المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب " أوجاع الذاكرة" للكاتبة الجزائرية جميلة طلباوي



رابحة
14/04/2009, 10:08 PM
http://www.arabswata.org/forums/imgcache/5900.imgcache.jpg (http://www.0zz0.com)


صوت نسائي من الجزائر قيل فيه " الكلمات تسكنها و تنساب على لسانها و من قلمها بلا مآزق"..
جميلة طلباوي
كاتبة و شاعرة من الجزائر كللت مشوارها الابداعي بكتاب صدر مؤخرا عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق بعنوان " أوجاع الذاكرة" والكتاب هو مجموعة من الاعمال القصصية مستوحاة من بيئة الكاتبة توفر فيها فرصة غنية للتعرف على موروث الصحراء الجزائرية.
يضم الكتاب مجموعة من الاعمال القصصية منها ماطبع لاول مرة من مثل : ضجيج الروح ،أنين شارع ،صوت من الماضي
كما صدر لها ايضا
شظايا: ديوان شعر- الجزائر
وردة الرمال : مجموعة قصصية- الجزائر
شاء القدر : مجموعة قصصية- الجزائر

عبد الرشيـد حاجب
14/04/2009, 10:31 PM
لكم تمنينا يا أخت رابحة لو نشرت لنا قصة مثلا كنموذج ..مرافق لهذا الاتقديم !

على كل شكرا لك ومبروك للكاتبة ولكل الجزائريين هذا المولود الجديد.

رابحة
15/04/2009, 12:36 AM
قصة
أوجاع الذاكرة
جميلة طلباوي
كنت أرتب أشيائي في درج من أدراج ذاكرتي المثقلة بالأحداث والهموم، وكانت هي منشغلة بتحضير حقيبة سفرها، كان معطفها آخر شيء تحمله، مدت يدها إليه وكأنها أخيراً عثرت على مرفأ، على دفء يخلصها من برد الحياة وما لبث هو أن غمرها وحولها إلى امرأة من نوع آخر، بمظهر كلاسيكي جميل .
رمقتني بنظراتها الغامضة ، ربما كانت تنتظر تعليقا مني ..أو رد فعل يخلصها من قلقها...أنا كنت فقد ت قدرتي على الحركة و على الكلام ،كنت أتصور بان العمر كله اختصر في هذه اللحظة وأنها بحماقتها سلبتنا الحياة ،أنا و هي على حد سواء.
أخذ معطفها يبتعد أكثر و حقيبتها تحاول الإفلات منها،هل يعقل أن يختصر معطف امرأة بكل ماضيها،بكل أحلامها و أن ينهي أي انتماء لها لملامحها....
ما لا اذكره إن كانت ودعتني، إن كانت قالت كلمة توحي بالوداع أو بأمل في اللقاء...الصوت الوحيد الذي اذكر سماعه ،صوت قوي مدو أحدثه الباب الذي أغلقته بقوة وهي تغادر ،اهتزت له النوافذ و سقطت من أعلى الجدار صورتنا أنا وهي ....تحول زجاج الإطار الذي ضمها سنوات الى شظايا.
أهي سخرية القدر أن تسقط تلك الصورة في هذه اللحظة بالذات.
المكان كله ضاق ،لم اعد اشعر إلا بالاختناق،الهواء يتناقص في حجرتي ،إنها ذاكرتي المزعجة تصعقني بثلوجها وعواصفها وتستحضر ملامح "آية" بكل براءتها التي ترعبني كالتلميذ البليد يحاول أن ينقذ نفسه من امتحان يتوقع الرسوب فيه.
كيف سأبرر لها انفصالي عن والدتها ،كيف سأشرح لها ذلك ،كيف سأجيب عن أسئلتها الكثيرة؟
كل هذا يذبحني و يحوّلني الى كرة من الألم ملقاة على سرير بارد بليد.
الطبيعة هي الأخرى كانت تعيش مأساتي ،الريح في الخارج تعصف بقوة وكأنها تريد اقتلاعي من هذا المكان الموحش،أو أنّها تريد زعزعة شيء بداخلي ، أيّ أمر يحدث يجعلها مجنونة منذرة بنهاية لست أدري بأيّة ألوان ستكون؟
هل يعقل أن ينتهي كل شيء بهذه القسوة ونجد أنفسنا على صخرة وسط بحر متلاطم الأمواج، يا الهي ما الذي يحدث لي، أ هي لعنة البتول حلت بي ؟
البتول الهادئة الجميلة ،لم تكن مجرد ابنة خالة لي بل كانت مدينة بكاملها وجدت لأجلي أنا وحدي ،كانت تسعد بتحضير كل شيء تراه يسعدني من أكلات تقليدية ،من أشياء بسيطة تصنعها من القماش ،فلقد كانت مبدعة في كل ما هو تقليدي في مدينتنا.
كانت إذا حضرت الى بيتنا تملؤه دفئا حتى أنّ والدتي كانت تعتمد عليها في البقاء معنا أنا وإخوتي لرعايتنا والاهتمام بنا إذا ما اضطرت للسفر ،فأختي الصغرى حبيبة لم يكن يعتمد عليها.
البتول بضفيرتها الطويلة ووجهها الصبوح كانت أما لنا رغم صغر سنها كانت تملك خزانا من الأمومة يخيل إلي بأنه يكفي العالم كله، لكن الأكيد أنها كانت تحمل لي عاطفة خاصة...كنت أحمقا إذ لم أكن أدرك حقيقة مشاعرها اتجاهي ،حتى لما حصلت على شهادة البكالوريا وقدمت لي هدية طرّزت عليها اسمي بلون احمر جميل لم افهم شيئا ،فلقد كنت أقنعت نفسي بان البتول هي أمي الثانية، وسافرت الى تلك المدينة "الغولة"لأواصل دراستي الجامعية،لأحقق حلمي وأصير طبيبا،اذكر أنني كنت كلما عدت في زيارة الى أهلي ومدينتي إلا و وجدت البتول في انتظاري بشوق و لهفة ووفاء.
كانت تطرح علي ألف سؤال عن صحتي و دراستي وأكلي وشربي ...وكل التفاصيل التي تجعلها تطمئن علي ،ولا أذكر أنني كنت أسالها عن أحوالها ،عما يسعدها ،عما يحزنها فلقد كانت تعاني من قسوة زوجة أبيها عليها ولا تجد طعم الأمان إلا عندنا،عند خالتها التي كانت تعوضها عن حنان والدتها رحمها الله.
لا أذكر انني واسيتها عندما لم تحصل على البكالوريا وضاع حلمها في الوصول الى الآفاق التي طالما رسمتها لنفسها، لقد كانت ترى المستقبل بألوان جميلة ،لكن الظروف العائلية لم تكن مهيأة لها كي تنجح وتحقق ما تمنت.
أذكر فقط بأنّني كنت الأحمق الأكبر في هذا العالم عندما قالت لي والدتي بحضور البتول:
- عندما تتخرج ،سنفرح بك ونقيم لك أكبر عرس.
يومها ضحكت و أنا أقول دون أن أبالي بالبتول:
- المهم أن توافق نادية على الإقامة معنا هنا في بشار.
ولم أكن أعلم بأنني ذبحت البتول بإجابتي هذه صعقتها فاحمرت وجنتاها وهي تسأل:
-"نادية"،"شكون نادية"؟
- الفتاة التي سأتزوجها إن شاء الله،هي طالبة معي في نفس الكلية.
ربما الخسارة لحظتها كانت بالنسبة للبتول مضاعفة،خسرت البكالوريا وحلم المستقبل وأدركت بأنها كانت تعيش على وهم حبي لهاو أمل الزواج مني.
سافرت بعدها وليس في ذهني سوى نادية والنجاح في دراستي...لقائي بنادية كان له طعم أخر،هي لا تملك حنان البتول وحرارة لقائها ،لكنها كانت امرأة كاملة بجمالها ،بذكائها وقدرتها على الوصول الى ما تريد ..كثيرا ما أزعجتني برودتها ،لكنني كنت أحتاجها كي تحميني من رومانسيتي الزائدة ،لقد كنت بحاجة لان أكون أكثر صلابة فهذه المدينة تتطلب قوة في الإرادة والعزيمة وصرامة في اتخاذ القرارات ونادية كانت عملية جدا ،لا وقت لديها تضيعه حتى ولو كان الأمر يتعلق بالمشاعر ،فارتباطها بي كان على أساس انني أناسبها،انه اختيار العقل ..وأقنعت نفسي بأنها تناسبني ،فاختيار العقل وحده ينجح وكثيرة هي الزيجات التي بنيت على أساس العواطف سرعان ما استفاق أصحابها على صدمات الواقع و انتهت بالفشل و الطلاق.

رابحة
15/04/2009, 12:38 AM
رغم أنني لا أنكر بأنني كم تمنيت لو كانت تحمل جزء من عواطف البتول المشحونة بالأمومة والحنان والصدق،فأنا كنت بحاجة الى امرأة تمنحني هذا الإحساس ،لكنني تنازلت عنه في سبيل أن أكون رجلا صلبا ،ناجحا تقف الى جانبي امرأة صلبة ،صارمة في قراراتها .
حتى أهلها كانت لهم نفس طبيعتها، الحديث معهم يكون فيما هو مهم ومختصر، أمّا العواطف والمجاملات فلا وقت لديهم لها ...وسط هذا الصقيع حاولت أن أبني شخصيتي.
شرط والدها كان قاسيا على نفسي ،فهو لا يقبل أن تبتعد ابنته عنه ،كان يريد مني أن أقيم في مدينتهم وأبني مستقبلي هنالك ، لا يهمّه ما سيكلفني ذلك من عناء مادي و معنوي و بالأخص غربتي عن أهلي.
هل يعقل أن أكون قد شلّيت تفكيري وسلمت أموري وحياتي ليد تحركها ،فكان هذا مصيري ؟
هل يعقل أن أكون أخذت إجازة من روحي وتلبست شيئا آخر غير الروح وعشت به كل هذه المدة ،فلقد ضبطت مؤشر ساعة حياتي على الدراسة،ثم الدراسة ،ونجحت ،بل وتفوقت وتخصصت في أمراض القلب و جراحته لتفتح جراحات قلبي كلها ويسمع أنين أعماقي ...ونادية الى جانبي تحمسني و تدفعني الى الأمام والبتول هنالك تتقصّّى أخباري وتغمرني كلما رأتني بالدعوات ،لكن عينيا لم تعودا تريانها،ولا أذناي أصبحتا تستقبلان صوتها أو صوت أهلي.
كيف يعقل أن وصلت الى مرحلة لم أعد أستشر فيها أهلي ،لم أعد انتظر ردود هم ،كنت أقرر وأبلغهم قراراتي،كم كانوا صبورين معي ،المهم كان لديهم أن انجح و أن أكون سعيدا، لم أعد أحضر احتفالاتهم الخاصّة ولا عدت ككل بداية سنة جديدة أحتفل معهم ب "النّاير" وكان موعده الثاني عشر من شهر يناير ،تحضّر لنا فيه والدتي "المردود" أكلتنا الشعبية اللّذيذة ،تضع فيه نواة حبة من التمر ومن عثر عليها يتفاءل خيرا إذ ستحمل له السنة الجديدة الكثير من الأرباح والخيرات.
كنّا بعدها نسهر طويلا بقرب المدفأة حول صينية الشاي نأكل المكسرات ونتسامر ونضحك ونسعد بلحظاتنا.
أيعقل أن أكون ألغيت كلّ هذا الفرح من حياتي وسلّمت نفسي للجحيم يحرق لحظاتي ويحوّلها الى رماد؟
لم أعد أعرف نفسي ، وكأنّما انطلقت داخل نفق مظلم لأهرب من شيء لا مرئي.
كنت كلما وقفت أمام المرآة ،رأيت كائنا آخر أحاول مع كل صباح التعرف عليه أكثر..أضاعني بحر هذه المدينة أو أنه ضيّع مني ملامحي وغيّر نبض قلبي.
العواصف في الخارج لا ترحمني،أتراها تعاقبني ،أتراها امتداد لعواصفي الداخلية.
ولا يخرجني من دوّامتي سوى جرس الباب ،من سيأتي في مثل هذا الجّو:
- مرحبا سيد أحمد.
- مرحبا ناصر
- جئت في الوقت المناسب يا صديقي.
- طبعا صديقك لا يمكن أن يأتي إلا في الوقت المناسب.
وصول سيد أحمد في مثل هذا الوقت كان بمثابة زورق النجاة، أخيرا وجدت من أظهر أمامه ضعفي وانكساري ويأسي.
سيد أحمد كان طويل القامة ،قامته كانت أحد أسباب هيبته التي يتميز بها ،رغم أنّنا أحيانا كنّا نسخر منه و ننكت ونضحك طويلا من أصحاب القامات الطويلة..لكن امتداد روحه الطيبة كان أطول و أعمق، هذا ما جعله الأقرب الى نفسي .
سيد أحمد بشخصيته المتزنة يأسرك و يجعلك تقفز من أعلى سور آلامك الى فضاء هدوئه كما الريشة دون خدوش أو كسور..
جلس سيد أحمد متأملا فوضى المكان ،حاولت أن أرتب بعض الأوراق وبعض الأشياء ،ابتسم و هو يشير اليّ للجلوس الى جانبه.
- لا عليك سأتعوّد على هذا المنظر.

