المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التفريط في الأمة .. والهروب إلي الخلف ..!!



علي ابريك
15/04/2009, 04:37 PM
" غوربي ... غوربي .." هكذا كانت الألسن تهتف في ألمانيا الغربية قبل سقوط جدار برلين في العام 1989 ، وهي تستقبل الرئيس غوربتشوف ، فالاتحاد السوفييتي تم تحريره بيد هذا الرجل ، وهو فقط الرجل البيرسترويكي القادر على علاج أمراض الدولة الماركسية الأولى في العالم ، وتحررت بلاده من أسمها ونظامها ، وشفيت من عظمة الأمبراطورية ، وتخلصت من دهون التسليح ، وأستراحت بعد أن خلع لها أضراسها الأسيوية ، و أدخلها فترة نقاهة جبرية فلم تعد تركض و لا ( تتعب ) ، خلف قضايا التحرر والعدل ، ونصرة الشعوب المغلوبة ، فقد كان الواجب الأممي مكلفا جدا لرجل يريد أن يوفر على بلاده مزاحمة الولايات المتحدة ، ولو " بقي أبد الدهر بين الحفر" ابتسامته الرائعة ، فاقت الموناليزا ، ولم يستطع تحليلها سوى النخب الهاربة من المنشقين الروس ..!!

قدم مخائيل غوربتشوف للعالم ، وصفة رائعة للقضاء على الدول الكبيرة ، مستعملا علاج وصفته مكونة من عقار التفكيك ، وقليلا من العلاج الطبيعي على شكل تدليك بالشعارات عن الحرية ، والسير لمسافات طويلة دون دعم الجمعيات التعاونية والاستهلاكية ، وقدم له الغرب مقابل ذلك ، صورته كنابغة بيده صك غفران لكل الدول الشمولية والديكتاتوريات الدموية مع بعض السوائل الدعائية في المانيا المجاورة ، لاغواء القيصر الزاهد ، فالرجل اقتنع بانه المهدي الروسي المنتظر ، رغم نبوغه في العلوم الباطنية ( الكي جي بي ) الكافرة ..!! وأعلن التعددية والديمقراطية البرلمانية ، واقتصاد السوق ، وخفض جيشه ، وفكك صواريخه ، وجلس يبع سلاحه خردة لمصانع ألمانيا الغربية ،وأهان الغرب السلاح الروسي في حربهم على العراق 1991 ، و أستحلوا مناطق الرفاق ، يدفعون له القروض ، ويسترجعونها مضاعفة ، حتى أختفي بعد حين ، ولم يعد يذكره أحد.

ونظرا لأحترام الغرب لصداقتهم للرجل ، فأنهم قاموا بالطلب منه للدعاية على منتج أمريكي ، هناك أنتبه الروس لغوربي و بروستريكيته القاتلة ، فأحتفظوا ببعض ثياب الإمبراطورية ، وكان أمامهم ( الشيشان) ليكونوا مثلا لكل من يتذمر من بقايا الثوب المرتق ،ولكن الغرب المدافع عن حرية الشركات أراد أن تتعرى موسكو في شتائها الأخير على مسرح جدار برلين بعد هروب الشرقيين الجماعي للغرب ، فدفعوا ، ودعموا عجوزا سكيرا إلى مجلس الدومة ، غير أن علماء الباطنية دفعوا بكبيرهم ، ليضمد جروح الكبرياء ، ويرقع ما تبقى من الثوب ، ويزيح الغبار عن ألعاب الروس النارية، ثم ها هو يختار لهم إماما من وراء الحجب ، ليدخل بهم مرة أخرى جنات القوقاز ، ويكتشف الغرب أنّ الثوب الروسي يغطي أقدام الدب بعد نهوضه من البيات القسرى ، رغم الدماء التي سحبت تهريبا من اقتصاده والتي تم تقديرها " من 250 إلى 300 بليون دولار" (1) خلال عشرة سنوات بروستراتيكية( 1990 – 2000).

