينجرّ على هذه الكلمات حكم أشباهها من جهة، وحتى نعرف حكم تابعها من نعت وعطف وتوكيد وبدل من جهة أخرى. ولذلك كان من تعديلات المجمع لهذه الخطة النصُّ على الإعراب المحلى لهذه الأشياء وقصر التيسير على إلغاء الصيغة المتضمنة لأسباب عدم ظهور الإعراب .
وأعتقد أن ما تقدم من أن الإعراب المحلى (للمفردات المبنية أو التراكيب وما إلى ذلك) مستحيل أصلا ولا معنى له فى حد ذاته، ومن أن الإعراب المحلى للمتبوع غير المعرب لا يفيد فى إعراب التابع المعرب، يغنينا عن التعليق على هذا الموقف من تأييد الإعرابين المحلى والتقديرى ورفض إلغائهما، وهو الموقف الذى جمع بين كل من الأستاذ أمين الخولى، المؤمن بالإصلاح والتجديد والتيسير، والأستاذ عبد الكريم الرعيص، الذى يبدو مناهضا لكل إصلاح أو تجديد أو تيسير، رغم موقعيهما المتناقضين من حيث المبدأ.



























14
وقفة عند من ينكرون الإعراب
كأصل من أصول اللغة العربية

يخصص الدكتور إبراهيم أنيس الفصل الثالث من كتابه القيم "من أسرار اللغة" لمسألة الإعراب. ويحمل هذا الفصل عنوان "قصة الإعراب" حيث يسلط المؤلف على مسألة الإعراب نوعا من الشك "الديكارتى” يذكرنا بكتاب أستاذه الدكتور طه حسين "فى الشعر الجاهلى" الذى سلط شكه الديكارتى على الشعر الجاهلى، منتهيا إلى نظريته الشهيرة عن "الانتحال" ذلك أن "انتحال" الإعراب هو ما نجده عند الدكتور إبراهيم أنيس، هذا الإعراب الذى ينكر الأستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه الشهير "إحياء النحو" وظيفته النحوية فيما يتعلق بما يسمى بمنصوبات الأسماء، كما ينكر قطرب تلميذ سيبويه وصاحب كتاب "إعراب القرآن" كل وظيفة نحوية له ويفسره تفسيرا صوتيا خالصا.
وقبل أن نُلِمَّ برأى قطرب، لننتقل بعد ذلك إلى تلك الدراسة المتبحرة التى يحتشد لها الدكتور إبراهيم أنيس بحجج كثيرة متنوعة ضد الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية، نحاول أولا الإلمام بأطراف من وجهة نظر تنطوى على قبول الإعراب فى الرفع والجرّ وإنكاره فى النصب وهى وجهة نظر تكتسب أهميتها الكبيرة من مكانة صاحبها الأستاذ إبراهيم مصطفى، هذا المؤلف النحوى الذى لعب دورا بالغ الأهمية فى محاولات تجديد النحو وفى مقدمة تلك المحاولات محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة فى دورته الحادية عشرة (1945) بالاشتراك مع وزارة المعارف المصرية.
ويطرح الأستاذ إبراهيم مصطفى وجهة نظره بوضوح تام، منذ البداية، منذ مقدمة الكتاب، مشيرا إلى أنه بحث عن معانى هذه العلامات الإعرابية، وإلى أن الله هداه إلى "شيء يراه قريبا واضحا" يلخصه فيما يلى:
الرفع (الضمة): "(1) إن الرفع عَلم الإسناد، ودليل أن الكلمة يُتحدَّث عنها" . ... "فأما الضمة فإنها عَلم الإسناد، ودليل على أن الكلمة المرفوعة يراد أن يسند إليها ويُتحدَّث عنها" .
الجر (الكسرة): "(2) إن الجر عَلم الإضافة سواء أكانت بحرف أم بغير حرف" . … "وأما الكسرة فإنها عَلم الإضافة، إشارة إلى ارتباط الكلمة بما قبلها" .
التنوين: ويشير إلى نظرته إلى التنوين على أنه عَلم التنكير .
الفتحة: "(3) إن الفتحة ليست بعَلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التى يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهى بمنزلة السكون فى لغتنا الدارجة" . … "أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء" .
ويضيف: "(4) إن علامات الإعراب فى الاسم لا تخرج عن هذا إلا فى بناء، أو نوع من الاتباع، وقد بيناه أيضا. فهذا جماع أحكام الإعراب" .
والخلاصة: "فللإعراب الضمة والكسرة فقط، وليستا بقية من مقطع، ولا أثرًا لعامل من اللفظ، بل هما من عمل المتكلم ليدلَّ بهما على معنى فى تأليف الجملة ونظم الكلام" .
وينطوى هذا الرأى بطبيعة الحال على ازدواج بين الإعراب للضمة والكسرة والتفسير الصوتى الخالص للفتحة وهو تفسير يستبعد كل تفسير آخر يقوم على المخالفة فى الوظيفة النحوية. غير أنه ينطوى أيضا على فكرة تتعلق بنظرية العوامل، أىْ بنظرية أسباب الضمة والكسرة كما يفترض موقف الأستاذ إبراهيم مصطفى. وأعتقد أن الحماس البالغ ضد هذه النظرية رفضا لتعقيداتها وتفريعاتها هو الذى يقود هنا إلى إنكار أىّ أثر لعامل من اللفظ بحجة أن الضمة والكسرة إنما هما من عمل المتكلم كما قال، وكأن المتكلم قد اختار اللفظة المرفوعة بالضمة أو المجرورة بالكسرة وحدهما فلم يختر بقية ألفاظ الجملة، وحتى إذا قلنا إنه اختار كل الألفاظ فإنما يعنى هذا أنه اختارها بكل آثارها الإعرابية المطردة. على أننا لا نناقش هنا نظرية العوامل وإنما نتحدث عن إنكار الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية.
وإذا كان الأستاذ إبراهيم مصطفى يؤيد إعراب المرفوع والمجرور أو المضموم والمكسور، وينكر إعراب الفتحة، فإن قطْرُب (وهو الإمام محمد بن المستنير، البصرى المولد والنشأة، وتلميذ سيبويه الذى قيل إنه سماه ""قطْرُبًا" على اسم دويِّبة اسمها القطرب تدبّ ولا تفتر؛ وله كتاب فى إعراب القرآن) ، لا ينكر لفظة الإعراب بل ينكر معناها فى تمييز الوظائف النحوية، ونقتبس منه هذا النص الطويل لمعرفة أبعاد نظريته الصوتية البحتة عن الإعراب:
لم يُعْرَب الكلام للدلالة على المعانى والفرق بين بعضها وبعض، لأنا نجد فى كلامهم أسماء متفقة فى الإعراب مختلفة المعانى وأسماء مختلفة فى الإعراب متفقة المعانى، فمما اتفق إعرابه واختلف معناه قولك إن زيدا أخوك، ولعل زيدا أخوك، وكأن زيدا أخوك، اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك: ما زيد قائما (أىْ فى لغة الحجازين) وما زيد قائم (أى فى لغة بنى تميم) اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان ولا مالَ عندك ولا مالٌ عندك، وما فى الدار أحد إلا زيد وما فى الدار أحد إلا زيدا. ومثله إن القومَ كلَّهم ذاهبون وإن القوم كلُّهم ذاهبون، ومثله (إن الأمر كلَّه لله) و (إن الأمر كلُّه لله) قرئ بالوجهين جميعا، ومثله ليس زيد بجبان ولا بخيل، وليس زيد بجبان ولا بخيلا. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل وكانوا يبطئون عند الإدراج، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن ومتحركين وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة، لأنهم فى إجماع الساكنين يبطئون وفى كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب المهلة فى كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الإسكان. وقيل له: فهلا لزموا حركة واحدة؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيقوا على أنفسهم، فأرادوا الاتساع فى الحركات وأن لا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة .
ويضيف الدكتور شوقى ضيف أن قطرب: "على نحو ما علل لاختلاف حركات الإعراب بالاتساع فى الكلام علل لظاهرة الترادف فى نفس اللغة بنفس العلة، إذ يقول" :
إنما أوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد ليدلوا على اتساعهم فى كلامهم، كما زاحفوا فى أجزاء فى الشعر ليدلوا على أن الكلام واسع عندهم وأن مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب .
وكما يقول الدكتور شوقى ضيف فقد كان رأى قطرب:
أن حركات الإعراب المسماة بالرفع والنصب والجر والجزم هى نفسها حركات البناء المسماة بالضم والفتح والكسر والوقف أو السكون، ولا بأس من إطلاق كل منها على مقابلها فى الحالتين، فيقال للرفع فى الكلمات المعربة الضم، ويقال للضم فى الكلمات المبنية الرفع، وهلم جرا .
ويمكننا الآن أن ننتقل مباشرة إلى مناقشة وجهات نظر الدكتور إبراهيم أنيس.
ونلتقى بوجهة نظره لأول مرة، فى كتابه القيم "فى اللهجات العربية"، حيث يقول:
فالإعراب كما نعرفه لم يكن إلا مسألة مواضعة بين الخاصة من العرب، ثم بين النحاة من بعدهم، ولم يكن مظهرا من مظاهر السليقة اللغوية بين عامة العرب .
ومن الجلى أن هذه النظرة قد تم استنتاجها بصورة مباشرة من ظاهرة اللحن الإعرابى، ويقول الدكتور إبراهيم أنيس:
ولا يعقل أن صاحب السليقة اللغوية يخطئ إلا إذا كان ينطق بلغة خاصة يتمسك فيها بقواعد وأصول لا تراعَى فى حياته العادية حين ينطلق على سجيته .
وقد سبق لى أن أوضحتُ، فى مقال بعنوان "ظاهرة الازدواج اللغوى فى العالم العربى"، أن هذا الازدواج اللغوى بين اللغة العربية بالإعراب واللغة العربية بإسقاط الإعراب يمكن تفسيره بصورة مناقضة لتفسير الدكتور إبراهيم أنيس:
والفكرة التى ينطوى عليها الاستشهاد الأخير فكرة صحيحة فى حد ذاتها، فظاهرة اللحن تعنى وجود لغتين، لكنها لا تعنى بالضرورة أن إحداهما تمثل السليقة الأصلية وأن الأخرى تمثل الاصطناع الأدبى لدى الخاصة، بل يمكن تفسيرها تفسيرا معاكسا يتمثل فى إرجاع عدم التمكن من لغة الإعراب ليس إلى كونها لغة جديدة أو مصطنعة أو أدبية وبالتالى لا تمثل السليقة الأصلية بل إلى أن لغة الإعراب كانت هى السليقة الأصلية ثم أخذ الإعراب يسقط فى لغة الكلام لدى هذه الجماعة، وكان التطور المنطقى لهذه الظاهرة أن يسقط الإعراب من اللغة العربية جميعا وأن تسود لغة إسقاط الإعراب .
ولأن الدكتور إبراهيم أنيس يجعل لغة الإعراب لغة خاصة العرب، ولغة السليقة الخالية من الإعراب لغة عامة العرب، فقد استشعرت أنه ينطلق من تصور مؤداه أن "تعقيد" الإعراب يجعله مستعصيا على العامة:
ويبدو أن الدكتور إبراهيم أنيس تصوَّر أن تعقيد الإعراب يجعله مستعصيا على عامة الناس فلم ينتبه لذلك إلى واقع أن شعوبا كثيرة استخدمت فى الماضى أو لا تزال تستخدم وبسهولة فطرية لغات إعرابية بالغة التعقيد، وأن لغات الإعراب نجدها كلما عدنا إلى الوراء، وأنه رغم أن اللغات يمكن أن تتخلى فى مرحلة من مراحل التطور عن الإعراب بكل تعقيد حالاته ومورفيماته ليحل محله نسق نحوى أبسط هو نسق تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة إلا أن هذا الاقتصاد اللغوى إنما تتعلمه الشعوب واللغات بعد أن تخوض تجربة تاريخية طويلة مع لغة الإعراب بوصفها نقطة الانطلاق، رغم كل هذا التعقيد الذى قد يبدو مستعصيا على الاستيعاب بينما يتعامل معه أصحاب السليقة بكل سهولة، ومن يدرى فربما جاء الإعراب ذاته تتويجا لمسار اقتصاد لغوى سابق طويل انطلاقا من أنظمة لغوية سابقة أكثر تعقيدا بكثير .
على أن الدحض المسهب للإعراب إنما يقدمه الدكتور أنيس، كما سبق القول، فى كتابه "من أسرار اللغة العربية" (الفصل الثلث: من ص 198 إلى ص 274).
ويقوده إحساسه غير المبرر بتعقيد الإعراب واستعصائه بالتالى على "العامة" إلى الشك فى أنه كان سليقة لديهم فى يوم من الأيام. وينطلق من هذا بقوة لا تقاوم إلى تصور غريب مؤداه أن الإعراب من صنع خاصة العرب ونحاتهم، ونجده بالتالى يصور لنا "مؤامرة" كاملة قام بها النحاة لينقلبوا إلى كهنة علم سرى يضمن لهم السيطرة الاستبدادية على اللغة والأدب والثقافة.
وقدم لنا الدكتور إبراهيم أنيس مؤامرة النحاة تحت عنوان "قصة الإعراب" على النحو التالى:
ما أروعها قصة! لقد استمدت خيوطها من ظواهر لغوية متناثرة بين قبائل الجزيرة العربية، ثم حيكت وتم نسجها حياكة محكمة فى أواخر القرن الأول الهجرى أو أوائل الثانى، على يد قوم من صناع الكلام نشأوا معظم حياتهم فى البيئة العراقية. ثم لم يكد ينتهى القرن الثانى الهجرى حتى أصبح الإعراب حصنا منيعا، امتنع حتى على الكتاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشق اقتحامه إلا على قوم سموا فيما بعد بالنحاة .
ورغم حقيقة أن الإعراب ليس سوى أداة مهمة من أدوات النحو، ورغم الخلط الذى ظل يميز النحو العربى إلى يومنا هذا بين النحو والإعراب، لا يمكن لمنصف إلا أن يرى أن الإنتاج النحوى العربى على مرّ القرون لم يقتصر على الإعراب بل كانت المفاهيم النحوية مثل المبتدأ والخبر والفعل والفاعل والمفعول والظرف وما أشبه هى القضايا النحوية-الإعرابية المطروحة دوما رغم ضمور النحو لحساب الإعراب. ومن هنا فلا عجب فى أن ينشأ علم من أهم العلوم اللغوية هو النحو العربى، ولا مجال للشك فى أن كل لغة من لغات البشرية قد فعلت نفس الشئ بوجه عام، أىْ تطوير علم نحوى بالغ التعقيد.
ولو فكر هذا الناقد العلامة للنحو العربى والإعراب العربى جيدا فى أن "العامة" إنما تتمثل قسمتُهم فى النحو والإعراب السليقيَّيْن، الجمعيَّيْن، وليس فى نحو النحاة وإعراب أهل صناعة الإعراب، لأدرك أن التعقيد المفزع الذى يشكو منه فى "الإعراب" يخص النحو الوضعى، أىْ نحو النحاة، فلا صلة له بـ "العامة" الذين تتمثل قسمتُهم فى سهولة السليقة وليس فى صعوبة البحث العلمى فى النحو أو فى غيره.
والغريب أنه لم يلتفت إلى حقيقة أن وجود الإعراب فى مراحل سابقة أو راهنة للغات أخرى، بكل تعقيداته كما قد يبدو لنا بعد إسقاط الإعراب والانتقال إلى نظام آخر مختلف، إنما يعنى أن "العامة" من شعوب اللغات الأخرى، تماما مثل "الخاصة" بينهم، تستوعب بسهولة سليقية "فطرية"، كل التعقيدات من وجهة نظر مرحلة لغوية مختلفة.
ومن الجلى أن "العامة" و "الخاصة" فى لغات لا حصر لها عاشوا بلغات الإعراب قبل الانتقال إلى لغات إسقاط الإعراب فى مراحل لاحقة، فضلا عن "العامة" و "الخاصة" فى شعوب كثيرة ما تزال تعيش بلغات الإعراب.
غير أن الدكتور أنيس الذى احتشد لدحض الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية كان قد اتخذ قراره، ومن هنا فإنه لم يعرض لمشكلة من مشكلات هذه "الظاهرة" إلا وابتعد عن التناول الموضوعى، متخذا من نظرته إلى هذه المشكلة دليلا جديدا يسهم فى دحض الإعراب.
وهذا ما نجده فى هذا الكتاب أيضا بصدد اللحن الإعرابى، إذ يؤكد أننا إذا سلمنا بروايات اللحن باعتباره الخطأ الإعرابى فإنه:
لا مناص لنا من أن نعد ظاهرة الإعراب من الظواهر التى لا يمكن أن تمت للسليقة اللغوية بصلة، وذلك لأن صاحب اللغة الذى يتكلمها بالسليقة يستحيل عليه الخطأ .
ويقفز من هذا إلى تأكيد نفى الإعراب كأصل فى الكلام العربى:
وعلى هذا يمكننا أن نتصور أن ظاهرة الإعراب لم تكن ظاهرة سليقة فى متناول العرب جميعا كما يقول النحاة، بل كانت كما قلت فى كتاب اللهجات العربية صفة من صفات اللغة النموذجية الأدبية، ولم تكن من معالم الكلام العربى فى أحاديث الناس ولهجات خطابهم .
فليس لدى الدكتور سوى تفسير واحد وحيد للحن الإعرابى، وهو أنه يدل على أن الكلام العربى كان خاليا من الإعراب وإلا لما أخطأ "خاصة الخاصة" فى الإعراب. وسيكون هذا الاستنتاج غير المبرر تمهيدا مباشرا لتأصيل أكثر اندفاعا هو أن الأصل فى الكلام العربى كان إسكان أواخر الكلمات، وأن تحريكها بالضمة والفتحة والكسرة إنما يأتى لضرورة صوتية يتطلبها الوصل، كما سنرى بعد قليل.
وقد أوضحنا أن التفسير المعاكس للحن الإعرابى منطقى وتاريخى. فإذا كان الإعراب هو الأصل فى الكلام العربى ("فى مرحلة نقصد بها هنا عصر الرواية والاحتجاج وما قبل ذلك بطبيعة الحال") فإن التطور المنتمى إلى الاقتصاد اللغوى والمتمثل فى ترتيب الكلمات (الوظائف النحوية) فى الجملة كأساس للتمييز بين الفاعلية والمفعولية بدلا من علامات الإعراب، كان قد أدى إلى نوع من الازدواج النحوى بين الإعراب وإسقاط الإعراب، وكلما تأكد اتجاه إسقاط الإعراب فى الكلام إلى السيطرة فى الأمصار أولا ثم فى البادية كان من المنطقى أن تتراجع سليقة الإعراب على مرّ الزمن وأن تؤدى إلى اللحن الإعرابى الذى يغدو ظاهرة لا مناص منها على طريق إسقاط الإعراب.
وتحت عنوان "هل للإعراب آثار باقية؟" يجد الدكتور أنيس أن اللغات الساميّة خالية من الإعراب، أو خالية من آثاره، أو تحتوى على الضئيل من تلك الآثار . ويرى أن المستشرقين فى بحثهم عن الإعراب فى اللغات السامية كانوا متأثرين بالإعراب الهند-أوروپى الذى "كان شائعا فى لغاتهم القديمة كاليونانية واللاتينية"، هذا الإعراب الذى "فُقد من بعض اللغات الأوروپية الحديثة كالإنجليزية والفرنسية، فتصوروا أن ما حدث فى التطور التاريخى للفصيلة الهندية-الأوروپية، قد تم مثله فى الفصيلة الساميّة" ، ويرى أنهم يعتبرون "لغتنا العربية، نموذجا لأقدم صورة كانت عليها شقيقاتها الأخرى، ويفترضون أن العربية قد انعزلت فى جزيرة العرب فاحتفظت أكثر من غيرها بظواهر ساميّة قديمة" .
ولعل المستشرقين حين شاهدوا الإعراب فى اللغة العربية وخلوّ اللغات الأخرى منه، قد خضعوا لمبدئهم العام من أن العربية قد احتفظت بظواهر لغوية قديمة أكثر من غيرها، وظنوا الإعراب من بين تلك الظواهر التى ربما تعود إلى السامية الأولى. ولذا نجدهم يجهدون أنفسهم وقرائحهم فى تلمس آثار ظاهرة الإعراب فى اللغات السامية الأخرى. ثم حدثونا عن تلك الآثار بما لمسناه آنفا من آراء لا تكاد تطمئن إليها نفس الباحث المنصف .
ويصل بنا على هذا النحو إلى أنه لا دليل على أن الإعراب كان قائما فى اللغات السامية، ويضيف إلى هذا حجة فقدان الإعراب فى اللهجات العربية الحديثة فيقول:
كيف اختصت اللغة العربية بهذا الإعراب؟ وكيف فقدته كل لهجاتها الحديثة التى ليست إلا طورا لها؟ كيف نتصور أن لهجات الكلام فى كل البيئات العربية، فى العراق وفى الشام وفى مصر وبلاد المغرب وفى اليمن، بل وفى البيئة الحجازية، مهد الوحى وحيث نزل القرآن الكريم وهو خير كتاب بالعربية أخرج للناس، أقول كيف نتصور أن ظاهرة الإعراب لا تترك فى كل هذه البيئات أثرا، ولا تخلف فيها ما يوحى بأن الإعراب كان شائعا على ألسنة الناس فى العصور الإسلامية الأولى كما يحاول الرواة أن يُفهمونا .
ويخترع الدكتور أنيس "قاعدة لا أساس لها" مؤداها أن لغة الإعراب تترك فى لغة إسقاط الإعراب آثارا بالضرورة، بدلا من أن يدرك أننا إزاء إسقاط الإعراب أىْ الانتقال من الإعراب إلى بديله. وهو يدرك جيدا أن لغات إعراب أخرى كالچرمانية واليونانية واللاتينية لم تترك آثارا فى لغات إسقاط الإعراب كالإنجليزية والفرنسية، فلماذا العناد فى تطبيق هذه القاعدة العامة فى تطور اللغات على اللغة العربية التى لم تترك آثارا فى اللهجات العربية الحديثة التى تطورت عنها؟
غير أن العنوان التالى هو "بين إعرابنا وإعراب اللاتينية" (ضمن هذه العناوين الفرعية فى الفصل الثالث)، أىْ أننا إزاء اندفاع جديد نحو إلغاء ما هو مشترك بصورة جوهرية بين إعرابهم وإعرابنا وكل إعراب. ففى فصل صغير مبتسر من ثلاث صفحات (217-219) يشير إلى خطأ عقد المقارنة بين الحالات الإعرابية ("أىْ التى يفترضها النحاة") فى لغتنا ونهايات الأسماء اللاتينية بحالاتها الست: الفاعلية، النداء، المفعولية، الملكية أو الإضافة، المفعولية غير المباشرة، الآلية . غير "أننا نعرف أيضا" أن الإعراب اللاتينى يختلف لأنه ليس "كل فاعل مرفوع" وليس "كل مفعول منصوب"، إلخ. "لأن الرمز الواحد فى اللاتينية قد يرمز للفاعلية والمفعولية" كما هو الحال مع الأسماء المحايدة . وينتهى إلى ما يلى:
وهكذا نرى أن دلالة تلك المقاطع فى الأسماء اللاتينية لا تعدو أن تكون دلالة لغوية محضة syntactic، فلا تمت لمنطق عقلى أو دلالة عقلية[....]. كما نرى أن نظام تلك الحالات فى لغات الفصيلة الهندية-الأوروبية نظام معقد ذو اتجاه خاص، ولا يصح أن نقارن به نظامنا العربى .
والحاصل:
ولعل أهم فرق بين رموز الأسماء اللاتينية وبين حركاتنا الإعرابية، أن الرموز اللاتينية لا تسقط مطلقا من نهاية الأسماء حين الوقف عليها كما حدث غالبا للحركات الإعرابية فى لغتنا، مما يجعلنا نرجح أن حركاتنا الإعرابية ليست رموزا لغوية تشير إلى الفاعلية أو المفعولية وغير ذلك، كما يظن النحاة .
ومن الجلى أن هذا الابتسار البالغ، المقدم هنا وكأنه مقارنة بين الإعرابين العربى واللاتينى تلغى المشترك الجوهرى بينهما، لا يقدم ولا يؤخر، ولا نفهم منه إلا أن المؤلف كان شديد الرغبة فى دحض الإعراب العربى بكل حجة ممكنة.
لكن يبدو أن العنوان الفرعى التالى "مفتاح السر ظاهرة الوقف" سيحمل إلينا أخيرا سرّ حركات الإعراب الذى يتضح أنه يتمثل فى الوقف والإسكان.
ويبدأ المؤلف دحضه كما يلى:
يظهر والله أعلم: أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل فى الكلام شعرا ونثرا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملته لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على آخر كلمة من قوله بما يسمى السكون. كما يظهر أن الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل .
وهو يشبِّه رأيه برأى تلميذ سيبويه، الإمام محمد بن المستنير المعروف بقطرب. وهو محقّ تماما فى هذا التشبيه، ويمكن القول إن تناوله هنا لا يزيد عن أن يكون ترديدا لرأى قطرب. ذلك أن الدكتور إبراهيم أنيس يقدم هنا بحثا عن ظاهرة الوقف. على أن البحث المطلوب هنا كان ينبغى أن يركز على إثبات أشياء محددة.
وحتى إذا سلَّمنا بأن "الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون"، باعتبار الوضع المعجمى لكل لفظة على حدة، وباعتبار أن الإسكان أو التحريك فى آخر اللفظة المفردة لن يؤدى إلى اختلاف فى المعنى المعجمى، فقد كان المطلوب إثباته ما يلى:
1: أن الكلام العربى كان يقوم بإسكان أواخر الكلمات كلما كانت الضرورة الصوتية غير قائمة (كما نفعل الآن فى لهجة القاهرة على سبيل المثال إذ أننا فى الكلام المتصل، نقوم بتحريك أو إسكان أواخر الكلمات وفقا للضرورة الصوتية).
2: "أن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل". أىْ أن التحريك صوتى بحت ولا يمت بصلة إلى الإعراب المرتبط فى مرحلة من مراحل اللغة بالنحو والوظائف النحوية.
3: أن اللغة العربية كانت لغة تعتمد على أداة ترتيب الكلمات (الوظائف النحوية) فى الجملة وليس على أداة الإعراب. أىْ إثبات أن اللغة العربية كانت فى حالة الخلوّ من الإعراب (أو فى حالة إسقاط الإعراب بافتراض أنه كان قائما فى مرحلة أسبق). ومن الواضح أن إثبات الخلوّ من الإعراب والاعتماد على ترتيب الكلمات فى الجملة العربية إنما يعنى إثبات أن أ: الإسكان هو الأصل حتى فى الكلام المتصل وأن ب: التحريك يأتى فى الكلام المتصل لضرورة صوتية ليس إلا.
ولا سبيل فى الحقيقة إلى إثبات كل هذا إلا بإثبات أن اللغة العربية فى كل النصوص المحفوظة والمكتوبة من عصر الرواية والاحتجاج، وفى النصوص المكتوبة بعد ذلك بالتقيد بالتقاليد النحوية لذلك العصر، كانت تقوم بصورة لا جدال فيها على نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة أىْ على النسق المرتبط بعدم وجود الإعراب، والمستغنى عن كل علامات الإعراب، باستخدام هذا الترتيب للكلمات الذى يساعد مع المعنى والقرائن الأخرى على تمييز الوظائف النحوية. وليس هذا هو الحال بحال من الأحوال، إذ إن كل هذه النصوص لا تحتوى على نسق تقييد ترتيب الكلمات إلا كأحد البدائل، إلا كشكل من أشكال بناء الجملة، بالاعتماد الصارم المطرد على الإعراب الذى قيس على وجوده ما يسمى باللحن الإعرابى.
ومهما كانت محاضرة الدكتور أنيس عن الوقف بليغة فإننا لا نجد أية محاولة ناجعة للإثبات المباشر للأشياء السابقة.
كذلك فإن الأشياء المطلوب إثباتها فى البنود السابقة، يستحيل إثباتها ولا معنى لإثباتها بدون إثبات أن التحريك لا يطرد فيه مطلقا اقتران حركة بوظيفة نحوية بعينها. وعلى سبيل المثال فإن إثبات الخلوّ من الإعراب (وبالتالى إثبات الطابع الصوتى البحت للتحريك) إنما يكون بإثبات أن الفاعل مثلا لا يطرد معه الرفع بالضمة أو بعلامات الرفع الأخرى (مالم تؤثر على رفعه عوامل أخرى) وأنه على العكس من ذلك يأخذ أىّ حركة من ضمة أو فتحة أو كسرة لأسباب صوتية بحتة.
وفى هذا يقول صاحب كتاب "ظاهرة الإعراب فى العربية":
وقد ردّ القدماء على قطرب فى زعمه هذا بأنه لو كان كما زعم لجاز خفض الفاعل مرة ورفعه أو نصبه مرة أخرى وجاز نصب المضاف إليه لأن القصد فى هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام .
والذى لا جدال فيه هو أن الحركات فى النصوص العربية المشار إليها تثبت، كما سبق القول، اطراد اقتران الحركة بالوظيفة النحوية؛ اطراد الرفع مع الفاعلية والنصب مع المفعولية إلخ فى الألفاظ المفردة المعربة. ولا يستقيم رأى الدكتور أنيس إلا فى حالة واحدة هى افتراض أن "النحاة" بدلوا بالحركات التى كانت مجرد حركات صوتية حركة مطردة فى آخر كل كلمة مع وظيفتها النحوية، بعد أن كانت تأتى فى الكلام العربى المتصل مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة الأواخر، وبافتراض أن هذا التبديل شمل كل النصوص العربية.
وتحت عنوان فرعى خامس "ليس للحركة الإعرابية مدلول" يكرر المؤلف أيضا فكرته الشهيرة:
لم تكن تلك الحركات الإعرابية تحدد المعانى فى أذهان العرب القدماء كما يزعم النحاة، بل لا تعدو أن تكون حركات يحتاج إليها فى الكثير من الأحيان لوصل الكلمات بعضها ببعض .
وبعد أن يورد قراءات قرآنية بالإسكان، ينتقل الدكتور المؤلف إلى ما يسميه "موقف الفاعل من المفعول فى الجملة العربية" يقول:
نكتفى هنا ببيان قصير عن موضع الفاعل من الجملة، وموضع المفعول منها، كى نبرهن على أن الفاعل لا يعرف بضم آخره، ولا المفعول بنصب آخره، بل يعرف كل منهما فى غالب الأحيان بمكانه من الجملة الذى حددته أساليب اللغة، وما روى منها من آثار أدبية قديمة، فإذا انحرف أحدهما عن موضعه تتبعناه فى موضعه الجديد بسهولة ويسر، ودون لبس أو إبهام لأن الجملة حينئذ تشتمل على ما يرمز إليه، ويدل عليه، وذلك لأن التركيب مع هذا الانحراف قد تتغير معالمه، أو لأن ظروف الكلام، توحى به وترشدنا إليه .
ويؤكد المؤلف أن:
الفاعل فى أغلب الكلام العربى يلى الفعل ويسبق المفعول، ولا يتأخر الفاعل إلا فى أحوال:
1- منها أسلوب الحصر أو القصر نحو: "وما يعلم تأويله إلا الله" .
2- ومنها طول الكلام مع الفاعل وتوابعه، مما قد يغمر المفعول به، ولا نكاد نتبينه حين يتأخر مثل قوله تعالى "وإذا حضر القسمةَ أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه" ومثل: "سيصيب الذى أجرموا صغارٌ عند الله وعذاب شديد" ومثل: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها" ، ومثل: "إما يبلغن عندك الكبر أحدُهما أو كلاهما" .
3- وحين يشتمل الفاعل على ضمير يعود على المفعول مثل: "هذا يومُ ينفع الصادقين صدقُهم" ، ومثل: "لا ينفع نفسا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا" ومثل: "وإذا ابتلى إبراهيم ربُّه" .
ولا جدال فى أن القول بأن الفاعل يتقدم فعله ويليه مفعوله فى أغلب الكلام العربى فى ترتيب عناصر الجملة قول مرسل لم يقدم أحد إثباتا مقنعا له، وربما كان من المستحيل إثباته، بسبب الكثرة الهائلة من مليارات الجمل العربية التى ينبغى (ولكنْ يستحيل) فحصها من هذه الزاوية لإثباته. ولا شك فى أن هذه العقبة التى لا يمكن تصوُّر أن يفكر أحد مجرد تفكير فى إزالتها هى السرّ وراء لجوء هذا الباحث أو ذاك ليس إلى الاعتبارات النحوية المنطقية بل إلى مجموعة منتقاة مهما اتسعت من الجمل أو إلى أقوال مرسلة لآخرين لإثبات أن الجملة العربية السائدة هى "الفعلية" عند هذا و "الاسمية" عند ذاك.
ولكنْ حتى بافتراض تقدم الفاعل على المفعول، وهو، على كل حال، السائد فى لغة إسقاط الإعراب، كما أنه على كل حال أحد الترتيبات الممكنة فى لغة إسقاط الإعراب بل ربما كان أكثرها شيوعا، فإن تمييز الوظائف النحوية يحتاج إلى قاعدة شاملة تعتمد على علامات الإعراب فى لغة الإعراب وعلى المكان فى لغة إسقاط الإعراب. ولا شك فى أن قرينة أو أكثر يمكن أن تغنى فى الجملة الواحدة عن الاعتماد على الإعراب (وحتى عن ترتيب الكلمات) كأنْ يكون الفعل مسندا إلى مؤنث مع مفعول به مذكر، أو كأن يكون المعنى واضحا بذاته دون إعراب مثل "أكلت زينب تفاحة"، إلخ إلخ، غير أن كل هذا لا ينفى أمرين: 1: أن هناك حاجة إلى علامات الإعراب فى لغة تقوم على الإعراب بغض النظر عن وجود أو عدم وجود قرائن 2: أن اللغة العربية ضمن لغات عديدة من مجموعات لغوية عديدة اطرد فيها فى مراحل بعينها الإعراب واقتران علاماته بالوظائف النحوية كنسق عام وأداة عامة لتمييز هذه الوظائف فى وجود أو عدم وجود ما يساعد على هذا التمييز من مقتضيات قرائن المعنى المعقول أو اللفظ الدال على النوع أو العدد أو غير ذلك. ولم يقل بغير هذا إلا قليل من المجتهدين من أمثال قطرب والدكتور إبراهيم أنيس.
والعنوان الفرعى السادس هو "التقاء الساكنين"، وهو قسم صغير يبدأ بالنظر إلى الكلام المتصل ككتلة صوتية واحدة ثم ينتقل إلى ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين:
دلت البحوث الصوتية الحديثة على أن الأصل فى كل كلام أن تتصل أجزاؤه اتصالا وثيقا، وأن تتداخل مقاطعه. فإذا سجلنا على لوح حساس جملة مكونة من عدة كلمات، وجدنا ما يظهر على اللوح خطا متعرجا أو متموجا ترمز أعاليه لأوضح الأصوات، وأسافله لأقلها وضوحا فى السمع [...] ونرى هذا الخط متصلا لا انفصام بين أجزائه، وليس فيه ما يرمز إلى نهاية كلمات هذه الجملة، ونرى فى ثناياه مقاطع قد ينتمى جزء من أحدها إلى أول الكلمة، وينتمى الجزء الثانى إلى آخر الكلمة السابقة عليها، مما يؤكد لنا أن الكلمات فى وصل الكلام لا تكاد تتميز معالمها ولا تستقل بأجزائها، بل يتداخل بعضها فى بعض ويصبح الكلام كتلة واحدة، ولا يميز بين الكلمات إلا صاحب اللغة، والعارف بمعانيها .
ويشير إلى أنه:
"لا يعنينا فى بحث حركات الإعراب من ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين، إلا حين تكون بين كلمتين متجاورتين" .
وينتهى إلى أن النحاة:
سمعوا التخلص من التقاء الساكنين بالكسر أحيانا، وبالضم أحيانا، وبالفتح أحيانا، ولكنهم قصروا أمره على تلك الكلمات التى لا يعقل أن تنسب لها الفاعلية أو المفعولية ونحو ذلك، ثم اعتقدوا أن تحريك أواخر الكلمات الأخرى ولا سيما الأسماء كان لمعنى يوحى به هذا التحريك ويشير إليه .
وباختصار فإن التخلص من التقاء الساكنين فى الكلمات المتجاورة أدى إلى تحريك آخر الكلمة الأولى تحريكا صوتيا بعيدا تماما عن الدلالات الإعرابية "المزعومة"، وهذا حق. غير أن امتداد تحريك سكون آخر الكلمة الأولى إلى "الأسماء" هو الذى يضعنا من جديد أمام الطبيعة الصوتية البحتة أو الصوتية الإعرابية لهذا التحريك، ولكنْ هل هذا التخلص صوتىّ بحت بسبب "إيثار بعض الحروف لحركة معينة" أو "الميل إلى تجانس الحركات المتجاورة" ؟ أم أن الإعراب يفرض نفسه (إذا كانت الكلمة الأولى ذات وظيفة نحوية كأن تكون الفاعل مثلا) بصورة تجبّ إيثار حرف لحركة أو تجانس الحركات المتجاورة (مثلا: هذه نتيجةُ الخروج ليلا، أرأيت نتيجةَ الخروج ليلا، انظر إلى نتيجةِ الخروج ليلا؛ بافتراض أن الأصل إسكان لفظة "نتيجة" وأن المطلوب هو التخلص من سكون أول الكلمة التالية)؟ أىْ أننا هنا، كما رأينا مع ظاهرة الوقف، أمام اطراد اقتران حركة أو علامة بعينها بوظيفة نحوية بعينها، بغض النظر عن الضرورة الصوتية القابلة لتحقيق نفسها بأىّ حركة من الحركات الثلاث: الضمة، الفتحة، الكسرة.
والعنوان الفرعى السابع هو "رأى فى الإعراب بالحركات" وهنا يؤكد الدكتور إبراهيم أنيس من جديد رفضه لفكرة التحريك الإعرابى وتأييده للتحريك الصوتى:
نحن إذن نرجح أن تحريك أواخر كل الكلمات لم يكن فى أصل نشأته إلا صورة للتخلص من التقاء الساكنين، غير أن النحاة حين أعيتهم قواعده وشق عليهم استنباطها، فصلوا بين عناصر الظاهرة الواحدة. ولعلهم تأثروا فى نهجهم هذا بما رأوه حولهم من لغات أخرى كاليونانية مثلا، ففيها يفرق بين حالات الأسماء التى تسمى cases، ويرمز لها فى نهاية الأسماء برموز معينة. وكأنما قد عز على النحاة ألا يكون فى العربية أيضا مثل هذه الـ cases.
فحين وافقت الحركة ما استنبطوه من أصول إعرابية قالوا عنها إنها حركة إعراب، وفى غير ذلك سموها حركة أتى بها للتخلص من التقاء الساكنين.
الأصل إذن فى جميع كلمات اللغة ألا تحرك أواخرها إلا حين تدعو الحاجة إلى هذا، أو بعبارة أخرى حين يدعو النظام المقطعى وتواليه إلى هذا التحريك .
ويتخذ التفسير الصوتى شكلا جديدا:
وهكذا ترى أن ما سماه القدماء بالتقاء الساكنين ليس فى الحقيقة إلا توالى ثلاثة أو أربعة حروف consonants فى وسط الكلام. وإذا كان نظام توالى الحروف لا يسمح بمثل هذا فى الجمل والعبارات، فمن باب أولى لا يسمح به فى الكلمة الواحدة .
وكذلك:
فإذا حللنا معظم عبارات اللغة وجملها نجد أن ما سمى بحركات الإعراب يمكن أن تعدَّ حركات للتخلص من توالى ثلاثة أو أربعة حروف فى وسط الكلام .
والخلاصة:
لهذا كله نرجح أن حركات أواخر الكلمات لم تكن تفيد تلك المعانى التى أشار إليها النحاة من الفاعلية والمفعولية ونحو ذلك، وإنما هى حركات دعا إليها نظام المقاطع وتواليها فى الكلام الموصول .
إنها نفس حجج التحريك الصوتى ولا ردّ عليها سوى نفس السؤال عن اطراد اقتران حروف الإعراب بالوظائف النحوية مع الألفاظ التى تعرب بالحروف وليس بالحركات (المثنى وجمع المذكر السالم إلخ)، إذا ضربنا صفحا عن "مؤامرة النحاة" وتبديلهم لأواخر الكلم فى كل النصوص السابقة عليهم والمعاصرة لهم.
والعنوان الفرعى الثامن والأخير (فى هذا الفصل الثالث) هو "رأى فى الإعراب بالحروف" وهو قسم صغير يقدم الإعراب على النحو التالى:
فرغ النحاة من تفسيرهم للضم والكسر والفتح فى أواخر معظم الكلمات العربية، واطمأنت نفوسهم لهذا التفسير، وسموه الإعراب بالحركات، ثم عمدوا إلى تلك الكلمات والصيغ التى لم يستطيعوا فيها تغييرا أو تحويرا كالمثنى وجمع المذكر السالم وما يسمى بالأفعال الخمسة، والأسماء الخمسة، فطبقوا عليها أصولهم وقواعدهم، ثم خرجوا علينا بنوع آخر من الإعراب سموه الإعراب بالحروف، ولما رأوا أن للمثنى صيغتين، وجمع المذكر السالم صيغتين، ولكل من الأفعال الخمسة صيغتين، اتخذوا إحدى الصيغتين للرفع واتخذوا الأخرى لغير الرفع .
ولأن هذه ليست حروف إعراب فى نظر المؤلف فإنه يهتم بتفسيرها تفسيرا صوتيا، ونظرا لأن التفسير الصوتى لتطور صيغة أو صيغ صرفية مثلا لا يستبعد الإعراب الذى لا يستبعد بدوره التفسير الصوتى لمثل هذا التطور، حق لنا أن نتساءل: كيف أمكن أن يتصور المؤلف أن تفسيره الصوتى يلغى أن تكون هذه الحروف للإعراب؟ فإذا كان الإعراب حقيقة فإن حركاته لن تخرج عن الضمة والفتحة والكسرة (وذلك فى كل لغة). وعندما يعطى الصرف لصيغ بعينها كالمثنى وجمع المذكر السالم والأسماء الخمسة أو الستة والأفعال الخمسة نهايات لا يقوم التمييز النحوى- الإعرابى لأواخرها على الحركات، فإن هذه النهايات الصرفية-النحوية المتمايزة (الألف والنون والواو والنون والياء والنون إلخ) تقوم بالوظيفة الإعرابية المطلوبة مهما كانت الطريقة التى نشأت بها هذه النهايات من الناحية الصوتية.
ويمكن القول أخيرا إن الكتور إبراهيم أنيس احتشد - احتشادا لا يقوى عليه سوى عالم لغوى عظيم مثله - لدحض الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية ولتقديم فكرته القائلة بأنه من صُنْع نخبة اللغة النموذجية ثم من صُنْع النحاة، غير أن بحثه الشامل لا ينجح فى إثبات زعمه. ذلك أن التحريك لوصل الكلام باعتباره ظاهرة صوتية لا يمكن أن يلغى حقيقة الإعراب بحكم طابع هذا التحريك، ولا ينتبه المؤلف إلى ما كان عليه إثباته. ولأنه عالم لغوى عظيم نادر المثال فى لغتنا العربية فقد قدم أفكارا تثبت أو تشرح أو تفسر أشياء كثيرة يمكن أن تفيد فى تطوير النحو العربى غير أنها لا تدحض حقيقة أنه لا سبيل إلى إنكار أن هذا الإعراب كان أصلا من أصول اللغة العربية المضرية القريشية بصورة شاملة فى مرحلة كبرى من مراحلها، مع التسليم بأن خروجه من السليقة أدى إلى الازدواج اللغوى الذى تعيشه اللغة العربية منذ قرون طويلة (منذ أكثر من عشرة قرون فى البادية ومنذ أكثر من اثنى عشر قرنا فى الأمصار مع التسليم ببدء هذا الازدواج منذ وقت أطول بكثير كما تتواتر الروايات) بين استمرار الإعراب فيما يسمى بالفصحى وإسقاطه فيما يسمى بالعامية.