رابحة
15/04/2009, 12:39 AM
- ماذا تقصد؟
-لي أصدقاء عزّاب يعيشون فوضى كبيرة وبما أنك انضمّيت الى هذه الفئة اختياريا ستعيش حالتهم هذه.
لست أدري إن كان سيد أحمد تعمّد جرح إحساسي ،إن كان تعمّد أن يستفز آلامي، أن يفتح جراحات روحي المتوجعة..لكن نظراته كانت توحي بأسى وشفقة على حالي، كان عليّ ألا أتسرع في الردّ عليه،حاولت تغيير الموضوع:
- نشرب قهوة ثمّ نتحدث.
- فكرة لا باس بها.
الآن فقط أشعر بأنني لست مستعدا لفتح هذا الموضوع ،فقدت شهية الكلام وأنا الّذي كنت منذ لحظات فقط بحاجة الى صدر يحتويني،أفرغ فيه كل ما يثقلني من هموم،تمنيت لو أندسيت وسط البن وانتهيت .
لست أدري لماذا نخشى الآخرين حين نخدش نحن،حين ننزف نحن ، حين نفشل نحن وتزج بنا الحياة في قفص التعاسة؟
إنها ليست نهاية العالم ،ولست أول شخص في هذا العالم يفشل في اختياره أو في مشروعه حتى لو كان هذا المشروع بناء أسرة، فأكثر النّاس ذكاء قد يضع القدر في طريقهم أشخاصا في ظروف معينة وفي توقيت معيّن ليجدوا أنفسهم بعد فوات الأوان قد تورّطوا بالتعامل معهم .
بدأ سيد أحمد ينزعج من تأخري داخل المطبخ ،فجاءني صوته عاليا ينذر بالغضب:
-هيه ناصر ،هذه القهوة من النوع الثقيل.
-القهوة جاهزة ،تفضل.
-شكرا.
كنت لحظتها أحسد القهوة التي كانت رائحتها تعبق في المكان ،تملؤه دفئا ،هي لا تبالي بشيء،هي لا تدرك كم نشتهيها ولا يهمّها أن تغلى فوق النار.
ما أروع الإحساس لو تجردنا منه مصيبة ولو لازمنا مشكلة،كم هو بائس هذا الإنسان.
سيد احمد ينظر إلي وكأنه يحاول كشف ما بداخل أغوار نفسي.هل جاءني مواسيا أم معاتبا لست أدري..يرتشف القهوة وهو يقول:
-والآن ماذا ستفعل؟
-لا أدري ،ما يقلقني هو وضع ابنتي آية.
- أين هي الآن؟
- عند أختي حبيبة ،لحسن الحظ أنها متعلقة بهاو وتحبها.
- قلق على آية ولست قلقا على ناصر.
- ياه لقد ذكرتني باسمي ،أنا غير مهم
- غير مهم ،عيادتك مقفلة ،المرضى الذين أحبوك وينتظرونك ما ذنبهم؟
- بمثل هذه المعنويات وهذه الحالة التي أنا عليها ،قد أضرهم أكثر ممّا أفيدهم.
-لم أكن أعرف بأنك ضعيف ومهزوز الى هذا الحد.
- قل عنّي ما تشاء ،أنا بحاجة لأن أبقى وحدي.
- فهمت ،أنت بحاجة للهروب من مشاكلك.
- مشاكلي سويّتها و انتهى الأمر.
- سويت كل مشاكلك بالطلاق وانتهى الأمر.
لو كان يعلم سيد أحمد بأنه يؤلمني بهذه الكلمة ويضيّق الخناق أكثر على أنفاسي التي كانت تحاول التحرر من هذا الوجع،زادني وجعا على وجع وهو يسألني.
-والبتول كيف حالها الآن؟
ليته لم يسألني هذا السؤال والبتول وجع آخر داخلي ...صورتها في آخر يوم رأيتها فيها لا زالت تلاحقني ،كنت في قمّة الفرح وأنا أحتفل بعودتي الى مدينتي ، فلقد كان أهلي بحاجة إلي وأنا كنت بحاجة الى امرأة تقف الى جانبي في كل الظروف والأحوال،كنت سئمت من تحكم والد نادية ،من تسلطها هي ،من مشاعرها الباردة ،كنت بحاجة الى دفء عائلتي ،وحرارة شمس مدينتي،اشتقت الى البتول ،الى شوقها إلي ،انتظارها لي ،دعواتها ،اشتقت إليها كأم لي ثانية
فهي كانت تزوجت زواجا تقليديا بلا عواطف ،زواج أساسه العقل ،المهم بالنسبة لنا كان أن تتخلص من زوجة أبيها و أن تكّون أسرة و تنجب أطفالا..لكن حظها المسكينة كان أسوأ ممّا تصورنا،وجدت نفسها وجها لوجه مع مأساة اجتماعية..
زوجها كان مدمنا على "الكيف" الملعون ولا أحد كان يعرف ذلك عنه قبل زواجه منها ،عاشت معه الجحيم بعينه كان كلما ضيّع ما يكسبه من مال يجبرها على إعطائه حليّها أو أن تتّصل بأهلها لتطلب منهم مالا وإلا أشبعها ضربا ليصبّ جام غضبه عليها..
آخر مرة رأيتها فيها، كانت في المستشفى في حالة يرثى لها بعد أن أشبعها ضربا حتى أجهضت، فقدت جنينها الذي كانت ترى فيه عزاءها الوحيد في عز المأساة....

رابحة
15/04/2009, 12:40 AM
لا أحد من أهلنا بلّغ عنه كي ينال جزاءه، الكل يخشى الفضيحة..يومها فقدت أعصابي و قررت أن أشبعه ضربا وأن أذيقه من نفس الكأس..أردت أن ألقنه درسا كيف يجب أن تعامل البتول، لكنّّهم أخبروني بأنّ الشرطة ألقت عليه القبض متلبسا في قضية مخدرات...يا اللّه بهذه السرعة ينتقم القدر للبتول، البتول هذه المرأة الشفّافة، الصادقة، المخلصة،إن السماء تحبها..
تركت البتول بعد اتّصال هاتفي من والد نادية،دعاني للحضور الى مدينتهم لأمر عاجل..لست أدري كيف قرّرت ترك البتول والسفر،لو كانت هي مكاني للازمتني و أعطتني كلّ وقتها .
وسافرت لتنتقم السماء مرة أخرى للبتول...يا ليتني ما سافرت..وجدت والد نادية ينتظرني و في يده استدعاء من الشرطة كمتّهم في قضية سرقة حليّها الذهبية...
تساءلت أمام القاضي كيف لطبيب في مثل كفاءتي و شهرتي أن يسرق حليّ زوجته وأنا الذي أغرقتها بهدايا من ذهب..كم تألمت لتقريره بأنّه كان رأس مال العيادة التي فتحتها في مدينتي..كم تألّمت أكثر لوقوفي في قفص الاتّهام، إنها فضيحة، هؤلاء الحاضرون في القاعة يعرفونني، منهم من زارني في عيادتي ومنهم من كان يعلّق عليّ آمالا كبيرة.
كم تمنيت و القاضي ينادي على اسمي كمتهم لو انشقّت الأرض وابتلعتني.
.
هكذا أرادت نادية و والدها القضاء على مستقبلي،إنهما يظنّان بأنّهما صنعاني و عليّ أن أبقى خاضعا لهما كليّة و حين رفضت قالت نادية بأنّها ستلقنني درسا لن أنساه ،بل أنّها ستنسفني.
وها هي ذي تنفّذ تهديدها بهذه الدناءة،لكنّ السماء أشفقت عليّ وتدخلت القدرة الإلهية لإخراجي من هذا المأزق..
وصدق المثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد،إذ كانت هذه فرصة والدة نادية لتنتقم لنفسها فهي كانت على خلاف دائم مع زوجها ومع نادية التي كانت تقف الى جانب والدها بكل جحود لوالدتها ،فقاعدتها في التعامل حتى مع أقرب النّاس إليها :من يفيدني أتعامل معه حتى ولو كان الشيطان ،حتى ولو كان على حساب مشاعر ومصالح الآخرين ...اتّصلت بي والدة نادية تعرض مساعدتها ليكون اتّصالها أغرب مفاجأة ،لكن رغم ذلك لم أثق بها ،وطلبت منها الاتّصال بمحامي دفاعي الّذي قدّمها كشاهدة في القضية ..وجدتها تحضر الى المحكمة كما وعدت وكلّها تصميم على تبرئتي من هذه التهمة فلقد جاءت تحمل حليّ ابنتها بكل الأوصاف المذكورة في المحضر وهي تؤكّد لهيئة المحكمة بأنّ ذهب ابنتها كان لديها ،أودعته لديها ثمّ اضطرّت لسفر مفاجئ بغرض العلاج ونسيت أن تخبرها عن مكانه ونادية تعتقد بأن أمها أعادته الى مكانه أيام كانت تقيم في شقّتها ،إذن هنالك سوء تفاهم فقط،والصدمة هي التي جعلت نادية يجنّ جنونها لدرجة اتّهام زوجها..هكذا حاولت والدة نادية تبرئتي ولم تستطع نادية إنكار شيء ممّا قالته أمّها....
وفعلا حصلت على البراءة ،لكن لم يكن نطق القاضي بها كافيا ليلتئم الجرح الّذي لن يندمل أبدا..وأدركت بأنّني ونادية وصلنا الى الطريق المسدود ولم تعد"آية" الورقة الّتي تنقذ زواجنا.
القرار كان شاقّا على نادية الصلبة المتماسكة ،المرأة الحديدية الّتي لا مجال عندها للعواطف ،هاهي تشعر بأنّ أنوثتها تجرح وبأنّ كبرياءها يتهاوى..الآن هي كاللّبوءة التي سرق منها صغيرها..مستعدّة للانقضاض، للافتراس..كل هذا ما عاد يهمّني ، الأمر أضحى منتهيا بالنّسبة لي ..حتّى حين فلتت دموعها التي لأوّل مرّة أراها، في اعتقادي جاءت متأخرة، ربّما لو بكت فيما مضى لطهّرت الدموع روحها..بعد ذلك انقلبت الأمور كليّة، إذ وجدت نادية تلبس جلدا آخر
وجدتها تسبقني و تسافر الى مدينتي وهي التي رفضت الإقامة بها ..وجدتها أمامي في البيت ،هي وابنتنا ،لكن هذا لم يغيّر شيئا من قراري ..ألا تدرك تلك المرأة بأنّ سكينها أنغرز عميقا داخلي و بأنني أنزف وأئنّ في صمت ..؟

رابحة
15/04/2009, 12:47 AM
ألا تدرك هذه المرأة بأنّها مّيتة بالنسبة لي وهل يبعث الأموات الى عالمنا؟
هي لم تعد الى هنا حبا لي ووفاء ،و لا لأجل ابنتنا ،هي عادت حتى لا تهتزّ صورتها أمام نفسها والمقربين منها...لقد أرادت أن ترضي غرورها وجبروتها بأنّه لا يمكنني الإفلات من سيطرتها، ربّما كانت تعتبرني دميتها أو لعبتها..التمثال الّذي رسمته في مخيّلتها لنفسها أخذ يتهاوى منذ أن قرّرت أنا العودة.
لم أستطع أن أستوعب الى أيّ مدى تزعجها عودتي،لمادا هذا الرفض منها لمدينتي ولأهلي...الى أيّ مدى أرادت اقتلاعي من جذوري ،لقد أقنعت نفسها بأنها قادرة على تشكيلي كما تشاء..لكنّ عجينتي أصبحت أكثر صلابة ليس بسبب أفكارها الحديدية و برودة مشاعرها ،بل بسبب حرارة مدينتي و دفء مشاعر أهلي والبتول .
سيد احمد كان قد ضاق ذرعا بصمتي ،حاول استفزازي وهو ينوي المغادرة.
-أنا ذاهب ،يبدو أنّك لست معي على نفس الخط.
-أرجوك سيد أحمد افهمني أنا بحاجة الى وقت لأستوعب ما حدث لي.
- المهمّ ألا تجعل من نادية هاجسا يقلقك.
- نادية، كم أشفق عليها.
فعلا هذا هو الشعور الحقيقي الّذي يجب أن أشعر به تجاه نادية ،هي لا تستحقّ منّي كرهي وحقدي ،بل هي بحاجة الى شفقتي ،هي ضحيّة أسرة باردة المشاعر ،لا رابط بين أفرادها إلا المادة ..لكلّ فرد في تلك العائلة عالمه الخاص والذي بناه على حسب فلسفته في الحصول على المال هاجسهم الوحيد..الصراعات بينهم دائمة ،مشاعرهم مزيّفة ،بليدة وقد لا يتوانى أحدهم في إيذاء الآخر إذا ما شكّل خطرا على مصالحه.
و أنا كنت تعبت من أجوائهم وتطاحنهم ،كنت بحاجة للشعور بالأمان فيستحيل تحقيق الاستقرار دون الشعور بالأمان.
نادية كانت تطبّق ما تلقته في مدرستها الأولى ،في أسرتها...ليتني ما رأيتها ولا التقيت بها،يا الهي ،الندم يخنقني والمرارة تعتصر قلبي،لماذا حدث لي كلّ هذا؟ أخذتني دوامة أفكاري فلم أشعر إلاّ وأنا أضرب فنجاني عرض الحائط، تهشّم و لطخت القهوة بياضه .
أدرك حينها سيد أحمد بأنّني وصلت قمّة الألم وأنّه من الحمق أن ينتظر منّي أن أسمعه وأن أجيبه.
أطرق طويلا وكأنّه سافر في رحلة روحية الى عوالم لا أدركها ثمّ عاد يحدّثني :
-إذن لن تفتح العيادة هذا الأسبوع.
-طبعا لا،أنا في وضع نفسي لا يسمح لي بممارسة عملي كما ينبغي ولا مجال للخطأ في مهنتنا.
-وهل ستبقى حبيس البيت؟
- لست أدري ،لم أفكّر بعد.
- أم أنّك لا تريد أن تفكّر؟
- أكثر من ذلك ،أشعر بأنّني فقدت قدرتي على التفكير.
- ما رأيك في السفر؟
- السفر ،الى أين؟
-"عند الشوابين"
سيد أحمد أراد أن يأخذني الى بلدته،الى دفء آخر في بيتهم الهادئ..وقفت كانّ شيئا شدّني الى الأمام ،مشيت أود اختراق الحائط علّي أجد فيه ملاذا،لكن سيد أحمد وقف هو الآخر ومدّ يده على كتفي مربّتا ،استدرت إليه أريد أن أرى فيه شخصا آخر ،وجها لم أألفه ،لم أره من قبل ،يطمئنني ، بأنّني لم أنته وأنّني لا زلت أصلح للحياة..لكنّه ضمّني إليه بقوّة وكأنّه أراد إفراغ كلّ تلك الآلام الّتي أثقلتني.
ووجدتني أجهش بالبكاء وكأنّ هذا الحضن هو الّذي كان ينقصني لأتخلّص من تلك المياه المالحة الّتي أوجعت مقلتاي..
ثمّ انفجرنا ضاحكين ،في عزّ الألم نضحك ،ونسخر من هذا الألم العنيد الّذي يحبس أفراحنا.

