المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هجرة المصطلح .. بين أزمة الترجمة وحلم التقدم



وئام المددي
03/04/2009, 06:35 PM
اللغة خاصية إنسانية بامتياز، تكشف عن الإنسان ككائن مفكر وعاقل من خلال أفعال التواصل والتعبير والتفكير، كما أنها ذاكرة المجتمع وخزانه الثقافي، فتعلم لغة هو بالضرورة إطلاع على حضارة وتأشيرة تسمح لنا بالدخول إلى عوالم أخرى لسبر ما خفي من أغوارها.
ولما كانت اللغة لسان الحضارة ، وبالتالي مرآة تعكس ما أحرزته من تقدم ورقي، كان لزاما على المجتمعات الطامحة إلى التقدم تعلم لغة الحضارة الغالبة أو – على الأقل – توسل ما تقدمه الترجمة للإطلاع على إنجازات تلك الحضارة، فقد صدق ابن خلدون حين قال " إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم ".
فأين اللغة العربية من هذا المشهد؟

واقع الترجمة العربية.. متاهة اصطلاحية !
تتغييى الترجمة العربية تحقيق التلاقح والمثاقفة الإيجابيين إضافة إلى مواكبة الحضارة العلمية الحديثة وذلك بضخ دماء جديدة في شرايين اللغة العربية عبر تجديدها وتطويرها وإغنائها للحفاظ على بقائها. من بين أهدافها كذلك تطويع اللغة العربية للاستجابة لمقتضيات العصر وكذا الدفع بها نحو العالمية.
إلا أن الترجمة العربية - وللأسف - تظل مفتقرة إلى التنظيم والتنسيق في ظل الانفرادية والعشوائية والمزاجية التي تطبع واقع الترجمة في العالم العربي، هذا دون نسيان الهوة العلمية والتكنولوجية التي تفصل ما بين عالمين : عالم متقدم وآخر نامٍ،تلك الهوة التي تنيخ بكل ثقلها على قضية الترجمة.. ينضاف إلى ما سبق اختلاف التأثير الثقافي الأجنبي وكذا الفهم والمناهج المطبقة بين المترجمين، الشيء الذي يؤدي إلى تفاوت المقدرة اللغوية بينهم.
بالرغم من ذلك تظل كاذبة تلك المزاعم التي تنتقص من قدرة اللغة العربية، تلك المزاعم التي تنزع عن لغة الضاد صلاحيتها للعلوم الطبيعية والطبية وتجعلها حبيسة الفقه والشعر والأدب بالرغم من أن اللغة العربية قد برهنت على قدرتها الكبيرة على التعبير في شتى فنون العلم – خاصة في العصر العباسي الذي شهد ازدهار الترجمة ــ كما استوعبت كل ما نقل إليها من علوم الأمم الأخرى سواء في الفلسفة أو الطب أو الصيدلة أو الرياضيات أو الكيمياء..، وبما أن اللغة العربية قد أكدت صلاحيتها للإنتاج الفكري فإنها ستكون بالضرورة قادرة على التعبير والاستيعاب، إذ إن أزمة الترجمة العربية هي أزمة مصطلح بالأساس وليست ناتجة عن قصور في اللغة العربية ،بحيث إن المتأمل للمشهد الاصطلاحي الراهن سيلفي حتما تأزمه الفظيع الناتج عن الاطراد/الإسهال الاصطلاحي وذلك إما لتعدد في جهات الوضع ( منظمات عربية دولية، مؤسسات علمية، مجامع لغوية، جامعات، اتحادات علمية أو مهنية، علماء، باحثون، لغويون..) أو لتعدد في مناهج الترجمة ( ترجمة ترجع إلى التراث، ترجمة توليدية، ترجمة حرفية..)أو لتعدد في مصادر المصطلح ( مصطلحات إنجليزية، فرنسية، ألمانية، روسية.. ) أو لعدم الالتزام بالمصطلحات التي سبق وأن وضعت. ينضاف إلى ذلك بطء استجابة العالم العربي للمصطلحات الغربية الجديدة خاصة إذا ما تذكرنا السرعة المذهلة لتوالدها .
