المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسرار صاحب الستر - رواية- الجزء الخامس - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
06/01/2007, 03:59 PM
أسرار صاحب الستر
رواية
الجزء الخامس

ابراهيم درغوثي / تونس



سر حزن الخليفة على الثائر : " يحي بن زيد "

صوت الغنية ينزل على القلب عذبا كالماء الزلال نهار صيف قائظ . والجواري الشبيهات بحور العين لا يتوانين لحظة في تلبية رغبات الحاضرين في مجلس الأمير .
والوليد منشرح ومكلوم في نفس الوقت ، لا يدري أيضحك أم يبكي . يتقاسمه الهم والغبطة ، فقد وصلته قبل قليل أخبار مقتل " يحي بن زيد ".
سكت مدة طويلة ، ثم دعا بكأسه ، فشرب ثلاثا وهو ينعر مصوتا بخيشومه :
- هذه الكأس في صحة بني أمية ، الأحياء منهم
والأموات .
فقرع الحاضرون كؤوسهم صائحين :
- في صحة بني أمية .
وغنت الجواري ورقصن كأحسن ما يكون الرقص ، والأمير غائب عن الوجود .
أعرف أنه حين يصمت بهذه الصورة ، فيغيب عن العالم المصطخب أمامه مدة قد تطول ليلة كاملة أو تقصر لحظات فقط . أعرف أنه سيقترف جنونا لا يخطر على بال أحد . فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ومنيت النفس بأن تكون العواقب سليمة . وفتحت أبواب الترقب . ولم يدم انتظاري طويلا فقد وقف الأمير في ساحة الرقص وقال للحاضرين بصوت كالفحيح :
- أريدكم أن تكونوا حاضرين ، وما أنتم بحاضرين .
ولم يفهم الرجال مقصده ، فصحت فيهم :
- أغمضوا أعينكم يا أولاد الزواني قبل أن تحل عليكم اللعنة هذه الليلة .
فحرك الأمير رأسه مؤكدا حديثي :
- أريد أن ترقص الجواري في حضوركم ، ولكن ليرقصن لي وحدي ، أنا أمير المؤمنين والكافرين والفاسدين والصالحين والتائبين والمارقين من الملة .
فأغمض الرجال الأعين ونكسوا الرؤوس . وتجردت النساء من الثياب ، وبدأن في رقص هو مزيج من القفز وهز الأرداف وتحريك النهود والرهز مع تصويت وبكاء ونشيج يتخلله ضحك كضحك المجانين . والأمير يدور بينهن ويفعل فعلهن ولا يكل ولا يمل . ثم التفت على حين غرة ، فرأى واحدا من الحضور يراقب الجارية التي كان بصدد مراقصتها فصاح صيحة واحدة كادت الجدران تنهد من قوتها وفخامتها :
محكمة .
فسكتت كل حركة ، وانكتمت الأنفاس والتفت الجميع صوب المكان الذي قصده الأمير الذي انقض على أحد الطبالين كالنسر الكاسر وانهال عليه لكما ولطما وضربا على القفا وهو يصيح :
- أنت الزاني إذن أيها الطبال ؟ لقد اكتشفتك وأنت تأكل من لحم امرأتي .
لقد رأيت في عينيك رغبتك في جارية أمير المؤمنين أيها الزاني .
وأدخل إصبعيه في عيني الطبال الذي ظل واجما بدون حراك .
وكنت أعرف هذا الطبال الفحل . وأعرف أن كثيرا من جواري الأمير راودنه عن نفسه ولكنه كان ينأى عنهن ويبتعد عن تغنجهن ودعواتهن له إلى مقاصيرهن خوفا من اكتشاف أمره ، إلى أن وقع في حب الجارية التي كان الأمير بصدد مراقصتها هذه الليلة ، فسقط صريعا في هواها . ولكن حضه التعس أوقعه في غرام المرأة التي اصطفاها الوليد وخيرها عن بقية نساء القصر . فعشقت الجارية هذا الفحل وعشقها وصارت تخيره على الأمير إلى أن اكتشفت القهرمانة غرامياتهما ، فوشت بهما إلى
الأمير ...
وعاد الوليد إلى الصياح :
- إني أطلب منكم أن تشاركوني في إصدار الحكم العادل على هذا المارق عن سلطان بني أمية .
فاختلفت الآراء وتباينت ، وكثر اللغط إلى أن أوقف الأمير الجلسة قائلا :
أصدرنا نحن الوليد بن يزيد الأموي خليفة المؤمنين ، حكمنا العادل في حق هذا الزاني بأن يلاوط الساعة أمام هذا الحشد من الشهود حتى نرد لجاريتنا المصون حقها . والله على ما أقول شهيد .
وأشار إلى واحد من عبيده السودان أن يتقدم لينفذ أمر مولاه عاجلا في المحكوم عليه ، فامتثل العبد ووقعت الواقعة تحت أقدام جارية أمير المؤمنين .
وكان الأمير يضحك وهو يضرب على مؤخرة العبد الجاثم فوق الطبال بكل ثقله .