رابحة
15/04/2009, 12:48 AM
-اضحك ناصر،هكذا أريدك قويّا متماسكا.
-القوّة للّه.
-ونعم باللّه.
-هيه نسافر؟
وطال صمتي وأنا اطلّ من النافدة،ربّما لأنّ صوت الرياح كان أقوى من سؤال سيد أحمد، أو أنّ المطر الّذي بدأ ينزل في هذه الّلّحظات كان يشبه البتول في جمالها ،في السرّ الّذي تكتنز عيناها ولا يمكن الإفصاح عنه،حتّى هي لا تجد له تفسيرا ..انه لغة روحها الرقيقة الشفّافة ..يا ترى كيف حالها الآن بعد الظرف العصيب الّذي مرّت به ،صحيح أنّها الآن في بيت والدها و القدر تكفّل بتخليصها من ذلك الوغد الحقير ،لكن هل ترحمها زوجة والدها ،أيّ ألم ولد الآن بداخلها؟
-هيه ناصر،أين ذهبت؟
صرخة كانت كفيلة بأن تعيدني الى هذه الغرفة الباردة بآثار القهوة على الجدار ،شظايا صورتي أنا ونادية،تلعثمت و أنا أبحث له عن إجابة
- لا، لا شيء.
- فيما ذا تفكر؟
أطرقت أفكّر ..هل أجيبه أم لا ،هل أقول الحقيقة أم ألزم الصّمت وفي النّهاية أجبته...
- أفكّر في البتول.
-المسكينة ،هذه بداية المعاناة بالنّسبة لها.
المضحك في الأمر أنّني كنت قبل هذا أرى بأنّ ّزواجي من امرأة عملية وباردة العواطف سيفيدني، وكنت أتصوّر زواجي من البتول يعني أنني سأتعبها وأرهقها بطموحي، كنت أعتقد بأنّها ستعرقل نجاحي بحساسيتها المفرطة ،بحنانها الزائد ..وما كنت أدرك بأنّنا كلّما نجحنا احتجنا لحنان أكبر حتى تكون لحياتنا معنى..
وها أنا اليوم بخدوش عميقة وهاهي البتول ينزف قلبها ألما.
- سيد أحمد يجب أن أذهب لزيارة البتول .
ويفاجئني سيد أحمد بضحكاته.
- لماذا تضحك؟
- لا تقلق يا صديقي ،إنها ضحكة فرح ،الآن اطمأنّيت عليك بأنّك بخير، أنّك تمشي بخطاك الى الأمام.
كيف راني سيد أحمد أمشي الى الأمام وأنا كتلة من الماضي باغتها هذا الحاضر المؤلم،أنا الآن أحوج ما أكون الى معطف ليس ليقيني لسعات البرد فقط ،بل ليختصر ألام جسدي، ليحتويني...مدّيت يدي الى المشجب أتناوله بلهفة ، وكأنّني أخيرا حصلت على الملاذ ،لبسته وأنا أتلمّسه ،أتحسّس إن كان احتواني فعلا..سواده منحني إحساسا بأنّ ليلا يمتدّ حولي يغطّي كلّ آلامي و الجراح ولا يدع ثغرة يرى منها الآخرون دموعي وهزائمي ثمّ أشرت الى سيد أحمد لنخرج من هذا المكان.
سيارته هي الأخرى وجدت فيها عالما آخر يبتلعني و يريحني من قلقي للّحظات..و تنطلق السيّارة ..سيد احمد سائق ماهر فلما لا أعطي نفسي فرصة أن أشعر بأنّ هنالك شخص يحملني، يحلّق بي بعيدا عن كلّ ما يزعجني..لما لا أعود فأحلم كما كنت بالغد..ويرنّ الهاتف النقال ،لماذا في هذا الوقت بالذّات ،لماذا يقطع عليّ محاولاتي في الانعتاق؟
إنها حبيبة ،أختي وتوأم روحي..صوتها كان مذبوحا، أيّ خبر تحمله هذه الغالية على قلبي؟
-"ياك لاباس"،أمي بخير ،آية بخير؟
- الكلّ بخير "السوال عليك"
- الحمد للّه.
- غادرت نادية ؟
- نعم ،هل سألت عنّا آية؟
- لا كما ا تّفقنا أخبرتها بأنّكما مسافران،وهي تلعب سعيدة مع الأطفال.
- الحمد للّه ،لقد خفّفت عنّي حملا ثقيلا.
-لا تقل هذا يا أخي ،هذا واجبي ،آية جزء منّي أنا أيضا.
كم هو جميل أن يكون هذا الإحساس عند قريب لك ، أن يشعر بأنّ الأجزاء منك هي أجزاء منه أيضا..يوم وضعت نادية آية بعد عملية قيصرية،وجدت حبيبة تترك كلّ شيء وتسافر إلينا ،لقد سبقت أمّ نادية وعائلتها،حملت آية بين يديها و احتضنتها ،كان يخيّل إلي ساعتها بأنّها جاءت لتستلم هدية من السماء،جاءت لتستلم قطعة منها كانت قد أضاعتها،فحبيبة فلقة من حنان ،ورغم أنّها أم لثلاثة أطفال إلا أنّ فرحتها بآية أعطت للآخرين انطباعا بأنّها لأوّل مرّة تحمل بين يديها مولودا ..
كانت تزورنا كثيرا وتلازم آية لفترات طويلة،وعند زيارتنا لبشار كانت تلازمها أيضا ،وفي كلّ هذه الزيارات المتبادلة كانت تعطي لآية الحنان الّذي كانت تبحث عنه ،الحنان الّذي لا يمكن لنادية أن تعطيه لها ،فلقد كانت امرأة من كهرباء ،قلقة على الدوام ،غاضبة في أغلب الأوقات،لا وقت لديها ،صراخها كان يصمّ الآذان.

رابحة
15/04/2009, 12:48 AM
كانت نادية لا تدري بأنّ هذه المعاملة لآية جعلت حاجزا كبيرا يخلق بيني وبينها، أيّ نوع من النّساء هي هذه المرأة..أحاول اختصار المكالمة مع حبيبة فلقد اقتربنا من بيتنا..
- حبيبة ،البتول مازالت عندنا في البيت؟
- نعم،هي الآن مع الوالدة.
- سأتّصل بك لاحقا ،قبلاتي لآية.
- مع السلامة يا أخي.
آه ،كم تسعدني هذه الأخت الفيض من حنان بندائها لي أخي ،إنها تجبر شيئا انكسر بداخلي،تقلّص مساحة جرحي...
الآن ستلفظني هذه السيارة ،لكن المعطف لا زال يحتويني، لم يتخلّ عنّي ،رحت أحضّر الجمل التي سأقولها للبتول، سأواسيها ،سأطمئنها بأنّ الدنيا لا زالت بخير وبأنّ الغد سيكون أجمل،لا يهم أن نسقط المهم أن نعاود الوقوف على قدمينا.
طرقت الباب و أنا أخشى ما سأواجهه بعد فتحه،لكن والدتي بدفء مشاعرها خلّصتني من خوفي وقلقي،احتضنتني بقوّة وبكت حرقة على ما حدث لي...
وأسرعت نحوي البتول بمجرّد سماع صوتي ،لقد تعثّرت وكادت تسقط ،وقفت أمامي بجسدها النّحيل و وجهها الشاحب تسلّم عليّ،لكن ضفيرتها صامدة في هذا الزمن الّذي لم تعد فيه ضفائر،كيف استطاعت البتول رغم كلّ شيء أن تحتفظ بضفيرتها الطويلة الّتي كانت تتحدى كلّ شيء و ترسم الأنوثة البريئة الصامدة .
جلسنا و كلّ واحد منّا يحاول أن يواسي الآخر،فلقد تحوّلنا الى قلوب جريحة تبحث عن علاج..
يا الّله كيف لي أن لم أر عيني البتول ،كيف لوجهها الشاحب أن ينسيني أن أرى ذلك البريق الّذي أشعّ منهما..أيّتها الحمامة الوديعة أعرف بأنّك تتألّمين الآن، أعرف مدى عمق جرحك، لكنّك امرأة بكلّ ما للكلمة من معنى..وأنت تسكبين الشاي بنكهة خاصّة،فشاي البتول في اعتقادي هو الشاي الوحيد الّذي يذكّرك بأنّك في بيت عامر بالدفء والحنان..
يا الّله كيف لبريق عينيّ البتول أن يغمر وجهها و يسحق الشحوب ليسري الدم في وجنتيها الجميلتين فتأخذان لونا ورديا معتّقا بالحياء والفرح..
هل فعلا استطعت أن أمنح البتول لحظة فرح بهذه الزيارة،هل فعلا هذا ما كانت تحتاج إليه.
نظرات والدتي كانت تجد صعوبة في قراءة ما يجول بدخلي،قد تظنّني والدتي مشغول الفكر بما حدث لي ،لكن رغم هذا حاولت ألا تتحدّث في الموضوع الّذي تعرف مسبقا بأنّه سيزعجني..حاولت أن أكسّر الصّمت فبادرت أنا بالسؤال:
-هيه،كيف حالك الآن البتول؟
-الحمد للّه.
هذا الحمد للّه كان صادقا ونطقته البتول والرّضا يرتسم على وجهها ،ينبعث من نبرات صوتها..
- البتول عندما تكون معي لا ينقصها شيء.
هكذا تقرّر والدتي ،فأزيد أنا جرعة الفرح عند البتول لأقول:
- البتول غالية علينا جميعا.
هل أحسنت التصرّف،هل منحت البتول الفرح الّذي تستحق في هذه اللحظة،فلقد ابتسمت وانطلقت أخيرا لتتحدّث بتلقائيتها وبراءتها ،إنها تحلم ،إذن البتول بخير ..أكّدت لي بأنّها بعد حصولها على الطلاق اتّخذت قرارا بأن تواصل تعليمها حتى تتحصّل على أعلى شهادة ،وأن تعمل وتعوّض كلّ ما فاتها ..فهمت بأنّ البتول أعلنت الثورة،والتغيير لا يأتي إلا بثورة ،والنّجاح لا يأتي إلا بإرادة من فولاذ.
أخي سعيد يقف الى جانبها ،هو تكلّف بعملية التسجيل وهو يساعدها في التحضير لامتحان البكالوريا.
سعيد كان أذكى منّي أو أكثر ايجابية منّي ،لقد أدرك بأنّ مواساة البتول تكون بمنحها فرصة للنّجاح وتحقيق حلمها.
أيكون سعيد أكثر وفاء منّي للبتول ؟..المهم أنّني اطمأنّيت عليها ...الآن سأعود الى سيد أحمد وسيارته ،أريدها الآن أن تحملني..
-ما زال الوقت مبكّرا ،ابق لتناول العشاء معنا.
تقولها والدتي بحنانها الدافق، وتحرّك داخلي رغبة في تناول هذا العشاء، سيكون أجمل عشاء أتناوله في حياتي بحضور البتول وكلّ العائلة..لكن سيد أحمد ينتظرني، أو أنّني لا زلت لم أتخلّص من حاجتي لأن أبقى وحدي، لأن أنطلق بعيدا.
- سأعود في يوم آخر ،أنا ذاهب اليوم في جولة مع صديقي سيد أحمد،فقط جئت أخبركم بأنّني مسافر غدا الى بلدة سيد أحمد، هو دعاني لنقوم بزيارة الى أهله.
ضمّتني أمّي بقوّة إليها وكأنّها تقول لي لا أريد أن أعرف التفاصيل ،المهم أن تتجاوز الأزمة وأن تعود من جديد..
رمقتني البتول بنظراتها ، يا الّله أيّ قدرة تملكها هذه المرأة على شحنك بطاقة تشعر بعدها بأنّك تملك العالم كلّه.

