مصطفى ملح
18/04/2009, 09:42 PM
الشّاعر والنّباح
1
إن البشرية ، منذ القدم ، بكل رموزها وأساطيرها وحروبها ليست إلا (قطيعا) مثقفا .
فالثقافة قناع وليست ميزة تفيد السمو والعلو . فرغم إنجازات البشر من رفع الأهرامات
مرورا بالمكوك البخاري إلى عملية الاستنساخ الأخيرة ، فإنه لم يستطع أن يرقص ولو
مرة واحدة عاريا أمام الشمس ، مقابل ذلك نجد الحيوان ، بمختلف أصنافه ، أكثر جرأة
وجموحا وأكثر تلقائية وبساطة ، لهذا لا أشعر بأدنى خجل إذا أعلنت أنه أشجع من فرسان
روما القدامى ، وأجسر من الشعراء الصعاليك وأكثر تحررا من فرويد وسارتر .. !
لقد تأكد لي هذا الانطباع حين دفعتني الصدفة إلى القرية : حيث تتكشّف لي هذه (النظريّة )
الكلبيّة بوضوح شفّاف ، أرى كلبا يجرّ خلفه ذيله في تيه طاووس وعجرفة أمير وأنفة
محارب خرافيّ ، ثم ينخرط في نباح عظيم ، كأنما يقيم احتفالا شخصيا للتخلص من جميع
العقد الدفينة في اللاوعي . إنه نباح يرشح بطولة وعنفوانا ، ينساب كصوت قطار يمزق
حرير ليل شتوي ، يرتفع في دبدبات صوتية تعلن للعالمين كيف ينفتح باب التحرر على
مصراعيه ، فهذه الصدفة التي قادتني إلى القرية تشبه إلى حدّ كبير تلك التي قادت نيوتن
إلى اكتشاف قانون الجاذبية ، مع فرق بسيط ، هو أن نيوتن اعتمد على التفاحة ، بينما
اعتمدتُ أنا على نباح كلب !
تساءلت في ذات نفسي : لماذا لا ينبح الشعراء ؟ لماذا لا يحاولون ذلك ولو مجاراة
لحضارة الحيوان المتقدمة ؟ !
نحن في حاجة كبيرة لإعادة التفكير في كلام تشيكوف :
( توجد في هذا العالم كلاب صغيرة وكلاب ضخمة ، ولكن ليس من المفروض أن تتوقف
الكلاب الصغيرة عن أداء مهمتها بسبب وجود كلاب ضخمة ، على الجميع أن ينبحوا وأن
ينبحوا بالصوت الذي منحه الله لهم !)
2
كان الحي الصناعي فارغا كمقبرة ، صامتا كليل القرية النائم بين الأشجار . كنت وحيدا :
القصيدة هاربة ، الأوراق البيضاء مرمية على الطاولة كالجثث المتعفنة .
في هذا الفضاء تولدت لدي فكرة النباح ، في البداية كانت مثل وميض خافت يأتي من مكان
مجهول ، من منطقة في العقل غير مفهومة ، بعد ذلك توضح كل شيء ، وانخرطت في
نوبة نباح بأعلى صوتي . لقد كنت منبهرا بهذا الإنجاز السمفوني الاستثنائي ، هذه القدرة
على تطويع المقامات ذات النفس العالي ، هذا التطوير الطوتي النغمي للنظرية الكلبية التي
لولاي لما خرجت إلى الوجود محدثة انقلابا إبستمولوجيا في دنيا الأصوات العبقرية .. !
كنت مبهورا بهذا التحقق الفعلي الذي لم يعرفه تاريخ البشرية على الإطلاق . ومع توالي
الأيام ، أقمت بتعديلات على النوتة " النباحية ''. فانتقلت بصوتي الحيواني الصافي العميق
من البحة الشرقية الحزينة إلى فضاء نغمي أوركسترالي ، وبذلك أتحت للنباح أن يحلق
عاليا عبر طبقات صوتية متعددة منفتحة على الخلق الساحر اللانهائي .. !
3
إذن ، فالقصيدة نباح "مثقف" . غير أننا الشعراء العرب ، في عصر العولمة واندحار
الإيديولوجيا في حاجة ماسة إلى نباح غريزي عظيم من شأنه أن يحدث انقلابا في الغريزة
والعقل والعقل الباطن أيضا .
