مصطفى ملح
12/04/2009, 11:18 PM
سؤال المثقف بين مطرقة السّلطة وسندان الثّقافة
لقد تمّ التّراجع عن مفهوم المثقف العضوي بالمفهوم الاجتماعي الغرامشي ، الذي كان يوجّه أسئلته الفكرية لقيادة الحملة تلو الأحرى ضد القبح والطبقية واغتصاب حقوق الكائن .
كان المثقف واحدا من دعاة الديمقراطية والمناصرين لحقوق الإنسان والحالمين بالفعل والقوّة بمجتمع الإخاء والمساواة ، حينما كان صوته مسموعا وقلمه منغمسا في وجدان الجماهير وكيانه جزء لا يتجزأ من المحيط الذي ينتمي إليه . كان الهزار الصداح بلسان الناس ، والقربان المرفوع لأجلهم ، والزعيم الذي يقود بالرّيشة والقلم والقيثارة والقصّة والدّراسة والبيان ، يقود حماسهم إلى جهة الفعل المنظم داخل قلب المجتمع ، وكان قلبهم النّابض الذي يمشي عوضا عنهم في المظاهرات ويأتمر بأمرهم في المؤتمرات ويدافع عن حقهم الطبيعي في حصّة الأوكسجين وقطعة الخبز المغمّس في بياض الحرية ..
فماذا حدث الآن ؟ وكيف انقلبت الموازين واختلت إيقاعات الحياة ؟!
لقد انحسر دور المثقف ، بلا مراء ، لأسباب سنلامس بعضها ، لاحقا .
في العصر الجاهلي كان الشاعر فارس القبيلة ومزمارها الذي يوقظ حواسّها الباطنيّة . كانت ولادته حدثا تاريخية وعرسا رمزيّا . عند الإغريق كان الكاتب منتجا للحكمة ، وملخّصا لخبرات الحياة المعقّدة ، وكان بالتالي نصف إله يحارب لأجل إشراقة شموس الوعي والعقل . في العصور الوسطى كان رمزا لبناء الحضارة والمسؤول عن إقامة معمارها المجازي بما أتيح له من اطلاع على سرّ العقل وملامسة جوهره .
ووقوفا عند منتصف القرن العشرين يتّضح بجلاء دور المثقف في التّغيير .
ولابدّ من تسجيل بعض ملامح العصر التي أتاحت للمثقف هذه المكانة وبوأته ذاك المركز :
- ارتفاع منسوب النّسغ الإيديولوجي وهيمنة الجدل الفكري .
- انقسام العالم إلى كثلتين متضادتين : غربية رأسمالية داعية إلى تحرير رأس المال وممجّدة للمبادرة الفردية ، وشرقية اشتراكية طامجة إلى بناء ( عالم ) تنتفي فيه ، بالتدريج ، الفوارق بين فئات المجتمع .
- ظهور الفلسفات الشّمولية ؛ تلك التي تتّسم بالنسقية والسّعي إلى الإجابة عن كل أسئلة الكائن .
- انشار الفكر الماركسي الذي كان يبدو أنه الأقرب إلى صياغة معادلات كاملة : الانشغال بالسياسي ( التّغيير ) والفكري ( تفسير وتأويل أحدات العالم وقراءة الحاضر على ضوء مُجريات الماضي ) والفنّ ( اقتراح نظرية أدبية اجتماعية ستتطوّر مع لوسيان كولدمان ثم بشكل أعمق مع جورج لوكاتش ) .
- ارتباط الفكر بالماهية والغائية واعتبار أي فكر ذاتي هو محض لغو واحتقار لانشغالات الجماهير .
- هيمنة مفهوم الالتزام ؛ إذ لُزِمَ المثقف بالانخراط في قضايا محيطه بالقدر الذي يتيحه له موقعه .
- انتعاش المجتمع المدني بمختلف تلاوينه وإسهامه في إثراء الحياة الثقافية ، يومئذ .