15
ما يسمى بمنصوبات الأسماء
بين عناصر الجملة والإعراب

من الجلى أن تسمية منصوبات الأسماء، تماما مثل تسمية مرفوعات الأسماء، تسمية إعرابية لمواقع نحوية، فهى تقوم على تخصيص الإعراب بالنصب لكلمات هى إما عناصر جملة أو أجزاء من عناصر جملة. وكما رأينا عند مناقشة مرفوعات الأسماء فإن خطأ التسميات الإعرابية يتمثل، قبل كل شيء، فى التمحور حول الإعراب. ذلك أن من الأجدر أن تسمى العناصر أو الوظائف النحوية بأسمائها النحوية باعتبارها عناصر بناء الجملة؛ مثلا: الفاعل (أو المسند إليه) وليس المرفوع، أو المفعول به وليس المنصوب، ويتمثل خطأ هذه التسميات، كذلك، فى أن هذه العناصر النحوية لا تتحقق بالإعراب فقط بل تتنوع أشكال تحقيقها فلا تكون معربة إلا فى الشكل الوحيد للكلمة المعربة التى تمثل فى الوقت نفسه عنصر جملة. وإذا كان الإعرابان المحلى والتقديرى لأشكال التحقيق الأخرى لعناصر الجملة يقاسان على رفع أو نصب أو جرّ الكلمة المعربة، فإن إلغاء هذين الإعرابين يُخرج الكلمات المبنية ومختلف التراكيب من حيث هى تراكيب (أىْ بصرف النظر عن إعراب أو بناء كلماتها المفردة) من دائرة الإعراب.
وعلى هذا فإن تسمية المرفوعات تنطبق على الكلمات المعربة المرفوعة وحدها فيما تنطبق تسمية المنصوبات على الكلمات المعربة المنصوبة وحدها. فالفاعل مرفوع إذا كان كلمة واحدة معربة والمفعول به منصوب إذا كان كلمة واحدة معربة.
غير أن تسمية المرفوع والمنصوب لا تكون صادقة حتى عندما نكون إزاء الكلمة الواحدة المعربة. ذلك أن رفع الفاعل ليس قاعدة مطلقة فهو منصوب إذا سبقه ناصب وهو مجرور إذا سبقه جارّ. كذلك فإن نصب المفعول به ليس قاعدة مطلقة لأنه قد يكون اسما ظاهرا معربا أو غير معرب وقد يكون ضميرا متصلا أو منفصلا أىْ كلمة مبنية وقد يكون غير ذلك (المصدر المؤول). كما أن المفعول به قد لا يُنصب بعد الفعل المتعدى، لأن مفهوم الفعل المتعدى يتسع لفعل من كلمة واحدة one-word verb (أىْ الفعل المتعدى المنفرد وحده دون إضافة) فيكون من شأنه نصب المفعول به المعرب، كما يتسع للفعل المركَّب أىْ للفعل المتعدد الكلمات multi-word verb أو phrasal verb (أىْ الفعل بإضافةٍ مثل حرف الجر) ومنه الفعل اللازم، ومنه الفعل المتعدى، غير أن هذا الأخير لا ينصب المفعول به المعرب بل يجّره، وليس الفعل المتعدى بالحرف قليل الشهرة فى النحو العربى، ومن شأنه أن يعطى المفعول به المجرور فى حالة كونه كلمة معربة، كما صار الفعل المتعدى بإضافة حرف الجر أو الظرف phrasal verb فى الإنجليزية علما واسعا إلى درجة تخصيص معاجم مستقلة لتراكيب هذا النوع من الأفعال.
وإذا كان النحو العربى التقليدى قد صنع من الإعراب برفعه ونصبه وجرّه (وجزمه) عقدة فقهية كلامية منطقية مستعصية ممعنا فى تعقيد ما يسمى بنظرية العوامل لتعليل أسباب أنواع الإعراب المختلفة بدلا من المقاربة الوصفية التى تكتفى بتسجيل أن الجماعة الناطقة بلغتنا اصطلحت (فيما يتعلق بالكلمات المعربة المفردة الداخلة فى الجمل) على رفع الفاعل، والجر بالحرف أو الإضافة، ونصب الباقى، مع استثناءات قليلة مثل استخدام علامات الرفع مع ما يسمى بالخبر المفرد، ومع ما يسمى بالمبتدأ الأول، ونصب أو جر الفاعل، وما أشبه. ومن صميم هذا الاصطلاح مراعاة المخالفة الإعرابية بين الفاعل والمفعول به، برفع أحدهما ونصب الآخر، وهى المخالفة الإعرابية الحقيقية الوحيدة فى الإعراب العربى للتمييز بين الفاعلية والمفعولية. أما مخالفة باقى المنصوبات فهى تأتى من ضرورة عدم رفع هذه المواقع النحوية حتى لا تُحدث التباسا من أىّ نوع مع الفاعل، وبالتالى فإنه نظرا لتخصيص الرفع للفاعل المعرب وتخصيص الجر لإضافة المعرب أيضا، لا يبقى من أنواع الإعراب الثلاثة لغير الفعل (الرفع والنصب والجر) سوى النصب الذى لا مناص من أن يشمل كل ما يسمى بمنصوبات الأسماء على تنوعها، حيث يكون التمييز بينها وبين المفعول به أو فيما بينها بالمعنى، وقد يحدث الالتباس فيما بينها على قلة، غير أن الإعراب لا يستطيع أن يقدم حلا لإزالة الالتباس هنا لأنه لا يستطيع أن يضيف (ولا حاجة به إلى أن يضيف) أىّ نوع آخر من الإعراب إلى أنواع الرفع والنصب والجر، فهو يواجه بهذه الأنواع الثلاثة وحدها ذلك العدد الكبير مما يسمى بالمنصوبات.
وإذا فكرنا فى المنصوبات فى حالة تطابق الموقع النحوى مع الكلمة المعربة، ودون دخول "عوامل" أخرى مثل "إن وأخواتها" أو فيما يسمى بخبر "كان وأخواتها" أو فى أحوال المفعول به والحال والمفعول المطلق والمفعول لأجله والاستثناء والتمييز وغير ذلك، فإن انطباق هذه التسمية الإعرابية عليها لا يمنع من إعطاء الأولوية للأحوال النحوية ذاتها وبالأخص من زاوية عناصر الجملة أو مكوناتها أو وظائفها.
وقد وقفنا مرارا عند مفهوم عنصر الجملة، وأطلنا بحث بعض هذه العناصر وهى:1: الفاعل (المسند إليه)، و2: الفعل، و3: المفعول به (المباشر)، و4: المفعول به (غير المباشر)، و5: متمم الفاعل، و6: متمم المفعول به (المباشر فى نموذج "ظن وأخواتها" ونموذج "أعلم وأرى وأخواتهما")، و7: الظرف.
كما أوضحنا أن الجملة تتكون من ركنين وحيدين هما المسند إليه (الفاعل) والمسند (الخبر)، وأن المسند إليه عنصر جملة، وأن المسند ليس عنصر جملة بل يمكن أن تتسع نماذج المسند لكل عناصر الجملة باستثناء عنصر المسند إليه، ونماذج المسند (بعد المسند إليه فى الجملة) هى:
1: الفعل اللازم وحده.
2: الفعل الناقص (كان وأخواتها) + متمم الفاعل (صفة أو اسم).
3: الفعل الناقص (كان وأخواتها) + الظرف.
4: الفعل المتعدى إلى واحد + المفعول به المباشر.
5: الفعل المتعدى إلى واحد (ظن وأخواتها) + المفعول به المباشر + متمم المفعول به المباشر (صفة أو اسم).
6: الفعل المتعدى إلى واحد (ظن وأخواتها) + المفعول به المباشر + الظرف.
7: الفعل المتعدى إلى مفعولين (أعطى وأخواتها) + المفعول به غير المباشر + المفعول به المباشر.
8: الفعل المتعدى إلى مفعولين (أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" ضمن أفعال "أعطى وأخواتها") + المفعول به غير المباشر + المفعول به المباشر+ متمم المفعول به المباشر (صفة أو اسم).
9: الفعل المتعدى إلى مفعولين (أفعال "أعطى وأخواتها") + المفعول به غير المباشر + المفعول به المباشر + الظرف.
فبالإضافة إلى الفعل الذى لا يخلو منه مسند (خبر)، ولا تخلو منه جملة بالتالى، هناك عنصر المفعول به المباشر، وعنصر المفعول به غير المباشر، وعنصر متمم الفاعل، وعنصر متمم المفعول به المباشر، وعنصر الظرف، وباختصار عناصر المفعول به بنوعيه، والمتمم بنوعيه، والظرف.
وبالطبع فإن المسند إليه (الفاعل) لا يدخل فيما يسمى بمنصوبات الأسماء (إلا فى حالة مجيئه بعد الحروف المسماة بالناسخة كما سبق ورأينا)، كما أن الفعل يظل بحكم طبيعته ذاتها خارج هذه المنصوبات، لأن الفعل من ناحية مبنىّ أومعرب، والمعرب منه مرفوع إذا لم يسبقه ناصب أو جازم، ولكنْ بالأخص لأن إعراب الفعل يختلف معناه تماما عن إعراب غير الفعل، ذلك أن إعراب الفعل لا علاقة له بالتمييز بين الوظائف النحوية.
ولا يبقى معنا من عناصر الجملة، فى مواجهة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، سوى المفعول به بنوعيه، والمتمم بنوعيه، والظرف. وتغدو مهمتنا الآن أن نرى إلى أىّ مدى تستوعب مفاهيم عناصر الجملة الثلاثة هذه كل هذه المنصوبات كعناصر جملة أو كأجزاء من عناصر الجملة.
وتشمل قائمة ما يسمى بمنصوبات الأسماء ما يلى: خبر كان وأخواتها، واسم إن وأخواتها، واسم لا النافية للجنس، والمفعول به (ومفاعيل أساليب الاختصاص والتحذير والإغراء)، والمفعول المطلق، والمفعول لأجله، والمفعول معه، وظرفا الزمان والمكان، والحال، والتمييز، والمستثنى، والمنادى، والتابع للمنصوب: النعت والعطف والتوكيد والبدل.
والمفعول به والظرف (الزمان والمكان) مشتركان فى القائمة الطويلة لهذه المنصوبات والقائمة القصيرة لعناصر الجملة. كما مر بنا بحث المفعول به والظرف ومتمم الفاعل ومتمم المفعول به المباشر باعتبارها عناصر جملة، وبقيت أغلب "المنصوبات" دون أن نعرف إلى أىّ عناصر جملة يمكن إحالتها، ودون أن نعرف ما هى تلك "المنصوبات" التى لا تنتمى، بحكم طبيعتها، إلى هذه العناصر أصلا.
على أننا كنا قد فرغنا، فى فصول سابقة، من بحث بعض هذه المنصوبات من حيث ما يقابلها من عناصر جملة.

ما يسمى بخبر "كان وأخواتها"

فقد رأينا أن ما يسمى بخبر "كان وأخواتها" ليس سوى متمم الفاعل كما فى النموذج 2 من نماذج المسند (الخبر)، وسبق أن رأينا أن هذا المتمم قد يكون صفة (كان محمود جريئا) وقد يكون اسما (كان محمود رجلا)، ويمكن أن نضيف الجار والمجرور أو تراكيب أخرى بمعنى متمم الفاعل.
ومن أخوات كان التى ترفع المبتدأ الذى يصير اسم كان وتنصب الخبر الذى يصير خبر كان، وفقا لنحونا التقليدى، أفعال المقاربة وأفعال الرجاء وأفعال الشروع. غير أن "خبر هذه الأفعال يجب أن يكون جملة فعلية فعلها مضارع" ، ومعنى هذا أن النصب هنا "محلى" ولا ينبغى الالتفات إليه.
والأهم أن متمم الفاعل الذى يأتى مع هذه الأفعال صفة أو اسما قد يأتى بأشكال أخرى متعددة منها الفعل وما قد يأتى بعده، وإليك بعض الأمثلة:
كانت الصناعة تتقدم.
صار ركاب الطائرة فى أمان.
أوشكت الأزمة أن تنفرج.
عسى الطب أن يعالج الأمراض المستعصية.
جعلوا يتمتعون بسحر الطبيعة.
وليس هناك ما يمنع أن يتحقق متمم الفاعل بهذه الأشكال. على أن هناك مسألة دقيقة يطرحها الفعل "كان" الذى يدخل فى تكوين الأزمنة فى مثل: "كان فلاحو القرية يعيشون على الكفاف"، أو فى مثل: "عندئذ سيكون هؤلاء السذج قد أدركوا الخدعة"، ومعنى هذا أن المتمم هنا يحتفظ بصفة المتمم، مع كونه جزءا من المسند (الخبر) مع فعل الكينونة، ومع كونه أيضا جزءا من تكوين الأزمنة.

اسم "إن وأخواتها"

وإذا عدنا إلى ما يسمى اسم "إن وأخواتها"، وجدنا أننا إزاء المسند إليه (الفاعل). ففى جملة: "أعتقد أن العلاجَ يفيد فى هذه الحالة": "العلاجَ" هو المسند إليه الذى أسندنا إليه الفعل "يفيد" وصرَّفناه معه، وهو منصوب لأنه جاء بعد حرف أو أداة النصب "أنّ" ولأنه كلمة معربة. وينطبق هذا على كل ما يأتى بعد "إن وأخواتها"، فهو المسند إليه فى كل الأحوال، وينطبق نفس الشيء على اسم "لا النافية للجنس" وهى من أخوات إنَّ، فهو مسند إليه أيضا.

المفعول به (المباشر وغير المباشر)

أما المفعول به، المباشر للفعل المتعدى إلى مفعول به واحد، والمباشر وغير المباشر للفعل المتعدى إلى مفعولين، فهو عنصر جملة دون شك. على أن نحونا التقليدى يخطئ عندما يعتبر متمم المفعول به المباشر مفعولا به ثانيا مع مجموعة من الأفعال أو مفعولا به ثالثا مع مجموعة أخرى من الأفعال. ويظهر متمم المفعول به المباشر، مع المفعول به الواحد الذى قد يأخذ هذا المتمم (أفعال "ظن وأخواتها"، مثلا: ظننت الرجل عاقلا)، كما يظهر مع المفعولين اللذين يأخذ المفعول به المباشر منهما هذا المتمم (مثل: "يقينا" فى: "أعلمته الخبر يقينا" مع أفعال ما يسمى بـ "أعلم وأرى وأخواتهما" التى يزعم النحو العربى أنها تنصب ثلاثة مفاعيل وتمثل هذه الأفعال مجموعة متميزة ضمن أفعال "أعطى وأخواتها").
وإلى المفعول به تضاف مفاعيل أساليب الاختصاص والتحذير والإغراء.

الظرف والمتمم

وظرف الزمان والمكان وارد فى القائمتين، فهو لا يثير مشكلة من حيث استيعابه فى عناصر الجملة. غير أننا نجد أنفسنا أمام بحث ضرورى يهدف إلى التوصل إلى مفاهيم نحوية واضحة لباقى ما يسمى بمنصوبات الأسماء بدلا من وضع إعرابها فى الصدارة، فضلا عن أن التسمية غير صحيحة؛ فهذه "الأسماء" منها المعرب ومنها ما هو خارج الإعراب مثل الكلمات المبنية، والتراكيب المتعددة الألفاظ، وما تؤدى إليه بعض الأدوات والأفعال المتعددة الكلمات من ابتعاد عن النصب بالذات.
وتتمثل المشكلة فى أن أغلب هذه "المنصوبات" المزعومة، وهى قائمة طويلة كما نرى، إنما هى وحدات نحوية يرقى الكثير منها إلى مستوى عناصر الجملة على حين أن عناصر الجملة قليلة العدد وبعضها قاطع التحدد فلا تصلح لاستيعاب مثل هذه المعانى المتنوعة. فالفاعل أو المسند إليه مفهوم يقتصر تماما على ما أُسند إليه الفعل وصُرِّف معه (بما فى ذلك المضارع المثبت المحذوف فى حالة الكون العام)، كذلك فإن المفعول به مفهوم قاطع التحدد ويقتصر على مَنْ أو ما وقع عليه الفعل أو تأثر بالفعل دون أن يكون فاعله. أما الفعل فمن الجلى أنه عنصر مستقل تماما فهو يدل على معنى أو حدث يكون الزمن جزءا منه، ولا يمكن أن يختلط مع عناصر أخرى إلا فى حالة الاستعمال فى سياق التعريف، مثلا: "يعيشُ فعلٌ لازمٌ". فلا يبقى على درجة من "المرونة" من بين عناصر الجملة سوى المتمم (متمم الفاعل والمفعول به المباشر) والظرف. ولا شك فى أن من خيارات التعامل مع باقى ما يسمى بمنصوبات الأسماء أن نتركها على حالها معتبرين المفعول المطلق عنصر جملة مستقلا، والحال عنصر جملة مستقلا، والمفعول لأجله كذلك، وهكذا. غير أن هذا من شأنه أن يغرق مفهوم عنصر الجملة فى فيض من المسميات التى تخرج به عن تحدده ونجاعته باعتبار أنه يدور حول الفعل أىْ الحدث باعتباره عنصر الجملة المحورى، ومن حيث مَنْ أُسند إليه وصُرِّف معه لأنه "قام بالفعل أو قام به الفعل" (حتى إنْ كان المتأثر به مثل فاعل المبنى للمجهول أو فاعل فعل لازم، مثل: مات أو غرق) وهذا هو عنصر الفاعل المسند إليه، ومن حيث مَنْ أو ما وقع عليه الفعل (دون أن يكون فاعله) وهذا هو عنصر المفعول به بنوعيه (المفعول به المباشر للأفعال المتعدية إلى مفعول به واحد ومنها أفعال ظن وأخواتها، و"مستلمه" أىْ المفعول به غير المباشر مع المباشر فى حالة أفعال أعطى وأخواتها). وهناك المتمم للفاعل مع كان وأخواتها، وللمفعول به المباشر مع ظن وأخواتها (كحالة خاصة تتميز بالمتمم من المتعدى إلى مفعول به واحد) وأعلم وأرى وأخواتهما (كحالة خاصة تتميز بالمتمم من أفعال أعطى وأخواتها المتعدية إلى مفعولين). وهناك أخيرا الظرف (الذى يقتصر فى النحو العربى على ظرفىْ الزمان والمكان). ومن الجلى أن المتمم والظرف هما المفهومان اللذان قد يُبديان قدرا من المرونة، وبعبارة أخرى فإن من المحتمل أن توضح "حلحلة" عدد من هذه "المنصوبات" حقيقتها، التى تخفيها تسمياتها النحوية الحالية، باعتبارها تنتمى إلى أحد هذين العنصرين. ويدعو إلى هذا الافتراض أمران؛ أولهما هو أن شمول مفهوم عنصر الجملة لكل الوحدات النحوية التى تدخل فى بناء الجملة، مع استبعاد توسيع هذا المفهوم أو هذه العناصر، يفترض اندراج كل الوحدات النحوية ذات الأهمية تحت هذا العنصر أو ذاك من عناصر الجملة. والأمر الثانى هو النحو المقارن، فانطلاقا من وحدة النحو فى مختلف اللغات وهى وحدة ناشئة من تناظر الحياة البشرية واللغات البشرية التى تعبر عنها، يستطيع النحو العربى الجديد أن يستفيد من منجزات كل نحو آخر للغات أخرى (تماما كما استفاد النحو العربى القديم عند نشأته من كل نحو آخر للغات أخرى كان متاحا له)، وعلى وجه الخصوص فإن على النحو العربى أن يتخلى عن مفهومه للظرف الذى يقتصر على ظرفىْ الزمان والمكان، وعندئذ سيكون من السهل على النحو العربى أن يجعل مفهوم الظرف يمتد ليشمل الكثير مما يسمى بمنصوبات الأسماء كما تفعل لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية.

"منصوبات الأسماء" وعناصر الجملة

وجدنا منذ قليل أن الوحدات النحوية التالية: ما يسمى بخبر كان وأخواتها ومنها ما يسمى بخبر أفعال المقاربة والرجاء والشروع، واسم إن وأخواتها، واسم لا النافية للجنس، والمفعول به (ومفاعيل أساليب الاختصاص والتحذير والإغراء)، وظرفا الزمان والمكان، وهى الواردة فى قائمة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، لا تخرج عن كونها عناصر جملة محددة هى، كما رأينا، عنصر الفاعل (مع "إن وأخواتها")، وعنصر متمم الفاعل (مع "كان وأخواتها")، وعنصر المفعول به، وعنصر متمم المفعول به المباشر (وهو ما يقدمه النحو العربى التقليدى بصورة خاطئة باعتباره المفعول الثانى مع "ظن وأخواتها" والمفعول الثالث مع "أعلم وأرى وأخواتهما")، وبالطبع ظرف الزمان وظرف المكان. وإذا تركنا التوابع (الواردة فى قائمة المنصوبات) جانبا، يبقى السؤال حول علاقة المفعول المطلق، والمفعول لأجله، والمفعول معه، والحال، والتمييز، والمستثنى، والمنادى، بعناصر الجملة، وبالأحرى بعنصرين بالذات، هما المتمم والظرف.

المنادى

من الجلى أنه لا معنى للبحث وراء المنادى عن عنصر جملة، وذلك لانقطاع المنادى (بأداة أو غير أداة) عن الارتباط النحوى الوظيفى بغيره من كلمات الجملة، فالمقصود بأسلوب النداء لا يعدو أن يكون تحديد المنادى أو تنبيهه. وبالمناسبة فإن المنادى ليس منصوبا بالضرورة. فالمضاف منه يُنصب، والعَلَم غير المضاف يُرفع، وهذا إذا كان المنادى كلمة معربة، وليس كلمة مبنية كما فى مثل: "يا مَنْ يعرف الواجب" أو كلمة لا تقبل حركة الإعراب فى مثل: "يا موسى".

التمييز

ومجال التمييز ضيِّق للغاية فيما يتعلق بأسماء الوزن والكيل والمساحة ولكنه يتعلق أيضا بالعدد (وكل هذا فيما يسمى بالمميَّز الملفوظ) ولكنه يشمل ما يسمى بالمميَّز الملحوظ.
والحقيقة أننا لسنا إزاء "منصوبات" بالضرورة. ذلك أن تمييز الوزن والكيل والمساحة قد يأتى أيضا مجرورا بالإضافة أو بـ "مِنْ"، مثلا: اشتريتُ قنطارا قطنا (بالنصب)، أو: قنطارَ قطنٍ (بالجر بالإضافة)، أو: قنطارا من قطن (بالجر بحرف الجر"مِنْ"). وتمييز العدد منصوب مع أعداد ومجرور مع أعداد أخرى، وإذا كان يقال لنا إن تمييز الملحوظ منصوب وفقا لأمثلة تُساق فليس هناك ما يمنع من استخدام أشكال أخرى بغرض تمييز الملحوظ.
ولنتأمل الأمثلة التالية من كتاب تحرير النحو العربى :
اشتريت قنطارا قطنا.
بعت أردبًّا قمحا.
باعنى التاجر مترا صوفا.
فى الفصل ثلاثون طالبا.
رأيت أحد عشر كوكبا.
ونحن هنا أمام مقادير تخص موازين أو مكاييل أو مساحات أو مقاييس طولية (أو ما يشبه المقادير) أو أعدادا وتبدو هذه المقادير أو الأعداد عناصر جملة: يبدو قنطارا أو أردبا أو مترا أو أحد عشر مفعولا به ويبدو ثلاثون مبتدأ (= مسندا إليه أو فاعلا). غير أن هذه المقادير والأعداد تبدو أيضا صفات لعناصر جملة بمعنى أنه يبدو أيضا أن المفعول به الحقيقى فى الجمل السابقة هو "القطن" و "القمح" و "الصوف" و "الكواكب الأحد عشر"، كما يبدو أن الفاعل الحقيقى هنا هو "الطلاب الثلاثون". وهنا تبدو المقادير والأعداد صفات كمية أو عددية للمفعول به أو الفاعل فهى تقدم فى الحقيقة فى كل الأحوال "عدد" قناطير القطن أو أرادبّ القمح أو أمتار الصوف أو "عدد" الطلاب أو الكواكب فى الأمثلة السابقة. والأعداد كأقسام كلام فى اللغات تكون أسماء أو ضمائر كما تكون صفات، وفى الإنجليزية؛ إذا قلنا مثلا: twenty years [عشرون كتابا] فهذا العدد إنما هو نعت عددى لهذه الأعوام، ولا شيء يمنع الأخذ بهذا فى النحو العربى. ويختلف الأمر بالطبع فى حالة استخدام حرف الجر "مِنْ" للتمييز حيث يكون مقدار المساحة أو الوزن أو الكيل أو العدد هو عنصر الجملة المنعوت وليس النعت. غير أن اللغة أوجدت هذه الصيغة الخاصة التى اعتبرت المقادير والأعداد كلمات مبهمة تحتاج إلى تفسير أو تمييز أو إبانة. ونجد أنفسنا أمام احتمالين: الأول، اعتبار المقادير والأعداد فى مثل هذه الجمل نعوتا تأتى قبل المنعوت، والثانى احترام هذه الصيغة الخاصة وبالتالى اعتبار المقادير والأعداد عناصر جملة واعتبار التفسير أو التمييز نوعا من الظرف يحدد الكمية أو العدد. ومن التمييز ما يشبه المقدار، مثل: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره" ، ومثل: "مِلْء الإناء عسلا" .
ويتنوع التمييز بعد المميََّز "الملحوظ"؛ ومنه التمييز بعد الفعل اللازم، مثل: "محمود حَسُنَ خُلُقًا" أو "اشتعل الرأس شيبا" ، وبعد المصدر، مثل: "تمَّ حشد الجيش فرقا على الحدود"، وبعد الصفة المشبهة، مثل: "علىّ جميل خُلُقًا"، وبعد ما يلحق بالصفة المشبهة، مثل: "حسين دمشقىّ بلدا"، وبعد اسم التفضيل، مثل: "العلم أهمُّ من المال ثروةً"، وبعد فعل التعجب، مثل: "ما أجمل الإسكندرية بحرًا"، وبعد أفعال المدح والذم، مثل: "حبذا الأخ علىٌّ متكلمًا"، وغير ذلك حسب أمثلة وتصنيفات الدكتور شوقى ضيف .
وينقلنا التمييز بعد الملحوظ أو النسبة إلى فكرة التحويل فيقال إن التمييز هنا محول عن أصله كفاعل، فى مثل: "اشتعل الرأس شيبا"، فالتقدير هو: اشتعل شيبُ الرأس، أو عن أصله المفعول به، فى مثل: "وفجرنا الأرض عيونا" ، فالتقدير هو: وفجرنا عيون الأرض، أو عن أصله المبتدأ، فى مثل: "أنا أكثر منك مالا" ، فالتقدير هو: مالى أكثر من مالك. ويمكن اعتبار التمييز بعد المميَّز الملحوظ فى أغلب هذه الأمثلة نوعا من الظرف لبيان نوع الاشتعال أو التفجير أو ما أشبه، غير أن التمييز بعد اسم التفضيل يأتى بجديد. ومن ناحية يمكن اعتبار "أكثر مالا" عبارة ظرفية كنوع من ظرف المقارنة adverbial of comparison، ومن ناحية أخرى يمكن التفكير فى هذه العبارة فى إطار مجرد الصفة والنعت. فالصفة، كما نعلم، ثلاث درجات: الدرجة الأولية أو القاعدية، وأفعل المقارنة أو التفضيل، والأفعل، مثلا: طيِّب، أطيب مِنْ، الأطيب. والدرجة الأولى من الوصف فى الآية "كثير المال" والكثير المضاف وهو صفة مع المال المضاف إليه عبارة لا تعدو أن تكون صفة، ولا يخرج بها عن هذا الاعتبار رفع درجة المقارنة إلى "أكثر مِنْ" أو "الأكثر".