رابحة
15/04/2009, 12:49 AM
ودّعت الجميع وعدت الى سيد أحمد و سيارته التي خيّل إلي بأنّها تنتظرني أنا،وأنّها لا تبالي بسيد احمد ،لقد وجدت لأجلي لتنتشلني من آلامي ،ربّما أصاب سيد أحمد حين اختار أن نركب سيارته لأنّ سيارتي كانت مسكونة بشبح الماضي لم تكن السيارة التي تعطيني شعورا بأنّها وجدت لأجلي..
ركبت السيارة وجلست على المقعد بجانب سيد أحمد و أنا أعتذر عن تأخري ،لكنّه أجابني بهدوئه:
-البتول بخير؟
-بخير و الحمد للّه.
هل يكون هذا الرجل كشف سرّي وعرف بأنّ العالم الآن اختصر بالنّسبة لي الى امرأة تسمى البتول و أنّ كلّ مدني وشوارعي اختصرت في ضفيرتها الطويلة ...تبادلنا الحديث بالنّظرات أكثر ممّا تكلّمنا ..ربّما هو الآخر كان يرتّب أشياء بداخله.
-هيه يا صديقي ستبيت الّليلة في بيتي.
-بيتك في القنادسة؟
-وهل لدي بيت غيره؟
سيد أحمد لا يعرف بأنّ ما كان يهمّني هو القنادسة ،هذه البلدة العجيبة ،الأكثر من جميلة إنها هادئة لدرجة تجعلك تعتقد بأنّها عالم قائم بذاته ،عالم التّصوّف والسمو بالروح.
سيد أحمد بدعوته هاته رحمني من هول التفكير في العودة الى بيتي لأبقى وحيدا أصارع أفكاري ...و اختياره كان جميلا، فهو يعرف مدى عشقي للقنادسة ،فلقد كنت كلّما ضاقت بي الدنيا بما رحبت سارعت الى قصرها العتيق ،الى صمته الرّهيب و شموخ التاريخ فيه...كان يهيّأ لي بأنّ كلّ ما جال بخاطري وصل هذه السيارة ،بل كان أكثر من ذلك أنّها تفهّمت شوقي للمدينة الهادئة، انطلقت بسرعة غريبة حتى أنّني ظننتها كانت تحلّق بي عاليا ..ها هي مناجم الفحم الحجري تلوح من بعيد..صحيح بأنّ فكرة إقامة تمثال في مدخل القنادسة يرمز لمعاناة أبناء المنطقة الّذين عملوا في المنجم إبان وجود الاستعمار الفرنسي هي فكرة رائعة تجعل التاريخ شاهدا على استغلال الاستعمار الفرنسي لهؤلاء ..كيف أنّه امتصّ رحيق زهرة شبابهم ورمى بأحلامهم الى ظلمات المناجم ممّا يجعل من هذا الانجاز ليس مجرّد تمثال بل صرخة ،كلّما وصلت مدخل القنادسة ،تستوقفك كي لا تنسى أولئك الذين ذاقوا المرارة ،منهم من قضى نحبه ومنهم من لا زال على قيد الحياة بعلّة مزمنة بسبب ظروف العمل في المناجم و التي فرضها الاحتلال الفرنسي ..إنها جريمة في حقّهم والتمثال في مدخل القنادسة شاهد..
بدأنا نقترب أكثر من القصر...خيّل إلي بأنّه يناديني ،بأنّه كان بانتظاري دونا عن الآخرين .ترجّيت سيد أحمد أن نتوقف ..توقفت السيارة..نزلت منها وكأنّما نزلت على كوكب آخر لا ألام ولا ذكريات فيه ،هاهو التاريخ بصموده وهيبته ماثلا أمامي..ولجنا قصر القنادسة العتيق ..كان دافئا، انتابنا شعور بأنّه يمدّ يده مصافحا إيانا...مشينا وسط أزقّته ،كلّ ذرّة من طوبه كانت تحيينا بل تحنو علينا لتمنحنا لحظات دافئة تنسينا برد الفصل...حتى وقفنا أمام باب عتيق مصبوغ بلون أخضر يسرّ النّاظرين ،في أعلاه لوح كتب عليه بخط جميل الخزانة القندوسية الزيانية...أعادنا المنظر الى قرون ماضية كانت فيها زاوية الوليّ الصالح سيدي محمّد بن بوزيان الموجودة داخل القصر مركز إشعاع علمي وثقافي في المنطقة وخارجها..
عن أيّ خزانة تتحدّث تلك اللّوحة ،فالذي أمامنا ليس أثاثا يوضع في مكان ،بل جزء جميل من القصر العتيق للقنادسة...
ودخلنا هذه الخزانة ،تجولنا في أروقتها ،كانت تضمّ مرافق هامّة عرضت فيها مخطوطات يعود عمرها الى قرون وكتب قيّمة وخرائط ،لقد وجدت لتحفظ ذاكرة المنطقة ...
الجميل في هذه الخزانة أيضا أنّها إحدى غرف القصر العتيق تتميّز بنفس خصائصه العمرانية،الفسيفساء كانت دقيقة وأواني النّحاس القديمة المعلّقة في أركان الحجرات تعطي انطباعا بأنّنا ركبنا عجلة الزمن و توغلنا في قرون خالية..
شعور جميل غمرني بأنّ كلّ ذرّة من كياني تتوحّد مع أجزاء المكان فتخلّصها من الألم...هؤلاء الّذين مرّوا منذ سنين من هنا كانت لهم عبقرية خاصة في البناء..وكأنّهم كانوا يحاولون أن يكون للمكان خصائص الإنسان..فكل الأجزاء تكاد تنطق وتبادلك الحديث وتزوّدك بالفلسفة...لقد كانوا لا يقيمون بنايات فحسب بل كانوا يقيمون من طين الأرض وأخشاب النّخيل أصدقاء أوفياء قدموا لهم الحماية أثناء حياتهم،و ها هم اليوم بعد رحيلهم باقون يحفظون ذاكرتهم...
ولم يخرجني من دهشتي هذه سوى صوت جميل كم أحترمه،صوت جاء يرحب بنا بشوق هو أحد أبناء القنادسة البررة الأستاذ سلطاني مختار ،كان مع وفد من السياح يروي لهم تاريخ القصر العتيق الّذي بني منذ أكثر من ثمانية قرون بالسور المحيط به، وأزقّته التي تشمل دار الجماعة والتي كانت بمثابة المحكمة في العصور الماضية ،الى غرف الترفيه أين كان سكان القصر يؤدون أهازيج جميلة،الى المسجد العتيق ،الى الزاوية القندوسية ومكان خلوة الوليّ الصالح سيدي محمد بن بوزيان.
كان سلطاني مختار يتحدّث بحماس وصدق ،وكنت أنا أتساءل كيف أنّ التاريخ يمكن أن يختصر في رجل ،وكيف أنّ سمرته المعجونة بماء الطيبة تبعث فيمن يجالسه الشعور بالأمان، و بانّ الدنيا لا زالت بخير.
استمعت باهتمام لحديثه عن آثار ما قبل التاريخ بالقنادسة، لأوّل مرّة أعرف بأنّ تلك الحجارة القائمة على شكل أهرامات صغيرة يعرفها أهل البلدة ب "الكراكر" ،هي عبارة عن قبور منها ما له مدخل وهي قبور النّبلاء ،ومنها ما لا مدخل لها وهي للعامّة من النّاس..
واصل سلطاني حديثه لنا في بيته ونحن حول صينية الشاي ..و نحن منبهرين بثقافته الواسعة باللّغتين العربية والفرنسية،مستمتعين بحلاوة حديثه باللّكنة القندوسية،فتح شهيتنا لمعرفة المزيد عن هذه المنطقة الجميلة وأسرارها..سأله سيد أحمد إن كان البحث العلمي تدخل لحلّ بعض الرموز مثلا لمعرفة ما تحتويه "الكراكر"،فأثارتني إجابته السريعة، إجابة تدلّ على اطّلاعه الكبير على كل ما له علاقة بالمنطقة انّه فعلا جزء منها و هي جزء منه..ذكر لنا بأنّ أحد المستعمرين الفرنسيين ويدعى فيلالونغا أثارته تلك القبور فقرّر معرفة ما تحتويه إذ عثر فيها بعد البحث على قلادات ثمينة وأشياء أخرى تدلّ على أنّ الميّت في تلك الحقبة كانت تدفن معه بعض الأشياء الخاصّة به،ربّما اعتقادا منهم بأنّه انتقل الى حياة أخرى يحتاج فيها لاستعمال مقتنياته .

رابحة
15/04/2009, 12:50 AM
احتسيت الشاي المعتّق برائحة النّعناع ،وتناولت الخليع الأكلة الشعبية القندوسية اللّذيذة ،ثمّ سألت الأستاذ سلطاني عن سرّ الدروس التي يعطيها لتلاميذ بلدته مجانا حتى انّه حوّل بيته الى مدرسة..فكانت إجابته بأنّه يريد أن يرى أبناء بلدته ناجحين، متفوّقين وهذا المقابل الوحيد الّذي يريده لتعبه والجهد الكبير الّذي يبذله معهم لا سيّما طلبة البكالوريا،انّه يريد أن يرى الشباب ناجحا و قادرا على تحقيق أحلامه ...إجابته هذه جعلتني أطرق طويلا، أغوص في عالم أفكاري ،هذا الرجل العظيم يحمل رسالة ،يعيش لهدف سام وهذا الّذي يخفّف عنه عبء الشرح للسياح والباحثين ليعرّف بكنوز بلدته،وتعليم الطلاب لتحسين مستواهم وإعدادهم لاجتياز امتحان البكالوريا..انّه رجل يدرك بأنّ الآخرين بحاجة إليه وبالتّالي هو ليس بحاجة للهروب ،هو في كلّ يوم يزداد التصاقا بهذه البلدة حتى صار كجبال" البرقة "بها شامخة ،أو مياه عينها المتدفقة..
هل أكون أفتقد الى هذا الإحساس دون أن أشعر...هل أحتاج فعلا لإدراك أنّ هنالك من هو بحاجة إلي حتى أعود فلا أهرب...هل بعودتي ستسعد آية ،البتول ،أمي والمرضى الّذين أعالجهم..ففي نفس الغرفة كان يجلس معنا رجل له ابن معاق...كان يسرد علينا معاناته مع ابنه وهو يتأسّف بأنّنا نحلم بالأولاد و ننتظر قدومهم بشغف، لكن قد يكون قدومهم مؤلما ومعاناة ترافقنا طول الحياة..
فلتت دمعة من عينه وهو يذكر لنا أسوأ ما تعرّض له وهو يبحث عن عمل بعدما أفلست الشركة التي كان يعمل بها ...احدهم قال له لو كنت مكانك لأخذت هذا"الهايشة" ورميته في الوادي ليغرق وأتخلّص منه، كيف تحتمل أن يكون لك ابن معاق؟
آه لو تدرك نادية بأنّ الّله أنعم عليها حين منحها "آية" سليمة البدن بل آية في الجمال أيضا..
ألحّ علينا الأستاذ سلطاني أن نتناول العشاء معه ،لكن كنّا ملزمين بالذهاب الى بيت سيد أحمد لنحضّر أنفسنا للسفر مبكّرا الى بلدته كما اتّفقنا .ودّعنا الأستاذ سلطاني مختار و كأنّنا غادرنا متحفا عريقا ، موسوعة أو جبلا شامخا...

داخل سيارة سيد أحمد ساد الصّمت الى أن وصلنا الى بيته الجميل ..
انّه مريح ،لكنّه بدا باردا في غياب زوجته وأبنائه الّذين سافروا الى بلدته قبله ، ابتسم سيد أحمد وهو يقول.
- أنا أيضا أقضي فترة عزوبية ،الأولاد سافروا لقضاء العطلة الشتوية مع جدتهم .
- أكيد أنّك تشعر بفراغ كبير.
- أنت الآن معي وأنا أريد التفرّغ كليّة لك حتى تعود فتفتح عيادتك وتمارس حياتك اليومية بشكل عادي.
- شكرا يا صديقي.
- البيت بيتك ناصر خذ راحتك.
- صدقني أنا فعلا أشعر بارتياح، أنت محظوظ يا صديقي.
-لماذا ؟
-لأنّك اخترت أن تعمل في القنادسة
-الأمر جاء صدفة ،المركز الصحي بالقنادسة كان يعاني نقصا في الأطبّاء ،و عندما اقترحوا علي ّالفكرة وافقت.

موافقة سيد أحمد كانت في البداية لأنّه كان بحاجة الى سكن، ،وبعد استقراره في البلدة وجد بأنّ ما تمنحه له من سكينة وهدوء أهمّ من مجرد الحصول على سكن .
أكيد بأنّ البداية لم تكن سهلة، فكان لا بدّ من الخطوة الأهم و هي التأقلم مع المجتمع الجديد.
هو أيضا وجد من يحاربه، من يعرقل مسيرته ،لكنّه صمد وساعده اتّزان شخصيته على تجاوز كلّ الأزمات، استدركت قائلا:
-ربّما أصعب فترة مرّت بك حين حاول البعض توريطك في المشاكل.
- العيب كان في أنا، لم أعرف فيمن أضع ثقتي .
- هذه مشكلتنا جميعا، لا نعرف فيمن نضع ثقتنا .
- ليست مشكلة بالنّسبة لي ،التجارب علّمتني بأنّ القدر يسوق إلينا أشخاصا لأداء وظيفة محددة في حياتنا ،سواء سببّت لنا المتاعب أو أسعدتنا تبقى مجرّد مهمّة يقومون بها ثمّ ينسحبون، لنمضي نحن الى فصل آخر من حياتنا ويتواصل الصراع وقد يعيد التاريخ نفسه ،لكن البقاء للأكثر هدوء واتّزانا.
في البداية انتابني إحساس بأنّ سيد أحمد بتقريره هذا يبحث لأعدائه عن مبرّرات ليغفر لهم و يتجاوز ما سبّبوه له من أذى ،ربّما هي حاجة ملحّة لديه أن يتجاوز المشاكل و الصراعات التي كثيرا ما تضيّع من وقتنا و جهدنا وأحيانا من مالنا و الأسوأ أنّها قد تكلّفنا خسارة أقرب النّاس إلينا .
الآن أدركت بأنّ سيد أحمد فيلسوف أيضا، و فلسفته هي التي ساعدته على الحفاظ على هدوئه حتى في أصعب المراحل التي مرّ بها.
ما أحوجني الى هذه الفلسفة ،ما أحوجني لأن أجد أعذارا للّذين تسبّبوا لي في الآلام لأعيش في سلام دون أن أحقد أو أن أكره أحدا ، دون أن أتألّم أو أهرب....
و جاء طرق خفيف على الباب ليخرجني من دوّامة أفكاري.إنها الجارة خالتي "يطّو " يقول سيد أحمد بأنّها أرسلت لنا طبق "ملوخية "سيكون عشاءنا ...يا اللّه ما ألّذ "الملوخية" ،عادة في بشار نتناولها في فصل الصيف لكن بفضل العلم وطرق التجميد أصبحنا نستمتع بالملوخية في مختلف الفصول.