تُرى ، من الأكثر نباحا ، النثريون أم التفعيليون ؟
في نظري ، الجميع ينبح مثل جرو صغير غير ذي تجربة ، الكل ينبح في الغابة وفي
وفي المراتع والحقول ، بعيدا عن "السلطة" . لماذا لا ننبح في المدن والمقاهي
والجمعيات الثقافية ؟ لماذا لا نعوي كذئب البراري ؟ لعل هرمان هسه تنبّه إلى ضرورة
النباح ، غير أن أفكاره لم تكن تتسم بالوضوح الكافي للتعامل معها كإطار نظري ناضج
لهذا سعت هذه المساهمة العلمية الصغيرة إلى توضيح هذه الأمور ، وفق تصور نسقي
كلبي منسجم .. !
4
من يدرك الآن أن فيلسوف ألمانيا القوي فريديريك نيتشه الداعي إلى تمجيد الإرادة
البشرية كعامل حتمي يقود العقل إلى إرساء حضارته العالية ، أنه سقط في حب أنثى
روسية تحمل توقيع : "لوسالومي" ؟ وأنه حين اكتشف ميلها إلى معاصره اللدود
الموسيقار فانجر هرول إلى غرفته محملا بكثير من الجنون وحمل سكينا وانخرط في بتر
أصابعه لجعل النفس أكثر صمودا في وجه العاصفة ؟ !
أكنت أيها الشاعر الإرادي في حاجة إلى كل هذه "الشجاعة" القاتلة لترتفع الإرادة مقابل
سقوط المحبة كمنطقة لإنجاب الجبن والاستسلام ؟ ولماذا لا تكون "المحبة" ذاتها وجها
آخر للقوة والسيادة ؟ !
لماذا كل هذا العذاب الثقيل الذي أنزلته على جسدك كالصفعة الكونية العظيمة يا فريديريك ؟
كان بإمكانك – لو فكرت قليلا – أن تهرول إلى ضفة نهر الراين العظيم وتستسلم ب( كل
إرادة ) لنباح عظيم !
النباح – أعزك الله – يقوي الصوت ويطيل العمر ، وهو على كل حال خير من قطع الأصابع
بلا رحمة !
ولتذهب "لوسالومي" إلى الجحيم !
مصطفى ملح
شاعر من المغرب
1
إن البشرية ، منذ القدم ، بكل رموزها وأساطيرها وحروبها ليست إلا (قطيعا) مثقفا .
فالثقافة قناع وليست ميزة تفيد السمو والعلو . فرغم إنجازات البشر من رفع الأهرامات
مرورا بالمكوك البخاري إلى عملية الاستنساخ الأخيرة ، فإنه لم يستطع أن يرقص ولو
مرة واحدة عاريا أمام الشمس ، مقابل ذلك نجد الحيوان ، بمختلف أصنافه ، أكثر جرأة
وجموحا وأكثر تلقائية وبساطة ، لهذا لا أشعر بأدنى خجل إذا أعلنت أنه أشجع من فرسان
روما القدامى ، وأجسر من الشعراء الصعاليك وأكثر تحررا من فرويد وسارتر .. !
لقد تأكد لي هذا الانطباع حين دفعتني الصدفة إلى القرية : حيث تتكشّف لي هذه (النظريّة )
الكلبيّة بوضوح شفّاف ، أرى كلبا يجرّ خلفه ذيله في تيه طاووس وعجرفة أمير وأنفة
محارب خرافيّ ، ثم ينخرط في نباح عظيم ، كأنما يقيم احتفالا شخصيا للتخلص من جميع
العقد الدفينة في اللاوعي . إنه نباح يرشح بطولة وعنفوانا ، ينساب كصوت قطار يمزق
حرير ليل شتوي ، يرتفع في دبدبات صوتية تعلن للعالمين كيف ينفتح باب التحرر على
مصراعيه ، فهذه الصدفة التي قادتني إلى القرية تشبه إلى حدّ كبير تلك التي قادت نيوتن
إلى اكتشاف قانون الجاذبية ، مع فرق بسيط ، هو أن نيوتن اعتمد على التفاحة ، بينما
اعتمدتُ أنا على نباح كلب !
تساءلت في ذات نفسي : لماذا لا ينبح الشعراء ؟ لماذا لا يحاولون ذلك ولو مجاراة
لحضارة الحيوان المتقدمة ؟ !