أما الآن ، فإننّا ، كما يعرق الدّاني والقاصي ، نعيش عصر انتكاس الفلسفة وسقوط القطبين اللّذين كانا يخلقان نوعا من التوازن على مستوى ميزان القوى الدّولي ، أمام ذيوع فكر وحيد شرس يدّعي القدرة على قيادة العالم إلى الجنّة / الجحيم !
ثم أن الدّولة ، بمختلف مكوّناتها ، لا تنظر إلى المثقف كفاعل أساسي في حقول إنتاجيّتها ، بمعني إنها هي من قامت ببناء أكثر من سياج بينها وبين الإمكانيات الثرية المدهشة التي يمكن تقديمها واقتراحها ، خاصّة وأنه بحكم موقعه ورؤيته الأكثر انتماء إلى جهة المحبّة والعدل والنّاس والشّمس يكون المهيّأ أكثر من غيرة في المساهمة في الدّفع بقاطرة التنمية الفكريّة والوجدانيّة للأمّة .
والدّولة ، بأجهزتها الإعلامية ومنظورها الذي اتّضح أخيرا ، تحصر ( الثقافة ) في مفهوم ضيّق ، شوفينيّ ، يعوزه الكثير من إعادة النّظر والتّعديل والمساءلة النّقديّة الجادّة .
لقد أصبح مفهوم الثقافة يقتصر على بعض الأشكال الفولكلوريّة التّهريجيّة ، وإحياء أنماطا للثقافة التّقليديّة نكاية بكل أفق للحداثة والتّقدّم ، علما بأنّ تلك الأنماط ، في معظمها ، تنحاز إلى تمجيد الخرافة ومدح قيم الفساد وتعظيم الأولياء والتّمسّح بالأضرحة والتّغنّي بقيم السّفور والدّعارة .. وكل هذا يتمّ تحت غطاء التّراث ، والاهتمام بدخيرة الأجداد الفنية !
أضف إلى ذلك أنّ الإعلام ، مرئيا ومسموعا ومقروءا ، موجّهٌ بصورة تنسجم مع النيّة الجديدة للدّولة : نية إلغاء دور المثقف ، وجعله ديكورا من لحم وعظم ، نتذكّره فقط في أربعينيّة موته ونكيل له بعض المراثي !
كان طبيعيّا والأمر كذلك أن ( يخرج ) المثقف ، مؤقّتا ربّما ، من زحمة الحياة الثقافية التي أصبحت محطّة إقصاء واغتيال لكل أزهار الجمال ، بعدما كان يفترض فيها أن تكون محطّة استقطاب وزرع لديناميت التّغيير في حقولها الشّسيعة .
وهذا ، ربّما قد يفسّر بعضا من الارتكاس ، الواعي بالتّأكيد ، الذي يعلنه مثقّف اليوم ، حفاظا على ما تبقّى من ماء الوجه . وهكذا أثر هذا الوضع على الأدباء ، صنّاع المشاعر في ورشة الجمال ، إذ ارتكنوا إلى الذات يستنبطون منها أوكسيد الفضّة ويحفرون بإزميل حواسّهم الشّخصيّة صخرة الذات ..
إنّ المطّلع على الآثار الأدبيّة سوف لن يجد أدنى صعوبة في تأويل ما حصل : العودة إلى الذات ؛ تلك التي فجّرت موقفين اثنين متناقضين :
- هناك من يرى أنّها مؤشّر على نكسة داخليّة وتخَلٍّ عن دور المثقّف في المشاركة حتّى ولو لم تكن الظروف ملائمة .
- وفريق ثانٍ يرى أن المثقف يحقّ له الانسجاب على اعتبار أن الانسحاب موقف ممّا يجري ورفض له ، قاطع .
وبين الرّأيين ، كليهما ، يبقى الإشكال متأجّجا . ويبقى ، في كل الأحوال ، الاعتقاد سائدا بأن الأمّة لا يمكنها التّنقل في مدارج العمران بالمفهوم الخلدُوني دون إشراك ضمائرها الحيّة : مثقّفيها .