رابحة
15/04/2009, 12:51 AM
مذاق الملوخية الشهي كان يمدّني بإحساس جميل بأنّني لا زلت لصيقا بأسرتي ،بأمّي ،إخوتي و بمدينتي ،لكن نادية كانت تكره الملوخية و ترفض تماما تعلم طريقة طهيها.
هذا لا يعني بأنّ الاختلاف في البيئة سبب للخلاف عكس ذلك كانت زوجة سيد أحمد ، فهي من منطقة غير منطقته وحبّا فيه أتقنت كلّ أطباق منطقته.
الفرق يكمن في كون هنالك من يحب ليمنح الآخر السعادة، ،ومن يظن بأنّه يحب وكل ما يفعله هو أن يحقق لنفسه السعادة بامتلاك الآخر.
رائحة الملوخية كانت لا تقاوم و رائحة خبز المطلوع السّاخن كانت أكثر من شهية ،مثل هذه الروائح تستفزّك وتسرع بك الى المائدة.
-خالتي "يطّو"متهلية فيك".
قلتها مازحا مع سيد أحمد الّذي ابتسم في هدوئه المعتاد وهو يقول:
-آه ،خالتي "يطّو" أمّ ثانية لي و لزوجتي ،هي امرأة عجوز مصابة بالسكّري و ارتفاع الضغط الدموي،و أنا لا أتأخر عليها بخدماتي الطبية و هي وبناتها وأولادها يعاملوننا على أنّنا جزء من عائلتهم،عادة سكان القنادسة يكرمون الضيف ولا تشعر بالغربة أبدا بينهم.
طرق آخر على الباب ، ترى هل هو طبق آخر في هذا اللّيل البارد..يعود سيد أحمد ليحمل بعض الطعام ويذهب به الى الخارج.
و أنا جالس في مكاني لا أفهم شيئا و الملوخية تكاد تبرد، أين أنت يا سيد احمد ؟
يعود سيد احمد مبتسما و علامات الرضا بادية على وجهه، يجلس ليتابع أكله ، معتذرا عن التأخر.
-أين ذهبت يا سيد احمد ؟
-هذا أحد الدراويش طلب منّي طعاما أعطيته له،فهنا التكافل الاجتماعي يجعلك تشعر بأن ّالبلدة هي أسرة واحدة.
يقول سيد أحمد كلماته ،فتثلج صدري وتجعلني أشعر بأنّ الدنيا لا زالت بخير،وانّ مشكلتي الخاصّة أخذتني الى درجة لم أعد أعرف فيها حقيقة أبناء مجتمعي،و لا كيف يعيشون، ألهذه الدرجة حين نعاشر إنسانا بارد ا بلا عواطف و لا أحاسيس يجعلنا نرى كلّ الآخرين صورة منه..هل هزمتني نادية وجعلتني أرى من خلالها العالم؟
ربّما كان هذا أصعب ما حدث لي بعد خيبة أملي فيها،هو أنّني أصبحت أرى كلّ بنات حوّاء صورة منها ..لولا البتول التي كانت الصورة الجميلة لامرأة أخرى في مخيّلتي ،أحيانا أتساءل هل كلّ ما حدث لي كان انتقاما من السماء للبتول، لأنّه كان عليّ اختيارها دونا عن كل النّساء وإسعادها لأجد السعادة التي أبحث عنها ...الوقت مرّ سريعا وأنا غارق في أفكاري، أتقلّب على السرير.
رنين المنبّه يوقظ سيد أحمد الّذي كان مستغرقا في النّوم ويشعرني أنا بخيبة الأمل ،فانا لم أذق طعم النّوم وأمامي سفر طويل.
لا مفرّ عليّ أن أصمد ، ربّما حين تبتلعني هذه السيّارة لن أشعر بالتعب والإرهاق.
-على بركة الّله.
يقولها سيد أحمد وينطلق بسيارته والفجر يتنفس معلنا عن حلول يوم جديد..الهدوء كان يعمّ المكان والطبيعة وحدها كانت المالكة لكلّ شيء هنا،تبثّ فينا إحساسا عميقا بهيبتها وروعتها..أخيرا شعرت بنوع من الاسترخاء كنت أظنّ بأنّني لن أحصل عليه بعد ليلة صارعت فيها الأرق، واستلمت لأنغام الفرقة الموسيقية القندوسية "الفردة" أغنيتها الشهيرة "سيدي بن بوزيان"كانت تغمر السيارة وتحوّلها الى قطعة من سحاب عائمة في فضاء الصحراء الرّهيب.
تمنّيت في قرارة نفسي لو كنت أعيش هذا الجو الجميل مع بدايات الصباح مع أسرتي ،كان من الممكن أن أكون أنا ونادية وآية نقوم بذات الرّحلة أو أنا والبتول و حبيبة ،أنا وأشخاص آخرين هم جزء من عائلتي ،هل أنا فاشل الى هذا الحد لم أستطع أن أخلق رحلة في مثل هذا التميّز.
لم أعرف كيف أكشف أسرار الصباح و بالتّالي عاقبتني الحياة بأن أعيش أنا في زاوية و آية في أخرى...ولست أدري ماذا يخفي لي المستقبل.
كانت أمي دائما تقول :
"الأولاد يثقلوا الجناح"،الآن أدرك كنه هذا القول ،لقد تحمّلت لسنوات قسوة نادية ،كان كلّ يوم يمرّ علينا يؤكّد لي بـانّ هذه المرأة من عالم وأنا من آخر ،لكن كانت "آية" تلغي المسافة بين العالمين وتمنحني القدرة على الاستمرار في علاقة خلقت منّي إنسانا تعيسا
حوّلتني الى إنسان يشعر على الدوام بالاغتراب ،بحاجة كبيرة الى من يحتويه ،الى من يسمع أنين روحه ويمرّر يده على رأسه في حنان ورفق.
كان ذلك الطفل في داخلي بحاجة الى عاطفة قوية تساعده على الشعور بالأمان...
مع نادية أضعت طريق السعادة وكنت كمن فقد أحد أعضائه وصار مستسلما للأمر الواقع بأنّه صار من زمرة المعاقين ..
والغريب في الأمر أنّها كانت على ثقة بأنّني لن أتمرد ، كأنّني ملزم بقبول هذا الوضع...كانت لا تشعرني حتى بأنّها تغار عليّ كما تفعل كلّ الزوجات وهي ترى البنات معجبات بي...كانت على ثقة كبيرة بأنّني لن أخونها ولن أفلت من قبضتها ،من أين لتلك المرأة بكلّ هذه الثقة؟
يبدو بأنّني لا زلت لم أتخلّص من نادية ،لماذا أعيد شريط ذكرياتي معها و أضيّع على نفسي فرصة الاستمتاع بالطبيعة الجميلة؟ السيّارة منطلقة ،قد أفلتت من قبضة مدينتي الى مدينة أخرى،علي أنا أيضا أن أنطلق بعيدا عن همومي.
-هيه نّاصر وصلنا.
كنت استغرقت في النّوم دون أن أشعر وكأنّ هذه الطبيعة أعادت النّوم إلي ليصافحني..
-بهذه السرعة وصلنا ؟
- أنت استغرقت في النّوم و لم تشعر بمرور الوقت،على كلّ مرحبا بك عندنا.
و نزلت من السيّارة لأستنشق هواء هذه البلدة، إنها لا تقلّ هدوء عن القنادسة ،قد تكون محطّة أخرى للنّسيان ، للتحليق بعيدا عن الألم ،ثمّ ما لبثت أن وجدت مجموعة من الأطفال يحاصروننا ،يعانقون سيد أحمد بشوق كبير .
كانوا في منتهى الجمال والبراءة ،رافقونا الى بيت عائلة سيد أحمد ،البيت الدافئ الكبير ..كان أولئك الصغار أبناء إخوته وأبناؤه ،إنهم يعيشون تماسكا عائليا كبيرا ،سيد أحمد هو الوحيد الّذي استقلّ ببيت منفرد نظرا لظروفه الخاصّة في العمل..الأم والأب سلطة قويّة داخل البيت ..و تحت ظلّهم تعيش الأسر الصغيرة لأبنائهم .

رابحة
15/04/2009, 12:52 AM
الكلّ رحّب بي و بسرعة وجدتهم يقدّمون لي الشاي ،" المطلوع " ،"الدهان و الروب" ،أطعمة تقليدية في منتهى اللّذة والفائدة الصحية.
وجدت نفسي آكل بنهم وأخوه مصطفى يكرّر لي عبارات الترحيب، أكثر من ذلك دعاني لزيارة بستانهم الصغير..لم أمانع فلقد كنت بحاجة لأن أخرج من ضيق المكان الى رحابة الطبيعة .
الفكرة بدت لباقي أفراد العائلة غريبة فأنا بالكاد وصلت من السفر و أحتاج للراحة..لكنّني تحمّست للخروج الى البستان المحاذي للبيت.
مصطفى ضحك وهو يؤكّد لهم بأنّني لن أرتاح إلا في أحضان الطبيعة بعيدا عن فوضى المنزل والضجيج .
وغادرنا البيت وهو يؤكّد عليهم أن ينادونا حين يحضر الغداء.
مصطفى كان يختلف عن سيد أحمد كليّة ، انّه لا يملك شيئا من هدوئه إذ راح يصرخ في وجوه الأطفال بقسوة بأن يكفّوا عن الضجيج رغم أنّهم كانوا يلعبون دون أن يزعجوا أحدا.
خرجنا الى "الجنان "،كان بستانا جميلا ،استنشقت هواءه عميقا علّه يحمل لي بعض إكسير الرّاحة و الطمّأنينة،كان مصطفى يرافقني و يحدّثني عن تاريخ كل شجرة ،منها التي غرسها أحد أجداده ومنها التي غرسها والده ومنها التي غرسها هو وإخوته.
الخضرة كانت لها أنفاس تتصاعد وتبثّ فينا الحياة ،كانت لها موسيقى أغرقتنا في سحر المكان ..يا اللّه ما أروع الطبيعة إنها فعلا صديقة الإنسان.
راح مصطفى يحدّثني عن تاريخ أجداده أيضا وعن مكانتهم في بلدتهم فهم من الأشراف ،حدثني عن تماسكهم العائلي وأمنيته في عودة سيد أحمد ليقيم معهم ، و لم يخلو حديثه من روح الدعابة والمرح وكأنّي به كان يحاول التخفيف عنّي فهو يعرف تفاصيل حكايتي ،ثمّ باغتني بسؤاله عن حالي بعد انفصالي عن زوجتي.
حاولت أن أحافظ على هدوء ملامحي حتى لا أعطيه فرصة لقراءة ما يجول بداخلي ، طمأنته بأنّ أموري عادية جدّا و هذه الحادثة لم تغيّر شيئا في حياتي، فهي تجربة مرّيت بها ،أي نعم كانت قاسية ،لكن المهم الآن الحدبث عن المستقبل.
يبدو أنّه سعد بإجابتي هذه و هو يؤكّد لي بأنّ المرأة لازم تكون تحت "الصبّاط" ،أو كما قال أحدهم العصا للحمار وللمرأة ،وعندما تتمرّد يجب تركها مباشرة حتى ولو كان لنا معها عشرة أطفال ..توقفت عن المشي و قلت له :
- بهذه الطريقة ستجد نفسك تعيش مع امرأة تكرهك، وهي فقط مجبرة على العيش معك.
- لا يهمّ ،المهم أن تنفد أوامري دون تعليق أو نقاش.
- أكيد أنّك سعيد في حياتك الزوجية.
وبكلّ افتخار ردّ بالإيجاب وهو يشرح لي الطريقة المثلى لأعيش في سلام مع زوجتي ،فلا يجب أن أترك لها مجالا لإعطاء رأيها ولا يجب أن أشاورها ولا يجب أن أظهر لها بأنّها مهمّة في حياتي ،وإذا حاولت الإكثار من الحديث والجدال ،صفعة واحدة كافية لأن تعيدها الى رشدها ..لم أجد أيّ تعليق على حديثه،التزمت الصّمت احتراما لوجهة نظره ، فكلّ إنسان يرى السعادة من زاويته الخاصّة، فهنالك من يرى بأنّ السعادة مشاركة ، وهنالك من يجد سعادته في إيذاء الآخرين وتعذيبهم ..
هاهو سيد أحمد يقدم نحونا مبتسما ، يسلّم علينا ويقول مازحا:
-جئت لأخلّصك من هذا المجنون.
وضحكنا جميعا لنعود الى البيت لتناول الغداء. انّه بيت دافئ في عزّ البرد بأهله المضيافين ،ببراءة أطفالهم ،بأصالتهم وعاداتهم الجميلة.
الطعام كان شهيا لكنّني لم أكن أشعر برغبة في الأكل، كنت أودّ أن أترك ضجيج هذا البيت الدافئ يرجّني ، يشعرني بأنّ الحياة ألوان وتفاصيل أخرى غير التي أعيشها.
عائلة سيد أحمد محافظة لأبعد الحدود لدرجة أنّهم يرفضون تعليم بناتهم و إذا ما تعلّمت الفتاة فيجب أن تكتفي بالطور الابتدائي ،أمّا عمل المرأة فهو من الممنوعات .
أذكر معاناة سيد أحمد حين أحبّ زميلة لنا بالجامعة ،لقد ناضل طويلا من أجل إقناع أهله ،لكنّهم رفضوا هذا الزواج رفضا باتا واتّهموه بأبشع التّهم، بل قاطعوه لمدّة طويلة الى أن تراجع عن الفكرة..لكنّه اختار فتاة أخرى ليست من بلدتهم كما أرادوا ،هي شقيقة زميل لنا في الدراسة ،كانت ماكثة بالبيت ،لا تعمل لذا لم يكن نضاله بنفس الصعوبة كالمرّة الأولى ،إذ نجح في النّهاية بإقناعهم ،ساعتها فكّرت بأنّ سيد أحمد بهذا الاختيار أراد أن يثبت لنفسه بأنّه قادر على التمرّد وتحقيق ما يريد انتقاما لنفسه لحرمانه من حبّه الأوّل.فقرّر أن يكون هو من يختار و هذا ما قام به فعلا.
أخيرا استطعت أن أنام بعد وجبة العشاء التي تناولناها في وقت متأخر بعدما قضينا فترة المساء في الحديث مع والد سيد أحمد وإخوته فهم يولون أهميّة كبيرة لمثل هذه الاجتماعات العائلية.
وصحوت صباحا على صيّاح الديك و لأدرك بأنّني في مدينة أخرى شهيّة وأصيلة.
بعد فطور الصباح مباشرة أخذني سيد أحمد في جولة ، استمتعنا فيها بالمناظر الطبيعية الجميلة ببلدته،جالست أصدقاء طفولته ،تحدثنا طويلا عن هموم الحياة و الصراعات الاجتماعية، والهوة الفسيحة بين الأجيال والتي أصبحت تطرح لديهم بحدّة .
آخر محطّة لنا كانت زيارة دكّان أخيه مصطفى الّذي رحّب بنا بحفاوة و طلب منّي أن أزور شقّته التي لا يمكنه السكن فيها إلا بعد أن يكبر أولاده كما جرت العادة عندهم.
لكنّه يقضي فيها وقتا طويلا فكلّ إنسان بحاجة لأن يخلو بنفسه.
لم أمانع ورحنا نصعد أدراج العمارة الجديدة، إنّها المدينة توجد لنفسها مكانا وسط الرّيف الجميل بتلك البنايات العصرية الجديدة والتي تقف باحترام الى جانب مساكن الأهالي التي بنوها بطريقتهم الخاصة وكأنّ بينهم مصافحة وتعايش من نوع خاص جدا أو هي لغة خاصة بين الطوب و الاسمنت المسلح.
ودخلنا شقّة مصطفى ،إنها بسيطة وتكاد تكون فارغة من الأثاث إلا من بعض الكراسي و الأفرشة .
أعدّ لنا مصطفى الشاي وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، لكنّ مصطفى عاد الى الموضوع الذي أريد أن أنساه.
راح بتلقائيته ينصحني بأن لا أكرّر أخطائي و أن أحسن الاختيار في المرّة القادمة حتى لا أفشل مرة أخرى..وأنا ألتزم الصّمت ولا أبدي برأي .
كنت أتأمله و أحاول أن أقبض على رأس الخيط لأعرف سبب الاختلاف الكبير بينه وبين سيد أحمد،الى أن فاجأني بقوله:
- هذا النّوع من النّساء لا يصلح للزواج ،نقضي معهنّ أوقاتا ممتعة ثمّ نرميهنّ .
بكل ّ جرأة راح يحدثني عن مغامراته مع النّساء في مدن أخرى ، استفزّني استهتاره بشرف وأعراض الآخرين.
ما هذا التناقض ،هل يعقل أن يكون الإنسان محافظا حتى النّخاع ومستهترا الى هذا الحد؟

