المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محمود درويش والقصيدة التي لا تنتهي



عبدالوهاب محمد الجبوري
09/04/2009, 06:51 PM
محمود درويش والقصيدة التي لا تنتهي

مجموعة محمود درويش التي صدرت بعد رحيل الشاعر الكبير تشكل عالماً مليئاً بالتساؤل الذي لم يلق غير أجوبة مرة وبالغصات وبواقع يرثه الانسان ليجد أنه لا حول له فيه.
وعلى خلاف قول ديكارت "انا افكر اذن فانا موجود" فسيجد هذا الانسان نفسه في وضع يمكن اختصاره بالقول "انا موجود اذن فأنا ضحية آلام لا حدّ لها".
ويصور درويش في جل ما في المجموعة الجديدة أو كلها آلام الانسان الرهيبة.
لكنها هنا تطلّ من وجه فلسطيني ومن كفّين داميتين لانسان محكوم عليه بالصلب الدائم.
ولربما شكل الانسان الفلسطيني المعاصر مثلا صارخا على اسطورة سيزيف لا يكاد يرفع الصخرة قليلا حتى تنهار عليه وطيور جارحة وحشية تنهش كبده.
ولقد تحول الانسان عامة عند الشاعر هنا من خلال الانسان الفلسطيني لا الى لاعب نرد بل في الواقع الى حجر نرد يرمى به فلا يستطيع ان يعرف الا مكان سقوطه.
وهذا المكان ليس مكاناً ثابتاً؛ فكل القاء جديد لحجر النرد قد يقذف به الى مكان اخر او الى وهدة اخرى.
وتحول هذا الانسان الى "الفلسطيني التائه" عوضاً عن تعبير اليهودي التائه الذي الفناه تاريخياً؛ بل ان ما اصاب هذا الفلسطيني من آلام يصح فيها قول لاحد كبار المفكرين من انها تشكل اعظم آلام "لاعظم صبر في التاريخ".
ومجموعة محمود درويش الجديدة حملت عنوانا هو "لا اريد لهذه القصيدة ان تنتهي" ووصفها الناشر بانها "الديوان الاخير" للشاعر الذي توفي في التاسع من اغطس/آب 2008.
وجاءت المجموعة في 157 صفحة متوسطة القطع وتوزعت على ثلاثة اقسام ضمت ما يزيد على 32 قصيدة طويلة بتفاوت.
وصدرت المجموعة عن دار "رياض الريس للكتب والنشر".
اما الاقسام الثلاثة فجاءت عناوينها كما يلي "لاعب النرد" و "لا اريد لهذه القصيدة ان تنتهي" و "ليس هذا الورق الذابل الا كلمات".
واحتوى كل قسم على عدد من القصائد.
وفي القصائد كلها يطل محمود درويش لا كشاعر كبير فحسب بل "كمعلم" في فن الكلمة والتعبير وفي اثارة احزان وجودية وطرح احزان وجودية ايضا.
ووزعت دار "رياض الريس للكتب والنشر" مع المجموعة كتيباً صغيراً كتبه الروائي والصحافي اللبناني الياس خوري احد اصدقاء الشاعر الراحل عن كيفية عثوره مع عدد من المثقفين من اصدقاء الراحل واقربائه على قصائد المجموعة وكيفية تعامل خوري مع مشروع نشرها الذي كلّف به.
وجعل خوري عنوان الكتيب "محمود درويش وحكاية الديوان الاخير".
كما وزعت دار النشر كتيباً آخر اكبر من الاول حمل قصائد مختارة من شعر درويش.
وكتب خوري ان درويش كان قد تحدث عن وجود ديوان له و فهم من كلامه انه اعده على عادته من الدقة في اعداد اي موضوع واي قصيدة.
وبعد عرض مؤثر في النفس وصل خوري الى القول في القسم الثالث من الكتيب "المفاجأة التي صعقتنا حين دخلنا منزل درويش في عمان ان الشاعر لم ينظّم اوراقه قبل الرحيل. يبدو ان الرجل صدّق الاطباء وكذب حدس الشاعر الذي جعل الموت يتسلل الى جميع قصائده الاخيرة. وجدنا ان اوراقه الشعرية غير منظمة وكان علينا ان نعيد ترتيبها من دون ان نمسها تقريبا".
وبعض القصائد التي لم يعطها الشاعر عناوين وضع خوري عناوين لها استلهمها من القصائد نفسها.
وهذا ما حدث بالنسبة الى عنوان المجموعة فهو عنوان قصيدة طويلة جعل خوري من قول للشاعر فيها عنواناً لها وللكتاب.
وبعض هذه القصائد وهو قليل كان الشاعر قد القاه في مناسبات.
وفي القصيدة الطويلة "على محطة قطار سقط عن الخريطة" ينقل درويش برموز وصور وجولات فكرية عميقة نفّاذة المأساة البشرية كما تعبر عن نفسها بشكل خاص من خلال آلام الانسان الفلسطيني.
ومما جاء في القصيدة "عشب هواء يابس شوك وصبّار/على سكك الحديد هناك شكل الشيء (في عبثية اللاشكل يمضغ ظله...) وقفت على المحطة لا لانتظر القطار.../ بل لاعرف كيف جن البحر وانكسر المكان/ كجرة خزفية ومتى ولدت واين عشت (وكيف هاجرت الطيور الى الجنوب او الشمال...) كنا طيبين وسذجا.قلنا البلاد بلادنا (قلب الخريطة لن تصاب باي داء خارجي...) وقفت في الستين من جرحي وقفت على/ المحطة لا لانتظر القطار ولا هتاف العائدين.../ هل مر ّ بي شبحي ولوّح من بعيد واختفى (وسألته..هل كلما ابتسم الغريب لنا وحيانا) ذبحنا للغريب غزالة؟".