سر الطشت الفارغة .

وظل الأمير على مزاجه الفاسد إلى أن وصل رسول والي " خراسان " برأس يحي بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
طلب الرسول الإذن بالمثول بين يدي أمير المؤمنين ، فأذن له . وأشار الأمير إلى الحاضرين بالانصراف ، فخلت القاعة من أصوات المغنين والمهرجين والسكارى . وران صمت رهيب على المكان ، صمت كصمت المقابر . حينها دخل الرسول على الخليفة يحمل على صدره مخلاة ، فسلم بأدب جم وبقي واقفا .
دامت وقفته وقتا طويلا ، ثم أشار الوليد إلى المخلاة ، فجثا الرجل على ركبتيه ، وأخرج منها طشتا فوضعه فوق مائدة قرب الخليفة وتراجع خطوتين إلى الوراء .
وعاد الصمت يلف المكان من جديد .
اتكأ الوليد على مرفق يده اليمنى ، وباليد اليسرى رفع الغطاء ، فرأى داخل الطشت رأس آدمي .
رأيت من مكاني ، وراء الستارة ، ارتعاشة في عيني الخليفة وتقطيبة على جبينه .
قال الرسول :

- هذه رأس المارق يحي بن زيد يا مولاي .
فأشار إليه بيده إن صه .
فسكت الرجل .
وحركت نسمة خفيفة شعلة الشمعة الواقفة على الطاولة ، فتحرك ظل الرأس . ورأيت تكشيرة ألم ترتسم على وجه القتيل ، فأحسست بحد السيف يمر على عنقي . فاقشعر بدني وارتعشت أطرافي وغامت الدنيا أمام ناظري .
في تلك الأثناء ، داس الأمير الطاولة برجله ، فتدحرجت الرأس على الأرض وانطفأت الشمعة .
وسمعته يقول :
- لا دخل لي في دمك يا رجل . فلماذا تنظر لي نظرتك الميتة هذه ؟
وجعل يلطم رأسه على الجدار ، ويصيد :
لقد طلبت من الوالي أن يؤمنك ويخلي سبيلك ويأمر لك بعشرة آلاف درهم و بإمتيازات أخرى . فلماذا قتلت
نفسك ؟ لماذا أيها المجنون ؟
ثم التفت إلى الرسول وقال :
- كيف قتلتم هذا الرجل ؟
فرد الرجل مرتبكا وهو يرى جزع الوليد على القتيل :
- أصابه سهم في جبهته ، فعاد مع أتباعه إلى دار أحدهم ،
فحاولوا انتزاع السهم من الجبهة ، إلا أنه مات بعد ساعة .
ودخل عليهم الجند ، فسلبوا يحي قميصه وهو يحتضر . ثم احتز أحد الجنود رأسه . وصلبنا الجثة على نخلة .