وكمثال عن هذه التعددية مصطلح ( PHONEME ) ، حيث وضــعت له مقابلات عربية عديدة :فونيم ، صــــــوت، صوتــــــم، صوتـــــــيم، مستصـــــوت، صوت مجرد، لافظ ، فونيمـــــــــــية..، كذلـــك مصطلــــــح (NARRATOLOGIE) ، فقد ترجم إلى كل من : السردية، علم السرد، السرديـــات، علم الرواية، نظرية القصــــة، علم القص..وهلم جراً، والأدهى والأمر أننا نجد المترجم الواحد يستعمل مقابلات عربية متعددة أمــــــــام المصطلح الأجنبي الواحد، وهذا من شأنه إرباك القارئ العربي، فضلا عن مساهمته في إشاعة التفكك بين الأقطار العربية مما يضيع فرصة استفادة البلد العربي الواحد مما أحرزته البلدان العربية الأخــــــرى في مجال الترجمة، الشيء الذي يؤدي إلى تشجيع العودة إلى المصطلح الأجنبي كوسيلة للتواصــــــــل.إلا أن المعيـــــار التداولي – في خضــــــم هذه المتــــاهة الاصطـلاحية – يظل الفيصل في إثبات المصطـــــــلح الأنســـب وإلغاء ما سواه.
من ناحية أخرى نجد الاختلاف الحضاري والثقافي يلقي ظلاله بقوة على أزمة المصطلح ، إذ إنه يسبب بدوره في تناسل عدد كبير من المصطلحات تختلف باختلاف فهم المترجمين للمصطلح النواة والظروف التي أفرزته ( تاريخية ، حضارية ، إبستيمولوجية ، إيديولوجية .. ) وكذا اختلاف اللغات المنطلق بين المترجمين ، فأن نترجم، كما يقول " فرانز روزنزفيغ " ( F.Rosenzweig ) ، معناه أن نخدم سيدين ( نأخذ على سبيل المثال مصطلح Computer الذي ترجمه ذوو الثقافة الإنجليزية إلى حاسوب و مصطلح Ordinateur الذي ترجم إلى نظامة من قبل مترجمين ذوي ثقافة فرنسية ) . إلى جانب هذا الاختلاف هناك إشكال آخر يكمن في خلط بعض المترجمين بين نظرية الترجمة وعلم المصطلح ، هذا الخلط يؤدي غالبا بهؤلاء إلى الاعتقاد بأن المصطلحات العربية ما هي إلا ترجمة أو تعريب للمصطلحات الغربية، في حين إن خلق المصطلح يعتمد ، أو عليه أن يعتمد ، على توليد المصطلحات باللغة الهدف انطلاقا من المفهوم المطلوب التعبير عنه بمصطلح لغوي دونما ارتكاز على اللغة المنطلق.
وقد تتعدى أزمة المصطلح هذه الحدود إلى ما هو أبعد ، إذ أصبحت أزمة المصطلح تحيل بشكل أو بآخر على أزمة الصراع بين الأصالة والحداثة .. بين داعٍ إلى التنقيب في التراث عن المصطلحات الأثيلة وآخر مناصرٍ للتعريب والحفاظ على حرمة المصطلح الصوتية ( التعريب بمعناه الذي يفيد " ما استعمله العرب من الألفاظ الموضوعة لمعانٍ في غير لغتها بحيث يصبح عربيا إذ يدخل في اللغة العربية ويشتق منه الميزان الصرفي والصيغ العربية " ) ، هذا الصراع قد يجرنا إلى صراعات أخرى كالصراع بين الشرق والغرب أو صراع الأجيال ..
لكن التعددية الاصطلاحيـــة – بالرغم مما سبق ذكره – تبقى ظــاهرة لغـــوية طبيعيــة، بل أكثر من ذلك فهي ظاهرة قديــمة رافقت اللغة العربية مذ فكر العرب في وضع المصطلحات. وهذه الظــاهرة ليست مقتصرة على اللغة العربية – كما يظن البعض ــ ، بل على العكــــس من ذلك تشـمل جميع لغـــــات العالم ولم تكن سببا رئيسا في عرقلة مسيرة علم من العلوم.