المستثنى

من المعلوم أن إعراب المستثنى المعرب بـ "إلا" هو النصب أو الإتباع (الإعراب حسب الموقع). ولهذا ولأن هناك المستثنى المبنىّ أو المستثنى التركيب المتعدد الكلمات فإن إدخاله فى المنصوبات إنما كان على أساس المستثنى الكلمة المعربة فى حالة واحدة هى أن لا يكون هذا المستثنى المعرب خاضعا للإعراب حسب الموقع. وسأكتفى بمناقشة الاستثناء بـ "إلا" لأن ما ينطبق على "إلا" ينطبق على أدوات الاستثناء الأخرى من حيث جوهر معنى الاستثناء ومن حيث تنوع إعراب المستثنى (مثلا: النصب أو الجر بعد خلا وعدا وحاشا باعتبار هذه الأدوات أفعالا فى حالة النصب، وحروفَ جر فى حالة الجر، والجر بعد غير وسوى مع أخذ لفظتىْ غير وسوى حكم المستثنى بـ "إلا" فى النصب والإتباع والإعراب حسب الموقع فى الجملة).
نصب المستثنى بإلا:
أ: إذا كان الكلام تامًّا (المستثنى منه مذكور) مثبتا (غير منفيّ)، مثلا:
"فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا فى الغابرين" .
ب: إذا كان الكلام تاما (المستثنى منه مذكور) منفيا، مثلا:
* ما حضر القومُ إلا محمودًا
* لم أكافئ أحدا إلا المجدَّ
* ما سلّمتُ على أحد من الجنود إلا القائدَ.
ويجوز أيضا الإتباع (الإعراب حسب الموقع) فيكون المستثنى فى المثال الأول مرفوعا (محمودٌ) أيضا، ويكون المستثنى فى المثال الثالث مجرورا (القائدِ) أيضا .
الثانى: إعراب المستثنى حسب الموقع فى الجملة: إذا كان الكلام ناقصا (المستثنى منه غير مذكور) منفيًّا، وإليك هذه الأمثلة من كتاب القواعد الأساسية فى النحو والصرف :
1: "وما محمدٌ إلا رسولٌ" (رسولٌ: خبر = متمم المسند إليه أو الفاعل).
2: "ما على الرسول إلا البلاغُ" (البلاغُ: مبتدأ = المسند إليه أو الفاعل).
3: "ما رفع شأن الأمم إلا العلمُ والأخلاقُ" (العلمُ والأخلاقُ: فاعل).
4: "لا يُستذلُّ إلا ضعيفٌ" (ضعيفٌ: نائب فاعل = المسند إليه أو الفاعل).
5: "ما قلتُ إلا كلمةَ الحق" (كلمةَ: مفعول به).
6: "ما فتح العربُ بلدا إلا ناشرين للحضارة والعدالة" (ناشرين: حال = ؟).
7: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (رحمةً: مفعول لأجله = ؟).
8: "لا تعتمد إلا على ذى ثقة" (ذى ثقة: مجرور بحرف الجر = ؟).
ويورد تحرير النحو العربى أمثلة على الحالة التى تفيد فيها "إلا" القصر (أو: الحصر)، حيث "يُعرب" المستثنى "حسب موقعه من الإعراب" (وقد وضعتُ أمامها عناصر الجملة الأصلية حسب مصطلحاتى): "وما محمدٌ إلا رسولٌ" (رسولٌ: متمم الفاعل)، "ما كان إلا بشرا" (متمم الفاعل)، "ما كافأتُ إلا خالدا" (خالدا: مفعول به)، "ما فى الدار إلا رجلٌ" (رجلٌ: فاعل).
ومن الجلى أن ما "يُعرب" من المستثنى "حسب موقعه" عناصر جملة أو أجزاء من عناصر جملة، وهى ليست منصوبات بل تُرفع أو تُنصب أو تُجرّ حسب موقعها، أما المستثنى المعرب المنصوب بعد "إلا" فإن من الصعب ردّه إلى عناصر الجملة رغم أنه استثناء من المستثنى منه الذى هو دائما عنصر جملة، فى مثل: "الإنسان خُلق هلوعا ... إلا المصلين" (الإنسان: نائب فاعل = المسند إليه أو الفاعل), أو "فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا فى الغابرين" (أهله أجمعين: مفعول به)، "لأغوينهم أجمعين إلا عبادَك" (هم أجمعين: مفعول به).
ولعلنا نلاحظ من جديد أن التمحور حول الإعراب هو الذى جعل النحاة يركزون على المستثنى المنصوب بدلا من تناول أسلوب الاستثناء الذى لا يمثل المستثنى المنصوب بعد أدوات الاستثناء إلا شكلا من أشكاله، وإليك بعض الأمثلة على أشكال أخرى لتحقيق أسلوب الاستثناء:
* جاءوا باستثناء شخص أو شخصين.
* عادت الطائرات من المعركة سالمة إلا أنّ إحداها لم تعد.
* حضر الجمهور إلا مَنْ كان لا يحمل بطاقة دعوة.
* جاءوا جميعا ولكن أخاهم الصغير لم يأت.
* كلهم فضلاء باستثناءات قليلة.
* لا يستقبلون أحدا إلا إذا كان من شلتهم.
وهنا كلمات هى عناصر جملة (مثل: إحداها بعد إلا أنّ، ومثل: "مَنْ" بعد إلا، ومثل: "أخاهم" بعد ولكنَّ) وكلمات أخرى ليست عناصر جملة. غير أن الأهم ليس الإعراب وليس كون المستثنى عنصر جملة فى كثير من الأمثلة، بل الاستثناء ككل، أىْ إلا أو أدوات الاستثناء الأخرى وكل ما بعدها.
وهنا نجد أنفسنا مدفوعين، بحكم الحاجة من ناحية، وبمقتضيات النحو المقارن من ناحية أخرى، إلى الاتجاه نحو عنصرىْ الجملة المرشحين لاستيعاب هذه الأوضاع النحوية، أعنى المتمم والظرف. غير أن المتمم يقتضى فاعلا يتممه أو مفعولا به مباشرا يتممه أيضا ولسنا أمام حالة كهذه ما دمنا نريد استيعاب "إلا وما بعدها" ككل. وبحساب البواقى يكون لدينا الظرف. غير أننا لا نعبث حتى نعتمد على حساب البواقى بل نبحث عن حل حقيقى. وإذا أخذنا الظرف بمفهومه المقتصر على الزمان والمكان فى نحونا فإنه لن يسعفنا مطلقا، غير أن الظرف فى كل نحو متطور لا يقتصر على الزمان والمكان بل يتسع ليشمل كل ما يجيب على مجموعة من الأسئلة التى تحيط بالفعل غير سؤال الفاعل والمفعول به والمتمم ومتى (الزمان) وأين (المكان). ونجد الظرف يمتد، إلى جانب الزمان والمكان، إلى وظائف تحديد صفة أو ظرف آخر أو فعل أو عبارة بما يفيد الكيفية أو الطريقة، أو التوكيد، أو الكمية، أو النفى، أو الشك، أو السبب، أو الهدف، أو النتيجة، أو الأداة، أو الدرجة، أو المعية، والكثير غير ذلك فى النحوين الإنجليزى والفرنسى على سبيل المثال لا الحصر. ولكن تُرى هل يكون من بينها الاستثناء؟
والحقيقة أن الاستثناء نوع من الظرف، وهو ما نجده أيضا فى النحو الإنجليزى تحت اسم ظرف الاستثناء adverbial of exception، وقد يتحقق بواسطة عبارة استثناء مجرورة prepositional phrase of exception. وأكرر أن هذا الظرف لا يخص المستثنى بل يشمل "إلا وما بعدها" ككل، وهنا تتضح طبيعة الظرف فهو عنصر لا يقع عليه الفعل (وهذا هو المفعول به) ولا يتمم الفاعل مع الفعل الرابط ولا المفعول به (وهذا ما يقوم به المتمم) بل يقول لنا (عن غير طريق تصريف الفعل فى الأزمنة) متى حدث أو يحدث أو سيحدث ذلك الفعل، أو يقدم لنا بيانات أخرى هى بمثابة إجابات عن أسئلة أخرى عن مكان حدوث الفعل، أو كيفية حدوثه (مثلا: بقوة، بوضوح، باعتدال، بصورة كاملة أو جزئية)، أو سبب أو هدف أو غاية أو نتيجة حدوثه، أو درجة حدوثه، أو وسيلة أو أداة أو آلة حدوثه، أما هنا، فى مجال الاستثناء، فإن تحديد الظرف للفعل يتمثل فى الاستثناء عليه أىْ استبعاد المستثنى عن الحكم الذى يتضمنه الفعل.

المفعول المطلق والمفعول لأجله والمفعول معه
فى ضوء المفهوم الواسع للظرف، كما تقدم، نستطيع أن نتعامل بسهولة مع هذه المفاعيل.

المفعول لأجله
هناك مثلا ظروف السبب cause أو reason أو الدافع motive والغرض أو الهدف purpose والنتيجة result (بالإنجليزية) وهى كافية لاستيعاب وتوسيع مفهوم المفعول لأجله. والمفعول لأجله كلمة أو مجموعة كلمات وظيفتها بيان سبب وقوع الفعل (والمقصود سبب الفعل أو هدفه وربما نتيجته)، مثلا: "جئتُ رغبة فى رؤيتك" أو "لرؤيتك" أو "بهدف رؤيتك" أو "لكى أراك" أو "لأننى اشتقت إلى رؤيتك"، ولا بأس بالتعبير بأىّ طريقة عن معنى هذا الظرف، ونكرر أن الظرف يضيف تحديدا من نوع ما إلى النعت أو ظرف آخر أو الفعل، والمقصود هنا هو سؤال: لماذا أو من أجل ماذا أو لأىّ غاية أو بأىّ دافع إلخ.. جرى القيام بالفعل؟ ومن الجلى أن الأشكال المتنوعة التى يتحقق بها ظرف السبب والغاية هذا تستبعد أن يكون النصب سمة ضرورية والنحو العربى ذاته يتحدث عن النصب والجر باللام.

المفعول معه

وهناك المفعول معه الذى يمكن أن نسميه أيضا ظرف المعية بمعنى "برفقة" أو "بمصاحبة" أو "بمعية" أو "مع". فإذا قلنا "استيقظتُ وطلوعَ الفجر" يقال إن "طلوعَ" مفعول معه منصوب حيث يكون المقصود هو ما فُعل الفعل بمصاحبته وليس معنى العطف (لأن طلوع الشمس لا يستيقظ معى)، فلماذا هذا الاقتصار الذى يستبعد العطف؟ لماذا استبعاد المعطوف وحرف أو أداة العطف فى مثل: "أنجزت المهمة مع محمود (أو: أنا ومحمود)"؟ من الواضح أن السبب هو البحث الإعرابىُّ التوجه عن المرفوعات والمنصوبات وغيرها كلٌّ فى بابه وليس البحث النحوى عن الظرف الدالّ على الاشتراك. ونأخذ من النحو الإنجليزى أمثلة مترجمة على هذا النوع من الظرف المسمى adverbial of accompaniment (complément d’accompagnement فى النحو الفرنسى):
أنا سعيد بمجيئك معنا (with us).
ظل محسن يرقص مع عديد من أصدقائه (with several of his friends).
الكارى مع الأرز (with rice) طبقى المفضل.
ونترجم من الفرنسية مثلا أيضا:
هو يعمل معنا (avec nous).
وعبارات ظرف المعية هى مع وما بعده من الكلمات التى تحتها خط، ولا مبرر لحصر هذا الظرف فيما لا يدل على العطف، لأن العطف الدال على الاشتراك فى القيام بالفعل هو الأولى بهذا الظرف.

المفعول المطلق

وسمة المفعول المطلق هى استخدام المصدر من لفظ الفعل المذكور معه لتوكيده (مثل: "وكلَّم الله موسى تكليما" ) أو لبيان نوعه (مثل: "فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر" ) أو لبيان عدده (مثل: "يفرح الصائم فرحتين").
وهناك حالات لا يُستخدم فيها المصدر من لفظ الفعل بل لفظ آخر للدلالة على هذه الأغراض ذاتها ويقال فى هذه الأحوال إن هذا اللفظ الآخر ينوب عن المصدر الحقيقى المعهود فى استعمال المفعول المطلق. وتكثر "التخريجات" الخاصة بهذا النائب أو ذاك عن المصدر، فهو فى أمثلة القواعد الأساسية كما يلى :
1: صفة المصدر، مثل: تتطور الحياة العصرية سريعا (أىْ تطورا سريعا) [أو: "فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا" ].
2: مرادف المصدر، مثل: فرحت جَذَلا.
3: نوع المصدر، مثل: رجع الصف القهقرى (أىْ رجوعَ القهقرى).
4: عدد المصدر، مثل: "إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" .
5: آلة المصدر، مثل: رميتُ العدوَّ قذيفةً.
6: ضمير المصدر، مثل: أقدِّر الفن تقديرا لا أقدِّره شيئا آخر.
7: الإشارة إلى المصدر، مثل: حسبى أنِّى أرعى الجميلَ هذه الرعاية.
8: لفظة "كل" أو "بعض" مضافة إلى المصدر، مثل: "فلا تميلوا كلَّ الميل" .
وتزداد هذه القائمة طولا بل تصل إلى الضعف لتصل إلى 16 "شيئا" يدل على المصدر منها 13 للنوع و 3 "للمؤكَّد" من النيابة فى تخريجات معجم الدقر حيث تُضاف هذه "الأشياء" للنوع:
1: هيئة المصدر، مثل: يموت الجاحد ميتة سوء.
2: وقت المصدر، مثل: "ليلة أرمدا" فى قول الأعشى: "ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا".
3: ما الاستفهامية، مثل: "ما تضرب الفاجر" (أىْ أىَّ ضرب تضربه) كما يقول الدقر.
4: ما الشرطية، مثل: "ما شئتَ فاجلسْ" (أىْ أىَّ جلوس شئته فاجلس)، كما يقول الدقر.
5: مرادف المصدر ، مثل: نهضت وقوفا.
وتضاف "أشياء أخرى" للمؤكَّد:
1: مرادف المصدر، مثل: فرحتُ جذلا، أو: ومقتُه حُبًّا.
2: مُلاقى المصدر فى الاشتقاق، مثل: "والله أنبتكم من الأرض نباتا"، أو: "وتبتَّلْ إليه تبتيلا"، والمصدر الحقيقى (على الترتيب): "إنباتا" و "تبتُّلا"، وليس "نباتا" و "تبتيلا".
3: اسم المصدر، مثل: أعطى عطاء، والمصدر الحقيقى: "إعطاءً".
ومن الجلى أن نقطة الانطلاق إلى فكرة المفعول المطلق هى وجود المصدر وبالأخص المصدر الحقيقى فى هذا الأسلوب، وربما كان من الممكن تسميته بالمصدر المفعول أو التوكيد إلخ.. بالمصدر. وهنا ابتعاد واضح عن التفكير فى الهدف النحوى وراء هذا الأسلوب، أىْ التوكيد وغيره، والهروب بالتالى إلى مفهوم صرفى أو معجمى. ويتضح من "النيابات" المذكورة عن المصدر أننا إزاء غرض نحوى يمكن تحقيقه بالمصدر وبأشكال أخرى، ومن هنا تأويل هذه الأشكال الأخرى بما يربطها بطريقة ما بالمصدر. وكان الأولى بالطبع بحث الأغراض النحوية أو البلاغية والمقارنة بين هذه الأغراض الأمر الذى كان من شأنه أن يوضح ما إذا كان هناك شيء جوهرى يجمع بينها وإلا كُنَّا أمام وظائف نحوية متعددة أو أشكال متنوعة لوظيفة نحوية.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالاستخدام المباشر للمصدر الحقيقى بالذات، أو ربما لأشكال مصدرية أخرى، القول بأننا إزاء شكل خاص من ظرف توكيدىّ. غير أن "التخريجات" التى نجد أنفسنا أمامها تدعو إلى التفكير فى احتمالات أخرى للوظيفة النحوية أو أشكال تحقيقها. وينطوى "كلَّم تكليما" دون شك على ظرف توكيدى، ولكن هل نجد هذا الغرض نفسه فى الأشكال الأخرى؟
ويمكن أن نجد المعنى نفسه فى "أخذ عزيز مقتدر" فهذا أيضا توكيد أو نوع من التوكيد يقوم على بيان "درجة" أو "قوة" أو "شدة" التوكيد، وهذا مألوف فى الظرف المؤكِّد أيًّا كان أسلوبه (باستخدام المصدر أو بدونه). وإذا قلنا مثلا، كأحد أمثلة المفعول المطلق المبين للنوع كما يقال، وهو المصدر الموصوف أو المضاف فى هذا الاستعمال: "نبحث بحث الدائبين" فهذا يساوى "بحثا دائبا" أو "بدأب" أو "بطريقة/بصورة دءوبة"، وعندئذ نكون أمام ظرف الطريقة أو الكيفية adverbial of manner بالمعنى المباشر دون شك. أما إضافة "يفرح الصائم فرحتين" إلى هذا الغرض بادعاء بيان العدد فلا مبرر له لأن المقصود هنا ليس بيان العدد بوصفه كذلك بل التمييز المبين لنوع هذه الفرحة أو تلك فكأننا نتحدث عن الفرح مرتين "فرحة عند فطره، وفرحة عند دخوله الجنة"، فكأنه تمييز للعدد.
غير أن المشكلة تشتد مع "تخريجات" أو "نيابات" كثيرة أخرى. وعلى سبيل المثال فإن النيابة الأولى المذكورة أعلاه تتحدث عن صفة المصدر، والشاهد: تتطور الحياة العصرية سريعا (أىْ تطورا سريعا)، غير أن إضافة كلمة "سريعا" لتحديد معنى الجملة أو لتحديد فعل "تطوَّر" بالسرعة ليس فى الحقيقة سوى ما يسمى بالحال وهو نوع من ظرف الكيفية أو الطريقة أو الهيئة، وكأننا نقول إن هذا التطور صار يتقدم "بسرعة".
وتعطينا نيابة "مرادف المصدر" صيغة "فرحتُ جَذَلا" ويجرى تعليل هذا بأن الجذل مرادف للفرح، ولكنْ أليس الأولى أن نلتفت إلى احتمال أن يكون المقصود هو التوكيد باستخدام مرادف المصدر مادام معنى المفعول لأجله مستبعدا هنا؟ ويضيف معجم الدقر غرضا يعتبره مختلفا لمرادف المصدر من خلال هذا الشاهد "نهضت وقوفا"، وماذا إنْ قلتُ: "نهضتُ واقفا" باسم الفاعل بدلا من المصدر، وهو الاستعمال الأكثر شيوعا؟، ولكنه فى الحقيقة غرض التوكيد نفسه.
أما "عدد المصدر"، وشاهده "إنْ تستغفر لهم سبعين مرة"، فلا يقدم سوى العدد وتمييزه، والتعليل هو أن الآية تتضمن معنى "سبعين استغفارا" ولا غبار على هذا غير أن هذا قد يؤدى إلى اعتبار كثرة من تمييز العدد مفعولا مطلقا دون مبرر حقيقى.
أما آلة المصدر، مثل: "رميتُ العدوَّ قذيفةً"، فقد يكون أولى بما يسمى بظرف الآلة أو الوسيلة adverbial of instrument or means، ومن أمثلته فى الإنجليزية ما تحته خط فيما ترجمته: أذهب إلى عملى "بالسيارة"، أو "دخل اللص البيت بالباب الخلفى"، أو "تلقف الكرة بيده اليسرى". ومن السهل بالطبع أن نقوم مع هذه الأمثلة بتخريجات تضمها إلى المفعول المطلق بافتراض المصادر: "ذهاب"، و "دخول"، و "تلقُّف"، على الترتيب!
وقس على هذا؛ فلا ضرورة حقيقية لأن نناقش بالتفصيل كل هذه "النيابات" التى يأتى بعضها حتى مع وجود المصدر الحقيقى مباشرة لمجرد وجود ضمير يعود على المصدر أو اسم إشارة. والأمر المهم هو أن "غربلة" المفعول المطلق و"تخريجاته" يمكن أن تقود إلى أشكال ظرفية متنوعة تنتمى إليها هذه "الأشياء".
وقد يتراكب ظرف التوكيد مع ظرف الزمان مثلا فى قولنا: "عند/أثناء البحث بحثا عميقا يتوصل المرء إلى نتائج ذات قيمة"، أو مع غير ظرف الزمان فى مثل قولنا: "فى التأمل تأمُّلا عميقا نفاذ لا يتحقق بغيره إلى أسرار الكون".

الحال بين المتمم والظرف

وننتقل إلى الحال. وينطبق على الحال ما قيل عن باقى ما يسمى بالمنصوبات من حيث إن النصب لا يمثل سمة مطلقة لها. ذلك أن الأشكال المتنوعة لتحقيق الحال، ومنها التراكيب المتعددة الكلمات مثل الجملة وشبه الجملة، كما يقال، تستبعد الإعراب مع غير الكلمة المعربة. على أن بحث النصب أو الإعراب لم يعد قضيتنا الآن، بل ينبغى أن نركز على مسألة علاقة ما يسمى بالحال مع عناصر بناء الجملة.
ويتعلق الحال بصاحب الحال ويكون هذا فاعلا أو مفعولا به وقد يجتمعان فى جملة واحدة، ومن أمثلة كتاب القواعد الأساسية :
1: صاحب الحال هو الفاعل، مثل: "سأزحف ثائرا".
2: صاحب الحال هو المفعول به، مثل: "إنَّا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا" .
3: صاحب الحال كل من الفاعل والمفعول به، مثل: "صافح اللاعبُ منافسَه متحابَّيْن" [ويمكن أن يكون صاحبا الحال فاعليْن متفاعليْن، مثل: "تصافح اللاعبان المتنافسان متحابَّيْن"].
وهناك "أنواع" الحال، أىْ: أشكال تحقيق الحال، وهى مثل "أنواع" خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها" وخبر "كان وأخواتها" وكلِّ "خبرٍ" آخر فى هذا النحو، والحال ما تحته خط:
1: حال مفردة، مثل: واجَهَ الصعابَ قويََّا.
2: حال جملة (اسمية وفعلية): اسمية، مثل: ننتصر على العدوّ ونحن يد واحدة، وفعلية، مثل: سرى الفدائىّ يتسلل نحو العدوّ.
3: حال شبه جملة (الظرف أو الجار والمجرور): ظرف، مثل: رأيتُ الطيور بين الشجر والزهر، وجار ومجرور، مثل: رأيت الطيور فى رحاب الطبيعة.
وقبل أن نلمّ بأمثلة أخرى، نعلِّق على هذه الأمثلة:
من الجلى قبل كل شيء أن تعريف الحال ينصبّ، هنا كما فى كل مكان آخر فى هذا النحو، على صاحب الحال باعتباره الفاعل أو المفعول، فلا يشمل صاحب الحال الفعل أو الجملة بكاملها. وهذا ما يُخرج الحال من المفهوم الشامل لظرف الطريقة أو الصورة أو الشكل الذى ينصبّ على الفعل باعتباره محور الجملة. وهناك، بعد ذلك، مشكلات أخرى. وإذا انتقلنا إلى أنواع الحال وجدنا أن ما يسمى بجملة الحال ليس جملة حيث يتكون من الرابط أىْ الواو و"الضمير" وما بعد كل منهما مجموعة اسمية أو فعلية لا تشكل جملة مستقلة، فالرابط الواو يجعلنا أمام جملة تابعة (غير مستقلة): ونحن يد واحدة، ومن الواضح أن واو الحال التى توصف بأنها تحمل معنى الظرفية مثل واو المعية تضعنا مع ما بعدها أمام فكرة الظرف كتفسير للحال. والرابط الضمير "الياء" هنا ليس ضميرا كما يقال بل هو بادئة من بوادئ تصريف المضارع (حروف "نأيتُ")، ولسنا على أىّ حال أمام جملة مستقلة إذ ينقصها المسند إليه: "يتسلل نحو العدوّ". والنوع الثالث حال شبه جملة، وهنا ندخل فى التباس لا مخرج منه: فالظرف "بين الشجر والزهر" خبر شبه جملة وفقا لهذا النحو (ومع الكينونة المحذوفة وفقا لنظرية متعلَّق الظرف والجار والمجرور) فلا ينبغى اعتباره حالا شبه جملة، وهنا يكون الالتباس بين الخبر والحال، وهو ظرف مكان بالذات كما يقول هذا النحو ذاته ومعنى هذا أن الحال ظرف أو ظرف أيضا، وهنا يكون الالتباس بين الظرف والحال. أما الجار والمجرور، مثل: "فى رحاب الطبيعة"، فهو هنا حال شبه جملة ولكنه أيضا خبر شبه جملة وفقا لهذا النحو (ومع المحذوف وفقا لنظرية متعلَّق الظرف والجار والمجرور)، كما أن من الضرورى دائما تحليل ما يمثله الجار والمجرور وهو هنا - فى الفضاء الفسيح لرحاب الطبيعة - ظرف مكان بالذات وليس شيئا آخر، فنحن إذن مرة أخرى أمام الالتباس بين الحال من ناحية والظرف والخبر من ناحية أخرى. غير أننا هنا مع فعل "رأيتُ"، فنحن إذن أمام التباس جديد بين الحال وما يسمى بالمفعول به الثانى مع "ظن وأخواتها"، أو بالأحرى، كما نجد هنا، مع الظرف الذى يأتى مع المفعول به المباشر فى نموذج "ظن وأخواتها" أو "أعلم وأرى وأخواتهما".
وفى أمثلة كتاب تحرير النحو العربى أيضا، نجد الظرف أو الجار والمجرور "حالا" بالمشكلات ذاتها.
وفى أمثلة الدكتور شوقى ضيف فى كتابه تجديد النحو نلقى المزيد من أسباب الالتباس بين الحال وأشياء أخرى. وهو يقدم الظرف والجار والمجرور باعتبارهما المزدوج السالف الذكر. ويتسع خرق الالتباس على الراقع عندما يُلحق الدكتور شوقى ضيف أفعال "كان وأخواتها" بالحال ، دون مبرر واضح سوى النصب، رغم الأهمية الكبرى لأفعال "كان وأخواتها" فى اللغات بوجه عام، وليس فى اللغة العربية وحدها، كأفعال تتميز بنموذج خاص جدا من الجمل. ويبدو أن أفعال "كان وأخواتها" أكثر مما تورده كتب النحو عادة ومنها على سبيل المثال، كما جاء فى معجم الدقر، ما وافق "صار" فى المعنى، ويورد هذه الأفعال العشرة: آض، رجع، عاد، استحال، قعد، حار، ارتد، تحول، غدا، راح .
وعلى هذا يمكن القول بأن الحال نوع من الظرف مع تخليص هذا الباب من كثير مما استقر فيه دون مبرر وما أضيف إليه دون مبرر أيضا. ولا شك فى أن الحل الحقيقى لمشكلة التباسات "الحال" سوف يتحقق فى سياق الغربلة النحوية المنطقية للظرف نظريا وتطبيقيا وتوسيع دائرته مع الاهتمام بصورة خاصة بظرف الطريقة ولكنْ أيضا بظرف الشرط وكل أنواع الظرف الأخرى التى تختفى الآن تحت أسماء الكثير مما يسمى بمنصوبات الأسماء. كذلك فإن متمم الفاعل قد يكون له نصيب مما يُنسب إلى الحال إذا جرى توسيع نطاق أفعال "كان وأخواتها" لتشمل عددا أوسع مما يُدْرَج تحتها الآن، على عكس اتجاه الدكتور شوقى ضيف إلى ضمّ أفعال "كان وأخواتها" إلى ما يسمى بالحال.
وبدلا من التمحور حول الإعراب والتحليل الإعرابى ينبغى أن يتجه النحو إلى البحث النحوى والمنطقى والتحليل النحوى والمنطقى. ولا أحد يعترض بطبيعة الحال على الحديث والكتابة بالإعراب، ولا أحد يعترض على تحليل كل نص عربى (مكتوب على نسق الإعراب) تحليلا لكل لفظة من حيث الإعراب والبناء مع كل تعليل منطقى سائغ من حيث الصلة بالمفاهيم النحوية المنطقية. غير أن التحليل النحوى المنطقى بالمعنى الحقيقى سيكون ثمرة رفع النحو العربى إلى مستوى طموحه وإلى مستوى طموح كل نحو متطور. ولن يكون هذا إلا بتطوير فهمنا لبناء الجملة من حيث عناصر ومكونات ووظائف هذا البناء بغضّ النظر عن الإعراب، باعتبار النحو علما يخص بناء الجملة فى كل لغة معربة أو غير معربة. وأعتقد أن البحث النحوى المقارن كفيل بأن يقنع جميع المهتمين بتطوير النحو العربى بحقيقة مفادها أن النحو واحد فى كل اللغات، وهى حقيقة وثيقة الارتباط بحقيقة اجتماعية لغوية أعمق هى وحدة الحياة البشرية ووحدة اللغات التى تعبر عنها.














16
محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة
ووزارة المعارف المصرية
لإصلاح النحو العربى فى 1945