بقلم مصطفى ملح - المغرب
لقد تمّ التّراجع عن مفهوم المثقف العضوي بالمفهوم الاجتماعي الغرامشي ، الذي كان يوجّه أسئلته الفكرية لقيادة الحملة تلو الأحرى ضد القبح والطبقية واغتصاب حقوق الكائن .
كان المثقف واحدا من دعاة الديمقراطية والمناصرين لحقوق الإنسان والحالمين بالفعل والقوّة بمجتمع الإخاء والمساواة ، حينما كان صوته مسموعا وقلمه منغمسا في وجدان الجماهير وكيانه جزء لا يتجزأ من المحيط الذي ينتمي إليه . كان الهزار الصداح بلسان الناس ، والقربان المرفوع لأجلهم ، والزعيم الذي يقود بالرّيشة والقلم والقيثارة والقصّة والدّراسة والبيان ، يقود حماسهم إلى جهة الفعل المنظم داخل قلب المجتمع ، وكان قلبهم النّابض الذي يمشي عوضا عنهم في المظاهرات ويأتمر بأمرهم في المؤتمرات ويدافع عن حقهم الطبيعي في حصّة الأوكسجين وقطعة الخبز المغمّس في بياض الحرية ..
فماذا حدث الآن ؟ وكيف انقلبت الموازين واختلت إيقاعات الحياة ؟!
لقد انحسر دور المثقف ، بلا مراء ، لأسباب سنلامس بعضها ، لاحقا .
في العصر الجاهلي كان الشاعر فارس القبيلة ومزمارها الذي يوقظ حواسّها الباطنيّة . كانت ولادته حدثا تاريخية وعرسا رمزيّا . عند الإغريق كان الكاتب منتجا للحكمة ، وملخّصا لخبرات الحياة المعقّدة ، وكان بالتالي نصف إله يحارب لأجل إشراقة شموس الوعي والعقل . في العصور الوسطى كان رمزا لبناء الحضارة والمسؤول عن إقامة معمارها المجازي بما أتيح له من اطلاع على سرّ العقل وملامسة جوهره .
ووقوفا عند منتصف القرن العشرين يتّضح بجلاء دور المثقف في التّغيير .
ولابدّ من تسجيل بعض ملامح العصر التي أتاحت للمثقف هذه المكانة وبوأته ذاك المركز :
- ارتفاع منسوب النّسغ الإيديولوجي وهيمنة الجدل الفكري .
- انقسام العالم إلى كثلتين متضادتين : غربية رأسمالية داعية إلى تحرير رأس المال وممجّدة للمبادرة الفردية ، وشرقية اشتراكية طامجة إلى بناء ( عالم ) تنتفي فيه ، بالتدريج ، الفوارق بين فئات المجتمع .
- ظهور الفلسفات الشّمولية ؛ تلك التي تتّسم بالنسقية والسّعي إلى الإجابة عن كل أسئلة الكائن .
- انشار الفكر الماركسي الذي كان يبدو أنه الأقرب إلى صياغة معادلات كاملة : الانشغال بالسياسي ( التّغيير ) والفكري ( تفسير وتأويل أحدات العالم وقراءة الحاضر على ضوء مُجريات الماضي ) والفنّ ( اقتراح نظرية أدبية اجتماعية ستتطوّر مع لوسيان كولدمان ثم بشكل أعمق مع جورج لوكاتش ) .
- ارتباط الفكر بالماهية والغائية واعتبار أي فكر ذاتي هو محض لغو واحتقار لانشغالات الجماهير .
- هيمنة مفهوم الالتزام ؛ إذ لُزِمَ المثقف بالانخراط في قضايا محيطه بالقدر الذي يتيحه له موقعه .
- انتعاش المجتمع المدني بمختلف تلاوينه وإسهامه في إثراء الحياة الثقافية ، يومئذ .