فتغير لون الخليفة ، وعاد إلى الصياح :
- حتما سأنال نصيبي من لعنة هؤلاء العلويين .
يا غلام ، اسقني بالقرقارة .
فظهر من وراء الستارة ثلاثة غلمان ، فأشعلوا الأنوار من جديد ورتبوا المائدة والتقطوا رأس يحي فأعادوها داخل الطشت ، وركنوها جانبا ، ووضعوا قارورة خمر مذهبة وكأسا من الفضة عليه نقوش ورسوم فارسية أمام الأمير ، وانصرفوا يجرون ذيولهم وراءهم .
قال الأمير للرسول الذي ظل واقفا طول الوقت :
- وهل حضرت مقتل والد يحي : زيد بن علي يا رجل ؟
فرد :
- لا يا أميري . لقد كنت مع جند سمرقند أيامها . وإنما بلغني أصداء عن العملية من أصدقاء حضروا الواقعة .
وسكت الرجل ، فحثه الخليفة على الكلام :
- وماذا قال الأصدقاء يا رجل ؟
قالوا إن يحي حزن كثيرا لموت والده ، وإنه رفض أن يترك مع القتلى في ميدان المعركة قبل أن يفروا لأن جندنا ضيق عليهم الخناق .
- وماذا فعل في آخر الأمر ؟
- وجد حيلة ، فدفن والده في حفرة يؤخذ منها الطين وأمر أن يجرى على القبر الماء لئلا يعرف .
وكان يصيح : لا تتركوا أبي نهبا لأنياب الكلاب السائبة .
- وماذا جرى بعد أن فروا من ساحة المعركة ؟
- دل واحد من الموالي قائد جندنا على القبر بعد أن أوجعه ضرب السياط ، فأخرج زيد من قبره وهو الآن مصلوب على جذع نخلة هو الآخر .
قال الوليد للرسول :
- ستستريح هذه الليلة . ومن الغد ستعود إلى العراق حاملا وصيتي هذه : قل لوالينا يوسف بن عمر أن ينزل زيدا من الجذع ، وأن يحرقه بالنار ، وأن يذري رماده في ماء الفرات .
سألبي رغبة ابن عمي يحي ، فلن تشم الكلاب عظام
والدك أبدا .
وعاد يشرب بالقرقارة .
ولم ينتبه لرسول العراق الذي ظل واقفا في مكانه حتى الصباح .
ظل يترقب إذن أمير المؤمنين له بالانصراف .
والغريب في الأمر أننا لم نجد لرأس يحي بن زيد أثرا حين هم الخليفة بمغادرة المكان والذهاب للنوم . فقد كانت
الطشت فارغة وإن كانت تفوح منها رائحة الموت . وكانت أربعة كلاب ضخمة تبصبص بأذنابها أمام باب مقصورة أمير المؤمنين .
قفزت الكلاب حين فاجأها وصول الأمير ، فراحت تنبح وتلحس وجهه وعنقه وهو يهشها بعصا الملك وبالكلمات النابية ، إلى أن أغلق الخدم الباب دونها فعادت تقعي فوق أزهار الحديقة ، وتعوي عواء الشياطين .


سر نار المجوس .

مللنا المكوث في القصر .
حط السأم على أكتاف الجواري ، فذبلت الوجوه وفقدت أصوات المغنيات رقتها وحلاوتها . وصار الملل سيد الدار، فكثرت المشاجرات ، وبدأت أصوات بعض الخصيان المرابطين أمام الأبواب للخدمة في الارتفاع .
لاحظت كل هذه الأمور في صمت إلى أن رأيت أن من واجبي إخطار الأمير بذلك عله يجد لنا مخرجا ، خاصة بعد أن امتنعت جارية عن الغناء وساندتها الراقصات المحترفات اللاتي لا يطرب الأمير إلا لرقصهن .
حدثت الأمير عما جرى ، فقال :
- أنا طبيب هذه الأمراض يا صاحبي . أدع لي صاحب ديوان الخدم .
في غمضة عين ، كمان كبير الخدم في حضرة الأمير ، فطلب منه أن يجهز الدواب ويحملها ما تحتاجه إقامة أسبوع خارج القصر .
ركع صاحب ديوان الخدم أمام الأمير ، وخرج ماشيا إلى الخلف إلى أن توارى عن الأنظار .
وتغيرت الأحوال في القصر .
ارتفعت الأصوات بالأهازيج ، وعم الحبور كل مكان ، حبور