لن يفوتنى، ونحن نتجه إلى نهاية هذا الكتاب، أن أقف هنا - وقفة متأنية قدر الإمكان - عند أهم وأنضج محاولة لإصلاح وتيسير النحو العربى فى العصر الحديث؛ أعنى محاولة وزارة المعارف المصرية (وزارة التربية بعد حركة 1952) منذ 1938 ومجمع اللغة العربية فى دورته الحادية عشرة فى 1945 .
وكان كتاب "تحرير النحو العربى: قواعد النحو العربى مع التيسير الذى قرره مجمع اللغة العربية بالقاهرة"، الصادر عن دار المعارف فى 1958، أنضج ثمرة لتلك المحاولة، جنبا إلى جنب مع قرارات المجمع بهذا الشأن.
ونقرأ فى تقديم ذلك الكتاب ما يلى:
لقد اتصلت المحاولات، وألفت وزارة "المعارف" المصرية – التربية الآن – سنة 1938 لجنة من كبار الأساتذة فى الجامعة وفى وزارة "المعارف" لتبحث وسائل التيسير فى تعليم القواعد العربية، وأدت اللجنة عملها وقدمت تقريرها ونحت فيه وجهة جديدة ببعض الاصطلاحات النحوية، وفى ترتيب القواعد وتقسيم الأبواب – أعفت التلميذ مما كان يسمى بالإعراب التقديرى والمحلى، وكان تعليمه زيادة من غير فائدة فى ضبط لفظ أو تقويم لسان، وقللت الأبواب فجعلت المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل بابا واحدا أسمته المسند إليه، كما سماه علماء البلاغة والمتقدمون من النحويين، وتوصلت بذلك إلى قدر من التيسير .
ويواصل التقديم موضحا الجديد فى هذه المحاولة:
وكان الإصلاح متجها من قبل إلى تلخيص القواعد، وتخليصها من التطويل أو الجدل، أو طريقة عرضها أو وسائل توضيحها، وفى هذه المحاولة اتجه الإصلاح إلى ذات القواعد، ولم ينكل عن تغيير فى ترتيبها على شرط ألا يمس ذلك التعديل شيئا من جوهر اللغة ولا أصلا من أصولها، أو يبدل حكما من أحكامها .
ويروى التقديم مسار الصعود المتردد المتعثر لتلك المحاولة:
وأُرسل هذا التقرير إلى الجهات التى تعنى بدراسة القواعد لترى فيه رأيها، وقد درسته جهات تعليمية وأخذت ببعض ما فيه، ودرسه مجمع اللغة العربية بمصر، وناقشه فى مؤتمره الذى عقد فى سنة 1945 وأقرّ ما أقرّ منه، وآن أن يتخذ طريقه إلى التعميم ويستفيد منه المتعلمون، ولكن تنفيذه كان يثير بعض التردد والخشية، فإن الرجوع عن المألوف أمر غير يسير، شديد على من تلقنه ودرسه ثم لقنه، أن يعدل عنه وقد صار جزءا من آرائه ومددا لتفكيره .
ويواصل:
وقد أحست اللجنة ذلك منذ تقدمت بما اقترحت. جاء فى تقريرها: "ومهما يكن ظننا حسنا بهذا الإصلاح الذى نقترحه فإننا نريد أن تتأنى الوزارة فى الأخذ به وأن تهيئ لذلك أسبابه. وأيسر هذه الأسباب أن يتعوده المعلِّمون، وألا يقبلوا على تعليمه إلا بعد أن يثقفوه ويسيغوه ويتمثلوه" .
ويضيف:
وقفت هذه الصعوبة فى سبيل تنفيذ هذا الإصلاح أكثر من عشر سنوات، إلى أن جاءت الثورة المصرية سنة 1952 .
ويلخص التقديم القصة اللاحقة لنجاح المحاولة، فيشير إلى عقد مؤتمر بالقاهرة خلال الفترة 1-12 يونيو سنة 1957 حضره الأساتذة مفتشو اللغة العربية بالمرحلة الإعدادية "تناقش فيه السادة المفتشون ومن اختير معهم من الأساتذة، وتداولوا درس هذه الاقتراحات وسبيل تنفيذها، واتخذ المؤتمر فى ذلك قراراته" . ثم أقيم مؤتمر جمع المدرسين الأوائل فى هذه المدارس وقرر ارتياحه للمنهج الجديد ورغبته فى إنجازه .
وعلى هذا يقدم الكتاب نفسه بقوله:
أُلِّف هذا الكتاب الذى نقدمه الآن ليكون مرجعا قريبا للمعلم، يجمع تلخيص قواعد النحو، ويشمل ما أقرّ من اقتراحات الإصلاح والتيسير.
وإنا لنرجو أن يكون عملا متصلا فى سبيل "تحرير النحو" وتجديده، ولذلك سميناه "تحرير النحو العربى" .
ونعلم جميعا أن هذه المحاولة التاريخية، التى كانت أهم وأنضج محاولة من نوعها، انتهت إلى الفشل الذريع. وهو فشل يرجع من ناحية إلى عيوبها ونقاط ضعفها التى تتلخص فى أنها لم تكن بالعمق والنضج الكافيين، ويرجع من ناحية أخرى إلى نفوذ القوى المعادية لكل تجديد للنحو العربى، فى مصر والعالم العربى، فى تلك الفترة (وليس فيها وحدها بالطبع).
على أن ذلك الفشل طوال نصف قرن لا يعنى الفشل إلى الأبد، ذلك أن إحياء وتطوير تلك المحاولة يظلان قضية من قضايا تطور اللغة العربية، كما يتدخل الآن عامل جديد يتمثل فى أن اللغة التى لا يتطور نحوها بالقدر الكافى للوفاء بمتطلبات ومقتضيات عصر علم وتقنية معالجة المعلومات آليا لن تكون قادرة على مجرد البقاء. ولا شك فى أن أىّ محاولة جديدة لتطوير النحو العربى سيكون عليها أن تستفيد من نقاط قوة تلك المحاولة البالغة الأهمية، وأن توجِّه النقد العميق الحاسم إلى نقاط ضعفها التى ساعدت على فشلها وضربها وإجبار المجمع ووزارة التربية والتعليم على إهمالها أو التخلى عنها أو التنصل منها.
وعلى هذا نعود الآن إلى تقرير لجنة وزارة المعارف المصرية، وإلى قرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم إلى كتاب تحرير النحو العربى، لنقف على الأفكار والتطبيقات الأساسية لمحاولة إصلاح وتيسير النحو العربى، وهذا الأخير هو الذى يهمنا هنا، ولهذا سنكتفى باستعراض ومناقشة ما يخص النحو وحده دون الصرف والبلاغة فهذان الأخيران لا يدخلان فى موضوع هذا الكتاب.
وكان حضرة صاحب المعالى بهى الدين بركات باشا، وزير المعارف المصرية، قد أصدر فى 1938 قرارا بتأليف "لجنة مهمتها البحث فى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة" ... "وقد اتصلت اجتماعات اللجنة للنهوض بهذه المهمة" وانتهت إلى "طائفة من الاقتراحات" رفعتها إلى الوزارة "لا على أنها المثل الأعلى لما ينبغى الوصول إليه من تيسير النحو والبلاغة، بل على أنها خطوة معتدلة موفقة فى سبيل هذا التيسير قد تتاح بعدها خطوات أدنى إلى التوفيق وأقرب إلى الكمال". ثم عرضت الوزارة تقرير اللجنة على المجمع، و"عقدت لجنة تيسير القواعد المتفرعة من لجنة الأصول بالمجمع عدة اجتماعات للبحث فى هذا التقرير" ، وقدمت مقترحاتها إلى مؤتمر المجمع (الدورة الحادية عشرة المنعقدة فى الفترة من 23 من نوفمبر سنة 1944 إلى 28 من مايو سنة 1945)، فأقرها مؤتمر المجمع مع إدخال بعض التعديل .
وكانت لجنة وزارة المعارف تتألف من: الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب، والأستاذ أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب، والأستاذ على الجارم مفتش أول اللغة العربية، والأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم المفتش بالوزارة، والأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ المساعد بكلية الآداب، والأستاذ عبد المجيد الشافعى الأستاذ بدار العلوم. وجدير بالذكر أيضا أن كتاب تحرير النحو العربى كان من تأليف الأساتذة: إبراهيم مصطفى، ومحمد أحمد برانق، ومحمد أحمد المرشدى، ويوسف خليفة نصر، والدكتور عبد الفتاح شلبى، ومحمد محمود رضوان، والدكتور محمود رشدى خاطر، ومحمد شفيق عطا .
وتوضح ديباجة تقرير اللجنة الوزارية الإطار العام الذى التزمت به والنهج العام الذى اتبعته:
وقد شرط علينا فى القرار الوزارى وشرطنا نحن على أنفسنا ألا ينتهى بنا حب التيسير إلى أن نمس من قريب أو بعيد أصلا من أصول اللغة أو شكلا من أشكالها، وإنما أخذنا أنفسنا بتيسير القواعد والأصول بحيث نقرِّبها من العقل الحديث (...) فلن يكون من نتائج التيسير أن يتغير وضع من أوضاع اللغة، أو يلغى أسلوب من أساليبها أو يهمل استعمال من استعمالاتها (...) بل حرصنا على أكثر من هذا فأخذنا أنفسنا بألا نعدل عن القديم لأنه قديم، وبألا نغير فيما اتفق عليه النحاة من القوعد والأصول إلا بمقدار، حين لا يكون من هذا التغيير بد، وقد اجتهدنا فى أن نتلمس من مذاهب النحاة القدماء ما عسى أن يكون أقرب إلى العقل الحديث وأيسر على الناشئين فنأخذ به ونضعه مكان المذهب المشهور الذى قد يجد المعلمون والمتعلمون فيه من الجهد والمشقة ما يمكن أن يتخفف منه دون أن ينشأ عن ذلك شر قليل أو كثير .
ويلاحظ التقرير "أن أهم ما يعسر النحو على المعلمين والمتعلمين ثلاثة أشياء": 1: "فلسفة حملت القدماء" على الإسراف "فى الافتراض والتعليل" 2: "إسراف فى القواعد" وبالتالى "فى الاصطلاحات" 3: "إمعان فى التعمق العلمى باعد بين النحو والأدب". ويؤكد التقرير أن اللجنة حاولت تخليص النحو من هذه العيوب الثلاثة .
وقد أصابت اللجنة عندما التزمت بألا تمس أصول اللغة وأشكالها وأساليبها بحال من الأحوال، غير أن عدم تغيير "ما اتفق عليه النحاة من القواعد والأصول إلا بمقدار" يوحى بأن اللجنة تنظر إلى أقوال النحاة وكأنها من أصول اللغة، وهذا ما يوحى به أيضا تحديدها لمهمتها على أنها "تيسير القواعد والأصول". وكان ينبغى أن تميز اللجنة بوضوح بين قواعد أو أصول اللغة وقواعد نحو النحاة، فلا أحد من حقه أن يمس اللغة إلا الجماعة الناطقة بها وبصورة جمعية، أما نحو النحاة اتفقوا أو لم يتفقوا فمجال مفتوح دوما للبحث والاجتهاد والتغيير والإلغاء. وإذا كانت اللجنة قد جعلت ذلك النحو مجالا مفتوحا بالفعل لكل هذا، وإلا لما استطاعت أن تقوم بهذه المحاولة التاريخية للإصلاح والتيسير، فإن من الجائز أن هذه التصورات "المعتدلة" عن "التيسير" وعدم تغيير ما اتفق عليه النحاة "إلا بمقدار" وما إلى ذلك أغلقت آفاقا ربما كانت رحبة أمام تلك المحاولة لتطوير النحو العربى بما أدى فى النهاية إلى المزيد من نقاط الضعف وإلى ضرب المحاولة من داخلها الأمر الذى ساعد خصومها على ضربها من خارجها.
وقبل أن نقف عند الجانب الأكثر أهمية بين اقتراحات اللجنة الوزارية وقرارات المجمع، ونقصد به الإصلاح النحوى للجملة، والذى ينطوى أيضا على أبرز نقاط ضعف تلك المحاولة فى مجال النحو كما فى مجال الإعراب، نشير بسرعة إلى بعض الجوانب الأخرى.
وينص القرار (3) من قرارات المجمع على أن "يبقى التقسيم للكلمة وهو أنها اسم أو فعل أو حرف" . والحقيقة أن هذا التقسيم يُعَدّ من نقاط ضعف النحو العربى والمعجم العربى، كما أشرنا غير مرة، ولهذا فإن من المؤسف أن تخلو هذه المحاولة الكبرى للإصلاح من أىّ إصلاح لهذه النقطة.
أما الإعراب المحلى والإعراب التقديرى فترى اللجنة الوزارية "وجوب الاستغناء" عنهما ، وينص القرار (4) على ذلك . وقد ناقشنا رأى اللجنة الوزارية وقرار المجمع بشأن هذه النقطة فى فصل سابق (الفصل 14 حول الإعرابين المحلى والتقديرى).
وترى اللجنة الوزارية اعتبار كل علامة من علامات الإعراب أصلية فى موضعها بلا تمييز بين علامات (حركات) أصلية وعلامات فرعية وبلا حديث عن نيابة علامة فرعية (حركات أو حروف) عن علامة (حركة) أصلية ، وينص قرار المجمع (5) على ذلك . ويؤيد كاتب هذه السطور هذا الرأى بلا تحفظ.
وينص القرار (6) على ما يلى:
يُقتصر على ألقاب الإعراب ولا يكلف الناشئ بيان حركة المبنى أو سكونه، سواء أكان له محل أم لم يكن، اكتفاء بأن المبنى يلزم آخره حركة واحدة، ولا يكلف الطالب عند تحليل جملة بها كلمة مبنية ذات محل إلا أن يقول إنها مبنية وإن محلها كذا ... .
والمقصود بالمحل هو بالطبع المحل من الإعراب (الرفع، النصب، الجر، الجزم). وهذا شكل من أشكال التورط فى الإعراب المحلى للمبنيات، ومن ناحية أخرى فإن التخفف من الصيغ المألوفة فى الإعراب أو الإقلاع عنها لا يعنى أن هناك ما يمكن أن نأخذه على بيان حركة آخر الكلمة المبنية فلا غبار على مثل هذا البيان.
والحقيقة أن تناول تقرير اللجنة الوزارية لهذه النقطة مضطرب بعض الشيء فهو يشير إلى الرفع والنصب والجر والجزم باعتبار أن النحاة جعلوها ألقابا لحركات الإعراب وإلى الضم والفتح والكسر والسكون باعتبار أن النحاة جعلوها ألقابا لحركات البناء. وعلى هذا يعرب النحاة المعرب مرفوعا أو منصوبا على حين يعربون المبنى مضموما أو مفتوحا. وترى اللجنة الوزارية أن "هذه التفرقة دعتهم إليها الدقة بل الإفراط فى الدقة والسخاء فى الاصطلاحين"، وعلى هذا "ترى اللجنة أن يكون لكل حركة لقب واحد فى الإعراب وفى البناء وأن يكتفى بألقاب البناء" . وهذا رأى غريب حقا. إذ كيف يمكن أن يكون الرفع ملائما للمبنى مع أن الرفع إعراب والإعراب يخص المعرَب وحده؟ وكيف يمكن أن يتفق هذا مع إلغاء الإعراب المحلى للمبنيات؟ وكيف يمكن الاكتفاء بألقاب الإعراب مثل الضم فيما يتعلق بالمعرب أيضا، على حين أن المعرب يرفع بالضمة وبغيرها؟ وكيف يمكن وصف الرفع والنصب والجر والجزم بأنها حركات الإعراب مع أنها أحوال أو أنواع الإعراب ولكل حالة أو نوع علاماته من حركات وغيرها؟!
وننتقل الآن إلى أعظم إنجازات لجنة وزارة المعارف المصرية ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، ويتمثل هذا الإنجاز المتعدد الجوانب والبعيد المدى فى نتائجه النحوية والإعرابية فى الرأى أو الاقتراح أو القرار الخاص بالجملة و"أجزاء" الجملة.
إننا نجد أنفسنا إزاء أمرين من شأنهما معا إحداث انقلاب كبير إلى الأمام فى النحو العربى:
الأول: إحلال مفهوم الجملة العربية الواحدة محل مفهوم الجملتين الاسمية والفعلية.
الثانى: إحلال المسند إليه والمسند محل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء؛ حيث يحل المسند محل الخبر بكل أنواعه وكذلك محل فعل الجملة الفعلية. فيما يحل المسند إليه محل باقى تلك المرفوعات أىْ: محل كل من مبتدأ الجملة الاسمية وبالتالى محل اسم إن وأخواتها واسم كان وأخواتها وأسماء أفعال المقاربة والرجاء والشروع كما يحل محل فاعل الجملة الفعلية ومحل نائب الفاعل (أىْ فاعل الفعل المبنى للمجهول أو المفعول). ومعنى هذا أن قرار المجمع يلغى نهائيا قاعدة الفعل الذى يتقدم فاعله وقاعدة الفعل الذى يتأخر عن المبتدأ وجوبا؛ ومن الجلى أن هاتين القاعدتين تمثلان محور أو عمود النحو العربى التقليدى، أىْ نحو النحاة أو النحويين أو النحو الوضعى أو النحو العلمى إنْ شئت النسبة إلى علم النحو العربى.
وبدون تعليل أو تفسير أو تفصيل (وهذا عيب جوهرى فى هذه المحاولة من أولها إلى آخرها)، يجرى الحديث عن الجملة دون إشارة إلى الجملتين الاسمية والفعلية على الإطلاق، أىْ أنه لم يجر النص المباشر على إلغاء هذا الازدواج رغم الإلغاء العملى.
وفى رأى اللجنة الوزارية "تتألف الجملة من جزأين أساسيين ومن تكملة" وقد استعرضت اللجنة الوزارية تسميات أو أسماء متعددة للجزأين الأساسيين وهى: 1: المسند إليه والمسند 2: الموضوع والمحمول 3: الأساس والبناء 4: المحدَّث عنه والحديث. وفضلت هذه اللجنة تسمية الموضوع والمحمول كما اصطلح علماء المنطق . وينص القرار (6) من قرارات المجمع على ما يلى: "يسمى ركنا الجملة بالمسند إليه والمسند" ، كما ينص القرار (11) على أن "كل ما ذُكر فى الجملة غير المسند إليه والمسند فهو تكملة" .
هناك إذن جملة عربية واحدة مرنة فى الترتيب محل الجملتين الاسمية والفعلية المزعومتين فى النحو العربى التقليدى. ومحل الركنين الأساسيين للجملة الاسمية (المبتدأ والخبر) والركنين الأساسيين للجملة الفعلية (الفعل والفاعل) يحل المسند إليه والمسند.
على أنه لا جديد فى المسند إليه والمسند فى النحو العربى فهما موجودان منذ القديم. وإنما يتمثل الجديد فى هذه المحاولة فى إحلالهما محل كل ما يسمى بمرفوعات الأسماء بدلا من تهميشهما كما كان الحال فى النحو العربى التقليدى على مر القرون، كما يتمثل الجديد فى أن هذا الإحلال (بدلا من التهميش) قد ألغى (بصورة آلية مباشرة) التقسيم التقليدى للجملة إلى اسمية وفعلية، كما ألغى اعتبار الفعل اللاحق "للمبتدأ" جملة، إلى جانب الكثير من النتائج النحوية والإعرابية.
على أننا نلاحظ أن المسند إليه والمسند يجرى تقديمهما على أنهما ركنان أساسيان فليسا ركنين وحيدين كما كان ينبغى، وقد أشرنا غير مرة فى سياق هذا الكتاب إلى أن المسند إليه والمسند هما الركنان الوحيدان وليس فى الجملة كلمة واحدة خارج هذين الركنين. وتماما كما يميز النحو العربى التقليدى فى الجملتين الاسمية والفعلية بين ركنين أساسيين وفضلة، تميز هذه المحاولة الوزارية المجمعية فى الجملة العربية الواحدة بين ركنين أساسيين وتكملة. وبدلا من النظر إلى هذه الأخيرة ("التكملة") على أنها جزء لا يتجزأ من المسند، وعلى أنها ليست تكملة بحال من الأحوال إذ تقتضيها نماذج للجملة كعناصر أساسية لا تستغنى عنها كنماذج، كما يقتضيها ولا يستغنى عنها معنى الجملة.
ويكشف مفهوم التكملة (أو الفضلة) عن وجود اضطراب تعانى منه هذه المحاولة الوزارية المجمعية للإصلاح والتيسير فى مفهوم المسند (الخبر) الذى ينبغى أن يستوعب كافة عناصر ومكونات الجملة باستثناء المسند إليه، كما يتجلى الاضطراب الذى تعانى منه هذه المحاولة فى مفهوم المسند فى أشياء أخرى سنشير إليها الآن.
فالمسند، وفقا لتقرير اللجنة الوزارية، "يكون اسما فيُضم إلا إذا وقع مع كان أو إحدى أخواتها فيُفتح"، و"يكون ظرفا فيُفتح"، و"يكون فعلا أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة ويُكتفى فى إعرابه ببيان أنه محمول". ومعنى هذا أن المسند لا يختلف فى هذه المحاولة عن الخبر فى النحو العربى التقليدى إلا فى الفعل الذى يسبق المسند إليه أما الأنواع الأخرى للمسند أو الخبر فتوصف نفس الوصف. فهى كما نفهم من أحواله المذكورة ما يسمى بالخبرالمفرد (خبر المبتدأ، خبر إن وأخواتها، خبر كان وأخواتها) أو الخبر شبه الجملة من ظرف أو جار ومجرور أو الخبر الفعل (مع الكف عن اعتبار الفعل جملة مع فاعله المزعوم المتمثل فى الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل) أو الخبر الجملة التى تأتى بعد ما تسميه هذه المحاولة بالمسند إليه (وهو المبتدأ الأول فى النحو العربى التقليدى) قبل مسند إليه آخر فى جملة الخبر.
ويرجع التقدم فى مفهوم المسند فى هذه المحاولة إلى مرونة ترتيب ركنى الجملة بحيث يكون الفعل السابق للمسند إليه مسندا، وبحيث يُلْغَى الفاعل الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل بعد الفعل التالى "للمبتدأ"، وبالتالى لم يَعُدْ مثل هذا الفعل مع فاعله المزعوم جملة فعلية خبرا للمبتدأ بل صار فعلا ليس غير. وبالطبع فإن هذا الفعل السابق أو اللاحق للمسند إليه لا يكون وحده المسند إلا إنْ كان وحده مع المسند إليه وإلا فإنه يشكل المسند مع كل الكلمات أو العناصر الأخرى التى قد تأتى فى الجملة غير المسند إليه.
وإلى جانب مرونة ترتيب ركنىْ الجملة (المسند إليه والمسند) استند هذا التقدم فى مفهوم المسند إليه إلى رأى اللجنة الوزارية الداعى إلى إلغاء "الضمير المستتر جوازا أو وجوبا" ، وهو ما أيده القرار (9) من قرارات المجمع الذى قال: "أما الضمائر المستترة وجوبا أو جوازا فمصروف عنها النظر" . وعلى هذا ينص القرار (10) على ما يلى: "يُستغنى عن النص على العائد فى نحو "الذى اجتهد يكافأ" فيقال فى إعرابه: الذى اسم موصول مسند إليه واجتهد ماضى الغائب صلة؛ ويكافأ صيغة مضارع مبنى للمجهول للغائب مسند" . ولا يلاحظ القرار أن "الذى اجتهد" من اسم موصول وصلة هو المسند إليه. ولا مكان بالطبع للحديث عن الاستغناء عن "الضمير" العائد بعد إلغاء مفهوم الضمير المستتر و مفهوم ضمير الرفع البارز المتصل.
كما استند هذا التقدم إلى رأى اللجنة الوزارية فيما يتعلق بضمائر الرفع المتصلة البارزة (رغم اضطرابه)، وإلى قرار المجمع بهذا الشأن. وتدعو اللجنة المذكورة إلى "اعتبار إشارات العدد علامات لا ضمائر" على مذهب الإمام المازنى. ولكنها تعتبر أن "الضمير موضوع والفعل قبله محمول" فى "غير الدالّ على العدد مثل (قمتُ) أو (قمتَ) أو(قمتم)" ... و"إذا ذكر مع المتصل ضمير منفصل فهو تقوية له (قمت أنا) و (أنا قمت)" .
وهذا التمييز ضمن ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة بين علامات أو إشارات تدل على العدد فلا تُعَدّ ضمائر، وضمائر لا تدل على العدد، لا أساس له فى الحقيقة. فهذه الضمائر المزعومة جميعا نهايات لتصريف الأفعال أىْ مثل النهايات endings فى الإنجليزية و terminaisons فى الفرنسية ولم يقل أحد بأن هذه النهايات ضمائر رغم علاقتها بالضمائر من حيث دلالتها على الشخص person والعدد والنوع أىْ من حيث دلالتها على الضمير الذى تم تصريف الفعل معه كما فى كل اللغات. أما ضمائر الرفع الوحيدة أو بالأحرى ضمائر المسند إليه فهى المنفصلة ولهذا فالمسند إليه فى (قمتُ أنا) أو (أنا قمتُ) هو "أنا" وهذا الأخير ليس تقوية أىْ ليس للتأكيد. أما مع الفعل المصرف بدون ضمير (منفصل بالطبع) مثل (قمتُ) أو (قمتَ) أو (قمتم) أو (قاموا) فالمسند إليه محذوف كجزء من ظاهرة الحذف المعروفة فى لغات عديدة (مثلا: الحذف شبه الكامل لضمائر المسند إليه فى تصريف الأفعال فى اللغة الإسپانية) وفيما يتعلق بعناصر جملة عديدة. والقرار (9) للمجمع أدقّ من تقرير اللجنة الوزارية إذ يعتبر أن ضمائر الرفع البارزة المتصلة "لا محل لاعتبارها ضمائر عند الإعراب وإنما هى فى الضمائر البارزة حروف دالة على نوع المسند إليه أو عدده" . والأدقّ اعتبار ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة دون تردد نهايات لتصريف الأفعال كما سبق القول، وهو يعتبر "أنا" فى (أنا قمت) المسند إليه ، وهذا صحيح تماما، كما أنه تصحيح مباشر لما جاء فى تقرير اللجنة الوزارية بهذا الشأن.
ونجد أن مفهوم المسند لم يتغير فى هذه المحاولة إلا قليلا بالمقارنة مع نحونا التقليدى بأنواعه الثلاثة الشهيرة للخبر. وقد أثبتنا بالتفصيل أن المسند (الخبر) هو كل شيء فى الجملة ما عدا المسند إليه، وأن ما يسمى بالخبر المفرد أو الخبر شبه الجملة من ظرف أو جار ومجرور أو الخبر الجملة الاسمية الخالية من كل فعل ظاهر لا يمكن اعتباره خبرا إلا مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت فى مثل هذه الجمل مع أىّ عناصر كلمات أخرى قد تشتمل عليها الجملة غير المسند إليه.
وبطبيعة الحال فإن حذف المضارع المثبت لفعل الكينونة (فى حالة الكون العام) يرتبط بما يرفض تقرير اللجنة الوزارية تقديره تحت عنوان: "متعلَّق الظرف وحروف الإضافة" وهو يشير إلى حديث النحاة عن "متعلَّق عام كمتعلق (زيد عندك أو فى الدار) ويقدرونه (كائن أو استقر) وهو عندهم واجب الحذف، ويعربونه خبرا" ويضيف: "وترى اللجنة أن المتعلَّق العام لا يقدَّر، وأن المحمول فى مثل (زيد عندك أو فى الدار) هو الظرف". كما يشير التقرير إلى حديث النحاة عن "متعلَّق خاص – ولا يُفهم من الكلام إذا حُذف منه مثل (أنا واثق بك) والخبر هو المتعلَّق والظرف فضلة"، ويقول عنه: "أما النوع الثانى فهو كما قرر النحاة المتعلَّق هو المحمول والظرف تكملة" . وكان هذا الموقف من "المتعلَّق" على كل حال وثيق الصلة بحقيقة أن المحاولة لم توفَّق فى التوصل إلى مفهوم سليم عن المسند (الخبر)، ذلك أن التقرير لا يوضح الرأى المبدئى فى "المتعلَّق" بل يكتفى بأنه " يُقدَّر" ولا ينتبه إلى أهمية امتداد مفهوم المتعلَّق إلى ما يسمى بالخبر المفرد ("واثق")، ويتشبث بالتالى بمفهوم عفا عليه الزمن للمسند (الخبر). أما القرار (8) للمجمع فينص على ما يلى:
يجب إرشاد المبتدئين إلى أن المتعلَّق العام للظروف والجار والمجرور فى نحو:
"زيد فى الدار" و "زيد عندك" محذوف وإنْ كانوا لا يكلفون كل مرة تقديره عند الإعراب، بل يُقبل منهم تخفيفا عنهم أن يقولوا فى إعراب "زيد فى الدار" فى الدار جار ومجرور مسند .
ومن الواضح أن قرار المجمع مصيب فى التمسك بمفهوم المتعلَّق ("العام") وبفكرة أنه "محذوف" وإنْ كان يُعفى "المبتدئين" من "تقديره" … "كل مرة" … "تخفيفا عنهم" غير أنه يذهب إلى حد اعتبار الجار والمجرور "فى الدار" مسندا، بالإضافة إلى أنه لا يفكر فى امتداد المتعلَّق إلى ما يسمى بالخبر المفرد مثل ("واثق") فى تقرير اللجنة الوزارية. وهكذا تخضع مفاهيم نحوية حاسمة كالمسند إلى التخفيف والإسراف فى التخفيف بدلا من البحث عن الصحيح والسليم والصواب أولا وقبل كل شيء، كما ينبغى أن نلاحظ كثرة حديث مقترحات اللجنة الوزارية وقرارات المجمع عن الإعراب بدلا من الحديث عن التحليل النحوى وفى مواضع لا علاقة لها بالإعراب.
وفى مجال الإعراب نفسه تقول مقترحات اللجنة الوزارية: "فالموضوع مضموم دائما إلا أن يقع بعد أن أو إحدى أخواتها"، أما المحمول فيكون اسما مضموما إلا مع كان وأخواتها فيُفتح، ويكون ظرفا فيُفتح، و "يكون فعلا أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة ويُكتفى فى إعرابه ببيان أنه محمول" . وتضيف المقترحات: "كل ما يُذكر فى الجملة غير الموضوع والمحمول فهو تكملة، وحكم التكملة أنها مفتوحة أبدا، إلا إذا كانت مضافا إليها أو مسبوقة بحرف إضافة" . ومن الواضح أن اللجنة الوزارية تتفادى مصطلحات الرفع والنصب والجر بعد أن قالت بتوحيد ألقاب الإعراب والبناء والأخذ بألقاب البناء. ويأتى التصويب من المجمع. وينص القرار (11) على ما يلى:
كل ما ذكر فى الجملة غير المسند إليه والمسند فهو تكملة منصوب على اختلاف علامات النصب إلا إذا كان مضافا إليه أو مسبوقا بحرف جر أو تابعا من التوابع
ونحن هنا إزاء مجموعة من القواعد الإعرابية تتلخص فى أن:
1: المسند إليه: مرفوع إلا إنْ كان منصوبا بعد "إن وأخواتها".
2: المسند:
أ: مرفوع إذا كان اسما.
ب: منصوب إذا كان اسما مع كان وأخواتها.
ج: منصوب إذا كان ظرفا.
د: فعل أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة.
3: التكملة: منصوب إلا إذا كان مضافا إليه أو مسبوقا بحرف جر أو تابعا من التوابع.
ومن الواضح أن هذه المجموعة من القواعد الإعرابية مليئة بالثغرات والعيوب ونقاط الضعف.
ونبدأ بالمسند إليه.
وينبغى أن نقول إن المسند إليه مرفوع إنْ لم يسبقه ناصب أو جار. والمقصود أن المسند إليه قد يكون منصوبا بعد أدوات نصب "الأسماء" ("إن وأخواتها")، وقد يكون مفعولا به لفعل سابق على الإسناد إليه، وقد يكون مجرورا بعد حرف جر أو مضاف.
كما ينبغى أن نضيف أن هذا الرفع للمسند إليه إنما يكون إذا تحقق المسند إليه بكلمة واحدة أو بمجموعة كلمات تأخذ إحداها الرفع، وأن الرفع غير وارد إذا كان المسند إليه غير معرب (أىْ مبنيا) أو خارج مسألة الإعراب كالمصدر المؤول أو التراكيب المتعددة الكلمات من غير التى تأخذ إحدى كلماتها الرفع.
كما ينبغى أن نؤكد أن هذا ينطبق أيضا على ما يمكن أن نسميه بالشبيه بالمسند إليه (المبتدأ الأول فى النحو التقليدى) والذى قد يأتى:
1: مضافا إليه لمضاف لاحق هو المسند الحقيقى مثل المرأة فى: (المرأة يكثر أنصارها = يكثر أنصار المرأة).
2: مضافا إليه لمضاف مفعول به لاحق، مثل: النخل فى: (النخل نأكل ثمره = نأكل ثمر النخل).
3: مجرورا لحرف جر لاحق، مثل القمح فى (القمح يتغذى عليه الناس = يتغذى الناس على القمح).
4: مفعولا به لفعل لاحق، مثل المرأة فى (المرأة يناصرها الكثيرون = يناصر الكثيرون المرأة).
فهذا الشبيه بالمسند إليه يرفع وينصب ويجر مثل المسند إليه.
وإذا انتقلنا إلى المسند (الخبر) نجد أن غياب مفهوم سليم عنه فى هذه المحاولة للإصلاح والتيسير يجعله ويجعل إعرابه غامضا ملتبسا.
وكما هو واضح من استعراض إعراب المسند أعلاه نجد أن هذه المحاولة تقر بأنواع الخبر كما هى فى النحو العربى التقليدى. فالمسند فى هذه المحاولة هو:
1: ما يسمى بالخبر المفرد، وهو:
أ: خبر المبتدأ وخبر "إن وأخواتها: وهو مرفوع".
ب: خبر "كان وأخواتها": وهو منصوب.
2: ما يسمى بالخبر شبه الجملة، ويكون:
أ: ظرفا: وهو منصوب.
ب: جارا ومجرورا: ("مع حرف من حروف الإضافة").
3: الفعل: وهو ما يسمى بالخبر الجملة الفعلية فى النحو العربى التقليدى.
4: الخبر الجملة: وهو الخبر الجملة الاسمية فى النحو العربى التقليدى غيرأنه صار جملة بلا نعوت، وهى تختلف عن الخبر الفعل فى أن وجود مسندين إليهما حيث يكون إسناد الفعل الظاهر (أو "المحذوف") إلى المسند إليه الثانى.
وقد رأينا غير مرة أن المسند (الخبر) هو كل ما فى الجملة غير المسند إليه، وأن حده الأدنى هو الفعل، وأن الفعل ظاهر إلا فى حالة واحدة من فعل واحد هو فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت. وعلى هذا فإن المسند يكون (مع تفاصيل مهمة يمكن أن يراجعها القارئ فى الفصول الثلاثة المخصصة لمناقشة المسند أو الخبر فى هذا الكتاب):
1: الفعل من أفعال كان وأخواتها مع متمم الفاعل (صفة أو اسم) أو الظرف (ظرف المكان فى المحل الأول ولكنْ ظرف الزمان أيضا)، ويسقط هذا الفعل فى حالة الكون العام ليبقى ما يسمى بالخبر المفرد.
2: الفعل اللازم أو المستخدم لازما (وهو الحد الأدنى لعناصر الخبر).
3: خبر ما يسمى بالمبتدأ الثانى (وهو المسند إليه الحقيقى) فيما يسمى بالخبر الجملة الاسمية، وهذه ليست جملة مستقلة بمعنى الكلمة لأنها لا تعطى معنى مفيدا بدون ما يسمى بالمبتدأ الأول الذى ترتبط به بضمير.
4: الفعل المتعدى مع المفعول به. غير أن الفعل المتعدى يضيف نماذج متعددة لأنه يتعدى إلى مفعول به أو مفعولين ولأن المفعول به المباشر قد يكون وحده أو مع متمم للمفعول به أو مع ظرف.
ولهذا فإن من الخطأ التسليم بأنواع الخبر كما حددها النحو العربى التقليدى، فليس كل نوع مما يسمى بأنواع الخبر فى ذلك النحو خبرا بالمعنى الصحيح.
ذلك أن ما يسمى بالخبر المفرد هو متمم المسند إليه (متمم الفاعل) وهو (إنْ كان معربا) مرفوع مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت ومنصوب مع أفعال أخوات كان ومع كان الظاهرة فى غير حالة الحذف.
وكما يكون متمم المسند إليه اسما أو صفة، فيما يسمى بالخبر المفرد، فإنه يمكن أن يكون جارا ومجرورا مثل: "هند فى غاية الجمال" أو "كانت عزة فى غاية الذوق". وبالطبع فلا إعراب للمتمم الجار والمجرور معا. وإلى جانب المتمم مع أفعال كان وأخواتها بما فى ذلك حالة حذف الكينونة، هناك الظرف. وقد يكون ظرفا مباشرا مثل ظرف المكان (فلان فوق ظهر السفينة) أو (كان فلان فوق ظهر السفينة) أو ظرف الزمان (الحفل الليلة) أو (سيكون الحفل الليلة) وقد يكون جارا ومجرورا مثل ظرف المكان (فلان فى المكتبة) أو (كان فلان فى المكتبة) أو ظرف الزمان (الحفل فى آخر الشهر) أو (سيكون الحفل فى آخر الشهر)، وينبغى أن يكون واضحا أن الظرف لا يقتصر على ظرفى المكان والزمان وأن أشكال تحقيق ظرفى الزمان والمكان متنوعة ومنها الجار والمجرور الدالان على المكان أو الزمان. والظرف المعرب منصوب أما التراكيب الظرفية ومنها الجار والمجرور المؤلفان للظرف فخارج مسألة الإعراب.
أما الخبر الفعل المقتصر على الفعل اللازم أو المستخدم لازما فإعرابه إعراب الفعل؛ فلا علاقة له بما يسمى بإعراب الخبر وناهيك برفعه.
أما الجملة (غير المستقلة) التى تأتى بعد الشبيه بالمسند إليه (ما يسمى بالمبتدأ الأول) فلا ينبغى اعتبارها خبرا فالإسناد هنا لما يسمى بالمبتدأ الثانى فهو إذن المسند إليه الحقيقى أما المسند (الخبر) فى مثل هذه الجمل فهو المسند المرتبط بهذا المسند الحقيقى (المبتدأ الثانى) فى ارتباطه الوثيق بما يسمى بالمبتدأ الأول الذى يعود إليه الضمير المجرور.
ولأن المسند (الخبر) يكون دائما فعلا فقط أو فعلا مع عناصر أخرى فإن إعراب الفعل وحده كخبر أو كجزء من خبر إنما يختلف تماما عن إعراب غير الفعل. أما الخبر ككل (التراكيب الخبرية) فى حالة الفعل (الظاهر أو المحذوف) مع عناصر أخرى فهو خارج مسألة الإعراب.
أما ما بدا خبرا فليس كذلك فى أغلب الأحوال فهو المتمم "المفرد" أو المتمم "الجار والمجرور" أو الظرف "المفرد" أو الظرف "الجار والمجرور". وهو فى كل هذه الأحوال خبر مع المحذوف فى حالة الكون العام.
ومن المؤسف أن محاولة وزارة المعارف ومجمع اللغة العربية بالقاهرة لم تقم على إدراك واضح لحقيقة أن المسند (الخبر) فى كل أحواله خارج مسألة الإعراب، ويعنى هذا أن الخبر لا يكون مرفوعا ولا منصوبا ولا غير ذلك من أحوال الإعراب وإنْ كات كلماته وعناصره المعربة كالمتمم أو الظرف أو المجرور بعد حرف الجر أو المفعول به ترفع أو تنصب أو تجر كأجزاء من المسند وليس كمسند أو خبر.
وننتقل إلى التكملة. ويقصدون بها غير المسند إليه والمسند. والتكملة هى الفضلة وهى تقوم على فكرة التمييز بين العمدة، وهى المسند إليه والمسند كما يعرفهما النحو العربى التقليدى، والفضلة، أىْ غير المسند إليه والمسند، تشمل ما يسمى بمنصوبات الأسماء. ومن الجلى أن المجمع كان يستعير مفهوم التكملة من النحو الفرنسى كمقابل لمصطلح complément (تتمَّة أو تكملة زيادة على المسند إليه والمسند)، ومفهوم الفضلة (أىْ الزيادة على العمدة، والفضلة لغةً بقية الشيء) من النحو العربى التقليدى. وقد أشرنا غير مرة إلى أن ما يسمى بالتكملة جزء لا يتجزأ من المسند، باعتبار أن الجملة كلها هى المسند إليه والمسند، وأن المسند هو كل ما فى الجملة غير المسند إليه، فلا مكان إذن لفضلة أو تتمة أو تكملة أو زيادة، ولا للتمييز بين عمدة وفضلة فالجملة كلها هى العمدة إنْ جاز القول.
وكما يبدو من الصياغة السابقة وكما يبدو أيضا من "عرض" كتاب تحرير النحو العربى، تشمل التكملة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، وكذلك الإضافة، وكذلك التوابع. وعلى هذا نجد أنفسنا إزاء مفهوم فضفاض لا يضيف شيئا إلى المفاهيم السابقة لما يسمى بمنصوبات الأسماء وغيرها سوى كلمة "تكملة" نفسها، وهذا ما جرّ على هذه المحاولة سخرية بعض نقادها.
ومن الواضح أن غياب مفهوم عنصر الجملة من جانب وغياب فكرة تعدد أشكال تحقيق عنصر الجملة كنهج شامل من جانب آخر يؤدى إلى التركيز على الكلمة المفردة كشكل لتحقيق الوظيفة النحوية (رغم الإشارات إلى شكل الجملة والمصدر المؤول والجار والمجرور). وبهذا تكون التوابع مثلا من التكملة رغم أنها قد تكون المسند إليه كما قد تكون عناصر من المسند (فى إطار مجموعة كلمات يتحقق من خلالها هذا العنصر أو ذاك من عناصر الجملة)، كما يظل الانتباه مشدودا إلى الإعراب دون الانتباه إلى أن هذا إنما يرتبط بشكل واحد من أشكال تحقيق عنصر الجملة (أىْ: الكلمة المعربة الواحدة). ومن المؤسف أن إصلاحات عديدة تنطوى عليها هذه المحاولة وكان من شأنها أن تطور النحو وتيسر فهم النحو للإعراب لم تصل إلى الغاية المرجوة نتيجة لغياب ثلاثة أشياء بالغة الأهمية:
1: مفهوم صحيح للمسند (الخبر).
2: مفهوم عناصر أو مكوِّنات الجملة.
3: مفهوم تنوع أشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة.
ورغم أن كتاب تحرير النحو العربى إنما هو تطبيق عملى لقرارات المجمع فى إطار هذه المحاولة للإصلاح والتيسير، فإن واقع كونه الثمرة الناضجة لتلك المحاولة يدفعنا إلى إلقاء نظرة متفحصة على ذلك الكتاب.
ويقع الكتاب فى حوالى مائتى صفحة، ونصفه الأول عرض عام لأقسام الكلام وللصرف ولجانب من الإعراب والنحو. أما الإعراب والنحو بالمعنى المباشر فنجدهما فى النصف الثانى.
ولا حاجة بنا إلى التعليق على أقسام الكلام لأن النحو العربى والمعجم العربى بحاجة إلى إصلاح فى هذا المجال كما أشرنا غير مرة، ولا يمس الكتاب هذا الإصلاح من قريب أو بعيد.
أما الصرف العربى فهو علم بالغ التطور غير أنه لا يستغنى عن أدوات العصر فى عرضه من جدولة ومعجمة وغير ذلك من صور التبسيط والتيسير ولا يستغنى عن الاستفادة بالحاسوب. كذلك فإن مثل هذا العرض الموجز للإسناد والاشتقاق يحتاج إلى التوزيع الملائم على المراحل التعليمية والعمرية. على أنه لا جدال فى أن علوم اللغة والمعاجم والصرف تلتقى عند مهام كبرى فى تطوير العلاقات بين الأبنية الصرفية والدلالات، وتدقيق بحث الأفعال من جميع جوانبها فى سبيل تطوير نحو يتمحور حول الأفعال انطلاقا من خصائصها البالغة التعقيد، وتدقيق بحث الصفات واستخداماتها وأماكنها، إلخ إلخ... غير أن مثل هذا العرض السريع ليس مجال بلورة برنامج تحقيق مثل هذه الغايات الكبرى، بالإضافة إلى أن مثل هذه المهمة الهائلة الضخامة ليست فى طاقة فرد بل تحققها الجهود المتضافرة للعديد من علماء النحو المتحررين من أوهامه.، وعلى كل حال فإن الموضوع المحدد لهذا الكتاب لا يمتد إلى هذه القضايا.
أما الاستعراض السريع فى هذا النصف الأول من الكتاب للإعراب ومواضعه وأنواعه وعلاماته مع الوقوف عند إعراب المضارع فلا بأس به. وكذلك لا بأس باعتبار علامات الإعراب كافة أصلية فى مواضعها فلا تكون الضمة مثلا أصلية للرفع وتنوب عنها الحروف فى مواضع بذاتها.
وفى صفحة 101 يبدأ عرض النحو والإعراب بالمعنى الحقيقى. وينقسم هذا النصف الثانى من الكتاب إلى أربعة أقسام:
1: الجملة: أجزاؤها وركناها الأساسيان وإعراب المسند إليه والمسند والمطابقة والترتيب بينهما والحذف فيهما ودخول "كان وأخواتها" و "إن وأخواتها" و "لا النافية للجنس" على الجملة. ويقع هذا القسم فى صفحات 101-124 (24 صفحة).
2: المكملات: وهى تكملة بيان الزمان والمكان، والتكملة بالمفعول، والتكملة لبيان الحال، والتكملة لبيان السبب، والتكملة لتوكيد الفعل أو بيان نوعه أو عدده، وكذلك الاستثناء والتمييز والإضافة. ويقع هذا القسم فى صفحات 125-164 (40 صفحة).
3: التوابع: من نعت وتوكيد وعطف وبدل. ويقع هذا القسم فى صفحات 165-178 (14 صفحة).
4: الأساليب: أسلوب المدح والذم، والتعجب، وأسلوب النداء، وأسلوب الاستغاثة، وأسلوب الندبة، وأسلوب الإغراء، وأسلوب التحذير، وأسلوب الاختصاص، وأسلوب لا سيما. ويقع هذا القسم فى صفحات 179-197 (19 صفحة).
ولا جدال فى أننا إزاء تطور لا يمكن إنكاره فمفهوم المسند إليه يحل محل ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء المسند (الخبر). وبانقسام الجملة إلى مسند ومسند إليه يسقط من تلقاء نفسه تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية، كما يسقط ما يسمى بالضمير المستتر ووضمير الرفع البارز المتصل. غير أن الكتاب يقرر أن من المهم فى تحليل كل جملة أن نتبين أمرين:
الأول: الكلمتان الأساسيتان فيها، وتفيد بهما الجملة معنى يمكن الاكتفاء به، وهما ركنا الجملة، أو الجزءان الأساسيان فيها.
الثانى: الكلمات المتممة للمعنى، وهى المكملات، وهى كلمات أخرى قد تكون فى الجملة وتكمل المعنى، لتدل على الزمان، أو المكان، أو الحالة، أو غير ذلك. وتسمى هذه الكلمات تكملة .
والركنان الأساسيان هما المسند إليه والمسند. فالمسند إليه: هو المحدَّث عنه، والمسند: هو المحدَّث به. ونلاحظ أن هذا الكتاب يجعل الجملة تشتمل على ركنيها الأساسيين أىْ المسند والمسند إليه، وقد تشتمل أيضا على "كلمات غيرهما" وهى المكملات. ويعنى هذا استنادا إلى ما قدمنا فى هذا البحث من نقد للنحو العربى، أن الكتاب سار على الطريق التقليدى للنحو العربى، فلم يدرك أن الجملة كلها مسند ومسند إليه، فما ليس من المسند إليه من كلمات الجملة ينتمى إلى المسند، والعكس بالعكس. أما الكلمات الأخرى المسماة بالمكملات فهى تنتمى بحكم طبيعتها إلى المسند، وهى جزء لا يتجزأ منه. وقد أشرنا غير مرة إلى تهافت فكرة المكملات والتكملة والفضلة التى تقوم على مغالطة مؤداها أن المسند إليه والمسند تفيد بهما الجملة معنى يمكن الاكتفاء به، وكيف يكون المعنى مفيدا بالاكتفاء بالفعل والفاعل فى جملة باعتبارهما المسند إليه والمسند (بهذا المفهوم التقليدى المبتسر للمسند) دون المفعول به باعتباره فضلة؟ والحقيقة أن المعنى هو محتوى المسند بكامله، المسند بالمعنى الذى يعرفه النحو الحديث كله فى لغات الثقافات المتطورة فى العالم اليوم، المسند الذى تمثل هذه الفضلة أو التكملة المزعومة جزءا لا يتجزأ منه.
كما نلاحظ أن النحو كان ما يزال يتمحور حول الإعراب، فالكتاب يتحدث عن "كلمتين" أساسيتين هما المسند والمسند إليه، أىْ أن التعريف النموذجى لكل من هذين الأخيرين يتمثل فى الكلمة الواحدة وهى الموضوع الحقيقى المباشر للإعراب وليس للمفهوم النحوى.
ونلاحظ أيضا أن الكتاب لا يصدر عن مفهوم صحيح للمسند بدليل أنه جعل هذا الأخير يتمثل فى الاسم المفرد، أو الجملة، أو الفعل، أو الجار والمجرور، أو الظرف. ولم يدرك واضعوه أن الحديث عن الواحد من هذه الأشياء (باستثناء الفعل) على أنه مسند يتجاهل حقيقة أن المسند إنما يكون فعلا فقط أو فعلا مع شيء آخر. ولهذا كان الكتاب مضطربا أشد الاضطراب فى تقدير المسند والمسند إليه. وهذه أمثلة:
ففى إعراب: "الرحمن * علَّم القرآن" يقول الكتاب إن المسند هو "علَّم القرآن" أىْ الفعل والمفعول، وهذا صحيح، أما فى إعراب: "لا يحب اللهُ الجهرَ بالسوء من القول" فهو يجعل الفعل "يحب" هو المسند مع أن المسند الحقيقى هو نقيض هذا الفعل أىْ نفيه "لا يحب" مع كل الكلمات الأخرى غير "الله" وهو المسند إليه. وفى إعراب: "الله نزّل أحسن الحديث" أصبح الفعل "نزّل" هو المسند، بدلا من الفعل والمفعول، كما تفضل الكتاب بالإعراب قبل ذلك بقليل، ولا تنتهى الأمثلة.
فإذا انتقلنا إلى أحكام المسند إليه والمسند وإعرابهما وجدنا "ميلا عمليا" لا يقوم على أساس من المنطق. فليس هناك شيء من قبيل أن المسند إليه مرفوع ما لم يتأثر بعامل لفظى سابق ناصب أو جار، كما أنه ليس هناك شيء من قبيل أن المسند ليس مرفوعا وأن ما يسمى بالمسند أو الخبر المفرد هو الوحيد المرفوع عشوائيا نتيجة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت (مع المتكلم: أكون، نكون؛ مع المخاطب: تكون، تكونين، تكونان، تكونون، تَكُنَّ؛ مع الغائب: يكون، تكون، يكونان، تكونان، يكونون، يَكُنَّ – بالطبع مع كل الأحوال الإعرابية لهذه الصيغ الصرفية).
والمسند إليه اسم ظاهر، مثل: "المؤمنون"، أو ضمير، مثل: "نحن"، أو مصدر مفهوم من جملة تكون مبدوءة بـ "أنْ"، أو "ما"، أو "أنَّ"، مثل ما تحته خط فى: "وأنْ تصوموا خير لكم" ، و: "عزيز عليه ما عَنِتُّمْ" ، و: "قل أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نَفَرٌ من الجن" ، وقد تكون الجملة غير مبدوءة بأداة من هذه الأدوات وهذا قليل، مثل ما تحته خط فى: "ثم بدا من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" ، و: "وتبيَّنَ لكم كيف فعلنا بهم" ، و: "ومن آياته يُريكم البرق خوفا وطمعا" ، وقول العرب: "تَسْمَع بالمُعِيدِىِّ خير من أن تراه".
وتبدو النزعة العملية (أىْ التى لا تستند مباشرة وصراحة على أسس وأصول نظرية) واضحة تماما فى إعراب المسند إليه؛ فهو:
1: يكون مرفوعا: ولا يقال إن هذا هو الأساس.
2: يكون منصوبا: بعد إنَّ أو إحدى أخواتها. وقبل أن ننتقل إلى "3" نلاحظ أن حكم النصب بإن مثل الحكم بالجر بحرف الجر أو بالإضافة ولذلك سيكون غريبا أنهم لا يطلقون الجر بكل حروف الجر أو بالإضافة للمسند إليه بدلا من قصر حديث الجر على بعض الحروف التى يسمونها زائدة. وهنا تأتى أهمية الفاعل (المسند إليه) المنصوب على المفعولية قبل إسناد الفعل إليه، مثلا: رأيتُ رجلا يكلِّم نفسه، فالرجل هنا مفعول للفعل "رأى" قبل أن يصير فاعلا أو مسندا إليه للفعل "يكلِّم". وهذه حالة أغفلها هذا الكتاب الذى صدر عن مفهوم للمسند إليه ينبغى أن يتسع لقبول أن يكون المفعول به فاعلا كما قبِل أن يكون المنصوب بأدوات النصب أو المجرور بأدوات الجر فاعلا أو مسندا إليه.
3: وفى الأحوال الثلاثة التالية يكون المسند إليه مجرورا:
أ: إدخال "مِنْ" على المسند إليه بعد النفى لتوكيد العموم، والاستشهاد بالآيات: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" ، و "ما كان معه من إله" ، و "ما جاءنا من بشير ولا نذير" ، ومثل: "ما من رجل يعرف هذا".
والصواب فى رأينا هو أننا إزاء تراكيب اصطلاحية فى النفى فالتقدير: "ما من ورقة تسقط إلا يعلمها"، و "ما من إله كان معه"، و "ما من بشير ولا نذير جاءنا"، ولا تحتاج جملة: "ما من رجل يعرف هذا" إلى إعادة صياغة بقصد التقدير. ففى كل هذه الآيات أو الجمل المشابهة، نجد تراكيب مثل: ما من أحد، ما من شيء، ما من رجل، ما من امرأة، ما من ورقة، ما من إله، إلخ إلخ. وفى هذه التراكيب جميعا ليس ما قبل "مِنْ" هو المسند إليه بل التركيب الاصطلاحى بأكمله: "ما من أحد" وما أشبه.
ب: وتدخل "الباء" على المسند إليه بعد الفعل "كفى"، وبعد "إذا الفجائية" لإفادة التوكيد، مثل الآية: "وكفى بالله شهيدا"، ومثل جملة: "خرجت فإذا بالمطر يهطل".
ج: وتدخل "رُبَّ" على المسند إليه لإفادة التقليل، مثل: "رُبَّ أخ لك لم تلده أمك". وقد تحلّ "الواو" محل "رُبَّ"، مثل: وليل كموج البحر أرخى سدوله ..."
وتدل الأحوال الثلاثة المذكورة لجر المسند إليه على أن الكتاب ينطلق من نظرة ضيقة وتقليدية للغاية إلى المسند إليه المجرور كما جاء فى الكتب، فهؤلاء المؤلفون يقتصرون على ما يسمى بحروف الجر الزائدة وكان الأجدر بهم أن يطلقوا الجر مع كل حروفه أو أدواته كما أطلقوا النصب مع كل حروفه أو أدواته. فلماذا لا نجر المسند إليه بالحرف "إلى"؟ ألا يمكن أن نقول: "التفت زوار الياپان باهتمام إلى قطار يقطع مئات الكيلومترات فى الساعة" حيث القطار المجرور بحرف جر "أصلى" و "غير زائد" هو الفاعل أو المسند إليه لفعل "يقطع"؟!
وقد رأينا منذ قليل نظرتهم الخاطئة إلى المسند (الخبر) فعندهم أنه يكون اسما بدون فعل حتى مع كان الظاهر، وكذلك الظرف أو الجار والمجرور، كما يكون فعلا أو جملة.
وإعراب المسند أنه يكون مرفوعا إذا كان اسما معربا أو منصوبا إذا كان ظرفا، أو كان اسما معربا بعد فعل من الأفعال الناقصة "كان وأخواتها"، أو جارا ومجرورا، أو فعلا (فيتبع فيه إعراب الفعل).
وهنا نلقى جانبا من تركيز اهتمامهم، كما فعل النحو التقليدى دائما، على المسند والمسند إليه، أو المبتدأ والخبر. والحقيقة أن المسند (الخبر) يرتدى أهميته الكاملة عند التقسيم العام للجملة إلى ركنيها الوحيدين غير أنه لا يمثل بعد ذلك أداة للتحليل النحوى أو المنطقى كما أنه لا علاقة له من أىّ نوع بالإعراب أو التحليل الإعرابى. ولهذا يغدو من الواجب إهمال المسند (الخبر) عندما نكون بصدد التحليل النحوى أو الإعرابى التفصيلى، أىْ عندما لا نكون إزاء التقسيم النحوى المنطقى العام للجملة إلى المسند والمسند إليه، أو الموضوع والمحمول، أو ما شئت من أسماء لهذين القسمين للجملة. وبدلا من التخفف من هذا الاهتمام بالمسند أو التخلص منه فى هذه الحالة، نجد المسند ضيفا دائما. وبدلا من تسمية هذه المسندات المزعومة بأسمائها الصحيحة كعناصر جملة، صارت القدرة التحليلية النحوية الإعرابية تتمثل فى أن نرى المسند مثل الإله البحرى پروتيوس تحت كل حجر، فنعلن المسندات تحت هذه المسميات كافة من ظرف أو جار ومجرور أو اسم أو وصف أو فعل أو جملة.
فلنأخذ أفعال "كان وأخواتها": إن منصوب هذه الأفعال اسمه متمم الفاعل أو المسند إليه وهو اسم أو وصف أو جار ومجرور مثل ما تحته خط: "صار ابنى رجلا"، "كان المرحوم صديقا"، "كان وأد البنات من الآفات المتفشية". وإذا كان "منصوب" كان وأخواتها ظرفا فهو ظرف وليس متمما للمسند إليه، ويمكن أن يكون الظرف جارا ومجرورا، مثل: "كان الفلاح فى الغيط" أو "كان الموعد فى الغروب"، فالجار والمجرور ليسا شيئا مختلفا عن الظرف ما داما يدلان على المكان أو الزمان أو على أىّ ظرف آخر. ويصدق كل هذا على متمم المسند إليه والظرف فى حالة مجيئهما مع فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت. وينبغى أن يكون واضحا أن الجار والمجرور يكونان إما متمم المسند إليه أو متمم المفعول المباشر أو الظرف وفقا لمعناهما فى الجملة.
وفى هذه الأحوال لا يكون المسند، إذا أصررنا على البحث عنه، سوى فعل الكينونة الظاهر أو المحذوف بالإضافة إلى متمم الفاعل مهما كان شكل تحقيقه (الاسم أو الصفة أو الجار والمجرور) أو الظرف مهما كان شكل تحقيقه أيضا (الجار أو المجرور أو الأشكال الأخرى للظرف الذى لا يقتصر على المكان والزمان كما فى النحو التقليدى).
ومن الواضح أن علماء لجان المجمع ووزارة المعارف ثم التربية والتعليم ومؤلفى كتاب تحرير النحو العربى قد أهملوا حتى الفكرة القديمة الرائعة عن "متعلَّق" الجار والمجرور وعن كونه معهما الخبر وأنهما وحدهما ليسا الخبر، مع ملاحظة أن هذا "المتعلق" – كما سبق القول – لا ينبغى أن يكون للجار والمجرور والظرف فقط بل ينبغى أن يمتد إلى المفرد أيضا من اسم أو وصف فى إطار ما يسمى بالخبر المفرد، ومع ملاحظة أن "المتعلق" ليس اسما بل هو فعل وهو بالذات فعل الكينونة فى المضارع المثبت المحذوف نتيجة للاقتصاد اللغوى.
وهناك ملاحظات كثيرة متنوعة على هذا الكتاب تتعلق بأشكال أخرى لتحقيق المسند ولكن أيضا بقضايا أخرى مثل الإعراب المحلى والإعراب التقديرى وغياب فكرة عناصر أو مكونات الجملة وبالتالى غياب تطبيقها على ما يسمى بمنصوبات الأسماء وغير ذلك وسيجد القارئ الكريم المناقشة التفصيلية لهذه القضايا فى الفصول المعنية من الكتاب.
وعلى أمل أن تسنح لى فى المستقبل فرصة أوسع لمناقشة أكثر عمقا وتفصيلية لمحاولة المجمع ووزارة المعارف (ثم التربية) كما تجسدت فى قرارات المجمع وكتاب تحرير النحو العربى، سأختتم بالإشارة إلى بعض المعلقين على هذه المحاولة. وسأضرب صفحا عن مناقشات الأستاذ عبد الكريم العريص الذى يفسر محاولات تيسير الإعراب تفسيرا يقوم على مؤامرة متوهَّمة على اللغة العربية ونحوها، أبطالها المستشرقون وتلاميذهم وهم بالمناسبة عدد من أعظم رواد النهضة المصرية، ومنهم لطفى السيد وقاسم أمين وسلامة موسى. وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة موقفا غريبا من قراراته السابقة يتمثل فى تجاهلها ويروى الدكتور شوقى ضيف فى كتابه تجديد النحو أن المجمع الذى كان قد أقر إلغاء الإعرابين المحلى والتقديرى فى سنة 1945: "عاد فى سنة 1979 فرأى الإبقاء على الإعرابين التقديرى والمحلى فى المفردات والجمل دون تعليل" . وسنكتفى هنا بإلمام سريع بملاحظات الأستاذ أمين الخولى، لأهميتها الخاصة، فى كتاب مناهج تجديد. وهو يعارض فكرة "ألاّ يمس التيسير والتبسيط أصلا من أصول اللغة ولا شكلا من أشكال الإعراب والتصريف" كما شرط القرار الوزارى على أعضاء اللجنة وكما شرطوا هم على أنفسهم .
وهذا النقد مفهوم تماما عندما يأتى من الأستاذ أمين الخولى لأن اجتهاده الشخصى فى مجال تيسير النحو وتبسيطه يمس بعض "أصول اللغة" وبعض "أشكال الإعراب والتصريف". ذلك أنه جعل محور تيسيره يدور حول تعديل للإعراب السائد ذاته انطلاقا من فكرة أن لهجاتنا العربية السائدة إنما هى امتداد للهجات سابقة ذات تقاليد إعرابية مختلفة يجوز الأخذ بها ما دامت تؤدى إلى التيسير: مثل صوغ جمع المذكر السالم مثل "حين" فى الرفع والنصب والجر جميعا، وما إلى ذلك. وهذا باب مشروع للاجتهاد، غير أنه ليس بابا واسعا كما يتصور الأستاذ أمين الخولى، كما أنه لا يُغنى عن الإعراب السائد الذى اتصل وجوده قرونا طويلة بحيث لا يمكن التعامل مع هذا التراث إلا بإتقان الإعراب السائد ذاته بغض النظر عن تأملاتنا وتعديلاتنا وتصحيحاتنا للقواعد الوضعية التى صاغها علماء النحو والإعراب. وهناك سؤال هام يطرحه هذا النوع من البحث الذى اجتذب الأستاذ أمين الخولى وغيره: إذا كان تعديلنا للإعراب يبدأ من اللهجات العربية الحالية وينتهى إلى مشروعية ما ورثته عن اللهجات العربية القديمة، وكلها حجة، واعتبارها أساسا كافيا ومشروعا لتعديل الإعراب الحالى، فلماذا لا نستغنى عن الإعراب كله مع أن إسقاط الإعراب قديم للغاية ومع أن الجماعة الناطقة باللغة العربية بدأت عملية إسقاط الإعراب وتبنِّى الأداة البديلة أىْ ترتيب الكلمات منذ فجر الإسلام وما قبل فجر الإسلام؟ وهو سؤال مشروع غير أن الجماعة اللغوية وحدها هى التى تختار من خلال ممارستها اللغوية، وبصورة تاريخية، الإجابات الحاسمة التى لا يملكها غيرها. ويمكن القول إن الجماعة اللغوية العربية قد اختارت إلى الآن فى ممارستها اللغوية العملية الازدواج اللغوى الراهن فى العالم العربى كله بين اللغة العربية المعربة (التى احتفظت بالإعراب) واللغة العربية غير المعربة (التى أسقطت الإعراب بالاعتماد على بديله المتمثل فى تقييد ترتيب عناصر الجملة).
ويعارض الأستاذ أمين الخولى ما رأته اللجنة من عدم التمييز بين علامات إعراب أصلية، وأخرى فرعية ، وهذا منطقى لأن هذا مجال اجتهاده.
ويعارض الأستاذ أمين الخولى موقف اللجنة إذ:
حاولت اللجنة ضبط الجملة بأصنافها تحت تقسيم واحد، ينتظم الفعلية والاسمية، والجمل الصغيرة والكبيرة، وهو صنيع إنْ ساغ فى المنطق، لأنه يبحث فى المعانى والمفاهيم، ولا شأن له بالألفاظ مطلقا .. أو قُبِل فى البلاغة لأنها تبحث عن حسن المعانى، وتعرض للألفاظ بهذا المقدار، فلعل هذا الصنيع – على ما يبدو – لا يسهل فى النحو، لأنه يتحدث عن الصحة، واستقامة المعنى الأول؛ وفى هذا يطيل الوقوف عند الألفاظ؛ ويلحظ فيها أدقّ الفروق، فيتحدث مكرها عن الفاعل ونائبه والمعنى فيه؛ والمبتدأ والأحكام اللفظية لكل منهما،لا مفر، على حين قد ينظمها كلها البلاغى، أو المنطقى، تحت اعتبارات جامعة، فيسميها مسندا ومسندا إليه .
ويأخذ على اللجنة ادعاءها أن تسميتها لطرفى الجملة المحدث عنه والحديث اصطلاح جديد لأنه اصطلاح قديم يعرفه من اتصل بأوائل كتب النحو . كما يأخذ عليها إيثارها تسميتهما - كالمناطقة – المحمول والموضوع، ويقول إن هذا بعيد عن عقل المتعلم وعن طبيعة الدرس اللغوى التى تلتزم بالألفاظ والظواهر الحسية لتدل بها على المعانى .
والحقيقة أن الأستاذ أمين الخولى غير موفق بوجه عام فى نقده الشامل لتقرير اللجنة. وربما كان هذا يرجع إلى استحواذ رأيه الضيق فى التيسير على كل تفكيره، وذلك رغم تمهيده الطويل الرائع المستنير لمناقشة التيسير برمتها. ولا شك مثلا فى أن "تسمية المسند والمسند إليه" لا تمنع على الإطلاق من مناقشة كل منهما تحت "الباب" الخاص به وفى كل المواضع الملائمة. غير أن هذا شأن الإنسان بما فيه المفكر العلامة الذى يرتفع إلى قامة أمين الخولى فالفكرة التى تستحوذ عليه تتغلب على كل رغبته فى الموضوعية والإنصاف، وهذا لا يعنى أنه لم ينصف اللجنة فى كثير من الملاحظات، فقد أنصفها فى أكثر من نقطة، غير أن أكبر إنصاف لقضية اللجنة يتمثل فى أنه مهد أروع تمهيد لمشروعية نقد النحو والإعراب دون أدنى حرج قائلا ما مؤداه أن ما قد يستنكره الناس من نقد اليوم قد يصير قاعدة الغد كما حدث – كما قال أيضا – فى التشريع والفقه ذاتهما فى واقعة الدكتور عبد الرازق السنهورى فى مجلة القضاء الشرعى قبل إلقائه محاضرته بعنوان "هذا النحو" فى سنة 1943(التى نقتبس منها الآن) بأكثر من عشرين سنة كما يروى .