هل من سبيل؟

مع أن التعددية قدر محتوم للمصطــــــلح العربي إلا أنه بإمكاننـــا التخفيــــــف من حدتها وذلك باتخاذ مجموعة من الإجراءات، نذكر منها :
• توحيد المعاجم المتخصصة.
• إنشاء دور الترجمة .
• استقطاب الكفاءات العربية المهاجرة .
• إنشاء دور للنشر لطبع ونشر إنتاجات المترجمين .
• إحياء التراث العربي للاستفادة من المصطلحات المتناثرة في بطون الكتب العلمية.
• إنشاء مؤسسات عربية تعنى بالترجمة وتتولى إصدار مجلات علمية باللغة العربية .
• إشراك المختصين في الهيئات والاتحادات العلمية .
• تدريس علم المصطلح في الجامعات بوصفه علما مستقلاً عن الترجمة .
• دراسة المصطلحيين للترجمة في شقيها النظري والتطبيقي .
• إطلاع المترجمين على علم المصطلح والمعجمية للإلمام قدر الإمكان بقواعد توليد المصطلحات وتوحيدها ومعرفة خصائص المعاجم العامة والمتخصصة .
• التوفيق بين النظرية والتطبيق .
• تمكن المترجم من إيواليات الترجمة .
• احترام مجال التخصص في الترجمة ( ترجمة أدبية: شعرية، سردية.. / ترجمة علمية.. ) .
• تفعيل المجامع اللغوية العربية .
• عقد مؤتمرات عربية لمناقشة قضية التعددية الاصطلاحية .
• تبادل الكتب العلمية والمنهجية بين البلدان العربية.
• توحيـد منهجية وضع المصطلحات وذلك بســـن مجموعة من المقاييس لترجيح مصطلح عن آخر.
• التزام المصطلحات التي أقرتها المجمعات العلمية العربية.

تظل الترجمة وما يتعلق بها من قضايا من أكثر الإشكالات المعاصرة إلحاحـــــــــا وأكثرها حاجة إلى عناية العلماء والمختصين، كـما تظل تحديا عربيا حضاريا يهم حاضر الإنسـان العربي ومستقبله مثلمـــــا كانت من أهم الإشكالات التي رافقت ماضي الوجود العربي ..

عبد الحميد عويس 30
02/09/2009, 05:02 PM
مشكورا و مأجورا بارك الله فيكم

بلقاسم مكريني
02/09/2009, 05:45 PM
شكرا للأستاذة الفاضلة وئام المددي على المقال الرائع والمفيد..
لقد وقفت ،فعلا، على أبرز المعيقات والإشكاليات التي تعرقل السير الحثيث لعملية الترجمة من وإلى اللغة العربية...
لقد أثار انتباهي كثيرا مشكل تعدد المصطلح العربي - وأنا أعاني منه فعلا في قراءاتي للأعمال المترجمة - .. هل الأمر ما زال مصدر حديث عن ترف لغتنا وغناها...لا أعتقد ذلك فجميع اللغات توجد بها مترادفات كثيرة ولكنها ترجح دالا واحدا للمدلول الواحد ؛ لا سيما حين يتعلق الأمر بمصطلحات علمية وتقنية.. إنه غياب التوحيد والتنميط للمصطلح العربي ..وفوضى الوضع والاقتراح وغياب مصداقية كثير من الجهات التي تصدر عنها المصطلحات سواء أتعلق الأمر بأفراد أم بمؤسسات...
نسأل الله الرفع من شأن لغتنا وشأننا بين الأمم...
مع تحياتي