صاحب قافلة الأمير الخارجة إلى البرية .
كانت الجمال محملة بآلات الطرب والمؤن ودنان الخمر وكلاب الصيد والجواري الروميات . وعلى البراذين ركب أصحاب الأمير . أما الأمير فقد ركب داخل محفة تبادل على حملها عبيد أشداء ، كلما تعب بعضهم عوضهم آخرون .
سارت القافلة من الصباح إلى غروب الشمس وكانت مسبوقة بكوكبة من الفرسان تطرد من طريق الأمير العربان والشحاذين والمداحين .
وساروا إلى أن وصلوا غدير ماء استحسنه الأمير ، فطلب منهم أن ينصبوا الخيام على حافته .
وساح الأمير في البرية مصحوبا بكلبي صيد وبخادم . ومنع البقية من الالتحاق به .
كان الجماعة يعرفون نزوته هذه ، فتركوه وشأنه وانهمكوا في الإعداد لسهرة الخمر والغناء . فرشوا الطنافس على الأرض ، ووزعوا دنان الخمر في الأركان الأربعة ، وأشعلوا النيران لشي لحم الخرفان والجديان والعجول . واهتم خادمان بجدي الأمير – فالأمير لا يروق له سوى أكل لحم الجديان الطرية – تبل الخادمان الجدي ووضعاه على الجمر إلى أن استوى ، فزيناه ووضعاه على مائدة أمام سريره .
وعاد الأمير من البرية ، فاستقبلته الجواري بالترحاب والغناء . والتهب لهب النيران يناوش ضوء القمر .
ودارت الكؤوس ممزوجة بالشعر والرقص والنكات البذيئة
وطلب الأمير طبلا فجيء به ، - وكان الأمير يمشي بالطبل
على مذهب أهل الحجاز – فقام واقفا يحتضن الطبل ويحنو عليه تحنان الحبيب على الحبيب ، متحسسا جلده الساخن بيديه الاثنتين ، ناقرا عليه بأصابعه نقرات خفيفة في بادئ الأمر ، ثم بدأ في قرعه .
وامتلأ المكان بالدق على الطبول .
رفعت عشر جوار طبولا على رؤوسهن وبدأن في الدق والرقص والدوران والغناء ، والأمير وسطهن ، يمتاز عليهن بخفته ورشاقته ، وقد هزه الطرب ، فصال وجال .
تارة يقرع الطبل بعصا غليظة ، فيسمع له دوي وهزيم كهزيم الرعد ، وطورا يتحسسه بعصاه الرقيقة فيدغدغ الأسماع ويفتن الألباب . إلى أن بلغ الحاضرون حافة الجنون ، فما بقي واحد جالس في مكانه .
دخل الجميع حلبة الرقص وتفننوا في اللهو والمجون .
في تلك الأثناء ، ارتفع من وسط الغدير لهب . نار كنيران المجوس تشتعل وسط الماء بدون حطب .
ألجمت المفاجأة الأمير أول الأمر ، فتوقف عن قرع
الطبل . ووقف مشدوها يلتهم بعينيه النيران التي انعكست على صفحة الماء . ثم تحولت البهتة إلى إعجاب . فقد تراءى له أن الماء صار تبرا تنعكس على صفحته البراقة خيالات عجيبة وصور لمناظر من العوالم الأخرى .
فصاح :
- والله ، ثم والله ، لن نبرح هذا المكان حتى نشرب كل ماء الغدير في بطوننا . سنشرب هذا الغدير ممزوجا بخمرة أديرة " الحيرة " المعتقة .
وذهب لتستريح بعض الوقت بعدما أنهكه تعب الصيد والرقص بالطبل .
وأسقط في أيدي جميع الحاضرين لأنهم يعرفون نزوات الأمير التي لا يرجع عنها أبدا .
فما العمل ، والغدير واسع ، وماؤه يكفي لري بساتين غوطة دمشق ؟
ولم تغب الحيلة على رئيس ديوان الخدم ، فجند الأعوان واستنجد بالجواري والأطفال الصغار فأعطاهم قربا ودلاء وروايا وطلب منهم أن ينزحوا ماء الغدير وأن يصبوه على الأرض والكثب التي حولهم ، حتى لا يبقى فيه شيء .
ووصلت النجدة من دمشق : جيش من الرجال الأشداء وصلوا مدججين بوسائل إفراغ الماء . فكانوا يملأون الدلاء والقرب وأواني أخرى كبيرة ثم يفتلونها بعيدا عن الغدير
لتمتصها الرمال العطشى .
وانهمك الجميع في العمل ، فلم يطلع الصباح إلا والغدير ناشف وأرضه يابسة يلعب فيها الصبيان .
ومن حسن حظ الجميع أن الأمير نام تلك الليلة كما لم ينم منذ سنوات . فلما أفاق في الصباح ، شرب قهوته وأفطر ، ثم قام يطلب الغدير فوجده ناشفا ، فصاح :
- أنا أبو العباس ... ارتحلوا الآن .
فارتحل الناس ، وأنا أعجب لحيلة صاحب ديوان الخدم ولغبطة الأمير بهذا الإنجاز العظيم ...
ولله في خلقه شؤون .