الملحق 1
جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية

يميز النحو العربى بين نوعين من الجمل: الجملة الاسمية والجملة الفعلية. ولا تخرج جملة عربية عن هذا النوع أو ذاك من وجهة نظر هذا النحو.
للجملة الاسمية ركناها "الأساسيان" وهما: المبتدأ والخبر. وللجملة الفعلية بدورها ركناها "الأساسيان" وهما: الفعل والفاعل. وتتميز الجملة الاسمية من الجملة الفعلية بأن الأولى تبدأ باسم، على حين تبدأ الثانية بفعل.
وللوهلة الأولى، يبدو هذا التصنيف للجمل موضوعيا للغاية، ووصفيا للغاية، وغير قابل للجدل. فهذه جملة بدأت باسم، فما وجه الخطأ فى تسميتها، كما بدأت جملة اسمية، وفى أن نسمى ما بدأت به المبتدأ بحكم بداهة الابتداء به؟ فلا بأس إذن بالجملة الاسمية والمبتدأ والخبر. وتلك جملة بدأت بفعل، فما وجه الخطأ فى أن نسميها كما بدأت جملة فعلية، وفى أن نسمى فاعل الفعل فاعلا ؟ فلا بأس إذن بالجملة الفعلية والفعل والفاعل والمفعول به.
وما دمنا نسمع أو نقرأ جملة بدأت باسم وأخرى بدأت بفعل، فلا مجال لإنكار أن الجملة تبدأ من الناحية الوصفية باسم أو فعل. ولكننا نسمع ونقرأ جملة تبدأ بحرف، وجملا أخرى تبدأ بأشياء أخرى. وإذا تطور فهم النحو العربى لأقسام الكلام، بدلا من الاقتصار على الاسم والفعل والحرف، فسوف يغدو بوسعه أن يبين أن هذه الأشياء الأخرى إنما هى من أقسام الكلام كالاسم والفعل والحرف، وأن يبين أن الاسم فى النحو العربى مفهوم فضفاض ينطوى على أقسام كلام أخرى (الضمير، الصفة، الظرف)، بالإضافة إلى التقسيم الواجب للحرف نفسه إلى أقسام كلام متمايزة (حروف أو أدوات جر ونصب وعطف وتعجب)، فإلى أين ينتهى بنا تقسيم الجمل حسب أقسام الكلام التى تبدأ بها؟! وقد يبدو أن النحو العربى اختار البدء بالاسم والفعل دون غيرهما معيارا لتقسيم الجملة، ليس فقط لأن الاسم والفعل قسمان من أقسام الكلام، بل لأن الفعل إلى جانب كونه من أقسام الكلام مفهوم نحوى أساسى يمكن أن نسميه وفقا للاصطلاح الحديث عنصرا من عناصر الجملة، وهى1: الفاعل (أو المسند إليه)، 2: الفعل، 3: المفعول به، 4: متمم الفاعل أو المفعول به، 5: الظرف، ولأن الاسم إلى جانب كونه من أقسام الكلام هو "المبتدأ" فهو بالتالى عنصر أساسى من عناصر الجملة لأن مفهوم المسند إليه ينطبق عليه أيضا.
وإذا صح هذا على "الفعل" فهو فى المعجم قسم من أقسام الكلام، وهو فى النحو عنصر من عناصر الجملة، فإنه لا يصح على "الاسم" فهو فى المعجم قسم من أقسام الكلام (وإن كان مفهوما فضفاضا ينطوى بداخله على عدد من أقسام الكلام الأخرى)، غير أنه فى النحو ليس عنصرا من عناصر الجملة، فالاسم يصلح "مبتدأ" كما يصلح فاعلا أو مفعولا به أو متمما لأحدهما أو ظرفا، أىْ أنه يصلح لأن يكون شكلا من أشكال تحقيق مختلف عناصر الجملة (باستثناء الفعل) دون أن يكون أحد عناصر الجملة، ودون أن يكون فى حد ذاته وظيفة نحوية بعينها.
كما أن الجملة المسماة بالاسْمِيَّةِ لا تبدأ فقط "بالمبتدأ" فقد تبدأ أيضا "بالخبر" أىْ المسند. و"الخبر" ( المسند) ليس عنصرا من عناصر الجملة (إلا فى الحد الأدْنَى للخبر)، وحسب مفهوم بعينه "للخبر"، بل قد يشتمل "الخبر" على عدد من عناصر الجملة، وقد تبدأ الجملة المسماة بالاسْمِيَّةِ بعنصر منها كالمفعول به، أو متمم الفاعل أو المفعول به، أو الظرف، فلا ينحصر الأمر فى البدء بالمسند إليه (المبتدأ).
ومعنى هذا أن تسمية الجملة بما تبدأ به من أقسام الكلام ستضيف إلى الجملة الاسمية والجملة الفعلية أنواعا أخرى من الجملة، كجملة الحرف، وجملة الضمير، وجملة الظرف، وجملة الصفة، إلخ. إذا طورنا ووسعنا كما ينبغى مفهوم أقسام الكلام فى النحو العربى.
كما أن تسمية الجملة بما تبدأ به من عناصر الجملة ستضعنا أمام تسميات أخرى جديدة إلى جانب الجملة الفعلية، كالجملة الفاعلية (أو جملة المسند إليه)، والجملة المفعولية "أو جملة المفعول به"، وجملة متمم الفاعل أو المفعول به، والجملة الظرفية.
والحقيقة أن تسمية الجملة بما تبدأ به (من أقسام الكلام أو عناصر الجملة) لا تنطوى على مغزى نحوى حقيقى من أىّ نوع.
ذلك أن العلاقات النحوية بين كلمات أو عناصر أو مكونات الجملة لا تتغير بالبدء بهذه الكلمة أو تلك، بالاسم أو بالفعل، بالفاعل أو بالمفعول، الأمر الذى يستبعد أىّ مغزى نحوى سليم لهذا التصنيف المزدوج للجملة العربية على أساس ما تبدأ به من اسم أو فعل.
ومن البديهى أن الفاعل يبقى فاعلا بدأنا به أم لم نبدأ، كما أن المفعول به سيظل مفعولا به فى بداية الجملة كما فى وسطها أو فى آخرها. وهذا ينطبق على المرحلتين النحويتين المختلفتين من حيث الإعراب أو إسقاطه.
فالعلاقات أو الوظائف النحوية للكلمات لا تتغير بما تبدأ به الجملة، لا فى لغة تقوم على الإعراب ومرونة ترتيب عناصر الجملة (كاللغة العربية المضرية أو القريشية التى نتناول هنا نحوها)، ولا فى لغة تقوم على إسقاط الإعراب وتقييد ترتيب عناصر الجملة لمثل اللهجات العربية الراهنة واللغتين الإنجليزية والفرنسية بين لغات أوروپية أخرى عديدة).
إن لغة الإعراب ومرونة الترتيب (اعتمادا على الإعراب) تعنى بالبداهة حرية التقديم والتأخير لعناصر الجملة (مع أخذ الترتيب الإلزامى لبعض الكلمات فى الجملة فى الاعتبار، مثل: حرف الجر قبل المجرور) دون أن تتأثر العلاقات النحوية بين هذه العناصر، وهى علاقات تدل عليها إلى جانب المعنى مورفيمات وعلامات الإعراب فى أواخر الكلمات (أو فى أوائلها أو حتى بأحوالها الصفرية فى بعض اللغات المعربة).
أما لغة إسقاط الإعراب أو تقييد الترتيب فتعنى بالبداهة أيضا تثبيت الكلمات التى تمثل العناصر النحوية المحورية للجملة فى أماكن بذاتها فى الجملة، فى ترتيب بذاته، وكثيرا ما يقوم ترتيب هذا النظام لعناصر الجملة على أسبقية الفاعل للفعل وهذا للمفعول، إلا فى أحوال كالنفى أو الاستفهام أو لأغراض بلاغية، مع مرونة بعض العناصر، فى بعض أحوالها، من حيث مكانها فى الجملة.
والنتيجة أن تصنيف النحو العربى للجمل إلى جملة اسمية وجملة فعلية يضعنا أمام عالمين للجمل يقوم بينهما سور صينى عظيم.
وتنفرد الجملة الاسمية بركنين "أساسيين" ينفردان بلقبيهما الخاصين وهما المبتدأ والخبر اللذين لا ينبغى أن يختلطا وفقا لهذا النحو بالركنين "الأساسيين" اللذين تنفرد بهما الجملة الفعلية، واللذين ينفردان بدورهما بلقبيهما الخاصين وهما الفعل والفاعل.
ومن مبادئ هذا التصنيف أنه لا يجوز النظر إلى المبتدأ فى الجملة الاسمية على أنه فاعل الفعل الذى يليه رغم إسناده إليه وتصريفه معه، كما لا يجوز، وفقا له، النظر إلى الفاعل فى الجملة الفعلية على أنه مبتدأ تأخر عن خبره، ولا إلى فعل الجملة الفعلية على أنه خبر تقدم، وهكذا.
والجملة المسماة بالفعلية، فى أبسط أشكالها، أى فى الجملة الفعلية المقتصرة على الإسناد دون الدخول فى تركيب، مثل: ظهر الحق، جملة بلا تعقيدات (من فعل وفاعل)، غير أنه عندما يغدو "الفعل".. "خبرا" فى جملة اسمية (وهنا يسمون ذلك الفعل مع فاعل يفترضونه جملة فعلية خبرا فى محل رفع) تبدأ التعقيدات، أما الجملة المسماة بالاسمية، حتى فى أبسط صورها مثل: العلم نور، فهى المجال الطبيعى لتعقيدات لا أول لها ولا آخر.
فكيف أقيم هذا السور العظيم؟ وما منشأ هذا الازدواج ؟ وما كل هذا التعقيد دون مبرر حقيقى؟ وهل هناك وسيلة أو وسائل نحوية لهدم هذا السور، وإزالة هذا الازدواج، وتبسيط هذا التعقيد؟
ينبغى أن نلاحظ قبل كل شيء أن هذه المفاهيم والتصنيفات لأنواع الجمل، ولأركان كل نوع منها، إنما هى من ابتداع علم النحو، فهى تنتمى جميعا إلى النحو الوضعى أو العلمى، وهو نحو النحويين أو نحو النحاة، فلسنا إذن إزاء عناصر متنافرة فى اللغة العربية ذاتها، ولا فيما تنطوى عليه من منطق داخلى فى تكوين الجمل، وفى تحديد العلاقات النحوية بين كلماتها أو مكوناتها أو عناصرها، أىْ النحو الموضوعى أو الجمعى، الماثل دوما فى صميم كل لغة تنطق أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية (العرب فى حالتنا).
وإنما نحن إزاء تناقضات مفاهيم نحو النحاة، فلا مناص إذن من محاولة قطع تلك المسافة بل الهوة القائمة دوما بين النحوين، الموضوعى والوضعى، الجمعى والعلمى، ذهابا وإيابا، إلى أن نهتدى إلى إدراك واضح لطبيعة وأبعاد ومثالب هذا الازدواج ولسبل إزالته.
وينبغى أن يكون واضحا أن ازدواج التصنيف، إلى جملة اسمية وجملة فعلية، للجملة العربية الواحدة، إنما يرتبط بصورة خاصة بقاعدتين نحويتين خاطئتين من وضع النحاة تكفى كل قاعدة منهما لخلق هذا الازدواج ويكفى اجتماعهما لتأبيده.
والقاعدة الأولى هى قاعدة تقدم الفعل على فاعله. وعلى هذا فإن المبتدأ أو المفعول به لفعل سابق أو المنصوب بأحد حروف إن وأخواتها أو المجرور الذى يليه فعل مسند إليه ومصرَّف معه، ومتطابق معه فى النوع والعدد، لا يكون مع كل هذا فاعله. وعندما يأتى بعد ما يسمى بالمبتدأ فعل فلابد من البحث له عن فاعل يتقدمه هذا الفعل، ولابد من العثور على هذا الفاعل إما فى صورة أو بالأحرى فى "شبح" ضمير مستتر تقديره كذا يعود على المبتدأ، وإما فى صورة ما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل، تاركين على كل حال ذلك الفاعل الحقيقى الذى أسند إليه الفعل من الناحية العملية، والذى هو فاعله دون شك، والذى لا مناص من ربط الفعل به بضمير مزعوم، بارز أو مستتر، يعود عليه فى نهاية المطاف.
وبالإضافة إلى هذه القاعدة التى تنطلق من الجملة الفعلية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة اسمية (نتيجة تأخير الفعل عن الفاعل، هناك القاعدة الأخرى التى تنطلق من الجملة الاسمية، أو تقوم بحمايتها من أن تنقلب إلى جملة فعلية (نتيجة تقديم الفعل على المبتدأ).
وتحت عناوين مثل: وجوب تأخير الخبر، وجوب تقديم الخبر، جواز تقديم الخبر وتأخيره، نجد موجبات حقيقية مقنعة لا أمل دون مراعاتها فى منع التباس المعانى. غير أننا نجد بين أسباب وجوب تأخير الخبر سببا غريبا للغاية. فالفعل الذى يلى المبتدأ واجب التأخير فلا يجوز تقديمه. فهذا الفعل المتأخر الذى يصنع مع فاعله المزعوم: الضمير المستتر أو ضمير الرفع البارز المتصل ما يسمونه جملة فعلية هى خبر المبتدأ لا يجوز تقديمه لأنه إن تقدم يغدو المبتدأ فاعلا. فوجوب التأخير يرجع إذن إلى خشية الالتباس بين المبتدأ والفاعل. وسبب وجوب تأخير الفعل هنا غريب حقا لأنه ليس مفروضا لإزالة التباس فى فهم معنى الجملة، أىْ فى اللغة ذاتها من حيث هى لغة، بل هو مفروض لإزالة الالتباس النحوى بين مفهومين نحويين من وضع النحاة أنفسهم وهما المبتدأ والفاعل. فالخوف من الالتباس ليس على اللغة أو المعنى، بل على علم النحو كما وضعه هؤلاء العلماء!
وهاتان القاعدتان "قاعدة تقدم الفعل على فاعله، وقاعدة تأخير الفعل الذى يلى المبتدأ وجوبا" تصنعان ازدواج تصنيف الجمل وتؤبدانه، كما أنهما تأتيان من هذا الازدواج وتتغذيان عليه. والحقيقة أنهما غريبتان على اللغة العربية وعلى منطقها الداخلى، ذلك أن اللغة ذاتها ظلت على مرونتها حيث تتقدم عناصر الجملة أو تتأخر ما شاء الناطقون أو الكاتبون بها ذلك، بشرط أمن اللبس أو التشويش أو الاضطراب فى المعانى وليس بأى شرط غريب على اللغة.
أما تقييد هذه المرونة فلا أساس له إلا فى تصورات ونظريات وأوهام ومزاعم علماء النحو الذين لا يقيدون مرونة اللغة، ولا يريدون أصلا تقييدها، وإنما يقيدون فى الحقيقة أدوات الاستيعاب النحوى النظرى لهذه المرونة فى اللغة عن طريق فرض مفاهيم نحوية متحجرة.
وبطبيعة الحال فإن هاتين القاعدتين تجدان مكانهما ضمن نسق كامل من المفاهيم النحوية التى تصنع وتؤبد تعقيدات نحوية لا حصر لها. والحقيقة أن إلغاء هاتين القاعدتين يكفى (مع إعادة النظر فى النسق بكامله) لإعادة الوحدة للمفهوم النحوى للجملة العربية بعيدا عن الجملتين الاسمية والفعلية. وبهذا وحده يمكن إزالة السور والازدواج والتعقيد فى آن معا. وأكتفى هنا بالإشارة بإيجاز إلى تصنيف آخر للجملة العربية إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ليس على أساس الابتداء بالاسم فى الأولى والابتداء بالفعل فى الثانية، بل على أساس أن الجملة الفعلية هى تلك التى تشتمل على فعل مهما كان مكانه فيها، وأن الجملة الاسمية هى تلك التى لا تشتمل على أىّ فعل مطلقا. والرد الأساسى على هذا التصنيف هو أنه يقوم على فكرة أن هناك جملة عربية تشتمل على فعل وجملة عربية تخلو منه. والحقيقة أنه لا توجد جملة عربية تخلو من الفعل إلا فى إطار مفهوم "الحذف"، وعلى وجه الخصوص فى إطار حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت، مثل قولنا: "الكتاب مفيد"، غير أن هذه الصيغة الأكثر شيوعا للمضارع المثبت الذى نحذف فيه فعل الكينونة لا ينبغى أن تحجب حقيقة أن هذا الفعل ماثل هناك، ولا يمكنك أن تأتى بالماضى أو المستقبل "إثباتا أو نفيا" أو المضارع "نفيا" دون أن يظهر فعل الكينونة الذى يرجع حذفه فى المضارع المثبت إلى الاقتصاد اللغوى.
ويعنى كل هذا بطبيعة الحال ضرورة الاكتفاء بالمفهوم النحوى الأساسى بل المحورى المتمثل فى الجملة وإلغاء تصنيفها إلى اسمية وفعلية، وكذلك ضرورة أن يحل محل مفاهيم "الأركان الأربعة الحالية" المبتدأ والخبر فى الاسمية، والفعل والفاعل فى الفعلية "ركنان" "وحيدان" للجملة مهما كان ما تبدأ به.
وهذان الركنان اللذان استخدمهما علماء النحو القدماء أنفسهم لكنْ جنبا إلى جنب "أو بصورة ثانوية أو فرعية" مع التصنيف المزدوج إلى جملة اسمية وأخرى فعلية، بركنىْ كل منهما، وبكل ما يترتب على هذا التصنيف من مذاهب مضللة، واللذان أحياهما ثم أماتهما من جديد علماء محدثون نتيجة للحدود الضيقة لتصوراتهم عما يسمونه بتيسير النحو، وكذلك نتيجة لقوة أعداء كل تجديد أو تيسير للنحو فى مصر والعالم العربى.. هذان الركنان "الوحيدان" للجملة العربية الواحدة هما: المسند إليه والمسند، هذان المفهومان اللذان يحتاجان بدورهما إلى تطوير جذرى إذا نحن أردنا للغة العربية البقاء (حتى مجرد البقاء) فى عالم القرن الحادى والعشرين، عالم المعالجة الآلية للمعلومات، هذا العالم الذى يستحيل دخوله من دون التطوير الجذرى للنحو العربى الذى كان ابن زمانه رغم إنجازاته الباهرة التى لا تزال مصدر فخرنا إلى اليوم وإلى الغد.





