رابحة
15/04/2009, 12:53 AM
الآن مصطفى سيرى وجهي الآخر حتى لا يفسّر صمتي بالسلبية والموافقة على ما يقول:
- وهل تقبل أنت أن يستهتر أحد بأختك؟
حينها ثارت ثائرة مصطفى ،انزعج كثيرا من ردّ فعلي و هو يفتخر بأنّ أخواته لا يخرجن الى الشارع و لا يراهنّ أحد، ولا يمكن أن يقعن في مثل هذا الموقف أبدا.
غريب هو هذا الاطمئنان حين نخدش أعراض الآخرين ونستبعد تماما أن تخدش أعراضنا.
و حين رأى سيد أحمد بأنّ النّقاش أخذ منحى آخر ،بادر الى الاعتذار من أخيه لنغادر ،ولست أدري كيف غادرت دون أن أسلّم عليه..
خرجت الى الشارع ،حاولت أن أتنفس عميقا فلقد أحسست بأنّ قلبي سيتوقف و بأنّني سأختنق.ترجّاني سيد أحمد ألاّ أغضب من أخيه ،فلقد مرّ بظروف صعبة جعلته يتحدث كثيرا دون أن يدرك ما يقول ،إذ كان عونا في الحماية المدنية أيّام المأساة الوطنية ،وجد صعوبة في تحمّل بشاعة ما كان يحدث ،رؤوس مقطوعة يبقى لساعات هو ورفاقه يحاولون ترتيب كلّ رأس مع جثّته ،ومناظر أخرى أبشع لأشلاء الإنسان التي تناثرت في تلك الفترة الأليمة حتّى كاد أن يفقد عقله وفي النّهاية قدم استقالته وفتح هذا الدكان الصغير .تألّمت كثيرا وأنا أسمع هذا الكلام من سيد أحمد، ربّما أراد به تبرير ما قاله مصطفى ،لكنّه أعاد إلي أوجاع هذا الوطن الغالي ..و ارتسمت كلّ صور الألم أمامي.
ليس معنى هذا بأنّ تلك الأفكار ليست من قناعات مصطفى، ،هو له كامل الحرية في تفكيره ،لكنّني لا أتصوّر الحياة مثلما شرّع لها ،الشراسة والعنف وسيلتان للحصول على السعادة ،فمن يزرع الشوك لا يجني إلا الجراح.
وهل يمكن أن نستغني عن حب المقرّبين لنا ونقنع بأن ينفذوا أوامرنا بحكم أنّنا الأقوى وأنّ قبضتنا حديدية.فإذا غابت المودة بقيت الرحمة وإلا لن تستقيم الحياة وسيبقى الشرخ قائما.
قد يكون مصطفى ضحية من ضحايا العشرية السوداء في هذا الوطن الجميل،صحيح بأنّ الآلام الكبرى تترك آثارا في نفوسنا شئنا أم أبينا ،ومهما حاولنا التصالح مع ذواتنا فانّ الشرخ يقع في الذاكرة يجعل تلك الذكريات تقيم لنفسها مدينة بأكملها ،بل لنقل إمبراطورية لها سلطتها علينا حين تطفو الى الحاضر من قاع الماضي تكبّل أفراحنا ،وأحيانا عقولنا أيضا،فنجد المنطق عندنا قد تحوّل الى لا منطق ..
في خضّم تلاطم أفكاري هاته يصل بي سيد أحمد الى البادية حيث خيم البدو ترسم لوحة من أروع ما يكون.يتوقّف سيد أحمد وهو يقول:
- ما رأيك في هذا المكان؟
- انّه رائع يا سيد أحمد.
لسيد أحمد أصدقاء في هذا المكان الطيّب، ترجّل عن السيّارة ومشى قاصدا خيمة يخرج منها رجل مرحبا، يتعانقان بحرارة، يشير إلي سيد أحمد أن ألحق به..فإذا بالرجل يحتضنني وكأنّه يعرفني.
يسري الدفء في أوصالي و أستعيد إقبالي على الأشياء لاستكشاف جمالياتها.
يدعونا الرجل للدخول الى خيمته المزيّنة بالزرابي التي تشعّ منها ألوان حارة تنسيك برد الفصل.
تحت تلك الخيمة الدافئة شعرت كأنّني تخلّصت من جزء كبير من أوجاعي واستسلمت لروعة المكان وبساطته.
الشاي المنعنع كانت له رائحة مميّزة ،مذاق "الروب" وهو مربى التمر في هذه النّاحية أصبح بنّكهة أجمل ،وحديث الرجل كان حلوا حلاوة الشهد و العسل بلكنة البدوي الذي عانق صفاء البراري روحه فسما بها ،سألته عن كيفية التغلّب على الطقس البارد في هذه البادية ،فأشار الى الحطب والنّار مؤكّدا لي قدرتهم على التأقلم مع كلّ الفصول...لحسن الحظ اليوم كان الجوّ مشمسا ولم يكن البرد بنفس قسا وته في الأيام الماضية طلبت منه إن نخرج خارج الخيمة لألقي نظرة حولها و أمتّع ناظري بالطبيعة...رحّب بالفكرة وسار أمامنا بنشاط و حيوية ..منظر الكتاكيت والأغنام كان جميلا،والأفق كان ممتدا لاشيء يحجبه عنّا ،وكأنّنا ملكنا الطبيعة ...
وكأنّه نما لي جناحان حلّقت بهما بعيدا عن متاعب الأرض وهذه الحياة .
الهواء كان يغمرني منعشا ،يجدد شيئا داخلي و يزيل عنّي الأدران.
حتى شعرت بيد سيد أحمد تضغط على ذراعي،استدرت نحوه ،ابتسم لي وهو يقول:
- هنا أقضي أجمل الأوقات وأنسى هموم الدنيا .
- فعلا انّه المكان الأنسب لقهر الألم و ما يواجهنا من صعاب في المدينة.
- أعتقد بأنّ الحياة في هذا المكان تكون أكثر صدقا ، تتجلى لنا الحقائق فلا نقلق ولا نشتّت أفكارنا بحثا عن الحقيقة،أمّا في المدينة فهي بأقنعة مختلفة لا نعرف مع مطلع كلّ يوم أيّ قناع سيواجهنا .