سر الصندوق .

ليلة عودتنا من البادية ، أصاب الإرهاق الجميع ، فناموا باكرا . ولم يبق في ساحة القصر سوى أمير المؤمنين وجاريتين من محضياته .
أمر الخليفة أن ينصب الخوان وأن تدار كؤوس الخمر ، إلا أن واحدة من الجاريتين رفضت أن تشرب في أول الأمر فأظهر لها الأمير الغضب ، فأذعنت لأمره ولانت لطلبه وصارت تسقيه قدحا وتشرب اثنين حتى كادت تفقد وعيها والأمير يلاطفها وهو في أحسن حالاته إلى أن انتصف الليل ، فصرف الجاريتين ودعا بي .
وقفت بجانب السرير ، فأشار إلى سرير مقابل وأمرني بالجلوس وهو يقول :
- ماذا لو حكيت لي عن واحدة من النوادر التي وقعت لأبي مع جواريه وندمانه . إنني أحس بأرق هذه الليلة يا صاحب ستري ، فتمنعت وطلبت منه أن يعفيني من الخوض في هذا الموضوع . لكنه هددني بأن يحضر جماعة من الخدم فيملأون جوفي خمرا .
ولأنني خفت أن يقع لي ما وقع في مرة سابقة فقد حكيت له قصة والده مع جاريته حبابة ومعشوقها القديم ، عندما سألها إن كانت تعرف رجلا أطرب منه عند سماع الصوت الحسن . فقالت له إنه مولاها الذي باعها له . وأطنبت في الحديث عنه وعن مزاياه حتى غار منه الأمير وأمر بإحضاره إلى مجلس شرابه ، فجيء بالرجل مكبلا بالقيود فمثل بين يديه .
ثم أمر الأمير جاريته سلامة أن تغني ، فرفعت صوتها بصوت أعذب من ترتيل الملائكة . فطرب الرجل وتحرك في قيوده ورقص جالسا رقص الدراويش يميل رأسه يمنة ويسرة ويهتز اهتزاز المخبول .
ثم دعا بحبابة وطلب منها أن تغني من وراء الستر ، فغنت صوتا عرى روح الرجل وكوى قلبه بنيران الجحيم ، فوثب وجعل يقفز على رجل واحدة وهو يقول :
- هذا وأبيكما ما لا تعذلاني فيه .
حتى دنا من الشمعة ، فوقف أمامها لحظات ، ثم صار يلتهم ضوءها ويمضغه مصوتا ، فاحا فحيح الأفعى ، ثم وضع لحيته على نار الشمعة فاحترقت فجعل يصيح :
- الحريق ، الحريق ، يا أولاد الزنى .
ومولاي يزيد يضحك ويرفس الأرض برجليه ويقول :
- هذا والله أطرب الناس حقا .
ثم دعا بكيس الذهب فوصله وسرحه .
التفت إلى الأمير ، فوجدته نائما . فواصلت أحكي بقية
الحكاية لنفسي ، أحكي لها عن دموع حبابة التي سالت على خديها حين فاجأتها في أواخر تلك الليلة وهي تداوي وجه صاحبها المحروق باكية ، فملأت فمي ذهبا وطلبت مني أن
أسكت عن سرها . فسكت ولم أبلغ الأمير .
ورأيتها تدس صاحبها في صندوق كبير وتخبئ الصندوق في دارها ، فطلبت منها بعد ثلاثة أيام أن تسرح الرجل ، فعادت تملأ فمي بالذهب ، فعدت إلى السكوت إلى كان اليوم السابع .
غافلتها يومها حين ذهبت إلى الحمام مع جواريها ، فطلبت من الخدم أن يحملوا الصندوق بعيدا ، إلى الخلاء ، وأن يحفروا خندقا عميقا ، فدفنت الصندوق في الخندق وعدت إلى القصر .
ولم تسأل حبابة عن الصندوق حين عادت من الحمام ، لكنها صارت تأكل من نار الشمعة كلما قابلتني وحدي في الليل ، وتقذف في وجهي :
الحريق يا أولاد الزنى ...
وأنا ، من يطفئ حريقي ...


dargouthibahi@yahoo.fr