الملحق 2
هل الخبر مرفوع؟

1: مقدمة لابد منها: النحو بين التيسير والتطوير
تعمدتُ أن أضع هذا العنوان الذى يبدو "مثيراً" للغاية، ليس بقصد الإثارة أو الاستفزاز، بل ليكون بمثابة رمز يتجاوز الموضوع المباشر لهذا المقال الذى يدور بالفعل حول مسألة: هل يجوز الحديث أصلاً عن إعراب الخبر، وناهيك برفع ما يسمى بالخبر المفرد، وقياس رفع النوعين الآخرين مما يسمى بأنواع الخبر عليه، كما تعلّمنا من كتب النحو العربى؟
أما الرمز المقصود فهو - كما اتضح للتو - كما يلى:
تُبرِّر لنا حقيقة أن إصلاح النحو العربى لم يحقق خطوة واحدة كبرى إلى الأمام طوال القرن العشرين بالذات، رغم كثرة المحاولات الفردية والجماعية والمجمعية والوزارية، أن نسمح لأنفسنا بإعادة النظر حتى فى قواعد النحو التى قد تبدو لنا من البديهيات مثل رفع الخبر.
والمقصود أيضاً أن أحد عوامل الإخفاق الذى انتهت إليه كافة المحاولات الرامية إلى تيسير النحو العربى، أو تبسيطه، أو تسهيله، أو تجديده، أو تحديثه، أو تطويره، أو تحريره، يتمثل فى واقع أن أغلب تلك المحاولات انطلقت من فكرة خاطئة مؤداها أن النحو العربى علم نضج واحترق كما قيل فى القديم، أى بافتراض أنه علم صحيح وكامل غير أنه وعر وشائك ومعقد فليس المطلوب إذن سوى تيسير أو تعديل طرق عرضه وتبويبه.
وصحيح أن محاولة هنا أو هناك انطلقت من رفض وتحدِّى أسطورة النحو العربى الصحيح الكامل المكتمل المحترق نُضْجاً، واتجهت نحو إعادات نظر متفاوتة العمق والنضج. غير أن من الصحيح أيضاً أن مثل هذه المحاولات القليلة بل النادرة ظلت تتميز بأن حصيلتها مجرد أفكار وتصورات جزئية مبعثرة، إنْ كانت تنطوى على نظرات صائبة فهى تظل عاجزة عن تطوير نظرية أو نظريات نحوية متسقة، فكانت أضعف من أن تصمد أمام التيارات التى تحارب كل تجديد فى العلوم اللغوية وفى النحو العربى بالذات.
على أن التيار السائد فى محاولات إصلاح النحو العربى ظلّ يتزين بالألقاب الفخمة كالتيسير أو التجديد أو التحديث أو التحرير، دون أن يلاحظ أصحاب هذه المحاولات حقيقة أنهم ينتقلون من إخفاق إلى إخفاق، بل ربما تصوروا أن إخفاقاتهم نجاحات أو حتى فتوحات كبرى. غير أن المحصلة الحقيقية ظلت تتمثل فى تلك العقدة المستعصية التى ظل يمثلها النحو العربى، والتى ظلت تتحدى من يتعلم العربية أو يعلمها، ومن يقرأ بها أو يكتب، ومن يتكلم بها أو يسمع.
ومنذ القديم، ثم طوال القرن العشرين، وإلى يومنا هذا، ترتفع الشكوى، كما يتواصل التبجح (وكله أو أكثره جعجعة بلا طحن) ضد النحو والنحاة، إلى جانب المحاولات الجادة التى تخفق أو تتبدد.
وبطبيعة الحال فإن الخريطة التفصيلية لهذه المحاولات، بالتصنيفات الدقيقة المطلوبة لتقييم إنجازاتها المحددة وإخفاقاتها المدوية، ستظل ضرورية لكل نجاح فى المستقبل. غير أن هذا العمل، الذى يبدو وصفياً للغاية وموضوعياً للغاية، سيظل مستحيلاً ما لم يستند إلى "حل" حقيقى لمشكلة النحو العربى؛ انطلاقاً من حقيقة أن هذا النحو كان ابن زمانه ومكانه، وأنه بالتالى (بعيداً عن النضج حتى الاحتراق) علم مفتوح على التطور. ذلك أن بين كل علم وموضوعه مسافة يظل محكوماً على هذا العلم بأن يعمل، ويواصل العمل دوماً، على قطعها، أو بالأحرى: على تضييقها، ربما قبل أن تتسع من جديد، فى سياق غفلة يغفلها العلم ذاته، أو فى سياق جمود يؤدى إلى عرقلة المجتمع لتطور العلم.
والحقيقة أن النحو العربى، الذى نشأ فى سياق محاربة ظاهرة اللحن الإعرابى (الأمر الذى يتمثل مغزاه فى قدم ظاهرة الازدواج النحوى فى اللغة العربية)، بدأ منذ البداية مطبوعاً بطابع خصائص نشأته إلى حدّ الخلط التام بين النحو والإعراب إلى يومنا هذا، حتى فى أحدث المراجع المجمعية، الأمر الذى ألحق الأضرار بالنحو والإعراب على حد سواء.
فبدلاً من تطوير مفاهيم نحوية ناضجة كأساس لإعراب واضح وبسيط، سار الخلط بين النحو والإعراب مع منح مكان الصدارة للإعراب بالنحو العربى على درب وصل بنا إلى المزيد من التراجع والنكوص باسم التجديد إلى حدّ بحث مسائل النحو تحت عناوين إعرابية بحتة مثل: المرفوعات، المنصوبات، المجرورات، إلخ.. على حين تلتبس المفاهيم النحوية وتتعدد ألقاب المسمى الواحد منها ويضطرب تبويبها تماماً.
وصار تيسير النحو يتمثل عند أصحابه فى مزيد من دفع هذا الاتجاه المدمر للنحو والإعراب على السواء إلى نتائجه المنطقية، حيث تتصدر العناوين والمداخل والمناهج الإعرابية، وتتراجع وتتشوه وتضمر المفاهيم النحوية، فلا تكون الأساليب والوسائل العصرية كالجدولة والرسوم البيانية وما أشبه ذلك سوى ديكورات عصرية تزين تلاوة نفس التعاويذ الإعرابية الأزلية باسم التجديد.
والحقيقة أن التيسير وما إليه "شعار" خاطئ كما أنه مستحيل كنقطة بداية. إنه وَهْم من أوهام أسطورة النحو الكامل الصحيح لكنْ المعقد والذى ينبغى بالتالى تيسيره.
إن ما يحتاج إليه النحو العربى هو التطوير الجذرى. وليس من المطلوب أبداً أن يستوعب أصول هذا التطوير أو نتائجه وتصنيفاته الدقيقة سوى علماء النحو ومعلميه ودارسيه على أعلى المستويات. أما التيسير فيأتى بعد التطوير. ويتمثل دور التيسير فى توزيع حصيلة التطوير ونتائجه على مراحل تعليمية أو مستويات بما يتناسب مع كل مرحلة أو مستوى، وهنا مجال واسع للبراعات والمهارات والأساليب والوسائل التعليمية والتربوية العصرية.
وينبغى أن نلاحظ أن النحو البالغ التطور والنضج والتعقيد، وهو النحو المنشود، ضرورى ليس فقط فى سبيل التيسير، وليس فقط لأنه ينطوى فى حد ذاته على أشكال مباشرة من التيسير لا تحصى ولا تعد. إنه ضرورى كذلك للتعامل، من ناحية، مع رفع مقتضيات التطور اللاحق للنحو كعلم لغوى، وللتعامل، من ناحية أخرى، مع مقتضيات تطور الفكر والعلوم والتكنولوجيا فى عصر علم وتقنية معالجة المعلومات آلياً. وفى هذا العصر الذى تدفع مقتضياته وضغوطه بشدة نحو وصول تبلور النحو إلى غاية من التفكيك والترابط والتماسك والتطوير والكمال حتى تكون اللغة المعنية قابلة للاستخدام بكل دقة ويسر فى سياق هذه الثورة التقنية الهائلة، يمكن القول إن النحو الجديد صار شرطاً من شروط ما أصبح يسمى بدخول القرن الحادى والعشرين.
وحتى لا نواصل جلد الذات، ينبغى أن ندرك أن ما يمكن أن نسميه بالنحو الجديد صار يفرض ثوراته على اللغات الأكثر تطوراً فى الحضارة السائدة فى عالم اليوم. ولا شك فى أن العقود الأخيرة من القرن العشرين شهدت ثورة نحوية عميقة وهائلة فى اللغتين الإنجليزية، أولاً، والفرنسية، ثانياً، فى حدود تجربتى المباشرة، وفى غيرهما من اللغات الأوروبية كذلك، بحيث صار النحو غير النحو. وسوف تقنعك أبسط المقارنات للمفاهيم النحوية فى كتب النحو الإنجليزى أو الفرنسى، بين السبعينات القريبة والتسعينات الراهنة، بأن الثورة النحوية حقيقة واقعة وربما سنحت لنا هنا فرصة الإشارة الموجزة إلى بعض ملامحها.
على أنه ينبغى الاعتراف بأن مشكلة النحو العربى مزدوجة، بل مركبة، بل معقدة. وإذا اكتفينا بذكر العناوين فهناك الازدواج النحوى الذى يسود حياتنا اللغوية بين الإعراب فى قطاعات منها وإسقاط الإعراب فى قطاعات أخرى. وهناك تمحور النحو حول الإعراب، وبالتالى ضمور المفاهيم النحوية، وحتى تراجعها من خلال محاولات التيسير طوال القرن العشرين. وهناك غياب المناخ الملائم للبحث العلمى الحر فى مجال النحو العربى كمحصلة للقيود الأيديولوچية وللرقابة الذاتية النابعة منها، أو المرتبطة بها فى أعماق أرواح وصدور الباحثين. ويساعد كل هذا بطبيعة الحال على عرقلة وتشويه التفاعل الحر مع الثورة النحوية التى شهدتها وتشهدها لغات أخرى.
وينبغى أن نشير هنا، وإنْ بسرعة، إلى الفرق بين النحو والإعراب.
وإذا كان الصرف فى أى لغة هو نظام تكوين الكلمات وأبنيتها وزيادتها وتغييرها للتعبير عن اختلاف العدد والنوع أو التعبير عن اختلاف الأزمنة، فإن النحو هو نظام تكوين الجمل فى لغة من اللغات، وبعبارة أخرى فهو نظام تكوين العلاقات بين مكونات أو عناصر الجملة.
أما إعراب الكلمات، وترتيب الكلمات (مع إسقاط الإعراب)، فكل منهما أداة (تُغنى الواحدة منهما عن الأخرى) من أدوات النحو للتمييز بين عناصر الجملة: أداة يستخدمها النحو فى هذه اللغة أو تلك، فى هذه المرحلة أو تلك. فالنحو، أى نظام تكوين الجمل، قائم فى الحالين، أى فى وجود هذه الأداة أو تلك.
وهنا تمييز واجب بين ما هو موضوعى وما هو وضعى فى كل من النحو والإعراب.
فالنحو الموضوعى نظام أو نسق نحوى ماثل فى صميم تكوين اللغة كما تتكلم و/أو تكتب بها الجماعة اللغوية المعنية بصرف النظر عن وجود، أو مدى تطور ونضج، النحو الوضعى (أى: علم النحو) الذى يدرس ذلك النحو الموضوعى. وكما سبق القول، هناك مسافة ماثلة دوما بين النحو الموضوعى والنحو الوضعى يعمل هذا الأخير دوماً على قطع جزء منها لاستيعاب ظواهر قديمة أو جديدة ينطوى عليها النحو الموضوعى. وهذا الأخير، أى النحو الموضوعى، أو "نحو العقل الجمعى”، لدى جماعة لغوية بعينها هو المرجع والأساس والأصل. أما "نحو" العلم المعروف بهذا الاسم، نحو النحاة أو النحويين أو الدارسين أو العلماء، "نحو" الاجتهاد فى فهم النحو الموضوعى، فإنه قابل دوما لإعادة النظر.
والنحو الموضوعى الجمعى يتغير تاريخياً، ولا يملك أحد التلاعب بحقائقه. أما النحو الوضعى، نحو النحاة، فلا موجب لتقديسه، بل الأجدر بنا أن نعمل دوماً على تصحيحه وتطويره انطلاقاً من تطور النحو الجمعى من ناحية، ومن تطور مناهج دراسته من ناحية أخرى.
وينطبق الشيء ذاته على الإعراب (وكذلك على بديله).
فالإعراب الموضوعى الجمعى الماثل فى صميم السليقة اللغوية الأصلية لا يملك تعديله أو تغييره أو إسقاطه سوى الجماعة اللغوية ذاتها، وبصورة تاريخية. أما فهم النحاة وأصحاب صناعة الإعراب لهذا الإعراب، وعوامله أو أسبابه والعلاقات بين حقائقه، فهو اجتهاد قابل دوما للمزيد من الاجتهاد.
وينبغى أن يكون واضحاً أن كل محاولتنا للاجتهاد فى مسائل النحو والإعراب فى اللغة العربية القريشية أو المضرية (بالضاد) إنما تنصبّ على فهم النحاة للنحو والإعراب. والمرجع دوما هو النحو الموضوعى الجمعى والإعراب السليقى، كما يتجسدان فى كلام العرب (من نثر وشعر) كما حفظه لنا تراثهم الغنى بكل عيونه وينابيعه ومصادره.

2: المسند إليه هو المرفوع الحقيقى الوحيد
ونعود إلى الخبر..
وقد علَّمتنا كتب النحو العربى أن الخبر من مرفوعات الأسماء. وبقية مرفوعات الأسماء هى كما نعلم: المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان وأخواتها" (ومنها أفعال المقاربة والرجاء والشروع).
كما علّمتنا كتب النحو العربى أن الخبر ثلاثة أنواع: 1: الخبر المفرد 2: الخبر الجملة (الاسمية أو الفعلية) 3: الخبر شبه الجملة (الظرف أو الجارّ والمجرور).
وعند "دخول" ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر من أفعال وحروف على الجملة الاسمية تظل الأنواع الثلاثة للخبر "قائمة" مع اختلاف أحكام إعرابها. فإلى جانب خبر المبتدأ المرفوع رفعاً ظاهراً أو تقديريًّا أو محليًّا للمفرد أو رفعا محليًّا للجملة أو شبه الجملة، هناك خبر "إن وأخواتها" المرفوع أيضاً وبنفس التفاصيل، وخبر "كان وأخواتها" المنصوب نصباً ظاهراً أو تقديريًّا أو محليًّا للمفرد أو نصبا محليًّا للجملة أو شبه الجملة. ويُقال لنا إن "ظن وأخواتها" أفعال تنصب المبتدأ والخبر مفعولين، كما يقال لنا إن "أعلم وأرى وأخواتهما" أفعال تنصب ثلاثة مفاعيل، ثانيها وثالثها أصلهما المبتدأ والخبر.
فالخبر المرفوع إذن هو خبر المبتدأ وكذلك خبر "إن وأخواتها" (وكل خبر عندهم خبر المبتدأ لأن خبر "إن يأتى مع المبتدأ المسبوق بالحروف المسماة بالناسخة، ولأن خبر "كان" يأتى مع المبتدأ الذى "تدخل" عليه "كان وأخواتها")، والخبر المرفوع رفعاً ظاهراً هو الخبر المفرد دون غيره.
وعندهم أن المبتدأ والخبر هما الركنان "الأساسيان" للجملة الاسمية، وعندهم جملة أخرى يسمونها الجملة الفعلية وركناها "الأساسيان" هما الفعل والفاعل.
وسوف نبحث، فى القسم الثالث والأخير من هذا المقال الموجز، مسألة: هل الخبر مرفوع، وهل يجوز الحديث عن إعرابه أصلاً؟ وهى وثيقة الصلة بمسألة: ما هو الخبر؟
وليس من المنطقى أن نجيب على السؤال الأخير حول طبيعة الخبر قبل أن نبحث أولاً طبيعة المبتدأ (وهو الركن الأول تحليلياً وليس مكانياً فيما يسمى بالجملة الاسمية).
وسرعان ما نصل إلى ضرورة إعادة النظر فى كل هذه التسميات والتقسيمات والتصنيفات: هل هناك مبرر نحوى حقيقى لتقسيم الجملة العربية الواحدة إلى جملة اسمية وجملة فعلية؟ وهل تنقسم الجملة إلى ركنين أساسيين أم إلى ركنين وحيدين؟ وبعبارة أخرى: هل الركنان هما كل ما فى الجملة أم تشتمل الجملة على مكونات أخرى؟ وهل هناك مبرر حقيقى للتمييز بين المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم كان؟ أو بين الفعل والخبر؟
وإذا كانت مرفوعات الأسماء كما يسمونها تشمل إلى جانب الخبر، كما سبقت الإشارة: المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان"، فمن الجلى أن الخبر يختلف عن بقية المرفوعات.
ومن الأفضل أن نبدأ من الآن فى استخدام تعبير المسند إليه الذى ينطبق على كل هذه المرفوعات دون الخبر، وتعبير المسند الذى يتطابق مع الخبر وحده دون غيره.
وفى كتاب العين تحدث الخليل بن أحمد عن "السَّنَد" والمسند إليه، وفى "الكتاب" تحدث سيبويه عن المسند والمسند إليه، والسَّنَد عند الخليل والمسند عند سيبويه عرفهما النحو العربى بعدهما بتعبير المسند إليه، أما المسند إليه كما استخدماه فهو ما عرفه النحو العربى بعدهما بالمسند.
والمسند إليه هو ذلك الاسم (أو الضمير، إلخ..) الذى نسند إليه الفعل ونصرّفه معه سواء تقدم الفعل عليه أو تأخر عنه، فهو يشمل إذن: المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان". فلا جدال فى أن هذه الأشياء تشترك جميعاً فى واقع إسناد الأفعال إليها وتصريفها معها، وفى واقع أن المسند إليه، فى كل هذه الصور المتنوعة والمتمايزة من نواح أخرى، هو الفاعل النحوى للفعل المصرَّف معه. وسنرى عند المزيد من مناقشة المسند (الخبر) أن الجملة العربية لا تخلو من الفعل، باستثناء فعل واحد هو فعل الكينونة يظهر فى كل الأزمنة فى النفى والإثبات ويتم حذفه فى المضارع المثبت (مثلاً: الكتاب مفيد) فى الشكل الأكثر شيوعا لاستخدام هذا الفعل فى المضارع المثبت، ومن المفارقات أن حذف فعل واحد فى اللغة كلها فى المضارع المثبت وحده دون غيره كان الأساس الوحيد لتصنيفات أساسية للجملة ولأنواع الخبر ولغير ذلك فى النحو العربى (وليس فيه وحده على كل حال) انطلاقا من أسطورة الجملة الخالية تماماً من الفعل.
وانطلاقاً من فكرة من وضع النحاة وليست فى منطق اللغة العربية تتلخص فى البدء بوضع تعبيرين مختلفين هما المبتدأ والفاعل ثم التمييز بينهما بوضع قاعدتين غريبتين على اللغة العربية تزعم إحداهما أن الفاعل يتقدم عليه فعله "وجوباً" وتزعم الأخرى أن المبتدأ يتأخر عنه فعله "وجوباً"، اختلق النحو العربى عالمين: عالم الجملة الاسمية وركناها "الأساسيان" هما المبتدأ والخبر، وعالم الجملة الفعلية وركناها "الأساسيان" هما الفعل والفاعل.
والحقيقة أن عند العرب، على خلاف ما عند نُحاتهم، جملة عربية واحدة، ما كان ينبغى أبداً تقسيمها بما تبدأ به من اسم أو فعل أو غيرهما من أقسام الكلام، ولا بما تبدأ به من مفاهيم نحوية من فاعل أو مفعول به أو ظرف أو غير ذلك. وبإدماج المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل واسم "كان" فى مفهوم المسند إليه (الفاعل) والفعل وعناصر أخرى فى مفهوم المسند (الخبر)، وبإطلاق التقديم والتأخير بينهما إلا فيما تمليه مقتضيات أمن اللبس، يندمج هذان العالمان النحويان الوهميان فى عالم نحوى حقيقى واحد. وعندئذ يمكن الحديث عن حقيقة أن الجملة تنقسم تحليلياً إلى المسند إليه والمسند (أو المسند والمسند إليه)، وأنهما ركناها أو قسماها الوحيدان وليسا ركنيْها أو قسميْها الأساسييْن، ذلك أن الجملة ليس فيها سوى المسند إليه (الفاعل) والمسند (الخبر).
وإذا كان الخليل بن أحمد وسيبويه قد أدمجا ما يسمى بمرفوعات الأسماء باستثناء الخبر فى مفهوم نحوى واحد استقرت تسميته فى نهاية الأمر فى مفهوم وتعبير المسند إليه، على حين صار تعبير المسند متطابقاً مع الخبر، فالحقيقة أن كل هؤلاء النحاة وكذلك النحاة المحدثون (باستثناء نادر وبالغ الأهمية رغم حدوده الضيقة) قاموا بتهميش تعبيرى المسند إليه والمسند فاستخدموهما، لكنْ إلى جانب التسميات الأخرى وعلى هامشها، مع الاحتفاظ بعالمى الجملة الاسمية والجملة الفعلية متجاوريْن ومتمايزيْن، بفضل أساطير التقديم الوجوبى والتأخير الوجوبى ومزاعم أمن الالتباس ليس فى اللغة والمعنى، بل بين مفاهيم نحوية من وضع النحاة أنفسهم مع أنها غريبة على اللغة العربية القريشية التى هى لغة إعراب أى لغة مرونة فى ترتيب كلمات أو مكونات أو عناصر الجملة، وهى مرونة تتعارض مع تقييد المسند والمسند إليه بمكان، وتعنى إطلاق التقديم والتأخير بينهما مع مراعاة المقتضيات الحقيقية لأمن اللبس.
وهناك فرق فى التصريف مع بعض الضمائر بين تقدم الفعل على المسند إليه أو تأخره عنه (مثلاً: يتفوق المجتهدون - المجتهدون يتفوقون). وهناك أيضاً فرق "إعرابى” فعندما يتقدم الفعل يكون المسند إليه مرفوعاً (باستثناءات قليلة بل نادرة). أما عندما يتأخر الفعل فإن المسند إليه يتأثر بمؤثرات سابقة على الإسناد إليه كأن تسبقه الحروف المسماة بالناسخة أو حروف الجر "الأصلية" أو حتى أن يكون مفعولا به لفعل و"فاعل" سابقيْن (وبالطبع فإن النحو العربى لا يعترف بشيء من قبيل المفعول الفاعل لأن هذا الأخير يتقدم عليه فعله "وجوبا"). غير أن هذيْن الفرقيْن "التصريفى” و"الإعرابى” لا ينبغى أن يبررا التمييز النحوى المبدئى بين المبتدأ من جانب والفاعل و"نائبه" واسم "كان" من جانب آخر. كما أن الفروق الدلالية بين أنواع المسند إليه (بين أن نصرف معه الفعل التام المبنى للمعلوم أو المبنى للمجهول أو الفعل الناقص) لا ينبغى أن تحول دون استيعاب ما يسمى بنائب الفاعل واسم "كان" فى مفهوم المسند إليه مع الفاعل والمبتدأ، مع تقديم كافة الإيضاحات اللازمة للتمييز بين دلالات شتى للمسند إليه ذاته.
وكما نجد فى واقع اللغة العربية (ولغات الإعراب الأخرى قديما وحديثاً) فإن المسند إليه (الفاعل) هو المرفوع الحقيقى الوحيد، وهو عنصر من عناصر الجملة يعنى الفاعل النحوى للحدث، أما بقية عناصر الجملة (الفعل، المفعول به، متمم الفاعل أو المفعول به، الظرف) فهى التى يتكون منها المسند (الخبر) الذى يتمثل حده الأدنى فى الفعل الذى لا يخلو منه المسند (الخبر) وبالتالى الجملة أبداً، ويتمثل حده الأقصى فى هذه العناصر الأربعة جميعاً، وسنقف عند المسند وعناصره فى القسم الثالث والأخير، وإنما نومئ هنا إلى تعدد عناصر المسند كأساس للإشارة إلى أن المسند (الخبر) خارج الإعراب من رفع أو غيره. وهناك مرفوعات عشوائية فى مواضع قليلة ويسهل الإلمام بها ومنها ما يسمى بالخبر المفرد المرفوع، أما رفع المسند إليه فلا يمكن فهمه إلا فى إطار مخالفته منطقياً ونحوياً وإعرابياً، لنصب المفعول به وهو أحد عناصر الجملة ويأخذه الفعل المتعدى ضمن المسند (الخبر) فى عدد من نماذج الجملة، وهى نماذج تتعدد بتعدد نماذج المسند (الخبر).
وسيكون علينا أن نكتفى بإشارات موجزة إلى عدد آخر من أساطير النحو العربى التى يقوم عليها عدد من أبوابه، وهى أساطير الحروف والأفعال المسماة بالناسخة.
وحروف "إن وأخواتها" أدوات تقدم جملة أو تربط بين جملتين ولهذا يأتى بعدها المسند إليه (الفاعل)، ويكفى بالتالى أن نعتبرها أدوات أو حروفاً ناصبة للأسماء (أو للمسند إليه)، بعيداً عن أسطورة الحروف الناسخة للمبتدأ والخبر.
وهناك أسطورة أن أفعال "ظن وأخواتها" تأخذ أو تنصب مفعولين. ولا شك فى أن هذه الأفعال تأخذ "منصوبين" فى الاستخدام النموذجى المميز لهذه الأفعال. غير أن أقل تأمل متحرر من تقديس النحاة يوضح أن أحد المنصوبين مفعول به وأن الآخر لا يمكن أن يكون مفعولا به. فإذا قلت: "ظننتُ محموداً قادماً"، فلا يمكن أن يكون "قادماً" هذا مفعولاً به، إنه بالأحرى: متمم للمفعول به. ذلك أن الجملة يقع فيها الحدث الذى يتضمنه فعل الظن على كلمة "محموداً" وهو المفعول به، ولكنه لا يقع على كلمة "قادماً" التى هى صفة ضرورية أو إجبارية للمفعول به لإتمام معنى الجملة فى هذا النموذج من نماذج الجملة.
وهناك أسطورة أن أفعال "أعلم وأرى وأخواتهما" تأخذ أو تنصب ثلاثة مفاعيل. والحقيقة أن المنصوب الثالث، وهو المفعول الثالث المزعوم، ليس سوى متمم المفعول به، وهذا المتمم يظهر مع أفعال "أعطى وأخواتها" أيضاً. وإذا كان بوسعى أن أقول: "أعلمتُ محموداً الخبر يقيناً" فإن بوسعى أن أقول أيضاً: "أعطيت محموداً الكتاب جديداً". وكل من كلمتى "يقيناً" و"جديداً" متمم للمفعول به وشرطهما أن يكون المفعول المباشر: "الخبر" فى الجملة الأولى، و"الكتاب" فى الجملة الثانية، معرفة، أما المفعول الأول: "محموداً" فى الجملتين فهو المفعول غير المباشر وهو "متلقى” أو "آخذ" المفعول المباشر.
وفى الاتجاه المعاكس لأدوات نصب الأسماء "إن وأخواتها" تؤثر أفعال "كان وأخواتها" فيما يسمى بالخبر غير أنها لا تؤثر فى المسند إليه، فهو مرفوع ككل مسند إليه، ما لم يخضع قبل الإسناد إليه لتأثير ناصب أو جارّ (وليس هذا تأثير "كان وأخواتها" بطبيعة الحال).
ولهذا أشرنا إلى أنه ينبغى إدماج ما يسمى باسم "كان" فى المفهوم المحدّد لعنصر الجملة المسمى بالمسند إليه (الفاعل).
وبعيداً عن أسطورة أن أفعال "كان وأخواتها" ناسخة للمبتدأ والخبر، نشير إلى أن هذه الأفعال يتكون معها نموذجان من نماذج الجملة: (المسند إليه + كان + متمم الفاعل) و(المسند إليه + كان + ظرف المكان – وظرف الزمان فى حالات بعينها). أى أن ما يسمى بخبر "كان" يدخل فى إطار مختلف تماماً بنموذجين من نماذج المسند (الخبر)، وترتبط هذه النماذج ارتباطاً وثيقاً بأنواع الأفعال: الناقص واللازم والمتعدى إلى مفعول واحد أو مفعولين وكذلك بإمكانات استخدام المتعدى إلى مفعول واحد أو مفعولين وكذلك بإمكانات استخدام المتعدى إلى مفعول واحد لازماً أيضاً واستخدام المتعدى إلى مفعولين لازما أو متعدياً إلى مفعول واحد أيضاً.
وإذا ابتعدنا عن أسطورة أن الجملة تشتمل على عناصر أخرى غير المسند إليه والمسند، وهى عناصر أسماها النحو العربى التقليدى "فَضْلة" (كما أسماها النحو الفرنسى وما يزال يسميها "تكملة" بنفس المعنى)، واعتبرنا المسند (الخبر) شاملاً لكل ما فى الجملة باستثناء المسند إليه، كما يفعل "النحو الجديد" بوجه عام، يغدو من الجلى تماماً أن المقصود بالخبر سيختلف، وأن هذا الخبر يظل خارج مسألة الإعراب لتعدد عناصره، ولعدم مخالفته نحوياً للمسند إليه، وأن العثور على مرفوع عشوائى، وإعلانه "خبراً"، ثم قياس إعراب "الخبر" ورفعه عليه، أمور ليس لها مبرر حقيقى من نحو أو منطق، كما سنرى فى القسم التالى.