رابحة
15/04/2009, 12:55 AM
- صدقت يا سيد أحمد ، هنا الأقنعة تذوب ،حتى الأقنعة التي نحملها داخلنا ،هنا نرى أنفسنا بشكل أوضح.
يبتسم لي سيد أحمد ويطرق قليلا ليقول:
- لا أظنك تأثّرت بكلام مصطفى.
- لا تفكّر في هذا الموضوع .
- أؤكّد لك بأنّ مصطفى أراد مواساتك فقط ،وطريقته كانت غريبة و غير نّاجعة.
- لا أدري إن كنت أستحق المواساة.
- فعلا أعتقد بأنّك تحتاج الى شيء آخر.
هذا التقرير من سيد أحمد كان يطوي كلاما كثيرا لم يفصح عنه من قبل.
- ماذا تقصد يا سيد أحمد؟
- ناصر أعتقد بأنّ كلّ ما وقع لك كان نتيجة شيء لم تنتبه إليه.
- وما هو في رأيك؟
- أعتقد يا صديقي بأنّك لم تحب نفسك بدرجة كافية لتعيش بشكل عادي في هذه الحياة ،حتى أنّك لا تعرف قيمة نفسك ،انّك تقلّل من شأن نفسك الى درجة أنّك تتعبها وتعطي فرصة للآخرين لتجريحها.
كلام سيد أحمد سحب غشاوة من عيني ،لقد وضع يده على الجرح ،قد يكون أصاب الى حد بعيد،لقد ألمت نفسي الى درجة كبيرة،وأعطيت فرصة للآخرين لتجريحها..
ووقفت صامتا ،لم أقم بمواساتها ،لم أنقذها في اللّحظة المناسبة،وتراكمت الجراح وتضاعف الألم فصرت كومة من وجع.
سيد أحمد له قدرة كبيرة على تحليل الأمور ،هكذا هو دائما، ،لا يتحدث في شيء إلا بعد أن يقوم بتحليل جميع العناصر التي تكونه ثمّ يخرج بخلاصة .
قد يكون هدوء أعصابه هو الذي يمنحه هذه الموهبة و هذه القدرة على التركيز في تفاصيل الأشياء مهما كانت دقيقة.
و يرن الهاتف ليقطع علينا حديثنا، إنها حبيبة تطلب أن أعود إذا تمكنت من ذلك، رغم أنّها طمأنتني بأنّ كلّ الأمور تسير على ما يرام ،يا الهي ماذا يحدث بالضبط ،أيّ مفاجأة تنتظرني ...تمنّيت لو طرت واختصرت كلّ المسافات لأعود إليهم سريعا..ألح ّ علينا صاحب الخيمة أن نبقى لتناول العشاء معه ليتمّ واجب الضيافة ،لكنّني اعتذرت له باعتبار أنّ طارئا حدث يضطرني للعودة..
ودّعناه وفي ذاكرتي نقشت صورته ومنظر خيمته الرائعة كأجمل الأشياء التي رأيتها في حياتي.
و عدنا الى بيت أهل سيد أحمد لنودّعهم ،مصطفى كان يسترق النّظر إلي مترددا و كأنّ سورا ارتفع بيني وبينه،مشيت نحوه ،عانقته مودعا،فأعدت إليه ابتسامته، ليهمس في أذني :
- اللّه معك.
ودّعنا الجميع و عدنا الى السيّارة لتبتلعنا و كأنّها تخشى علينا من الأحداث المحيطة بنا في الخارج ،في هذا العالم الذي لا يرحم ،ينظر إلي سيد أحمد وهو يقول:
- إنشاء اللّه خير لا تقلق يا صديقي.
اكتفيت بهز رأسي له بالإيجاب فلقد أحسست بأنّني فقدت لساني ،و تسمرت عيناي مع نافدة السيارة أرقب الطبيعة الهاربة الى الخلف أو أنّنا نحن الذين كنّا نفلت منها ونخلّف وراءنا مناظر في منتهى الروعة والجمال،ثمّ عاد سيد أحمد للكلام :
- كنت أود أن أقترح عليك أن نقضي اللّيلة في البيت عند أهلي ثم ننطلق عائدين غدا في الصباح الباكر ،لكن أعرف بأنّك لم تكن لتوافق.
- فعلا ليست لدي الأعصاب التي تتحمّل الانتظار الى الغد.
- لكن حبيبة طمأنتك فلا داعي لكل هذا القلق.
- أنا لست مطمئنا، ما كانت حبيبة لتهتف لي لو لم يكن الأمر عاجلا.
- بعد ساعات سنصل إن شاء اللّه وسيتّضح الأمر.
الشمس كانت تميل الى خدرها لتلوّن الأفق بألوان أبدع الخالق فيها ،لكنّها لم تكن كافية لبعث الطمأنينة في قلبي..فكّرت في الاتّصال بحبيبة ،لكنّني تردّدت وكأنّني خشيت ممّا ستخبرني به ..فكّرت في الاتصال بوالدتي ..الفكرة لم تكن مناسبة أيضا فقد تكون حبيبة أخفت عليها الأمر فأقوم أنا بإفساد خطّتها ،الاتّصال بأحد إخوتي لن يكون ناجعا لأنّهم في الغالب لا يبالون بما يحدث ،هم على الدوام منشغلون بأمورهم الخاصة ..لكنّ سعيد غيرهم تماما، انّه صديق الجميع ، انّه يستمع إلينا جميعا يشاركنا أفراحنا و آلامنا...لديه وقت ليفكّر معنا و يرتّب معنا أفكارنا..سأتّصل بسعيد:
- مساء الخير سعيد.
- مرحبا ناصر.
- كيف الأحوال؟
- الحمد للّه.
- حبيبة اتّصلت بي.
- و أين أنت الآن؟
-لقد قطعنا مسافة لا بأس بها ،أمامنا ساعة من الزمن ونكون عندكم بحول اللّه .
إن شاء اللّه تصل بالسلامة
- سعيد ماذا يحدث؟
- لا هنالك أمر يجب أن نأخذ رأيك فيه.
هل يعقل أن تطلب منّي حبيبة الحضور لأجل شيء يريدون رأيي فيه.
- هيا سعيد أخبرني ،لا تخف لدي من الأعصاب ما يتحمّل.
- الوالدة نقلناها الى المستشفى .
الخبر صعقني ،تمنّيت لو حلّقت بجناحين حتى أصل في أقرب وقت،ليتني ما اتّصلت بسعيد ولا عرفت هذا الخبر ،سيد أحمد يحاول تهدئتي و أنا كان القلق قد حوّلني الى عجينة من الصعب تشكيلها ،بدأت أشعر بأنّ كمية الأكسجين تتناقص في الهواء ،يا الهي أيّ شؤم هذا الذي يلاحقني ،حتى حين أردت أن أسترق ساعة من الزمن أخفف فيها آلامي ،ها هي الحياة تلاحقني بمتاعبها ،الآن كلّ مصائب الدنيا تهون أمامي المهم أن تعيش أمّي .
- تنفس عميقا يا ناصر و لتكن ثقتك باللّه كبيرة.
- ونعم باللّه.
- لا يجب أن يراك إخوتك في هذه الحالة ،أنت الأكبر يجب أن تكون الأكثر تماسكا،أنت الآن في نظرهم الأمل والسند.
حتى في هذه اللّحظات العصيبة لا يفقد سيد أحمد قدرته على تحليل الأمور، ويفكر في هذه التفاصيل الدقيقة.
كم يعجبني الأشخاص الّذين يتماسكون عند الشدائد، يتجاوزونها ويحسنون التصرّف من أول لحظة، لكن هل أنجح في ذلك أمام إخوتي ،أمام أمي،لست أدري.
ها قد وصلنا أخيرا،ها نحن ندخل مدينة بشار التي بدت ساكنة وكأنّها حزينة ،صامتة تتأمّل شيئا ما.
- إلى أين نتجه الآن ؟
- إلى المستشفى طبعا.
في المستشفى كانوا جميعا واقفين ،حبيبة ،سعيد ،البتول والآخرون ،جميعهم يأسر ملامحهم الذهول،يقفون أمام غرفة الإنعاش.. أحسست كأنّ مغناطيسا ثقيلا يشدّني الى الأرض فلا تسعفني رجلاي على الحركة.

رابحة
15/04/2009, 12:56 AM
سيد أحمد يشدّني من ذراعي وكأنّه يسند جبلا سيتهاوى بعد لحظات، يهمس في أذني:
- كما اتفقنا يا صديقي،تماسك .
خطى حبيبة نحوي كانت أسرع ،عانقتني و أجهشت بالبكاء، عرفت بعدها بأنّ والدتي في غيبوبة ..
و بقدر ما كنت قلقا مرتبكا ،بقدر ما استحضرت قوة استلهمتها من نظرات إخوتي الذين كانوا يعلّقون عليّ آمالا كبيرة لإنقاذ حياة والدتنا..حتى زملائي الأطباء سعدوا لحضوري لمساعدتهم في إخراجها من هذه الغيبوبة..
كنت بحاجة الى أن تستحضر أمي كل حبّها لنا ،لأن تتمسّك بالحياة لأجلنا ،لأن تقاوم حتى تتجاوز الأزمة..
كم هي غريبة هذه الحياة ،بقدر ما نسأمها في لحظات الألم، بقدر ما نتمسّك بها لأجل أولئك الذين نحبّهم ،ونريدهم أن يتمسكوا بها، أن نبقى جميعا نحيا الحياة..
حاولت في الأيّام التي قضيتها في المستشفى أن أضع كلّ خبرتي الطبية لأجل إنقاذ أمّي ،كانت نظرات زملائي تحمل الكثير من التساؤلات، لا يستطيعون الإفصاح عنها ،لكنّها كانت كما الإبر توخز قلبي وتجعلني أندم على كلّ لحظة انزويت فيها وحيدا ،ربّما كانت هنالك حالات أخرى مثل حالة أمّي كانت بحاجة إلي، الآن أدرك مدى حمقي ..
من الحمق أن نجعل صدامنا مع آخر قد لا تتوافق أفكاره مع أفكارنا ،نجعله نهاية كل شيء ونغلق الأبواب على أنفسنا، وحدها المواجهة تعطينا لذّة الانتصار وقوة تجاوز المحن بكل ايجابية وبخسائر أقل.
الآن الأشياء تضيع من قبضتي و أشعر و كأنّني أفرغ من الداخل و أنّني تحولت الى شيء أجوف يرجع صدى كل الآلام و الجراح.
الوقت ليس مناسبا لأعلن اعتذاري للجميع ، فلا شك بأنّ آلامي أخذت الكثير من أفراحهم، ومشاكلي أخذت الكثير من تفكيرهم و أعصابهم، وخيبت آمالهم .
أذكر يوم علم أهلي بأنّني متهم من قبل زوجتي ومطلوب للمثول أمام العدالة، والدتي لم تتحمّل الصدمة ارتفع ضغط دمها وارتفعت نسبة السكر فيه،لتصاب بأزمة صحية لم تنج منها إلا بمعجزة.
هاهي اليوم مريضة أيضا بسببي، حبيبة قالت بأنّها تأثرت كثيرا بدموع ندى وهي تقول لها:
- "توحشت ماما و بابا."
- قلب والدتي المرهف الذي طالما احتوى آلامنا وآمالنا لم يتحمّل دموع الصغيرة أو أنّها جعلتها تشعر بخيبة أمل كبيرة لأنّني كنت مفخرتها ، حققت لها أمنيتها في أن أكون طبيبا ، وكانت في كلّ مناسبة تقول لي :
- "حمّرتْ لي وجهي."
و كم كان وجهها عزيزا عليّ، وها هو اليوم أصفر شاحب .
هل أعاقب الآن بأن أحرم منه، هل هو موعد العاصفة التي تقتلعني من الجذور و ترمي بي في مهب الريح؟
لست أدري إن كانت هذه هي النّهاية ليأتي الطوفان بعد ذلك، لكن ما أدركه هو أنّ هنالك من هم بحاجة إلي و يعلّقون عليّ آمالا كبيرة.
أدرك أيضا بأنّ اليد التي تمسك بيدي هي يد أمينة وصديقة تريد أخذي الى المرفأ الآخر ، الى لحظة القوة التي أحتاجها في هذا الظرف بالذات،يد سيد أحمد التي لم تكن تمسكني فقط بل خيّل إلي بأنّها كانت تحملني و ترتفع بي فوق قسوة اللحظة.
سيد أحمد الذي تجد الابتسامة طريقها إليه في هذا الوقت يشعر بتذمري لذلك يقول:
- لا تؤاخذني يا صديقي إن ضحكت.
- وما الداعي لذلك ، هل تجد الظرف مناسبا؟
- أحوالك يا صديقي تضحكني.
- أنا أرى العكس تماما.
- ألا ترى يا صديقي بأنّه كلما حدث مشكل إلا وحمّلت نفسك المسؤولية و أنّبتها و كأنّك سبب كل الكوارث التي تحدث في العالم.
- و هل لديك شك في كوني السبب فيما حدث لأمي.
- والدتك شفاها اللّه مصابة بمرضين مزمنين ، نعرف جيدا مضاعفاتهما ،لماذا لا تقول بأنّك السبب في تخفيف آلامها في مرات عديدة طيلة هذه السنين.
هل أحتاج فعلا لأن أغالط نفسي كما يريد سيد أحمد حتى أخرج من دوامتي هاته، هل أحتاج الى تبرئة نفسي من آلام أمي ، من جراح البتول، من قلق حبيبة و من كل ما سبّبته لهم من فوضى اللّحظات.
رغبة ملحة داخلي تدعوني للصراخ بأعلى صوتي ، قد يريحني ذلك ويريح ذاكرتي المثقلة بالأوجاع والهموم ، لأركّز أكثر في عملي ، لأركّز في الحالة التي تعيشها أعزّ مخلوقة على قلبي.