نحن في حاجة كبيرة لإعادة التفكير في كلام تشيكوف :
( توجد في هذا العالم كلاب صغيرة وكلاب ضخمة ، ولكن ليس من المفروض أن تتوقف
الكلاب الصغيرة عن أداء مهمتها بسبب وجود كلاب ضخمة ، على الجميع أن ينبحوا وأن
ينبحوا بالصوت الذي منحه الله لهم !)
2
كان الحي الصناعي فارغا كمقبرة ، صامتا كليل القرية النائم بين الأشجار . كنت وحيدا :
القصيدة هاربة ، الأوراق البيضاء مرمية على الطاولة كالجثث المتعفنة .
في هذا الفضاء تولدت لدي فكرة النباح ، في البداية كانت مثل وميض خافت يأتي من مكان
مجهول ، من منطقة في العقل غير مفهومة ، بعد ذلك توضح كل شيء ، وانخرطت في
نوبة نباح بأعلى صوتي . لقد كنت منبهرا بهذا الإنجاز السمفوني الاستثنائي ، هذه القدرة
على تطويع المقامات ذات النفس العالي ، هذا التطوير الطوتي النغمي للنظرية الكلبية التي
لولاي لما خرجت إلى الوجود محدثة انقلابا إبستمولوجيا في دنيا الأصوات العبقرية .. !
كنت مبهورا بهذا التحقق الفعلي الذي لم يعرفه تاريخ البشرية على الإطلاق . ومع توالي
الأيام ، أقمت بتعديلات على النوتة " النباحية ''. فانتقلت بصوتي الحيواني الصافي العميق
من البحة الشرقية الحزينة إلى فضاء نغمي أوركسترالي ، وبذلك أتحت للنباح أن يحلق
عاليا عبر طبقات صوتية متعددة منفتحة على الخلق الساحر اللانهائي .. !
3
إذن ، فالقصيدة نباح "مثقف" . غير أننا الشعراء العرب ، في عصر العولمة واندحار
الإيديولوجيا في حاجة ماسة إلى نباح غريزي عظيم من شأنه أن يحدث انقلابا في الغريزة
والعقل والعقل الباطن أيضا .
تُرى ، من الأكثر نباحا ، النثريون أم التفعيليون ؟
في نظري ، الجميع ينبح مثل جرو صغير غير ذي تجربة ، الكل ينبح في الغابة وفي
وفي المراتع والحقول ، بعيدا عن "السلطة" . لماذا لا ننبح في المدن والمقاهي
والجمعيات الثقافية ؟ لماذا لا نعوي كذئب البراري ؟ لعل هرمان هسه تنبّه إلى ضرورة
النباح ، غير أن أفكاره لم تكن تتسم بالوضوح الكافي للتعامل معها كإطار نظري ناضج
لهذا سعت هذه المساهمة العلمية الصغيرة إلى توضيح هذه الأمور ، وفق تصور نسقي
كلبي منسجم .. !
4
من يدرك الآن أن فيلسوف ألمانيا القوي فريديريك نيتشه الداعي إلى تمجيد الإرادة
البشرية كعامل حتمي يقود العقل إلى إرساء حضارته العالية ، أنه سقط في حب أنثى
روسية تحمل توقيع : "لوسالومي" ؟ وأنه حين اكتشف ميلها إلى معاصره اللدود
الموسيقار فانجر هرول إلى غرفته محملا بكثير من الجنون وحمل سكينا وانخرط في بتر
أصابعه لجعل النفس أكثر صمودا في وجه العاصفة ؟ !
أكنت أيها الشاعر الإرادي في حاجة إلى كل هذه "الشجاعة" القاتلة لترتفع الإرادة مقابل
سقوط المحبة كمنطقة لإنجاب الجبن والاستسلام ؟ ولماذا لا تكون "المحبة" ذاتها وجها
آخر للقوة والسيادة ؟ !
لماذا كل هذا العذاب الثقيل الذي أنزلته على جسدك كالصفعة الكونية العظيمة يا فريديريك ؟
كان بإمكانك – لو فكرت قليلا – أن تهرول إلى ضفة نهر الراين العظيم وتستسلم ب( كل
إرادة ) لنباح عظيم !
النباح – أعزك الله – يقوي الصوت ويطيل العمر ، وهو على كل حال خير من قطع الأصابع
بلا رحمة !
ولتذهب "لوسالومي" إلى الجحيم !
مصطفى ملح
شاعر من المغرب