المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مكتوب (فاتمــــــا)............



ضيف الجيلاني
20/04/2009, 10:12 AM
..................في غفلة من الزمن أشحت ببصري بعيدا أناجي هذه السحب الداكنة الكثيفة , ناقلا إليها شكواي من هذا الانقباض الذي لازمني صبيحة هذا اليوم...الغيوم اللعينة الثائرة تولّد في ذاتي احسا سا غامضا غير مميّز..كنت أترشّف قهوتي التي بدت هذه الصبيحة غير ذات طعم!!..
الزمان ..المكان..ديكور غرفتي البائسة الرتيب, مائدتي العجوز,أشيائي المبعثرة,,وعقائب سيجاراتي والمصباح المترنح المتراقص مع التيار البارد المتلصص عبر نافذة الغرفة الصغيرة..كل ذلك يصوغ سيناريو حلقة جديدة قاسية من حلقات حياتي الرتيبة!! هذه الحياة التي تمتد عشر سنين قضيتها ولا أزال في هذا السجن الاختياراي...بعيدًا عن الأهل والوطن..امتدّت يدي اليسرى تلامس ذقني البارد وكأنها تشعرني بأنه عليّ أن أحلق شعره القاسي قساوة هذه الحياة التي أحياها ..بحركة سريعة تناولت معطفي الرمادي , ارتديتــه ولففت لفاعي حول عنقي..امتدت يدي إلى جيبي تتفقّد بقايــا الفرنكين اللذين أعطانيهما الميسيو لويس مقابل عملي لديه في مدبغته الكريهة التي لم تمانع أن تودّعني برائحة جلودها التي لازمتني منذ أيام!!
...في طريقي عبرت شارع الأخوين جيلبرت, كانــت رؤى ومشاعر وأطياف مختلفة تصحبني..لم يفقني من اغترابي غير إحساس ببرودة مفاجئة في قدميّ النحيلتين..ما عاد جورباي المهترئين وحذائي البالي ذي النعل المتآكل قادرين على صدّ برودة أرضية شوارع مرسيليا ونتوءات حجارتها المرصوفة!؟
ـ بون جور مسيو آلـــي!!كو مون ـ تالي فو؟
ـ بون جور مسيو برنار!! التحيّة المميّزة لهذا الكهل ذي اللحية البيضاء الكثّة والرأس ذي الشعر الأشعث الذي يحمل قبّعة!! طالما حسبتها نصف قبّعة؟!ومكنسته ذات الأطراف المتآكلة وهي تداعب رصيف الشارع في استحياء....
أنامل قدماي تتقلصان وتستحثاني لأسرع الخطى..محل الحلاقة في آخر الحي . شتاء مرسيليا قارس هذه السنة, ولا أثر لغير الكهول والحمّالين في شوارعها هذا الصباح: الحشرجات وأصوات أبواب المحلات وطرقات أصوات حذوات خيل العربات تتمازج في إيقاع مضطرب مملّ وقاسٍ.. لاأزال أسير بجسم متهالك لم يُبقِ منه الالتهاب الرئوي الحاد الذي أفقدني عملي وما رصدته للأهل في الوطن ولفائف سجائر القولواز الرخيسة غير هيكل يعجز عن حمل معطف بال ٍ وطربوش رخيس كطرابيش جنود الألمان...
في الآونة الأخيرة فكّرت مليًا وتردّدت في العودة إلى أرض الوطن,لكنني كنت أصطدم بسؤال يشلّني ويجعلني أصبّ جام غضبي على واحدة او اثنتين من سجائري! لمن أعود؟ وبماذا أعود؟ لقد تلاشى حلمي وتبخّر في مارسيليا . هذه المدينة أخذت مني كل أشيائي الجميلة..لطالما كنت أصفها بالمومس اللعينة, لقد أغوتني لتسرق مني جسمًا فتيا وصحّة وروحا وثّابة.وحلمًا عريضا لأهلي وراء البحر.....
ما عُدت إلا هيكلاً عليلا ..دبّ فيه السقم وسكنته الأرواح الشريرة.يقيم في غرفة حقيرة في عليّة عمارة أشد حقارةً!!
أضحكني وأغضبني صراخ مارتا العجوز البلجيكية وهي تحذر أحفادها:( لاتصعدوا أعزائي إلى العليّة ففيها غرفة المخبول الذي قتل أولاده وشنق زوجته!!!
ـ أليست محقة في ما تقول؟ لقد قتلتهم فعلا وشننقتها بمغامرة مجنونة وحماقة .؟
ـ نعم حماقة ثمنها كان باهظا جدًا.
لم أدرك أنني وصلت محل الحلاق إلاّ حين تناهى إلى سمعي:
الشتاء على الأبواب !!!جوارب..قمصان..ملابس انجليزية دافئة بأسعار مناسبة.
أصوات تتداخل ولا تتناغم..وفجأة وجدتني أمام المحلّ !! لكنّه مغلق!!!
أسرعت يدفعني الفضول والقلق ممزوجين باضطرابي هذه الصبيحة أسأل السيد كلود عن جاره الحلاق (أحمد) ابن قريتي ليقول لي ساخرًا بنبرة تنم عن تنكيت حاقد وبعربية متلكئة:
ـ مون فيو!! لقد رحل أحمد إلى البلاد بعد أن تلقى مكتوبًا من فاتما!!!!
ـ أليست لك فاتما لتكتبَ إليك وترحلَ أنت أيضًا؟؟!!
ـ لا..لا.. انعقد لساني.
وعُـــــــــــــــــــــــــدت إلى الغرفة الحقيرة التي لم يصلني منها مكتوب ولن يصلني ما حييتُ !!!!!!
ضيف الجيلاني