3: المسند (الخبر) لا علاقة له بالإعراب
المسند (الخبر) حُكْم، فالمسند إليه "محكوم عليه"، والمسند "محكوم به"، والمسند إليه "مُتحدَّث عنه" والمسند "مُتحدَّث به"، والمسند إليه "موضوع"، والمسند "محمول".
وما دام المسند (الخبر) حُكْماً، فلا يمكن أن يتمثل الحكْم فى اقتناص "كلمة" أو "عبارة" وردت ضمن هذا الحكم والمطابقة بينها وبين الحكم كله، كما يفعل النحو العربى، والنحو التقليدى بوجه عام فى لغات أخرى، حتى عندما تتعدد الكلمات أو العناصر أو "الحيثيات" الواردة فى الحكم.
وكما سبقت الإشارة فإن الجملة العربية تنقسم إلى جزءيْن أو قسميْن أو ركنيْن "وحيدين" هما المسند إليه "الفاعل" والمسند "الخبر". والمسند إليه عنصر واحد من عناصر الجملة. ويختلف المسند عن هذا تماما، فهو كل ما تقوله الجملة عن المسند إليه، وهو كل الجملة باستثناء المسند إليه.
والمقارنة بالمسند إليه (الفاعل) الذى يتطابق - مهما تعددت كلماته أو تنوعت صيغه - مع عنصر واحد من عناصر الجملة فإن المسند (الخبر) مفهوم فضفاض يشتمل على عناصر قد تتعدد من عناصر الجملة، فيما بين مسند (خبر) الحدّ الأدنى، المكون من عنصر إجبارى واحد هو الفعل المستخدم لازماً (حتى إنْ اشتملت الجملة على كلمات أو عناصر أخرى اختيارية لاستيعاب بعض المعانى والدلالات المقصودة فى الجملة دون أن تكون إجبارية لهذا النموذج للجملة أو لهذا النموذج للمسند)، ومسند الحد الأقصى، المكوّن من أربعة عناصر إجبارية هى الفعل والمفعول به والظرف والمتمم (متمم الفاعل أو المفعول).
وعلى هذا فإن المسند (الخبر)، بحكم بداهة طابعه الفضفاض لاشتماله على عناصر ومكونات وتراكيب متعددة، يخرج من دائرة الإعراب (من رفع أو نصب أو خلافهما)، كما أنه يخرج، لنفس السبب، من دائرة المفاهيم النحوية التحليلية الفعالة التى ينبغى أن تكون أضيق نطاقاً، وهى التى ينطبق عليها مفهوم عنصر الجملة.
والحقيقة أن اللغة العربية القريشية أو المضرية (بالضاد) - بحكم بداهة كونها لغة إعراب وبالتالى لغة مرونة تركيب للكلمات (أو العناصر) فى الجملة - لا تشترط بحال من الأحوال أن يأتى المسند إليه قبل المسند، ولا أن تأتى كلمات المسند أو مكوناته أو عناصره متجاورة قبل أو بعد المسند إليه. فالمسند يأتى بعد المسند إليه أو قبله، وقد تأتى كلمة أو كلمات منه قبله وكلمة أو كلمات أخرى منه بعده فى الجملة الواحدة. وفى الجمل التالية وضعنا المسند (الخبر) بين قوسين:
(تفوقت) عزة.
عزة (تفوقت).
عزة (متفوقة).
(يتفوق) التلميذ المجتهد (لأنه يعتمد على نفسه).
(إن) حب الوطن (من الإيمان).
(كان) الناس (لا يرون بعضهم البعض من كثافة الشبورة).
هذه المرأة أعداؤها (يكثرون).
على أن الموضوع داخل القوس فى كل جملة قد لا يكون كل المسند (الخبر)، وذلك فى حالة حذف فعل الكينونة فى المضارع المثبت، مثل جملة: عزة (متفوقة)، أو جملة: (إن) حب الوطن (من الإيمان). والنحو العربى يعتبر (متفوقة) خبرا مفردا كما يعتبر (من الإيمان) خبراً شبه جملة (من جارّ ومجرور). غير أنه ينبغى اعتبار فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت جزءاً لا يتجزأ، كما يقال، من المسند (الخبر)، أما ما يعتبره النحو العربى خبراً فى الجمل التى تتكون مع أفعال "كان وأخواتها" (فى حالة ظهور هذه الأفعال جميعا كما فى حالة حذف فعل الكينونة دون غيره فى المضارع المثبت) فهو متمم للفاعل فى أحد نموذجين للجمل يأتيان مع هذه الأفعال، وهو ظرف فى النموذج الثانى.
وهنا ينبغى أن نقف بإيجاز عند أنواع الخبر، كما علّمتْنا كتب النحو العربى: 1: الخبر المفرد 2: الخبر الجملة (الاسمية أو الفعلية) 3: الخبر شبه الجملة (الظرف أو الجارّ والمجرور).
والخبر المفرد، عندهم، مثل "مفيد" فى جملة: "الكتاب مفيد". غير أن "مفيد" ليس خبراً وإنما هو جزء من الخبر مع الفعل المحذوف قبله (فعل "يكون" أى المضارع المثبت لفعل الكينونة)، كما أشرنا من قبل إلى أن "مفيد" هو متمم الفاعل وهو عنصر الجملة الذى يأتى مع أفعال كان وأخواتها لإتمام المعنى فى جملة مفيدة. فليس هذا إذن خبراً ولا مفرداً. ويقال إن هذا "الخبر المفرد" مرفوع ويُقاس عليه، باعتباره "الخبر" الوحيد الذى يقبل الرفع الظاهر، رفع باقى ما يسمى بأنواع الخبر فى إطار ما يسمى بالإعراب المحلى. والحقيقة أن متمم الفاعل (الذى يسمونه الخبر المفرد) مرفوع، ولا يملك أحد حق إلغاء هذا الرفع الذى صار أصلاً من أصول النحو الموضوعى الجمعى ذاته، غير أنه مرفوع رفعاً عشوائيا والمقصود أن متمم الفاعل هذا أصله النصب مع كان الظاهرة وأخواتها. وإنما كان رفعه ناتجاً عن التأثير التراكمى للاقتصاد اللغوى نتيجة حذف فعل الكينونة فى جملة زمنها المضارع مع هذا الفعل عندما يأتى مثبتا دون حاجة إلى ظهوره لمعرفة زمن الجملة. ولهذا لا ينبغى قياس "رفع" ما يسمى بالخبر، بكل أنواعه، على هذا الرفع العشوائى لعنصر ليس هو ذاته "خبراً" بحال من الأحوال.
والواقع أن النحو العربى أحسّ منذ القديم بمشكلة المحذوف الذى تصوره فعلاً أو اسم فاعل يدل على الكون العام، وسمّاه "مُتَعَلَّق" الظرف أو الجار والمجرور. وهذا المفهوم الصحيح فى جوهره لكن ليس فى تفاصيله، والذى جرى تهميشه أو نبذه نبذ النواة كما فعل ابن مضاء القرطبى ومن نحا نحوه، ينبغى إحياؤه وتصحيحه، فالمحذوف فعل، وهو فعل الكينونة دون غيره، وفى المضارع المثبت دون غيره، وهو لا يقتصر على الظرف والجارّ والمجرور فقط بل يمتد إلى ما يسمى بالخبر المفرد وإلى ما يعتبر من الخبر الجملة الاسمية الخالية من كل فعل ظاهر.
وعلى هذا يتضح أن ما يسمى بالخبر شبه الجملة إنما هو خبر أو مسند مع المحذوف "يكون" (ومع بقية كلمات الجملة باستثناء المسند إليه). أما الظرف أو الجارّ والمجرور المسمى بالخبر شبه الجملة فهو بالأحرى أحد عنصريْن: عنصر الظرف بألفاظه المباشرة أو بالجارّ والمجرور بمعنى الظرف، أو: عنصر متمم الفاعل فى شكل من أشكال تحقيقه (الجارّ والمجرور) بالإضافة إلى الاسم والصفة باعتبارهما شكلين أساسيين من هذه الأشكال.
أما ما يسمى بالخبر الجملة الاسمية فهو، عندهم، كالخبر كله: مفرد أو شبه جملة أو جملة (فعلية). وباعتبار الفعل المحذوف "يكون" ينطبق ما قيل أعلاه على "الخبر" المفرد وشبه الجملة، كما ينطبق ما سنقوله بعد قليل عن الخبر الجملة الفعلية على نظيره كخبر فى الجملة الاسمية. غير أن خصوصية الجملة المسماة بالاسمية هى أنها تشتمل على مبتدأ أول ومبتدأ ثان، وهذا الأخير هو ما يتم إسناد الفعل إليه فى مثل: "الكتاب غلافه يلمع" أو فى مثل: "المرأة أنصارها يكثرون"، ولهذا فهو المسند إليه دون غيره أما ما يسمى بالمبتدأ الأول أو المسند إليه الأول فليس سوى المضاف إليه الذى تأخر عنه مضافه الفاعل (غلاف الكتاب يلمع، أنصار المرأة يكثرون) أو مضافه المفعول به فى مثل: النخل نأكل ثمره (نأكل ثمر النخل). وهذا المضاف إليه "المتقدم" مرفوع عشوائياً أيضاً، ويجب أن نعتبر رفعه من أصول اللغة العربية، غير أنن ينبغى أن ندرك أن أصله الجرّ بالإضافة وأنه مرفوع عشوائياً مثل ما يسمى بالخبر المفرد، كما ينبغى أن ندرك أنه ليس المسند إليه بحال من الأحوال.
وفى الخبر الجملة الفعلية كما يسمونه، فى مثل: "الكتاب يفيد القارئ"، يعتبرون "يفيد" وحده ليس خبراً فقط بل خبراً جملة فعلية. والسر وراء اعتبار الفعل الواحد جملة (فعلية) إذا تأخر عن المسند إليه هو القاعدة التى وضعها النحاة والتى تجعل لكل فعل فاعلاً يتقدم عليه فعله وجوباً. ففى الجملة السابقة يبحثون عن فاعل للفعل "يفيد" غير "الكتاب" لأن الفعل تأخر عليه وجوباً لأنه المبتدأ عندهم. ومن هنا اخترعوا الضمير المستتر بعد الفعل والذى يعود على المبتدأ ("الكتاب")، والذى يُعرب فى محل رفع فاعلاً، ومن هنا زعمهم أن هذا الفعل مع فاعله المستتر الوهمى جملة فعلية خبراً للمبتدأ.
وهناك اختراع آخر تصبح نهايات تصريف الأفعال بمقتضاه ما يسمى بضمائر الرفع البارزة المتصلة. ومن هنا يعتبرون ما يسمونه بضمير الرفع البارز المتصل فاعل الفعل حيث يشكلان معاً جملة فعلية خبراً للمبتدأ، بدلاً من التعرف على المسند إليه (الفاعل) فى "الاسم الذى تقدم على الفعل.
والحقيقة أن "إلغاء" ما يسمى بالضمير المستتر وما يسمى بضمير الرفع البارز المتصل و"إلغاء" إعرابهما فاعلاً (نتيجة لإطلاق التقديم والتأخير بين المسند إليه والمسند فى النحو كما فى اللغة ذاتها مع مراعاة المقتضيات الحقيقية لأمن اللبس) يُلغيان جانباً هائلاً مما يسمى بالإعراب المحلى، الأمر الذى ينطوى فى حدّ ذاته على تيسير كبير.
وهكذا تتبخر أسطورة "أنواع الخبر" (خبر المبتدأ وخبر إن وخبر كان) دفعة واحدة. ويتضح أن المسند يشتمل على أكثر من عنصر من عناصر الجملة، وأن نماذج المسند تتنوع بتنوع الأفعال وارتباط كل نوع من الأفعال، فى استخدامات بالذات، ارتباطاً إجبارياً، أى: من حيث تكوين النماذج باعتبارها نماذج، ببقية عناصر الجملة التى تأتى ضمن المسند، أى باستثناء المسند إليه.
ومن الجلى أن الجملة حتى فى أبسط أشكالها تشتمل على حدث. وهذا الحدث الذى يعطى فى الوقت ذاته "زمنا" هو ما يعبر عنه عنصر الجملة الذى نسميه بالفعل. أما عنصر الجملة الذى نسميه بالمسند إليه فهو فاعل الفعل (بما فى ذلك فعل الكينونة المحذوف فى المضارع المثبت) أو فعل الأمر أو المضارع المنفى للنهى (وهنا يكون المسند إليه محذوفاً). والمسند إليه هو الفاعل "النحوى” حتى إنْ كان مفعولاً به فى المعنى سواء فى المبنى للمعلوم (مثل: "انكسر الزجاج") أو فى المبنى للمجهول (مثل: "كُسِر الزجاج")، وحتى إنْ كان الفعل مجرد فعل من الأفعال الرابطة أو الناقصة.
والمسند إليه هو المرفوع الوحيد ولا مرفوع سواه اللهم إلا رفعاً عشوائياً وفى مواضع قليلة يسهل الإلمام بها.
وعلى الجانب الآخر، منطقياً وتحليلياً وليس مكانياً، نجد فى "قلب" دائرة ما يسمى بمنصوبات الأسماء، وفى مقابل المسند إليه (الفاعل) مباشرة، عنصر الجملة الذى نسميه بالمفعول به، والذى يدخل مع المسند إليه فى علاقة مخالفة فى الوظيفة النحوية (المؤثر والمتأثر بالفعل المتعدى)، وكذلك فى علاقة مخالفة إعرابية تتمثل فى رفع المسند إليه (الفاعل) مقابل نصب المفعول به. وهذا الأخير هو المنصوب، عن كل حق، بحكم المخالفة النحوية وبالتالى الإعرابية.
ويبقى ضمن دائرة ما يسمى بمنصوبات الأسماء (وهى بمثابة جملة تأتى فى شكل من أشكال تحقيقها فى حالة النصب بالإضافة إلى الألفاظ المبنية أو التراكيب المتعددة الألفاظ فى أشكال أخرى لا تقبل الإعراب بطبيعتها) عنصران هما عنصر الجملة الذى نسميه الظرف، وعنصر الجملة الذى نسميه المتمم (متمم الفاعل ومتمم المفعول المباشر). ويجيب الظرف على أسئلة متنوعة موجهة إلى الحدث: أين حدث، ومتى، وكيف، ولماذا، إلخ إلخ .. ولهذا فإنه لا ينبغى أن يقتصر على المكان والزمان، فهو بالأحرى "وعاء" واسع لكثرة مما يسمى بمنصوبات الأسماء.
ويأتى الظرف كعنصر إجبارى (ظرف المكان وقليلاً الزمان) فى نموذج للجملة مع الأفعال الناقصة، وفى نموذجين مع الأفعال المستخدمة متعدية: نموذج مع المتعدى إلى مفعول واحد ونموذج مع المتعدى إلى مفعولين.
أما العنصر الذى نسميه المتمم فمنه متمم الفاعل وهو متمم إجبارى للمسند إليه (الفاعل) فى نموذج بعينه للجملة مع الأفعال الناقصة، ومنه متمم المفعول به وهو متمم إجبارى للمفعول (المباشر) فى نموذجين للجملة أحدهما بمفعول واحد والآخر بمفعولين.
وهذا التقسيم الخماسى تحليلياً لعناصر الجملة ينطلق من فكرة الجوانب الأكثر جوهرية وإجبارية فى النماذج الأساسية للجملة، وهى جوانب تتعلق بالحدث وزمانه أى: الفعل، بالإضافة إلى جوانبه الفاعلية والمفعولية والظرفية وإتمام الفاعل أو المفعول به. والحقيقة أن عناصر الجملة والنماذج الأساسية للجملة والنماذج الفرعية التى تنشأ من تنوعات أشكال تحقيق كل عنصر من عناصر الجملة، تُعَدُّ من أنضج ثمار النحو الجديد أو الثورة النحوية الراهنة فى اللغة الإنجليزية وفى لغات أخرى، كما أنها قابلة للتطبيق على كل نحو فى كل لغة مع أخذ السمات الخاصة والنوعية لكل لغة وبالتالى لنحوها فى الاعتبار.
وعلى أساس هذا التقسيم الخماسى لعناصر الجملة، وبافتراض تكرار عنصر المفعول به فى حالة التعدى إلى مفعولين فى الجملة البسيطة، وبصرف النظر عن تكرار أية عناصر اختيارية فى الجمل، نتوصل إلى النماذج الأساسية التالية للجملة العربية، وإذا حذفنا المسند إليه (الفاعل) تبقى لدينا النماذج الأساسية للمسند (الخبر):

النموذج مثال
1: الفاعل + الفعل اللازم: الطفل بكى، أو: غرق محمود.
2: الفاعل + الفعل الناقص + متمم الفاعل: أ: حسين كان مستنيرًا.
+ متمم الفاعل: ب: حسين كان رجلا.
3: الفاعل + الفعل الناقص + الظرف: هند كانت فى المكتبة.
4: الفاعل + الفعل المتعدى + المفعول به: عزة تحب هنداً.
5: الفاعل + الفعل المتعدى + المفعول + متمم المفعول: أ: عزت ظن محمداً كريمًا.
+ متمم المفعول: ب: عزت ظن محمدًا طبيباً.
6: الفاعل + الفعل المتعدى + المفعول + الظرف: عزت ظن الحفل فى البيت.
7: الفاعل + الفعل المتعدى + مفعولان: أعطى حسن حساماً الكتاب.
8: الفاعل + الفعل المتعدى + مفعولان + متمم المفعول: أ: أعطى حسن حُساماً الكتابَ جديداً.
+ متمم المفعول: ب: أعطى حسن حُساماً الكتابَ هديةً.
9: الفاعل + الفعل المتعدى + مفعولان + الظرف: أعطى حسن حُساماً الكتاب فى موعده.
وبأخذ أشكال تحقيق كل عنصر من هذه العناصر فى الاعتبار تتبلور أمامنا خريطة معقدة من عشرات النماذج الفرعية للجملة العربية. غير أنه من الجلى أنه لم يكن بوسع هذا المقال أن يتجاوز مناقشة بالغة الإيجاز، إلى حدّ تلغرافى، لبعض وليس لكل القضايا الملحة التى يثيرها تطوير النحو العربى فى عصر صار يستحيل فيه مجرد بقاء هذه اللغة بدون تحقيق التطوير الجذرى المنشود.










الملحق 3
لويس عوض والبحث عن أصل اللغات
"حول مقدمة فى فقه اللغة العربية"

لا يدهشنا أبدا-أو لا يدهشنا كثيرا- أن يمتد البحث العلمى الموسوعى للدكتور لويس عوض ليشمل اللغة بوجه عام، أو اللغة العربية بوجه خاص.
لا يدهشنا هذا رغم أن البحث العلمى اللغوى كان شيئا نادرا بين كبار الأدباء والمفكرين والعلماء فى جيل لويس عوض، وفى أجيال أخرى قبله وبعده.
وعلى سبيل المثال الصارخ فإن طه حسين، وهو المثل الأعلى للأدب العربى والفكر العربى، كان رغم إتقانه معرفة علوم ومسائل اللغة، ورغم رعايته وتشجيعه لجهود البحث العلمى الحر فى اللغة العربية وعلومها، ورغم إسهامه البارز؛ بل الاستثنائى مع الأجيال الأولى من الأدباء والمفكرين والعلماء فى القرن العشرين فى تطويع اللغة العربية للتعبير عن الثقافة العربية الحديثة؛ لم يكن له أى إسهام علمى مباشر فى مجال اللغة، كذلك فإن العقاد، رغم دوره الذى لا ينكر مع غيره فى تحديث اللغة العربية، لم يقدم أى إسهام علمى لغوى.
ورغم هذه القاعدة العامة هناك أفق واسع ولكنْ إسهام محدود لأمين الخولى فى مجال النحو العربى، ويبرز اسم إبراهيم مصطفى فى هذا المجال، وقد كان العقل النحوى المفكر وراء محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة (عندما كان ما يزال رافعة من روافع تطوير علوم اللغة العربية) بالتعاون مع وزارة المعارف المصرية فى منتصف القرن العشرين لتطوير وتحرير النحو العربى، تلك المحاولة البالغة الأهمية لكن التى فشلت فى نهاية الأمر تحت الضربات المتلاحقة من جانب أعداء تطوير النحو العربى بالذات ولكنْ أيضا، بسبب نقاط ضعفها، ويسطع اسم إبراهيم أنيس كمثال نادر فى البحث اللغوى الذى توجته إنجازات علمية فذة فى عدد من علوم اللغة العربية.
أما جهود الأكاديميين فى مجال علوم اللغة فقد ظلت -كقاعدة عامة- داخل إطار قاس من الاجترار الكسول لنقاط ضعف تراثنا مع تفادى أو محاربة نقاط قوته، ومن العرض التعليمى للعلوم اللغوية قى الغرب، ووضع هذا وذاك فى علاقة تجاور جامدة، رغم استفادات شتى بشرط ألا تنال من أسطورة اللغة العربية المقدسة وألا تحاول أن تطبق عليها القوانين اللغوية التى تنطبق على اللغات "الأخرى" فلا تمس العربية!
مع كل هذا، لا يدهشنا كثيرا أن يشمل لويس عوض مجال اللغة أو اللغة العربية بإنتاجه الموسوعى، هذه طبيعة موسوعيته فى عصر أو قرن كان قد سار فيه البحث اللغوى محور محاور نظريات ومذاهب الفكر والفلسفة.
على أنه "يبدو" من المدهش حقا أن يكون نوع البحث اللغوى، الذى استطاع أن ينتزع لويس عوض من اهتماماته الفكرية والنقدية الكثيرة الأخرى، هو فقه اللغة، وبالأخص علاقة اللغة العربية بمسألة أصل مشترك للغات السامية والحامية واللغات الهندية الأوروﭙية وربما غيرها.
فكيف نفسر هذه العودة المباشرة إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى التركيز على الفيلولوچيا، ومجموعات اللغات، وأصل اللغات، بعد أن كان العلم اللغوى فى الغرب قد تحرك مبتعدا وظل مبتعدا طوال القرن العشرين عن ذلك التركيز الفيلولوچى؟
وهناك بالطبع تفسير جاهز، إنه الكيد للإسلام والعربية! على اعتبار أن هذا النوع من البحث الفيلولوچى هو المجال الطبيعى لبحث مسألة أن تكون اللغة العربية، كغيرها من اللغات، جزءًا لا يتجزأ من تفاعل لغوى هائل قد يقتصر على مجموعات لغات بعينها أو يمتد ليشمل كل لغات الأرض.
على أن هناك مجالا لتفسير أكثر إنصافا وأكثر موضوعية، وإذا كان مذهب تقديس اللغة العربية وعلومها قد حكم على هذه العلوم بالجمود الأزلى بعيدا عن إنجازاتها الكبرى فى أزهى عهود الحضارة العربية الإسلامية، فقد تمثل الواجب الإلزامى فى أن يجدّ السعى بحثا عن أسباب لتطوير علومنا العربية التى تخلفت بصورة فادحة عن العلم الغربى، فى إطار اللحاق والتعويض وسدّ الفجوة، وكان من المنطقى أن يكون من هذه الأسباب -بين أشياء أخرى- ضرورة العودة إلى علم لغوى تفادينا وحاربنا تأثيره فى علومنا اللغوية طوال القرن العشرين، وهو علم اللغة التاريخى أو المقارن أى فقه اللغة، وهكذا جاءت محاولة لويس عوض لتطبيق نتائج هذا العلم على اللغة العربية، أو بالأحرى محاولته لاستكمال هذا التطبيق الذى بدأه وطوّره العلم اللغوى الأوروپى، فى وقتها، خاصة عندما بدا ("بدا" فقط للأسف!) أن ثقافتنا العربية الحديثة صارت أنضج نسبيا للدخول فى مثل هذا الحوار العلمى عبر اللغوى حول لغتنا لتطوير علومها بدلا من تقزيمها باسم التقديس والتكريم والحماية والصون!
وهناك مدخل آخر إلى العودة أو ما يشبه العودة إلى مسألة أصل اللغات، ويتمثل هذا المدخل فى أحدث إنجازات علم الآثار، فقد أعطت هذه الإنجازات دفعة جبارة للعودة إلى بحث أصول اللغات الهند-أوروﭙية من حيث الإطار الزمنى لهذه المسألة ومن حيث النماذج المتنوعة للانتشار، وينطبق الشيء نفسه على مسألة أصول كل مجموعة من مجموعات اللغات الأخرى مع تقدم أبحاث ونتائج وإنجازات علم الآثار فى مناطق هذه اللغات، غير أن هذه الإنجازات أعطت دفعة جبارة أيضا لمسألة الأصل الأول المشترك أو الأصول الأولى المشتركة لكل اللغات التى عرفتها البشرية، ذلك أن علم الآثار يتجه فى العقود الأخيرة إلى حسم فرضية ظهور الإنسان العاقل أو الأحدث homo sapiens sapiens (وليس الإنسان العاقل أو الحديث homo sapiens وهو السلف المباشر للإنسان الأحدث) منذ حوالى أربعين أو خمسين أو مائة ألف سنة، فى منطقة واحدة من العالم بلغة واحدة، ثم انتشار هذه اللغة مع انتشاره لإنشاء مواطن جديدة فى مختلف أنحاء العالم تقوم فيها مجتمعات الصيادين-جامعى الثمار ، وهى المواطن والمجتمعات التى انتشرت إليها فيما بعد مجموعات لغات مثل مجموعة اللغات الهند-أوروﭙية جنبا إلى جنب مع انتشار الحضارة الزراعية، يتجه علم الآثار فى العقود الأخيرة إلى حسم هذه الفرضية وإحلالها نهائيا محل فرضية ظهور هذا الإنسان (الأحدث) فى مناطق متعددة بلغات مختلفة.
وتتمثل الفكرة الجوهرية فى كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية" فى فرضية أو نظرية الأصل الواحد المشترك للمجموعات اللغوية السامية والحامية والهندية الأوروﭙية والطورانية وربما غيرها - كما قال: إنها فكرة أن مجموعات اللغات هذه إنما هى الفروع الرئيسية لشجرة واحدة أسبق منها جميعا، ولم يقل الكتاب مطلقا إن العربية فرع من اللغات الهندية الأوروﭙية، كما جاء فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر أو كما جاء فى نص الحكم القضائى بتأييد ضبط الكتاب ومنع توزيعه.
ويقع هذا الكتاب الضخم فى قسمين: الأول - ويمثل رُبْع حجمه تقريبا - مخصص لعرض الفكرة الجوهرية السابقة بالإضافة إلى قضايا كثيرة اعتقد لويس عوض أنها ضرورية فى سياق عرض نظريته، أما أنا فأعتقد أن عشرات الصفحات فى هذا القسم الأول الذى يزيد قليلا على المائة صفحة، وهو القسم النظرى، تبددت حول موضوعات شتى لا تتصل مباشرة بموضوع الكتاب وكان بوسع لويس عوض أن يَفْصلها، مكرسا تلك الصفحات لمزيد من العرض السلس للمسألة التى كانت تحتاج إلى المزيد من القول حتى يكون العرض سلسا وناجحا ومنتجا، أما القسم الثانى، أى ثلاثة أرباع الكتاب، فإنه يعرض القوانين الفونولوچية للتغيرات الصوتية للألفاظ ذات الدلالة المشتركة فى مجموعات لغوية متعددة، ويطبق هذه القوانين على مادة فونولوچية غزيرة تشمل مجموعات اللغات المعنية بكثرة من لغاتها الحية والميتة.
وليس المقصود هنا تقييم أفكار واستنتاجات وفرضيات ونظريات وتطبيقات "مقدمة" لويس عوض، فهذه مهمة بعيدة عن اهتماماتى اللغوية المباشرة التى تنحصر فى النحو العربى تقريبا كما أنها فوق طاقتى، والحقيقة أن هذه المهمة تحتاج إلى كوكبة من العلماء المتخصصين فى علوم التاريخ والثقافة واللغة أو إلى عبقرية تضارع عبقرية لويس عوض.
المقصود هنا بالأحرى هو الإمساك بالفكرة الجوهرية التى قدمها الكتاب أى فكرة الأصل المشترك لمجموعات اللغات المعنية، فى سبيل استكشاف آفاق توسيع محتمل لنطاق تطبيق هذه الفكرة، ربما ليشمل كل اللغات على وجه الأرض.
وتتسلسل عناصر الفكرة الأساسية لمسار "توالُد" اللغات فى "المقدمة"، على أساس منجزات الفيلولوچيا الأوروپية وفرضياتها، على النحو التالى:
أولا: تتراكم المعطيات الفيلولوچية والفونولوچية فتكشف عن وجود معجم مشترك ضخم بين مجموعة كبيرة من اللغات، ومعجم آخر لمجموعة أخرى، إلخ وهكذا تكتشف الفيلولوچيا كثرة من مجموعات اللغات التى قد تشمل المجموعة الواحدة منها مئات اللغات الحية والميتة، ومن هذه المجموعات تلك المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية وهى المجموعات التى يركز عليها الكتاب.
ثانيا: مع المزيد من تراكم هذه المعطيات يتضح للفيلولوچيا أن الأمر لا يقتصر على المعجم الضخم المشترك بين لغات المجموعة الواحدة كالمجموعة الهندية الأوروپية، إذ تكتشف وجود معجم مشترك ضخم بدوره بين المجموعات المعنية هنا، أى أن المسألة لم تعد مسألة لغات أصلية تنحدر من كل منها مجموعة لغات بل صارت مسألة لغة أصلية تنحدر منها تلك اللغات "الأصلية".
ويتمثل دور "المقدمة" فى العمل على تحويل هذه الفرضية التى قدمها العلم الغربى إلى نظرية تقوم على القوانين اللغوية، وكذلك فى إدخال اللغة العربية فى قلب هذا التفاعل اللغوى التاريخى الهائل الذى يتجاوز مجموعات اللغات المعنية.
ثالثا: تتكشف أمام الفيلولوچيا آفاق أرحب تعود بنا إلى ظهور الإنسان العاقل، ويتحدث الكتاب عن مذهبيْن فى العلم الغربى: ظهوره فى مناطق متفرقة من العالم أو ظهوره فى منطقة واحدة. ولأن ظهور الإنسان العاقل إنما كان بلغته فإن العلم الغربى يشتمل على مذهبيْن بهذا الصدد: ظهور لغات متعددة فى مناطق متعددة أو ظهور لغة واحدة للإنسان العاقل فى المنطقة الواحدة التى ظهر فيها أولا. ويؤيد لويس عوض مذهب ظهور الإنسان فى منطقة واحدة ومذهب ظهور اللغة الواحدة فى تلك المنطقة، ويشير لويس عوض إلى أن مذهب المنطقة الواحدة واللغة الواحدة: "يقول بأن المجموعات اللغوية القديمة والحديثة، كأجناس البشر قديمها وحديثها، تنحدر فى نهاية الأمر من منبع واحد، وأن هناك شجرة واحدة للغات الأرض كل ما هناك من لغات هى فروع لها وأغصان". ومن الجلى أنه يؤيد هذا المذهب على اعتبار أنه "الخط العلمى” فى مواجهة خط علم الأجناس والأعراق والعنصرية.
ونعرف بطبيعة الحال أن مدار بحث لويس عوض فى "المقدمة" لا يتمثل فى فرضية الأصل الواحد لكل لغات الأرض (وهو يؤيدها دون توسع فى المناقشة) بل يتمثل فى فرضية أو نظرية الأصل المشترك للمجموعات المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية.
كما أن من الجلى أن حديثه هنا عن الإنسان العاقل أو الحديث Homo sapiens وليس عن الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف أو الأحدث Homo sapiens sapiens، فالإنسان الذى يتحدث عن ظهوره فى منطقة واحدة بلغة واحدة هو الإنسان النياندرتالى أى السلف المباشر للإنسان الأحدث وهو الإنسان الكرومانيونى. ولا جدال فى أن المعلم العاشر كان يقصد هذا الإنسان الأحدث بدليل أنه يتحدث عن الإنسان الحالى ويشير إلى أن أرسطو يسميه بالحيوان الناطق، ولو أن لويس عوض كان قد اطلع على مراجع ربما كانت حديثة جدا فى زمن تأليف "المقدمة" وتوجز إنجازات علم الآثار فى العقود الأخيرة من القرن العشرين لكان بوسعه أن يتحدث عن الإنسان الأحدث باسمه وعن لغته الأحدث أى اللغة كما نعرفها language-as-we-know-it وليس عن ظهور أو لغة الإنسان العاقل أو النياندرتالى.
وإذا كانت علوم الآثار والأنثروپولوچيا والثقافة قادرة على أن تعيد بناء صورة للإطار المكانى والزمانى لنشأة وتطور وانتشار الإنسان الأحدث فإنها تظل عاجزة عن أن تقول لنا أى شيء عن هوية تلك اللغة أو اللغات، وإن كان بمستطاعها أن تقول لنا الكثير عن الخصائص الجوهرية للغة المتطورة التى تتلاءم مع أنماط سلوك الإنسان الأحدث كما تكشف ثقافته المادية، وهى بالضرورة لغة مفاهيم رمزية معقدة وتفكير مركب متطور، بعيدا عن بساطة وبدائية لغة أسلافه بما فى ذلك سلفه المباشر، أى الإنسان العاقل أو النياندرتالى. أما علم اللغة التاريخى فإن بمستطاعه أن يشمل بدراساته الفيلولوچية والفونولوچية وإحصاءاته المعجمية مختلف المجموعات اللغوية على وجه الأرض من خلال البحث المباشر للغة التى تُعَدّ نموذجا لكل مجموعة منها، ويمكنه من ثم أن يكتشف ويحسم مسألة ما إذا كانت الإحصاءات المعجمية الشاملة تؤيد أو لا تؤيد فرضية الأصل الواحد لكل لغات الكوكب، غير أن هذا العلم لا يستطيع بالبداهة أن يضع معطياته الفيلولوچية فى إطار كرونولوچى صارم.
ورغم سوء التفاهم المنطقى القائم بين علوم موضوعها الثقافة المادية للإنسان وعلوم موضوعها اللغات المنطوقة أو المكتوبة على الحجر أو الطين أو الجلد أو الورق أو السيليكون فإن الفرضية العقلانية تتمثل فى أن اللغة أو اللغات التى ظهرت مع الإنسان الأحدث وانتشرت مع انتشاره واستقرت مع استقراره هى الأصول الأولى السحيقة القدم لكل اللغات التى عرفها العالم الحديث خلال الآلاف الأخيرة من السنين وإلى يومنا هذا.
ومادمنا إزاء اتجاه علم الآثار إلى حسم نشأة هذا الإنسان فى منطقة واحدة من العالم ثم انتشاره منها وإلى رسم مسار هذا الانتشار بصورة كرونولوچية، ويفترض هذا - بطبيعة الحال - اللغة الواحدة للبشر، يكون بوسعنا أن نفترض انطلاقا من علم الآثار وحده (إذا صحت أحدث إنجازاته واكتملت وعود إنجازاته اللاحقة) أن كل اللغات طوال تاريخ الإنسان الأحدث، منذ ظهوره إلى الآن، إنما هى - مهما كانت الحلقات الوسيطة المحتملة ومهما كانت تشكلات المجموعات واللغات واللهجات - استمرار محوَّر بصورة تاريخية بالغة التعقيد، من خلال تواصل التمايزات والاندماجات والتفاعلات اللغوية، من خلال نماذج شتى بالغة التعقيد بدورها، ذلك أنه لا مجال لافتراض أن الإنسان، فى زمان ما، فى مكان ما، نسى لغته تماما، وابتكر لغة جديدة تماما لا صلة لها باللغة التى ترجع إلى زمن نشأته كإنسان.
ومادام الإنسان الأحدث، بلغته الأحدث، حديثا إلى هذا الحد، مجرد عشرات الآلاف من السنين [50 أو 100 أو 150 ألف سنة]، فإن تجربة استمرار لغات ما تزال حية منذ آلاف السنين أو لغات أخرى عاشت آلافا من السنين قبل موتها، تلقى الضوء على حقيقة بسيطة وهى أن استمرار اللغات عشرات الآلاف من السنين أى منذ نشأة الإنسان الأحدث أمر يسهل تصوره، رغم أن الاستمرار يتحقق عبر التغيرات المتواصلة، ورغم أن موت لغة، كاللغة المصرية القديمة، لا يعنى انقطاع صلة اللغة اللاحقة باللغة الميتة ولا باللغات التى كانت هذه اللغة قد حلت محلها فى الماضى، فالموت والحياة ليسا هنا سوى التغير، ليسا سوى التغير اللغوى.
ومهما يكن من شيء، مهما تكن هذه الفرضيات صحيحة أو خاطئة، فإن ما ينبغى أن نضعه نصب أعيننا هو إخضاع كل الظواهر (ومنها اللغة العربية بحقائقها وأساطيرها) للبحث العلمى الحر. وبدلا من تقديس اللغة العربية، وهو تقديس تمثلت ثماره المرة دائما فى الإضرار الفادح بها وبعلومها، انطلاقا من أيديولوچيا سياسية دينية لغوية بعينها تسيطر على مجتمعنا ودولتنا، وكذلك على من يتمردون عليهما تحت هذه الراية نفسها، ينبغى رفع مختلف القيود التى تكبل تطور اللغة العربية كلغة وكعلوم لغوية.
وهناك حقيقة بسيطة لم يحسب حسابها أحد؛ لا مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولا مباحث أمن الدولة، ولا نيابة أمن الدولة، ولا محكمة جنوب القاهرة الابتدائية، ولا القانون المصرى ولا الدستور المصرى (بنصوصهما المقيدة لأبسط الحريات)، ولا رشاد رشدى، ولا السادات، ولا كل من تآمروا ضد كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية"... هذه الحقيقة البسيطة هى أن إجراءات ضبط أو منع توزيع أو مصادرة كتاب هى قبلة الموت لهذه الإجراءات ذاتها وللقوانين التى تستند إليها، إذ أنها الضمانة الأولى لإشعال الطلب على الكتاب، ومضاعفة قرائه، ونشر أفكاره، وتجنيد أنصار جدد لتحرير البحث العلمى الحر من كل القيود التى تخنقه فى بلادنا، ومع ذلك، مع اعترافى بالفوائد السبع لضبط ومصادرة الكتب، أضم صوتى إلى أصوات كل المطالبين بالأفراج عن "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، وعن الحرية.




