المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين الترويج الوطني والهيمنة العالمية



محمد التهامي بنيس
02/04/2009, 10:32 PM
السوق المحلية , بين الترويج الوطني والهيمنة العالمية
بأكبر دار للشباب بالمدينة كان يقف نفران من الشباب , في هيئة توحي للعابر والمار أن نشاطا ما بداخل الدار قد استقطب زخما من الرواد , ولفت انتباهنا أنها ندوة ثقافية موضوعها – السوق المحلية , بين الترويج الوطني والهيمنة العالمية – وصاحب دخولنا القاعة ألما وحسرة على تراجع الاهتمام بالثقافة في مدينة الثقافة طيلة مكوثنا , فلم يزد الحضور النوعي على 14 ونحن الاثنين ثم المتدخلين الأربعة , وما كان إيجابيا أن المناقشة اتسمت بالتركيز والتحليل الموضوعي , وأجمعت كل التدخلات على أن فاس تعاني من فرض صورة مجتمع الرفاهية والاستهلاك على مجتمع فقير ومنهوب , وما أن غادرنا القاعة حتى عاد صديقي إلى طول اللسان وهو يحلل ويقيم نتائج الندوة حيث خلص إلى وجهة نظر ترى أن الحضور لا يجسد ذلك المثقف العضوي , لأن التدخلات ظلت في مستوى التواضع والأقل تفاؤلا , وذلك تحت ضغط المطالب اليومية وفي منحى خضري أقل تسييسا مما يحتمه الواقع , عكس الشبيبة التي تحملت مسئوليتها إبان السبعينيات وحتى الثمانينيات في المدرسة والجامعة والعمل الجمعوي والصحافة , فكأن شباب اليوم يحملون عداء فطريا تجاه السياسة أو يعتبرون الساسة سبب نكباتهم
ولا يلوم صديقي مستوى خطاب الندوة ولا يتمن خلاصاتها , لأن لا شيء في المدينة راق لتقوله لغتهم , وهذا في حد ذاته يعتبر رسالة بليغة إلى المسئولين في فاس تؤكد أن الضياع مشخص والبلاء مدرك , وما ممارسة المثقف إلا خنق للرعب والشعور بالشقاء ., لا يلومهم لأنه يرى أن تواضعهم يأتي كنبض أنفاس وإجراء أساس ضد تدني الوضع المزري الذي يفرخ القهر والجراح , بل وفي اللحظة التي يهدد فيها الموت , الحضور الثقافي في المدينة ,وما عملهم على حمل وعي نضالي سياسي غير متجبر , إلا ليخرجوا من دهاليز القهر ومواجهة الواقع المتغير والظرفي بسلام , فكفاهم فخرا أنهم يحملون هم مدينة الكبرياء التي ظل لباسها عزة النفس , ويتعود سكانها بالله من العجز والكسل والبخل وغلبة الدين والقهر
هالة ضوء , معرض تشكيلي
لأول مرة طيلة مدة الجولة الطويلة , التفت صديقي لساعته اليدوية , وأشعرني أنه لم يعد من الوقت على موعد قطار العودة إلا نصف ساعة , وهو وقت لا يكفي لتقييم نتائج الجولة , ولكنه قال لي مبتسما : ثقتي في كفاءتك تجعل المهمة موكولة إليك في عمل صحفي متميز , وما أن هم بمد يده لمصافحتي حتى وقع نظره على ملصق يشير إلى أن داخل مركب عبد الرحيم بوعبيد الثقافي يقام معرض جماعي للفنون التشكيلية , فأمسك بيدي لداخل قاعة العرض غير مبال بموعد القطار , وفي المدخل تصافحت يدانا بأيادي الفنانين الثلاثة والفنانة العارضة رابعتهم , وفي تأمل اللوحات والاستماع إلى شروح بعض الخاصيات التي تجيب عن استفساراتنا , تبين لنا أن مضمون اللوحات إنما هو تعبيرعميق عن حزن المدينة وإحساس مشترك بينهم على أنهم مجبولون على ذلك غير مرتهنين للإحباط , ولأن هناك أملا ما يعتبره أربعتهم أمل عملهم الفني كفسحة من الفسح النادرة المفتوحة أمام المواطن محليا . فجل اللوحات كاريكاتورية تضحك من الواقع وتسخر منه وذاك في حد ذاته موقف يعدهم لشيء أكبر في المستقبل . والسخرية هي سلاح الضعفاء مؤقتا إذ أنها ليست الهزلية فقط , بل هي موقف قوي , تأخذ قوتها من حالة القهر بلبوسها الجديد . وحتى اللوحات التي خرجت عن السخرية في هذا العمل , جاءت بصدق الإحساس معبرة عن حضارة المدينة وأصالتها الثقافية تعكس مدى الهول الذي يصيب الأسواق والأزقة والتفريط الذي طال رياضا وقصورا ومعالم أثرية , حتى وأنت تقرأ خطوط اللوحة أو تتأملها تصيبك قشعريرة وتخجل لصفعة الحاضر المفرط الذي فرض تحت الضغط أو لإكراه على الساكن بزيه الأصيل المرتهل ووجهه الشاحب , أن يغادر مأواه الفاخر أو عشه وعش أجداده المتين ليدخله المعمر الجديد ويحيله إلى استثمار سياحي بلباسه الغربي وثقافته الدخيلة , يوليك ظهره غير مبال بينما سيدة البيت تودع بخجل وهي تلتفت لإلقاء نظرة الوداع كما لو أنها تودع حمولتها الثقافة الأصيلة أو كأنها تودع روحها أو كأنها تحزن لفعل القهر وعوادي الزمن وما راكمه من فشل وإهانة . ومن غرائب الصدف أو التأثيث المناسب لفضاء العرض , أن الموسيقى المصاحبة الهادئة , حملت إلى أسماعنا صوت محمد عبد الوهاب وهو يردد : " يا عين ليه تبكي ما دام الليل ما له آخر "
لم ندر كيف سرقنا الوقت , فقد فات موعد القطار والليل أسدل خيوطه الأولى , والبطن يتلوى جوعا بينما صديقي لم يمل الاستماع وتحليل اللوحات وقراءة ملامح وجوه الفنانين مركزا على تفاعل الفنانة وإعجابها بما يبديه من رأي وانتقاد وهي تودعنا : إننا نشعر في ملاحظاتكم حوافز فنية تبعث فينا الثقة بالنفس وتنسينا حسرة عدم التجاوب التي عومل بها معرضنا
أرسل إلى ستار تايمز
من الفن التشكيلي إلى الفن السابع
كأن الصديق قرأ ما في ذهني من تساؤل , فبادر إلي بأنه لن يكون ضيفا ثقيلا ولا يكلفني إحراجا , أي إحراج , فلن يكمل الليل إلا في منزله ومع أبنائه فقد واعدهم بذلك , فقلت على التو : مهما قدمت من أعذار فإني مصمم على دعوتك لتناول وجبة العشاء ثم يحلها ألف حلال , ولم يعرض واشترط أن تكون وجبة خفيفة تسمح لنا بمشاهدة فيلم " قلوب محترقة " الذي تعرضه هذه القاعة التي وصلنا بابها ونحن نتبادل أطراف الحديث . إنه فيلم لا ألوان فيه ولا مساحيق , اعتمد اللونين الأبيض والأسود في صور تنعش المزج بين زمن الماضي وزمن الحاضر وتداعيات الزمان والمكان بصور من فاس تعكس كيف أنها صارت مغلفة بمشاعر القهر والألم , كما لو أنها تلخص مشاهد الزيارة كلها , فكأنه لم تعد للمدينة قدرة سوى الرغبة في التصالح مع الذات التي تصطدم باحتراق قلوب , ألهبتها سياط الماضي وقهر الحاضر
محمد التهامي بنيس