كان على "غوربي " أن يجدد صيانة أنياب الإمبراطورية بدلا من خلعها ، ويقنن علاقاتها مع القوميات التي صبرت و أحتسبت .. كان عليه أن يعالج عيون حكومته والأجهزة البيروقراطية ، لترى الحقيقة بدلا من سملها .. كان عليه أن يسمح لجيل الشباب أن يخططوا لمستقبلهم و يشاركوا في الحكم في الكرملين بدلا من الجنرالات العجائز المنتهية صلاحيتهم ، كان عليه أن لا يهرب للخلف بل التقدم إلي الأمام ومواجهة مشاكل سوء الهضم ، وصعوبة التنفس بالبحث عن غذاء صحي ، وهواء نقي ، يمكن معه تجديد الحياة في جسد العملاق السوفيتي بدلا من الحكم عليه بالاعدام تفكيكا ، وبيع مدخراته من المواقف الشجاعة في مواجهة الرأسمالية إلى متاحف النسيان ، وحبا للسلام العالمي ، رغب في انهاء الصراع مع الغرب ،" وبدون ذلك الصراع لا يملك الاتحاد السوفيتي هوية ، و لا سببا لوجوده ، وسرعان ما تفكك إلي ستة عشر دولة ، لكل واحدة منها هوية وطنية تحدد بشكل كبير من خلال الثقافة والتاريخ ."(2) .
لا شك ان القيادة عملية صعبة ينبري لها رجال ذو حزم وهمة لهم نظرة ثاقبة للأمور، وغوربتشوف ، رجل مخابرات حازم ، وهمته أوصلته للسلطة ، ولكن نظرته للأمور كانت مثقوبة ..!! فالعرش الموروث كان يحتاج لطريق ثالث ، غير الكبت ، وطوابير الجمعيات الاستهلاكية، ولكنه فضل فتح سجن الاستغلال فخرجت منه أكلة لحوم البشر ، والمرابين فعاثوا في الأرض فسادا ، وكان الغرب يعلم أن سلاح روسيا يجب أن يفكك ، والطريق إلى ذلك عبر صنع قيادات تماليهم ، فكانوا أول من ينعته بالاصلاحي ، وطبلوا وزمروا لخطته الاقتصادية ، وفتحوا عليه ، نيران القروض ، وساعدوه في اخراج الجيش الأحمر من أوروبا الشرقية ، وتسريح جنوده ، الذين فقدوا عشرون مليونا دفاعا عن حرية أوروبا في الحرب الكونية الثانية ، وهاهم من أجلها يفقدون مجالهم الحيوي، وكانت نهاية الحرب الباردة نهاية الاتحاد السوفييتي ، فهل الاتحاد الروسي أفضل حالا من الاتحاد السوفييتي ، أم أنّ التغيير كان محصورا بالنخب..؟!!

الهرب عملية طبيعية جدا حرصا عن الحياة من أمام خطر داهم ، عندما لا يكون بمقدرونا تحمل الآم المواجهة وطول المعاناة ، ففي العقل الإنساني تخزن ذكريات الهرب وتصنفها ، فهروب الأزواج ، و هرب المحاربين ، و هروب المساجين ، والهروب من الموت ، أو المصير المحتوم .. كم أنّ الهرب وهو الفرار له درجات فقد يصحبه ذعر ، وقد يكون تنصلا من حق .. ولكن أسوء أنواع الهرب هو الهرب إلي الخلف .. حيث تعود إلى ما هربت منه فتساعد عدوك لتحقيق هدفه ..!
العرب أمة لا تخطط لمستقبلها ، دينهم يحث على الجهاد والصبر ، ومآسي الأمة العربية كلها كانت بالطريقة (الغوربوتشفية ) ، بدءا من تفكيك الدولة العباسية ، مرورا بالفاطمية ، والمرابطين ، والموحدين ، إلى مستعمرات بني أمية في جزيرة أيبيريا بأوروبا ، ومستعمرات قبائل عمان شرق أفريقيا .. فالعدو لا يفهم الا قوتك فان استشعر فيك ضعفا هاجمك ، والعدو لا يستمر عدوا دائما إلاّ إذ وثق من هروب خصمه ، لذلك قالى تعالى [ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ..](3) وقال أيضا وهو خير القائلين [ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين] (4)، والجهاد فرض عين ، ولم ترد كلمة هرب إلاّ مرة واحدة في القرآن الكريم ، [ولنْ نعجزهُ هرباً ](5).. فأين المفر من المواجهة ، والغرب يبكي حقوق الأقليات و الطوائف في بلاد العرب .؟ بينما يغض الطرف عن معاملة الترك والإيرانيين ، والأثيوبيين لأقليات في بلادهم . فهل تفكيك البلاد العربية كالسودان والعراق ولبنان ، سيكون سهلا .؟ اقتداء ببيروسترايكة غور بتشوف ، الذي سينسخون نسخا منه في عواصمنا التليدة .. وهربا إلى الخلف.. دون أن نقاوم .. ننتصر أو نموت وقوفا ..!!


بقلم / علي أبريك المسماري

1 – لقاء مع المستشرق الروسي بروفيسور ألكسي فاسيسليف ، حاوره : سوسن حسين ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 153 ، يوليو 2003 ، ص 167.
2 – صاموئيل هنتغنتون ، ت / عثمان الجبالي المثلوتي ، مراجعة وتقديم د. يوسف الصواني أمريكا : الأنا والأخر/ من نحن؟ الجدل الكبير في أمريكا ، المركز العالمي لدراسات وابحاث الكتاب الأخضر، ص 297.
3 – سورة البقر ، اية 213.
4 – سورة البقرة ، اية 188.
5- سورة الجن ،اية 13.