الملحق 4
معجم جديد
لتصريف الأفعال العربية

هذا معجم من نوع جديد.. فهو لا يُعْنَى بدلالات الفعل بل يصبّ كل اهتمامه على التصريف "العملىّ" للفعل العربى، أىْ إسناد الأفعال إلى كافة الضمائر فى كافة أزمنة وحالات التصريف.
والواقع أن اللغات التى يمثِّل تصريف الأفعال صعوبة من صعوباتها الرئيسية كلغاتٍ (اللغة الفرنسية على سبيل المثال) قد توصلت إلى أسلوب عصرىّ فى حلّ هذه الصعوبة وذلك عن طريق إعداد هذا النوع الجديد من المعاجم. ومن المنطقى أن ينقسم هذا النوع من المعاجم إلى قسمين:
1: قسم لوحات تصريف الأفعال النموذجية: وهى تغطِّى كافة الأزمنة فى كافة الأساليب النحوية مع كافة الضمائر، وهى مرقَّمة بأرقام مسلسلة.
2: قسم الأفعال: ويشتمل على قائمة بأفعال اللغة المعنيّة مرتَّبة ترتيبا هجائيا وأمام كل فعل منها رقم اللوحة التى يجرى تصريفه على غرارها، الأمر الذى يحرِّر دارس اللغة ومستعملها (فى الكتابة والقراءة والكلام) من تعقيد القواعد وقصور الذاكرة ويجعل من السهل اليسير عليه أن يكشف عن تصريف أىّ فعل مع الضمير المطلوب فى الزمن المطلوب والحالة المطلوبة فى غضون لحظات.
وأبادر إلى تأكيد أن هذا النوع من المعاجم ليس ترفا تطمح إليه كل لغة إطلاقا مهما يكن تصريف الفعل فيها سهلا يسيرا. والحقيقة أن لغات كثيرة هى فى غِنًى عن مثل هذا المعجم (اللغة الإنجليزية عى سبيل المثال). إنه يصبح ضرورة عندما يكون تصريف الأفعال صعوبة كبرى من صعوبات اللغة (كما رأينا فى حالة اللغة الفرنسية). على أنه لابد – لكىْ يكون فى المستطاع تحقيق هذه الضرورة تحقيقا عمليا – من سمة القياسيّة والانتظام (وهى سمة يبدو أن كافة اللغات المتطورة تتميز بها).
هل تجد لغتنا العربية نفسها أمام صعوبة من هذا النوع؟ وهل تملك من السمات والخصائص ما يجعل حلّ هذه الصعوبة بمثل هذه الطريقة أمرا ممكنا وعمليا؟ وبعبارة واحدة: هل الضرورة قائمة وهل القياس قائم أيضا؟
والأمر الذى لا جدال فيه هو أن تصريف الفعل فى لغتنا العربيّة يمثل صعوبة كبرى من صعوباتها بل يمثل الصعوبة الكبرى فى كامل صرفها العلمى والعملى. وإذا حُلَّتْ هذه الصعوبة تكون العربية قد حَلّتْ جانبا خطيرا من جوانب صعوبتها كلغة، وبالأخص فى مجال الصرف والتصريف (والتصريف أصل فى الأفعال فرع فى الأسماء كما أن الإعراب بعكس ذلك أصل فى الأسماء فرع فى الأفعال – كما يقول العلماء). وتنشأ هذه الصعوبة من الكثرة الهائلة فى حالات تصريف الفعل العربى بسبب تعدد أبوابه فى الثلاثى وتعدّد أوزانه فى غيره، وبسبب تعدّد أحوال الأفعال من حيث الحروف التى تتكون منها (السلامة والهمز والتضعيف والاعتلال بكافة أنواعه).. ويؤدى كل هذا إلى كثرة الجذور التى تُستخدم مع ضمائر الرفع المتّصلة وحروف المضارعة بالإضافة إلى كثرة الضمائر التى تُسند إليها الأفعال. وهكذا تكثر الحالات النموذجية وتكثر الأشكال التصريفية لكل حالة منها. ولا يخفى أن المعجم الذى نحن بصدده يحلّ هذه الصعوبة حلا جذريا، كما سوف نرى بشيء من التفصيل.
ويؤدى بنا كل ما سبق إلى تقرير أن ضرورة هذا النوع من المعاجم فى ضوء الصعوبة الكبرى التى يمثّلها تصريف الفعل العربى ضرورة لا جدال فيها. وينقلنا هذا إلى النقطة الثانية: هل تحقيق هذه الضرورة أمر عملىّ؟ هل تملك العربية من السمات ما يجعل تحقيق هذه الضرورة أمرا عمليا؟ هل القياس قائم وشامل فى مجال تصريف الفعل العربى؟
والواقع أن السمة المميِّزة لتصريف الفعل العربى هى الانتظام والقياس بصورة شاملة. ومع ذلك يحيط الكثير من الإبهام والشكّ وسوء التفاهم بهذه السمة الحيوية، رغم أن لغتنا العربية تتميَّز بها وتتفوَّق فيها من نواح معيَّنة، ورغم أن هذه السمة قائمة بحكم الضرورة فى كل لغة متطورة.
وهناك وَهْم سائد (يتردّد صداه حتى فى كتب الصرف) مؤدّاه أن الفعل الثلاثى (وهو الأساس والأصل فى الفعل العربى كله) سماعىّ وليس قياسيًّا. والحقيقة أن منشأ هذا الوهم يرتبط ارتباطا وثيقا بالخلط الفظ بين تعدّد الأوزان وما يسمى بالسماع. ولا ينبغى أن نفهم تعدّد الأوزان فى الثلاثى (أضرب وأبواب الثلاثى) وغير الثلاثى، على أنه ضد القياس، فالقاعدة القياسية المطردة تحكم كل وزن من حيث الدلالة الواسعة، وبالأخص من حيث التصريف مع كافة الضمائر فى كافة الأزمنة والحالات. ولا معنى لأن نصف بالسماع (الذى يعنى الشذوذ على القاعدة المطردة) كلَّ تعدّد فى الأوزان (رغم أنه تعدّد محكوم قياسيًّا فى كل وزن من الأوزان). ومثل هذا الوهم يفترض وضعا خياليا غريبا تنسبك فيه أفعال اللغة على وزن "حديدىّ" واحد، لا يتغير ولا يتبدل، وهذا الافتراض ذاته سخيف من أصله، فتعدّد الأوزان تفرضه ضرورات أخرى، صوتية ودلالية، ومن هذه الضرورات ميْل لغتنا إلى تخصيص وزن واحد لدلالة عامة واحدة أو لمجوعة من الدلالات العامة المتقاربة. والحقيقة أن اللغة العربية تتباهى بسمة الانتظام والقياس فى تصريف الفعل على لغات معاصرة كثيرة بلغت أوج تطورها. وعلى سبيل المثال فإن الجذر المشترك فى كافة تصريفات الفعل العربى شامل لكافة أفعال هذه اللغة، ولَئِنْ كانت هذه القاعدة عامة فى اللغات إلا أن مئات الأفعال تشذ عليها فى لغات كثيرة (ما يسمى بالمجموعة الثالثة فى اللغة الفرنسية، وقرابة عددها فى الإنجليزية، والكثير من أفعال اللغة الألمانية فى حدود معرفتى المحدودة ببعض خصائصها). وعلى سبيل المثال يعطى الفعل الماضى "ذَهَبَ" المضارع "يَذْهَبُ" والأمر "اِذْهَبْ" ويظل هذا الجذر المشترك "ذهب" ماثلا فى كافة تصريفاته مع تغيُّر طفيف (قياسىّ بدوره) فى حركة أوّله وآخره (وأحيانا وسطه) فلا يتغيَّر سوى ضمائر الرفع المتصلة فى الماضى وحروف المضارعة (وياء المخاطبة وألف الاثنين وواو الجماعة ونون النسوة) [أىْ ضمائر الرفع البارزة المتصلة] فى المضارع وألف الوصل (الاتِّكاء) فى الأمر. وهذا أمر تشذّ عليه مئات الأفعال فى كل من الفرنسية والإنجليزية على سبيل المثال. ولا يمكنك أن تجد فى اللغة العربية فِعْلا متصرِّفا واحدا يعطيك أشكالا متنوعة لا يُلْحَظ فيها جذر مشترك ثابت أو حتى مرتبط بصورة واضحة جليّة بالأصل كما تفعل عشرات الأفعال فى اللغة الفرنسية مثلا عندما تعطى جذورا متنوعة لا صلة ملحوظة بينها للفعل الواحد فى الأزمنة البسيطة المتعددة التى تكثر فى تلك اللغة.
ويعود بنا كلّ ذلك إلى معجم التصريف الذى اتَّضح لك الآن، بمزيد من الوضوح، مدى ضرورته ومدى إمكانيته العملية، فالضرورة نابعة من العقبة الكأداء التى يمثِّلها التصريف اعتمادا على الذاكرة أو البحث المضنى فى المراجع، والإمكانية العملية لحلّ هذه الصعوبة نابعة من سمة القياس التى تحكم مجال تصريف الفعل العربى بعيدا عن الأوهام المنتشرة عن السماع المسيطر فى الفعل الثلاثى بالذات.
وهذا المعجم (معجم تصريف الأفعال العربية – الذى قام بإعداده الأستاذان حسن بيومى وأحمد الشافعى وكاتب هذه السطور) يشتمل (على النحو الذى أشرتُ إليه آنفا) على قسم اللوحات المرقَّمة بأرقام مسلسلة وقسم الأفعال المرتَّبة ترتيبا هجائيا والتى يحمل كل فعل منها رقم اللوحة التى يتصرَّف على غرارها. وقبل أن نصف هذين القسمين وعناصرهما المكوِّنة بصورة وافية نشير إلى أن واضعى المعجم أرادوا أن يعتمد معجمهم التصريفىّ على الأفعال التى حقَّقها مرجع لغوى رفيع الشأن فاعتمدوا فى ذلك على المعجم الوسيط الذى أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
وننتقل إلى وصف المعجم ونبدأ بالقسم الأول أىْ قسم لوحات تصريف الأفعال النموذجية:
يعرف القارئ أن الفعل الثلاثى (المجرَّد) هو أساس وعماد وأصل الفعل العربى فهو يكوِّن مع مزيده (أىْ الرباعى والخماسى والسداسى من أصل ثلاثى) الأغلبية الساحقة من أفعال اللغة العربية، ولا تبقى سوى نسبة ضئيلة للفعل الرباعى (المجرَّد) ومزيده (أىْ الخماسى والسداسى من أصل رباعى) وملحقاته (ذات الأصل الثلاثى).
وإذا نظرنا إلى الفعل الثلاثى المجرَّد من حيث حركة عينه فى الماضى والمضارع (أضرُب وأبواب الثلاثى) من ناحية، ومن حيث حروفه أىْ من حيث السلامة والهمز والتضعيف والاعتلال، من ناحية أخرى، فإننا نصل إلى ما يربو على مائة حالة تصريفية للسالم والمهموز والمضعَّف والمعتلّ الواوى واليائى (فى المثال والأجوف والناقص) والأفعال التى تشكو من أكثر من علّة واحدة (بالمعنى الواسع للاعتلال الذى يمتدّ ليشمل المهموز والمضعَّف). وهكذا تأتى لوحات الثلاثى أوَّلا (101 لوحة) تتبعها لوحات مزيد الثلاثى (35 لوحة) وتأتى فى النهاية لوحات الرباعى ومزيده وملحقاته (9 لوحات).
ولوحة التصريف عبارة عن تصريف كامل لفعل نموذجى يمثِّل كافة الأفعال المحالة إلى هذه اللوحة، مع كافة الضمائر (ضميران للمتكلم، وخمسة للمخاطب، وستة للغائب = 13 ضميرا) فى الماضى، والمضارع المرفوع والمنصوب والمجزوم، والمضارع المؤكَّد بنونىْ التوكيد (الثقيلة والخفيفة)، والأمر، والأمر المؤكَّد بنونىْ التوكيد. ولا يكتفى المعجم بتصريف الفعل فى المبنى للمعلوم بل يصرِّفه أيضا فى المبنى للمجهول (فى الماضى، والمضارع المرفوع والمنصوب والمجزوم والمؤكَّد بنونىْ التوكيد).
وتقدِّم كل لوحة قوائم بمصادر الأفعال التابعة لها وكذلك مشتقاتها وأسمائها الأخرى. وهناك عناية خاصة بالمصادر (بالأنساق التى وردت بها فى المعجم الوسيط) وبالصفات المشبهة باسم الفاعل (التى لا تكتفى اللوحة بتقديم أوزانها بل تهتمّ أيضا بتأنيثها وجمعها جمع تكسير).
أمّا قسم الأفعال فهو عبارة عن قائمة مرتَّبة ترتيبا هجائيا بأكثر من عشرين ألف فعل (أىْ الأفعال التى أوردها المعجم الوسيط) ولم يستبعد القائمون بإعداد معجم التصريف شيئا من هذه الأفعال (على أساس المأنوس وغير المأنوس بمقاييس هذه الفترة التى نعيش فيها مثلا) انطلاقا من فكرة مؤدّاها أن الفعل "حىّ" ما دام تراثنا الثقافى العظيم بكل جوانبه "حيًّا" مليئا بالحياة. وأمام كل فعل رقم أو أكثر. فالرقم الواحد يمثل رقم اللوحة كما يعنى أن الفعل يأخذ المصدر الأول فى قائمة المصادر باللوحة المذكورة، أما الرقمان فالرقم الثانى يعنى رقم المصدر (أو المصادر) الخاصة بالفعل فى ذات القائمة، أمّا الرقم الموضوع بين قوسين فيدلّ على الصفة المشبّهة التى يأخذها الفعل المعنىّ (وزنها وتأنيثها وجمعها). وأمام الفعل أيضا توضيح لنوع الفعل من حيث التعدِّى واللزوم، وقد اعتبر المعجم أن الفعل الذى ينصب مفعولا به هو الفعل المتعدِّى، فهناك الفعل اللازم (ل) والمتعدِّى (م) واللازم تارة والمتعدِّى تارة أخرى (ل، م) وكذلك المتعدى الذى يُستعمل لازما أحيانا (م، ل). ولا يتسع المجال هنا لتوضيح الاعتبارات العلمية (والعملية) الخاصة بمسألة التعدِّى واللزوم، ونكتفى بالإشارة إلى أن تحديد نوع الفعل من هذه الناحية اعتمد كليًّا على استخدامات المعجم الوسيط.
على أن معجم التصريف كان له طموح آخر. فهو لم يكتفِ بمهمته المباشرة أىْ تصريف الأفعال وتقديم مصادرها ومشتقاتها وباقى أسمائها بل قدَّم أيضا من خلال جداول واضحة منسَّقة تغطية واسعة لأشكال الأفعال (الثلاثية وغير الثلاثية) وأشكال المصادر والمشتقات (وكيف تأتى مع وضع مختلف الأبواب والعلل فى الاعتبار)، بالإضافة إلى الكثير من الإحصاءات الدقيقة للأفعال والمصادر وغيرها. ويجد القارئ أمامه - على هذا النحو – صورة مُعجمية حيّة بأشكال وأعداد مختلف الصيغ والأوزان الصرفية المرتبطة بالفعل العربى بكل صوره، كما يجد أمامه قدرا هائلا من المعطيات الصرفية التى يحتاج التوصل إليها إلى جهد شاقّ طويل فى مراجع كثيرة بل يحتاج إلى القيام بدراسات مستقلة.
ويمكننا الآن – فى ضوء الوصف الموجز السابق – أن نعبِّر عن أمل واضعى المعجم فى أن يكون "معجم تصريف الأفعال العربية" قد أسهم فى إزالة صعوبة كبرى من صعوبات اللغة العربية، وفى أن يكونوا قد أسهموا بجهد متواضع فى مجال تيسير علوم اللغة العربية وبالأخص فى مجال الصرف، وصرف الأفعال بالذات، حتى تكون مهمة تعليم اللغة العربية وتعلُّمها أيسر أمام أبنائها وغيرهم، وفى كل مراحل التعليم.
وإذا كان العصر الحديث، بكل إنجازاته التقنية، هو الذى أوجد مثل هذه المعاجم فى لغات أخرى، فإنه يدعو لغتنا إلى اللحاق فى هذ المجال بتلك اللغات، كما يدعونا – نحن العرب – إلى القيام بهذه المهمة فلا نتركها للمستشرقين الذين بدأوا فى الإسهام فى هذا المجال أيضا بأعمال تجمع بين الجهد العلمى والعملىّ الذى يستحق التقدير، والقصور الفادح الذى يستحق النقد الحازم.


الملحق 5
ثلاثة أعمدة بعنوان "لغة"
فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون

1
اللازم والمتعدى

يقسم الفكر العربى السائد الأفعال إلى أفعال لازمة لا تتجاوز معانيها فاعلها إلى مفعول وأخرى متعدية بحرف الجر على أنها أفعال لازمة أىْ غير متعدية "وهذا ما يفعله النحو الإنجليزى أيضا بخلاف النحو الفرنسى الذى ينظر إليها على أنها أفعال متعدية".
وينظر الاتجاه السائد فى النحو العربى إلى الفعل على أنه إما لازم أو متعد "مثلا شرح ابن عقيل للألفية"، يكون لازما تارة ومتعديا تارة أخرى حسب الاستخدام فى جملة.
ويعنى هذا الموقف أن اللزوم والتعدى كامنان فى الفعل ذاته وليسا متعلقين بالاستخدام، وهذا صحيح حقا فيما يتعلق بأوزان للفعل لا تكون إلا لازمة "باستثناءات محددة". غير أن هناك أفعالا وأوزانا فعلية بالغة المرونة بحيث يواجهنا استخدامها الفعلى فى جمل بضرورة تطوير مفهوم اللزوم والتعدية فى نحونا.
ويحاول الأستاذ الكبير عباس حسن، صاحب "النحو الوافى”، الخروج من الثنائية القائلة إن الفعل يكون لازما فقط أو متعديا فقط. وفى كتابه المذكور "ص 150 وما تلاها" يتحدث الأستاذ عباس حسن عن تقسيم ثلاثى للفعل من حيث اللزوم والتعدية، فهناك أفعال لازمة دائما وأخرى متعدية دائما وطائفة ثالثة تستخدم لازمة تارة ومتعدية أخرى.
ويورد عباس حسن هذا الرأى على نحو يوحى بأن هذه الطائفة الثالثة لا تمثل غير أفعال قليلة معدودة. غير أن الواقع المعجمى يثبت أن هذه الأفعال التى تستخدم لازمة تارة ومتعدية أخرى تمثل عدة آلاف من الأفعال "حسب استخدامات المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة".
غير أن مسألة اللازم والمتعدى تتجاوز مجرد اعتراف فكرنا النحوى بهذا التقسيم الثلاثى بدلا من الثنائية القديمة. لقد أصبح الاستخدام الفعلى أساس تحديد اللزوم والتعدى فى الفكر النحوى الحديث وبعد ذلك يأتى العمل المعجمى الضخم الذى يغربل كافة الأفعال من حيث دلالاتها واستخداماتها ونماذجها من حيث اللزوم والتعدى.

2
المعجم فى الصرف والنحو

لاشك فى أن المعاجم الموضوعة بالاستفادة من أساليب وتقنيات القن العشرين يمكن أن تسهم إسهاما جوهريا فى مجال تيسير تعليم وتعلُّم اللغة العربية وامتلاك ناصيتها .. صحيح أن النظام التعليمى يظل مكان وأداة تحقيق هذه المهمة الكبرى، غير أن نجاح هذا النظام ذاته يشترط بدوره أدوات عمل متطورة ومنها هذه المعاجم التى نتحدث عنها هنا.
وفى العقود الأخيرة ظهرت عدة معاجم "أو كتب" تقوم على "معجمة" أو "جدولة" علوم لغوية. وتستحق كل محاولة من هذه المحاولات تناوُلا خاصا بل مستفيضا. وفى حدود المجال المحدود لهذا الحديث نشير إلى "المعجم فى الصرف" من تأليف زين العابدين حسين التونسى "1888-1977" الصادر عن الدار العربية للكتاب بالمطبعة العربية بتونس.
ويعود أصل هذا المعجم الوجيز الذى يقع فى أكثر قليلا من مائتى صفحة إلى عام 1947، عندما وضع المؤلِّف "المعجم المدرسى” وقدمه إلى الأساتذة الأجلاء وتلاميذهم "النجباء" وأعيد طبعه مرات عدة. وفى عام 1952 صدر الجزء الأول من "المعجم فى النحو والصرف"، تلاه فى عام 1953 الجزء الثانى ويتضمن المصطلحات النحوية والصرفية.
يقوم هذا المعجم على فكرة تحويل مصطلحات وقواعد النحو والصرف إلى "مواد معجمية" مرتبة ترتيبا هجائيا، بحيث يمكن لكل طالب وباحث وقارئ أن يراجع المصطلح أو القاعدة بسهولة وسرعة، فهو أقرب إلى كتاب يعرض، على نحو مبسط، قواعد النحو والصرف.
ولا جدال فى أن لهذا النوع من المعجم مبرره، كما أن بمستطاع علماء وأساتذة النحو والصرف أن يضعوا معاجم من هذا النوع بالحجم والمستوى اللذين يشاءون مع الالتزام بالدقة البالغة فى المادة العلمية والنحوية أو الصرفية، إلى جانب مراعاة كافة المقتضيات الفنية-العلمية لوضع معجم من هذا النوع.
ورغم المجهود الكبير والجديد فى هذا المعجم فإنه يعانى من عيوب من الواجب معالجتها فى سياق تطوير معجم مماثل مع تفادى أخطائه. ويمكن إجمال هذه الأخطاء فى المواد الضرورية غير الواردة، أو الواردة على نحو مبتسر، أو حيث لا يتوقعها القارئ بالضرورة ..

3
تصريف الأفعال العربية

توصلت اللغات التى يمثل تصريف الأفعال صعوبة من صعوباتها الرئيسية إلى أسلوب عصرى فى حل هذه الصعوبة عن طريق إعداد نوع جديد من المعاجم يقوم على التصريف "العلمى” للأفعال.
و من المنطقى أن ينقسم هذا النوع من المعاجم إلى قسمين:
1: قسم لوحات تصريف الأفعال النموذجية: وهى تغطى كافة الأزمنة فى كافة الأساليب النحوية.
2: قسم الأفعال: ويشتمل على قائمة بأفعال اللغة المعنية مرتبة ترتيبا هجائيا.
ومن البديهى أن هذا النوع من المعاجم ليس ترفا تطمح إليه كل لغة إطلاقا مهما يكن تصريف الفعل فيها سهلا يسيرا.
هل تجد لغتنا العربية نفسها أمام صعوبة من هذا النوع؟
الأمر الذى لا جدال فيه هو أن تصريف الفعل فى لغتنا العربية يمثل الصعوبة الكبرى فى كامل صرفها العلمى والعملى. وإذا حُلت هذه الصعوبة تكون العربية قد حلت جانبا كبيرا من جوانب صعوبتها كلغة.
وتنشأ هذه الصعوبة من الكثرة الهائلة فى حالات تصريف الفعل العربى بسبب تعدد أبوابه فى الثلاثى وتعدد أوزانه فى غيره، وبسبب تعدد أحوال الأفعال وهكذا تكثر الحالات النموذجية وتكثر الأشكال التصريفية لكل حالة منها.
وينقلنا هذا إلى النقطة الثانية: هل حل هذه الصعوبة أمر ممكن وعملى؟
والواقع أن السمة المميزة لتصريف الفعل العربى هى الانتظام والقياسية بصورة شاملة. وإذا كانت هذه السمة الحيوية قائمة بحكم الضرورة فى كل لغة متطورة، فإن لغتنا العربية تتميز بها وتتفوق فيها على لغات معاصرة عديدة بلغت أوج تطورها.
وإذا كان القرن العشرون، بكل إنجازاته التقنية، هو الذى أوجد هذا النوع من المعاجم فى لغات أخرى، فإنه يدعو لغتنا إلى اللحاق بتلك اللغات فى هذا المجال كما يدعونا - نحن العرب - إلى القيام بهذه المهمة بدلا من انتظار جهود المستشرقين الذين بدأوا فعلا الإسهام فى هذا المجال.

ببليوجرافيا المؤلف
تأليف

* نشر العديد من المقالات والكتب فى مجالات النقد الأدبى واللغة والسياسة والفكر وله الكتب التالية:

النقد الأدبى واللغة:
ـ النموذج الثورى فى شعر عبد الوهاب البياتى، (بالاشتراك فى عمل جماعى) بغداد، 1972.
ـ خطوات فى النقد الأدبى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
ـ معجم تصريف الأفعال العربية، (بالاشتراك مع حسن بيومى وأحمد الشافعى) دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1989.

يصدر له قريبا:
ـ الازدواج اللغوى فى العالم العربى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

السياسة والفكر:
ـ القرن الحادى والعشرون: حلم أم كابوس؟، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.

* نشر (باسم قلم مستعار: صالح محمد صالح) العديد من المقالات والكتب فى مجالات الاقتصاد والسياسة والفكر، ومن كتبه باسم القلم المذكور:

ـ الإقطاع والرأسمالية الزراعية فى مصر ـ من عهد محمد على إلى عهد عبد الناصر [الاسم الأصلى للكتاب: تطور الرأسمالية الزراعية فى مصر قبل 1952]، دار ابن خلدون، بيروت، 1979.
ـ حول أسلوب الإنتاج الآسيوى، سلسلة دليل المناضل فى النظرية، دار ابن خلدون، بيروت، 1978.

ترجمة:
* نشر فى الصحف والمجلات المصرية والعربية عشرات المواد المترجمة فى مجالات الأدب والنقد الأدبى والفكر والسياسة وقصص الأطفال، وله الكتب المترجمة التالية عن الإنجليزية والفرنسية (وعن الإسپانية فى مواضع قليلة مبينة):

أدب:
ـ ماشادو ده أسيس: السراية الخضراء (روايـة قصيرة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
ـ ماشادو ده أسيس: دون كازمورّو (رواية)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
ـ خ. ل. بورخيس: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية)، الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000، الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2008.
ـ مجموعة من الكتاب البرازيليين: قصص برازيلية (بالاشتراك مع سحر توفيق)، إبداعات عالمية، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000.
ـ مجموعة من الكتاب: آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية، سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2008.

يصدر له قريبا:
ـ ماشادو ده أسيس: حكاية سكندرية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

قصص الأطفال والناشئة:
ـ ريتا جولدن چيلمان: خرابيشو يخربش (قصة مصورة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ آنا ماريا روميرو يبرا: دينو، الديناصور [Ufito, el dinosaurio]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ ميكيل بالبيردى: ملك الغابة [El rey de la selva]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ آنى جروڤى، تيمور والتعبيرات، (بالاشتراك مع هويدا نور الدين)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
ـ برنار كلاڤيل: أساطير البحر، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.
ـ برنار كلاڤيل: أساطير الجبال والغابات، المركز القومى للترجمة، المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2007.
ـ برنار كلاڤيل: أساطير البحيرات والأنهار، المركز القومى للترجمة، المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2008.

نقد أدبى:
ـ يورى كارياكين: دوستويڤسكى ـ إعادة قراءة، كومبيونشر للدراسات والإعلام والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.
ـ پول ب. ديكسون: الأسطورة والحداثة: حول رواية دون كازمورّو، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998.
ـ مجموعة من الكتاب: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999.
ـ بياتريث سارلو: بورخيس: كاتب على الحافة، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.

سياسة واقتصاد وفكر وفلسفة:
ـ وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب ـ جلسة بشأن أرتريا ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا، طبعة پاريس، 1985.
ـ سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1992، (طبعة ثانية، المغرب، ؟!).
ـ توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1995.
ـ راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1995.
ـ كريس هارمان: العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتى)، دار النهر، القاهرة، 1995.
ـ فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها ـ وجهة نظر ماركسية، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2000، الطبعة الثانية، 2004.
ـ فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد (بالاشتراك مع على كلفت)، دار النهار للنشر، بيروت، 2002.
ـ إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادى والعشرين : مخاوف وأخطار جديدة، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الثانية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006.
ـ إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الحياة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005.
ـ إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الثقافة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005.

معاجم:
ـ الياس–هاراب القاموس التجارى إنجليزى-عربى، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1996.
ـ چيرار سوسان و چورچ لابيكا: معجم الماركسية النقدى (بالاشتراك فى ترجمة جماعية)، دار محمد على للنشر، صفاقس، تونس، و دار الفارابى، بيروت (بالتعاون مع منظمة اليونسكو)، 2003.

مراجعة و/ أو تقديم:
ـ [مراجعة وتقديم]. هاوارد كايجل وآخرون: أقدم لك ... ڤالتر بنيامين، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2005.
ـ [تقديم] وولتر إمرى: مصر وبلاد النوبة، ترجمة: تحفة حندوسة، مراجعة: عبد المنعم أبوبكر، المركز القومى للترجمة، المشروع القومى للترجمة، سلسلة ميراث الترجمة، القاهرة، 2008.








كلمة الغلاف الخلفى

ينطلق هذا الكتاب من النظر إلى النحو العربى التقليدى على أنه علم بالغ التطور والنضج وعلى أنه مفخرة من مفاخر علومنا اللغوية. غير أن هذا النحو كان ابن زمانه، فهو بحاجة بالتالى إلى إصلاح وتصحيح وتطوير لكثير من مفاهيمه الأساسية؛ وليس إلى مجرد التيسير والتبسيط.
وفى محاولة لدفع النحو العربى إلى قلب التفاعل مع منجزات الثورة النحوية المعاصرة فى لغات أخرى، باعتبار النحو علم بناء الجملة، بعيدا عن التمحور حول الإعراب، يركِّز الكتاب على نظرية وتطبيق عناصر بناء الجملة، هذه الجملة العربية الواحدة التى لا مبرر لتقسيمها إلى جملة اسمية وأخرى فعلية
ويدور محور تطوير النحو حول تصحيح مفهوم المسند (الخبر) ليكون كل ما تُثبته الجملة للمسند إليه أو تنفيه عنه من ناحية، وباعتباره خارج دائرة الإعراب من ناحية أخرى. ومن هنا تغدو الجملة مكوَّنة من "ركنين" وحيدين، وليس من ركنين أساسيين، بعيدا عن تقسيمها إلى عمدة وفضلة (أو تكملة أو بقية).
ومن خلال إعادة النظر فى العديد من المفاهيم النحوية، وإحياء بعض المفاهيم النحوية العربية المهمَّشة، ينتهى الكتاب إلى رسم خريطة بالنماذج العامة للجملة العربية، مع الإشارة إلى مسألة أشكال تحقيق هذه النماذج. ولا يتجاهل الكتاب الإعراب (رغم تركيزه على الجملة ونماذجها وعناصر بنائها) بل يخصص لمشكلاته العديد من الفصول.
ويمكن القول إن هذا الكتاب إحياء مباشر للمحاولة الكبرى التى قام بها مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووزارة المعارف المصرية فى عام 1945، ثم وزارة التربية المصرية فى الخمسينات، لتطوير النحو العربى، تلك المحاولة التى انتهت إلى الفشل نتيجة لنقاط ضعفها من ناحية، ولقوة ونفوذ أعداء تطوير وتحرير النحو العربى بالذات من ناحية أخرى.

محمود احمد عبدو
21/08/2011, 04:10 PM
الموضوع مهم للغاية وملىء بالمعلومات الهامة وتقديرا لهذا الموضوع اقدم هذا الموقع الخاص بالوظائف الخالية لكل من يرغب بالعمل وللحصول على مزيد المعلومات اليكم الموقع
موقع وظائف (http://www.wazefaonline.com/%D9%88%D8%B8%D8%A7%D8%A6%D9%81/139-%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B9-%D9%88%D8%B8%D8%A7%D8%A6%D9%81.html)