رابحة
15/04/2009, 12:57 AM
لكن ،هل يعقل أن يأتي ذلك الصوت في هذه اللّحظة بالضبط و بكل هذا الشلال النّابض نعومة ، حنانا ودفئا لينتشلني من اللّحظة البوم الى لحظة أخرى عجّلت ضربات قلبي و جعلت الكلمات كلّها تسافر و لا تجد لها سبيلا الى لساني..البتول تمشي نحوي ، تقترب منّي ،البتول تقف الآن أمامي لتقول بصوت متعب:
- "اللّه معك يا ولد خالتي"
يا اللّه ، هل أدركت البتول بأنّني كنت نزلت الى ما تحت الصفر وكنت بحاجة الى معجزة لأعود فأقف لأمشي ، لأفكر و أعيش، و جاءت هي لتحقق المعجزة.
تسمّرت قدماي لحظتها لتبعث الحرارة في لساني فيستعيد قدرته على النّطق .
وددت أن أشكر البتول على المعجزة التي حققتها، وددت لو قلت لها بأنّني كنت أحتاجها أن تمنحني هذه اللّحظة ، بأنّها موجودة الى جانبي تمدّني بالقدرة على الحياة.
بل أكثر من ذلك وجدت نفسي أبتسم في عز الألم و أطمئنها بأنّ حالة والدتي في تحسن و بأنّها تستجيب للعلاج.
حينها أشعّ بريق ساحر من عينيها الجميلتين و أشعّت ابتسامتها لتبدد أحزان قلبي و تمنحني لحظة ارتياح وطمأنينة ثمّ همست بصوت خافت :
-"الحمد للّه".
يا اللّه، ما أروك أيّتها المرأة الساكنة الى أفراحي المؤجلة و طفولتي المتسللة من الماضي الى هذا الحاضر بكل ما تمتزج فيه من لحظات .
غادرت البتول بعدها المكان و عدت أنا الى الغرفة حيث والدتي ممدّدة على سرير كان يتأمّلني ببرودة و صمت وكأنّه شيخ حكيم أراد تلقيني درسا و تزويدي بحكمة في هذه الحياة، أو أنّه كان يصغي لصوت الأجهزة التي أصبحت أمي تحت رحمتها والتي بدت كما الصديقة الوفية ، ترعى والدتي و تمدّها بالحياة من جديد.
زميلي الطبيب المختص في الإنعاش لم يعد يحتمل الصمت ، أخيرا قرّر الكلام ، أخيرا طلب منّي أن أرتاح فالإرهاق كان باديا على ملامحي.
أيّ راحة سأشعر بها و هذا الجبل من الهموم يثقل ذاكرتي و يكاد يحبس أنفاسي.
جلست أتأمّل والدتي كما كنت أفعل و أنا طفل صغير ، كنت أجلس الى جانبها و أسند رأسي الى ركبتها لتغزل الصوف وتروي لي أجمل الحكايات.
تذكّرت حكايتها عن "المكتوب" ، حكاية الرجل الذي كان من وجهاء قومه ،أغدق عليه اللّه من المال والخيرات لكنّه كان محروما من الأطفال وهذا ما كان ينغص عليه عيشته، الى أن جاء اليوم الّذي بشرته زوجته بأنّها حامل.
فرح لحظتها فرحة كبيرة وبدأ يعدّ الشهور و الأيّام منتظرا المولود الجديد بفارغ الصبر، وجاء اليوم الموعود لتضع فيه زوجته طفلا في منتهى الروعة والجمال إلا أنّ فرحته لم تتم إذ أبلغه أحد العرّافين بأنّ ابنه سيموت عندما يبلغ السادسة من عمره .
ومن ذلك الحين والرجل يحيط ابنه بالرعاية والحماية الى أن بلغ السادسة من عمره ، يومها قرّر الرجل أن يخرج في قافلة مدة سنة كاملة ليحمي ابنه من أيّ خطر يتوقعه
أعدّ للصغير هودجا مريحا على ظهر الجمل وانطلقت القافلة ، والجمل الحامل للهودج يمشي الهوينى حتى وصلوا الى مكان آمن أرادوا الاستراحة فيه .
راح الجمل يأكل من أعشاب الأرض ونباتاتها لتزحف أفعى من نبتة الى رأس الجمل ، حاول بغريزته التخلص منها فهزّ رأسه لتسقط الأفعى داخل هودج الصغير وتلدغه ويموت في سن السادسة.
حكت أمي هذه الحكاية يومها لتلقنّني درسا بأنّ "المكتوب ما منه هروب".
نفس الحكايا كانت ترويها لي أمي بعد ما كبرت ، عندما كانت اللّحظات تهزمني و تتشابك الأمور من حولي و أبحث عن صديق فأجد في حضن أمي ملاذي، أتوسّد ركبتها و أسمع أحاديثها.
و في أحد الأيّام ضحكت ساخرا منها و أنا أسألها من أين لها بكلّ هذه الحكم و هي التي لم تتعلّم في المدارس، أجابتني يومها :" اللّي ما قرا توريه الايّام".
هذا الزخم من الموروث الشعبي لديها كثيرا ما كان له المفعول السحري ليبعث في الرغبة في مواصلة المسيرة حين كانت الأحداث تكسرني ، فلقد علّمتها الأيّام الكثير ، إذ عاشت يتيمة الوالدين و ذاقت من عذابات هذه الحياة ما جعلها ترى الأمور من زواياها الأعمق مرتكزة على حكم و موروث شعبي ورثته.
فهي ابنة أغرب منطقة في مدينة بشار ، مدينة تابلبالة المسكونة بألف سر و سر .
في تابلبالة الشجرة العجيبة التي يخشى الجميع لعنتها و لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها أو التعدي على حطبها اعتقادا منهم بأنّ لعنة ستحلّ به.
وهي مدينة البحيرة المتحجرة ، تستوقفك في هذه البحيرة الغريبة أسماك و كائنات بحرية متحجرة ، انّه البحر استوطن ذات مرّة المكان.
تابلبالة هي مدينة القبور العملاقة التي لا أحد فكّ رموزها والأرجح أنّه كانت تدفن مع أصحابها حاجياتهم اعتقادا منهم بأنّهم سيستعملونها في حياتهم الجديدة التي انتقلوا اليها بعد الموت.
هذه المدينة العجيبة التي كنت أستمتع فيها كثيرا بأغاني "الفقارات"في القصر القديم،كنت أجلس مع والدتي و أنا صغير أتأمّل وجوههن السمر التي حفر الزمن أخاديده عميقا فيها ، كنّ يغنّين غير مباليات بهموم الدنيا ومتاعبها، و كنّ ينكتن ، يضحكن ببراءة و بساطة وبتلقائية يروين لنا أجمل الأحاديث و الشاي يغلي على الجمر و أنا سعيد أتمنى لو تطول الساعات بنا مع "مانّة بادّي" و رفيقاتها .

رابحة
15/04/2009, 12:58 AM
كنت أعشق "تكدة " الأنغام البلبالية الجميلة،وأعود من هذه البلدة لأروي لأصدقائي في المدرسة عجائبها وغرائب شجرتها المقدسة.
آه أيّتها الشجرة العجيبة ، هل يمكن الآن أن ترسلي بظلّك على هذا المكان و تبعدي لعنتك عنّا ، فنحن طالما احترمناك و احترمنا احترام الأهالي لك ، أغاضبة أنت لأنّني لم أعد أزورك كما كنت أفعل فيما مضى وأقف متأمّلا شموخك ، محاولا سماع صوتك ، أنفاسك احتراما لك، فالطبيعة صديقتي وكاتمة أسراري ، وان كان هذا المكان خصّك بمكانة جعلتك تتمتّعين بالسلطة والقوة ،فأنت ستبقين جزء من هذه الطبيعة الخلابة التي أعشقها و تسكن دمي.
الساعة الآن السادسة صباحا ، الفجر يتنفس في المدينة الهادئة ، والدتي تستجيب للعلاج و حالتها في تحسن، وأنا أستمع الى نبض الأجهزة وكأنّني نوع جديد من البشر لا ينام ، أو كأنّ النّوم أصبح جزء من الماضي بالنّسبة لي ،أو أنّني ذات يوم كنت أنام.
ها هي الشمس ترسل بخيوطها الأولى على هذه المدينة و كأنّي بها هذه المرة عادت لتشرق لأجل والدتي ، فها هي ذي تستفيق و تنادي بصوت يشبه الحلم على البتول.
يا اللّه ،هل تكون البتول الفرح الأكبر في قلب أمي أم الوجع الأكثر إيلاما؟
لماذا البتول ولست أنا أو آية أو حبيبة....هل عادت أمي للحياة لأجل البتول فقط ؟
المهم أنّها أفاقت ، أنّها لم تبتعد عنّي و أنّني ها هنا الى جانبها أبلّل يدها بدموعي وأقبّلها.
أخيرا السّماء تشفق علينا، وتخرج والدتي من غيبوبتها، يا اللّه ،ما أروعها من لحظة امتزجت فيها دموعنا بالفرح وعدنا نعشق الحياة لأجلنا جميعا..يا اللّه، ،ما أروع نظراتها ،إنها فيض من الحنان ،قادرة على أن تجعلك تطمئنّ للحياة وتطمئن للغد،كما الشمس تماما حين تشرق دافئة بعد ليلة عاصفة.
أنا لم أعد وحدي ، الغرفة عامرة بالفرح الكل جاء في الموعد لنعانق الحياة بقلب رجل واحد .
ما أسعدك الآن يا البتول من حقك أن تزغردي أن تقبّلي خالتك، أن تحمدي اللّه بصوت عال.
ما أروعها من لحظة امتزجت فيها دموعنا بالفرح و عدنا نعشق الحياة لأجلنا جميعا.
نظرات أمّي كانت أكثر من جميلة ، كانت كالعائدة إلينا من كوكب آخر ، من عالم آخر، لكنّها كما الشلاّل المتدفق محبّة وحنانا، يمنحك القدرة على الحياة و على الاطمئنان للغد، تماما كما الشمس حين تشرق دافئة بعد ليلة عاصفة.
الأصدقاء كانوا حولي، أولئك الذين قلقوا لقلقي، ها هم الآن يفرحون لفرحي ويشاركونني أدق اللّحظات.
كيف أنّني لم أكن أرى كلّ هذه النّعم و أغلقت على نفسي في زاوية شخص أناني لا تهمّه سوى نفسه وبعده الطوفان..الآن أدرك تماما بأنّ الحياة جميلة تستحق أن تعاش.
أيّام قليلة و تعود والدتي الى البيت ، سيد أحمد يقرّر أن أعود الى البيت لأرتاح بعدما غادرت والدتي غرفة الإنعاش الى غرفة أخرى وجناح آخر في المستشفى.
و عدت لأركب سيّارته مجدّدا و قد أخذ منّي التعب مأخذا كبيرا.
وصولي الى البيت كان يعني الكثير لإخوتي ، لكن بدون والدتي بدا حزينا و كأنّه كان في حالة اغتراب عنّا و كأنّه لم يتعرّف على ملامحنا .
ارتميت على أريكة محاولا ترتيب أفكاري و إذا بالبتول تقدم نحوي كالملاك وهي تحمل لي حساء ساخنا، تبتسم و هي تتمتم:
- تفضّل "الحريرة بالقرطوفة".
يا اللّه ، ما أروع" القرطوفة" و ما أروع نكهتها هي بالنّسبة لي ليست مجرّد عشبة برّية تستعمل في الحساء البشاري، لكنّها إكسير الفرح الذي يعبق داخل البيت فيملؤه أمانا و دفئا.
يا ابنة خالتي ما أروعك ، لست أدري كيف تحرّر لساني لينطق اسمها الغالي:
- البتول ، كاس شاي من فضلك.
- حالا.
و أسرعت البتول لتحضر الشاي و كأنّني بطلبي هذا قدمت لها هدية و كأنّها هي بحضورها بعثت في أعماقي الحياة.
رحت أحتسي "الحريرة" العابقة برائحة "القرطوفة"وأستمتع بمذاقها الجميل و ها هو فرح آخر تحمله لي البتول ، الشاي حضر.
جلست البتول تصبّ الشاي و كان يخيّل إلي بأنّها تصبّ شلاّلا من الفرح و السعادة والحياة.
- تفضّل.
- شكرا.
تناولت الشاي فرحا، سعيدا، فوالدتي شفيت ، والبتول هنا و أنا أيضا هنا في بيتي ، في مدينتي،كان مذاق الشاي بطعم الحياة الجميلة وكان وجود البتول في البيت بحجم الفرح الذي يغمر كل هذه الدنيا.وحتى أكسّر الصمت سألتها :
- ألم تعد حبيبة؟
- ستعود حالا، ربّما هي من تطرق الباب الآن،سأذهب لأتأكّد.
كنت أشرب شاي البتول و كأنّه كان يمنحني لحظة تصالح مع كلّ جزء من هذه المدينة، مع كل ذرّة من رملها، وفي غمرة نشوة الشاي و "الحريرة" رنّ هاتفي النقال لينقلني من أحلامي الى الواقع ، و يا للمفاجأة ،نادية تتّصل للاطمئنان على والدتي و هي تعبّر عن سعادتها لخروجها من الغيبوبة .
هل يعقل ما يحدث؟ هل فعلا التجربة القاسية علّمت نادية كيف تحيي مشاعرها و أحاسيسها، هل أدركت نادية بأنّ الحياة مشاركة ، أم أنّها مجرّد خطة من خططها ؟
كل هذا لا يهمّ ، المهم أنّ حبيبة حضرت الى البيت ، سمعت صوتها ، ثمّ ما هذا الشيء الصغير الّذي يلتصق بي ، إنها "آية" أرادت مفاجأتي ، إنها سعيدة بعودتي ،تمدّ الصغيرة يديها الصغيرتين تريد معانقتي، فأضمّها إلي ، أريد أن أحتويها حتى لا تشعر باليأس و الألم، لكن الصغيرة تصعقني بسؤالها:
-"وين ماما"
السؤال لم يصعقني أنا وحدي بل كسّر زجاجا كثيرا كان داخل البتول خيّل إلي بأنّني سمعت وقع شظاياه، و عضّت حبيبة على شفتيها و هي تنظر إليّ بعينين حائرتين.
هل السماء التي أمطرت منذ قليل فرحا تتراجع الآن لتملأ البيت قلقا وحيرة؟
وجدت نفسي مضطرا لإخبارها عن المكالمة التي أجرتها نادية و بأنّها مسافرة و ستعود قريبا.
كلّ كلمة كنت ألفظها كانت تقطّع شيئا داخل البتول و حبيبة صامتة تتأمّلني ، ربّما كانت متلهفة لمعرفة قراري لذا طلبت من الصغيرة أن تذهب للّعب ، لتسألني السؤال المرّ:
- ماذا قرّرت ناصر؟
هل يعقل أن تسألني حبيبة هذا السؤال في مثل هذه الظروف التي نمر بها، هل مهم أن أجيبها، لست أدري كيف استحضرت الكلمات لأقول لها:
- لنهتمّ بالوالدة أوّلا.
ربّما كانت الإجابة الكافية لتجعل حبيبة تومئ برأسها وقد رسمت ملامح الاطمئنان على وجهها الهادئ.
أمّا البتول فقد خيّل إلي بأنّ سحابة كثيفة من الحيرة والقلق قد لفّت وجهها.
الآن هو موعد زيارة الوالدة ، هذا هو الشئي الّذي يوحّدنا و حياتها هي التي تمنحنا القدرة على الفرح والابتسامة.
قلوبنا الآن تعزف على وتر واحد ، هي تتوحّد مع شيء لا مرئي فرحة بعودة الحياة.
ما يهمّني الآن أنّني أقف ها هنا على قمّة فرحي ،أسعد بالحياة لأجل هؤلاء جميعا، فالحياة نهر، جميل أن نكون نبعه الصافي.

رابحة
15/04/2009, 01:29 AM
لكم تمنينا يا أخت رابحة لو نشرت لنا قصة مثلا كنموذج ..مرافق لهذا الاتقديم !
على كل شكرا لك ومبروك للكاتبة ولكل الجزائريين هذا المولود الجديد.

السلام عليكم
هذا عرض للانجاز الرائع للأخت جميلة طلباوي
الأديبة و الإعلامية جميلة طلباوي صدرت لها أربعة أعمال أدبية :
"شظايا":ديوان شعر
"وردة الرمال":قصة
"شاء القدر" : قصة
و "أوجاع الذاكرة" التي صدرت مؤخراً (هذا العام)
هي التي قالوا عنها " الكلمات تسكنها و تنساب على لسانها و من قلمها بلا مآزق"...هي بحر من العطاء لا يجفّ و لا ينتهي...