المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيء من الوجل



مصطفى لغتيري
07/01/2007, 04:19 PM
شــيء مـن الوجــل
ليس في الأفق غير غبش يتراقص.. كلما اقترب، اتخذ شكلا مختلفا.. السائق منهمك في قيادته، يتهادى مع التواءات الطريق، وكأنه مأخوذ بلعبة المنعرجات، التي ما فتئت تتناسل كلما توغلنا في المسير.. الصمت يرين، بثقله، على أجسادنا المنهكة.. فقط، وشوشة خافتة تصلني بين الحين والآخر.. وكأن الجميع يتوقع حدوث مكروه ما.. من مقعدي الأمامي كنت أقرب إلى الوجل، ليس بسبب السائق المأخوذ بلعبته فحسب، بل وبالفراغ الذي ما فتئنا نتلفع بردائه، في هذه الأرض الجرداء.. كل ذلك ضاعف من الحزن في أعماقي, فانتابني سهوم متنام ..كانت الطريق في بدايتها، روعة.. على جانبيها أنواع من النباتات، تتفاوت خضرتها حسب المكان.. والأبنية البشرية لاتفتأ تغيب عن البصر.. وجودها يبعث في النفس بعض الألفة..حتى أنني رددت في أعماقي، غير مرة، أن السفر متعة.. لكن منذ ما يربو عن ساعة من الزمن، غـدا الطريق موحشـا، والجبال التي تحاصره جرداء، منفرة، لا يقوى على العيش فيها طيـر أو بشر.. عزيت نفسي، لفترة من الزمن، بأن الأمر استثنائي، ولابد أن يتغير المشهد بعد حين.. لكن، بحسرة، وبعد أن التهمت الحافلة مسافات طويلة، لم أملك بدا من التسليم بحقيقة الأمر، إنها أرض قفر.. أجمل ما فيها، نصاعة الزرقة التي تظللها.. ولا سحابة واحدة. وكأنها رقعة طليت عن آخرها بطلاء أزرق فاتح.. لم تفلح الأغنية المنطلقة من جهاز الحافلة أن تخفف من وطأة الكآبة التي انتهبتني..شيء واحد ظل يبعث في نفسي بعضا من المرح الخفر، إنه السائق، وانغماسه حتى الثمالة في لعبة السياقة.. كان منتشيا بقيادته، يتوقع المنعرجات، ويظهر حدقا في التجاوب مع التواءاتها.. كلما استرقت النظر إليه، ارتسمت ابتسامة خجلى على شفتي، سرعان ما تندثر حين يسرح بصري في الأفق البعيد، أو تلتقط حواسي السكون المطبق على المكان من حولي..التفت إلى الخلف بحثا عما يبعد الوحشة عن نفسي..كان جل الركاب يداعب الكرى أجفانهم.. بعضهم راح في نوم عميـق.. أفواههـم مشرعـة عن آخرها.. كانت كريهة بشكل يبعث على الاشمئزاز, بل الضحك .. التقطت عيناي شيخا ارتخى جسده على جانبه الأيسر، وقد تفككت عمامته البيضاء، فلاحت جلدة رأسه الجرباء .. بجانبه كانت دجاجتان منبطحتين، مستسلمتين لقدرهما .. قدرت أن تكون إحداهما قد فارقت الحياة .. في أوقات متباعدة كان صوت المساعد يرتفع بالزعيق، معلنا حضوره القوي رغم عدم الحاجة إلى ذلك .. وكأنه يذكرنا بسلطته .. فجأة، ودون سابق إنذار، توقفت الحافلة, وإذا بالسائق يصرخ بأعلى صوته, حاثا المساعد على القيام بواجبه مع مراقبي الطريق .. ركض المساعد نحو الباب الخلفي، فتحه، ثم نط خارجا. أخذت الحافلة تنفث أنفاسها متباطئة، بشكل رتيب، وكأنها تستجمع أنفاسها لما تبقى من الطريق .. ما كاد الركاب يستفيقون من إغفاءاتهم حتى التحق المساعد بالحافلة، معلنا استئناف المسير .. احتج البعض بدعوى أنه يرغب في التخلص مما تجمع في متانته .. تجاهل السائق الاحتجاج ومضى في سبيله، فما لبث الركـاب أن عـادوا إلى ارتـخائهـم .. فيمـا انسابت الحافلة في طريقها، تلتهم المسافات، غير عابئة بما يدور حولها، والسائق يتمايل برأسه مدندنا بأغنية انتشر ضجيجها في الأجواء .. بينما كنت لا أزال منشغلا بالغبش المتراقص في المدى البعيد، متسائلا في أعماقي، متى يمكنه أن يتشكل في هيئة تتحدد ملامحها .. عل ذلك يطرد بعضا من الوجل، الذي ما فتئ يتجذر في دواخلي.