أما الآن ، فإننّا ، كما يعرق الدّاني والقاصي ، نعيش عصر انتكاس الفلسفة وسقوط القطبين اللّذين كانا يخلقان نوعا من التوازن على مستوى ميزان القوى الدّولي ، أمام ذيوع فكر وحيد شرس يدّعي القدرة على قيادة العالم إلى الجنّة / الجحيم !
ثم أن الدّولة ، بمختلف مكوّناتها ، لا تنظر إلى المثقف كفاعل أساسي في حقول إنتاجيّتها ، بمعني إنها هي من قامت ببناء أكثر من سياج بينها وبين الإمكانيات الثرية المدهشة التي يمكن تقديمها واقتراحها ، خاصّة وأنه بحكم موقعه ورؤيته الأكثر انتماء إلى جهة المحبّة والعدل والنّاس والشّمس يكون المهيّأ أكثر من غيرة في المساهمة في الدّفع بقاطرة التنمية الفكريّة والوجدانيّة للأمّة .
والدّولة ، بأجهزتها الإعلامية ومنظورها الذي اتّضح أخيرا ، تحصر ( الثقافة ) في مفهوم ضيّق ، شوفينيّ ، يعوزه الكثير من إعادة النّظر والتّعديل والمساءلة النّقديّة الجادّة .
لقد أصبح مفهوم الثقافة يقتصر على بعض الأشكال الفولكلوريّة التّهريجيّة ، وإحياء أنماطا للثقافة التّقليديّة نكاية بكل أفق للحداثة والتّقدّم ، علما بأنّ تلك الأنماط ، في معظمها ، تنحاز إلى تمجيد الخرافة ومدح قيم الفساد وتعظيم الأولياء والتّمسّح بالأضرحة والتّغنّي بقيم السّفور والدّعارة .. وكل هذا يتمّ تحت غطاء التّراث ، والاهتمام بدخيرة الأجداد الفنية !
أضف إلى ذلك أنّ الإعلام ، مرئيا ومسموعا ومقروءا ، موجّهٌ بصورة تنسجم مع النيّة الجديدة للدّولة : نية إلغاء دور المثقف ، وجعله ديكورا من لحم وعظم ، نتذكّره فقط في أربعينيّة موته ونكيل له بعض المراثي !
كان طبيعيّا والأمر كذلك أن ( يخرج ) المثقف ، مؤقّتا ربّما ، من زحمة الحياة الثقافية التي أصبحت محطّة إقصاء واغتيال لكل أزهار الجمال ، بعدما كان يفترض فيها أن تكون محطّة استقطاب وزرع لديناميت التّغيير في حقولها الشّسيعة .
وهذا ، ربّما قد يفسّر بعضا من الارتكاس ، الواعي بالتّأكيد ، الذي يعلنه مثقّف اليوم ، حفاظا على ما تبقّى من ماء الوجه . وهكذا أثر هذا الوضع على الأدباء ، صنّاع المشاعر في ورشة الجمال ، إذ ارتكنوا إلى الذات يستنبطون منها أوكسيد الفضّة ويحفرون بإزميل حواسّهم الشّخصيّة صخرة الذات ..
إنّ المطّلع على الآثار الأدبيّة سوف لن يجد أدنى صعوبة في تأويل ما حصل : العودة إلى الذات ؛ تلك التي فجّرت موقفين اثنين متناقضين :
- هناك من يرى أنّها مؤشّر على نكسة داخليّة وتخَلٍّ عن دور المثقّف في المشاركة حتّى ولو لم تكن الظروف ملائمة .
- وفريق ثانٍ يرى أن المثقف يحقّ له الانسجاب على اعتبار أن الانسحاب موقف ممّا يجري ورفض له ، قاطع .
وبين الرّأيين ، كليهما ، يبقى الإشكال متأجّجا . ويبقى ، في كل الأحوال ، الاعتقاد سائدا بأن الأمّة لا يمكنها التّنقل في مدارج العمران بالمفهوم الخلدُوني دون إشراك ضمائرها الحيّة : مثقّفيها .
بقلم مصطفى ملح - المغرب