اما قصيدة "لاعب النرد" ذات الجمالية الشديدة المرارة فتختصر كثيرا مما في المجموعة ككل بل انها ربما شكلت موقفا من الحياة يعتبر الانسان مثل ريشة في مهب رياح الارض او لاعب نرد كما يتصور نفسه ثم لا يلبث ان يتبين له انه حجر نرد تتلاعب به الاصابع وترميه بشكل هادف مرة وبما يبدو عبثيا في اشكال اخرى.
فهل تتجه الحياة الى غاية ام لعل الانسان ابن الصدفة وحدها؟ فهي التي تعطيه حياته وشخصيته او تسلب منه الاثنتين.
وعندما تتحول الحياة الى ما يشبه "اليانصيب" يصبح لا بد من التساؤل عن غايتها.
ونعود معه من جديد كذلك الى مسألة الجبرية والاختيار.
ويدخل محمود درويش عالم الفكر والتساؤل الفكري بقدرة فنية تشبه ما قيل عن النعامة من انها تستطيع ان تهضم الزلط.
وهو هنا يحول المسائل الفكرية الباردة القديم منها والجديد الى حالات وجدانية شعرية تجعل الاسئلة القديمة كانها تطرح جديدة.
ويبدأ الشاعر القصيدة الطويلة الملحمية الاحزان بقوله متسائلا "من انا لاقول لكم (ما اقول لكم..) وانا لم اكن حجراً صقلته المياه/ فاصبح وجهاً/ ولا قصباً ثقبته الرياح/ فاصبح ناياً.../انا لاعب النرد (اربح حينا واخسر حينا) انا مثلكم او اقل قليلا.../ وانتميت الى عائلة مصادفة..../ ولدت بلا زفّة وبلا قابلة/ وسميت باسمي مصادفة (وانتميت الى عائلة مصادفة) ورثت ملامحها والصفات/ وامراضها.../ ليس لي دور بما كنت (كانت مصادفة ان اكون ) ذكرا.../كان يمكن الا اكون (كان يمكن ان لا يكون ابي) قد تزوج امي مصادفة (او اكون) مثل اختي التي صرخت ثم ماتت/ ولم تنتبه/ الى انها ولدت ساعة واحدة".
ويضيف "كان يمكن الا اكون مصابا/ بجنّ المعلقة الجاهلية/ لو ان بوابة البيت كانت شمالية/ لا تطل على البحر.../ نجوت مصادفة..كنت اصغر من هدف عسكري (واكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج...) لا دور لي في حياتي سوى انني (عندما علّمتني تراتيلها) قلت هل من مزيد...../ لا دور لي في القصيدة (غير امتثالي لا يقاعها...) من انا لاقول لكم (ما اقول لكم ) كان يمكن الا اكون انا من انا/ كان يمكن الا اكون هنا".
وفي قصيدة "سيناريو جاهز" يصف محنته كفلسطيني مع "الاخر" في وطنه فيقول "لنفترض الان انّا سقطنا/ انا والعدوّ/ سقطنا من الجو/ في حفرة.../ فماذا سيحدث...../ انا وهو/ شريكان في شرك واحد (وشريكان في لعبة الاحتمالات ننتظر الحبل..حبل النجاة )لنمضي على حدة/ وعلى حافة الحفرة - الهاوية/ الى ما تبقى لنا من حياة/ وحرب../ اذا ما استطعنا النجاة/ انا وهو/ خائفان معا/ ولا نتبادل اي حديث (عن الخوف...او غيره) نحن عدوان..." قال لي..هل تفاوضني الان../ قلت على اي شيء تفاوضني الان (في هذه الحفرة القبر) قال..على حصتي وعلى حصتك (من سدانا ومن قبرنا المشترك) قلت..ما الفائدة/ هرب الوقت منا/ وشذ المصير عن القاعدة/ ههنا قاتل وقتيل ينامان في حفرة واحدة".
اما قصيدة "في بيت نزار قباني" ففيها يتحدث عن موته الذي اجّله "قلت له حين متنا معا (وعلى حدة..انت في حاجة لهواء دمشق) فقال ساقفز بعد قليل لارقد في (حفرة من سماء دمشق.فقلت..انتظر) ريثما اتعافى لاحمل عنك الكلام (الاخير انتظرني ولا تذهب الان...) قال انتظر انت عش انت بعدي لا بد من/ شاعر ينتظر/ فانتظرت وارجأت موتي".
وفي قصيدة "لو ولدت" اختصار لوضع "الفلطسيني التائه" ينقله بمأسوية "عملية" هي بنت الواقع لا الخيال.يقول "لو ولدت من امرأة استرالية/ واب ارمني/ ومسقط راسك كان فرنسا/ ماذا تكون هويتك اليوم../-طبعا ثلاثية/ وجنسيتي (فرنسية) وحقوقي ( فرنسي)والى اخره.../ "- وان كانت الام مصرية (وجدّتك من حلب)ومكان الولادة في يثرب/ واما ابوك فمن غزة/ فماذا تكون هويتك اليوم....../ - طبعا رباعية مثل الوان رايتنا العربية/سوداء خضراء حمراء بيضاء (ولكن جنسيتي تتخمر في المختبر) واما جواز السفر (فما زال مثل فلسطين مسألة كان فيها نظر) ومازال فيها نظر والى آخره".

*********************
من بيروت جورج جحا
عن موقع ميدل ايست اونلاين