المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قلب من اسفنج



ضيف الجيلاني
20/04/2009, 10:17 AM
...... نظرت إلى وليدها وهو ممدد على الطاولة كتلة هامدة مضرّجة بالدماء نظرة عميقة, وغريب أنها لم تذرف دمعة بل ظلت واجمة, وكأنّ المشهد قد بلغ من القدسية ما جعلها تقف أمامه واجمة.. لاحركة .. ولا شعور... غير السكون والصمت!!
طلب إليها الطبيب أن تساعده في تجريد الفتى الفاقد الوعي مما تبقّى من أسمال تجمع بقايا جسمه الممزق ...
فما استجابت لطلبه... أهاله موقفهــا... ولم يبق أمامه سوى أن عمد إلى طلب المساعدة من إحدى الممرضات.
ظلت تنظر وتنظر مشلولة الحركة,غائبة عن الوجود, وكان المأساة التي وقعت لصغيرها أخذت من عقلها ومشاعرها ما تدرك به هول الفاجعة....
اضطرمت في روحها نارٌ وقودُها الضميرُ الذي ما فتىء يعذّبها.. كلّما تذكرت تقصيرها وإهمالها لهذا الطفل الذي حكم عليه أن يضيع بين أب سكِّير عربيد وأم أباحت لها أنانيتها أن الاقتصاص من هذا الزوج لن يكون إلاّ في ولده!!
فجأة تتحرّر من هول الصدمة لتنفجر باكية بكاء حارًّا لم تعهد نفسها بكته!! ولم تشعر بنفسها إلاّ وهي تلقي بجسمها على كتف الممرضة التي اقتادتها وأسندتها إلى مقعد خشبي في الغرفة المجاورة.
لقد اسيقظت فيها مشاعر الأمومة الجارفة, التي كانت تحاول جاهدة إخفاءها لينعم بها هذا الصغير إمعانًا في معاقبة الزوج الغائب!!
راحت تلوم نفسها, وتؤنبها في غير تردّدٍ..
: كيف سمحت لقلبها أن يتجرّد من نبل مشاعر الأمومة؟! وكيف هو هذا القلب الذي يسمح بتغييب هكذا مشاعر؟!!
ـ ربّاه!! إني أتوسل إليك بملكوتك وعظمة خلقك أن تنجي هذا الطفل المسكين!
ـ يا إلاهي رحماك بامٍّ لم يعد لها في هذا الوجود غير هذا الابن!! رحماك!! رحماك!!
دموعها الحارّة تلسع خدّيها فتثير نارًا يكتوي بها قلبها الجريح. هذا القلب الذي لم يتسع لمشاعرها المختلفة الثائرة: تأنيب الضمير, والحزن واليأس, انتهاءً بالتضرع والتذلل لخالقها , علّه يمنحها الفرصة لتصحّح خطأهــا!! وأي خطإ هذا الذي لن تغتفره لنفسهــا.. كيف طاوعتها نفسها أن تغيّب أمومتها؟ وكيف لها أن تمحو من قلب وليدها ما زرعته في قلبه الصغير من مشاعر الظلم والقهر والإهمال؟؟
ـ يا إلاهي ماذا سيحدث إذا...........؟؟ سحبت الفكرة من ذهنها, لأن قشعريرة هزّت جسمها لمجرّد أنها فكرت في وفـ ـــ ــاة هذا الطفل. ولم تشأ أن تستغرق في تفكيرها ...
كانت تنظر إلى السماء من نافذة الغرفة.. وكأنها تبحث بين غيومها المتناثرة عن الخلاص مما هي فيه!!
ـ إنّها تجهد نفسها في استراق السمع .لتستشف ما يجري في الغرفة المقابلة, حيث الطبيب يسعى لإعادة وليدهــا الى الحياة..لكن ما كان يصلها من أصوات لم يكن ليعيد الطمأنينة إلى هذا القلب الجريح.. وكأنّه كتب عليها أن تبقى يائسة بائسة... فالحياة لم تكن رحيمة بها, وكأنها تجافيهـــا, إذ أنها ما فتحت عينيها في هذا الوجود حتى سلب الموت منها قلبين كانا يحنوان عليها... فظلت تتجرع البؤس وتتمرغ في وحل الشقاء..
وما كان زوجهـــا من هذا السكير غير بداية لمأساة كانت أفدح وأشد!!
وقع خطوات متتالية , وطقطقات حذاء الممرضة يعيدانها إلى آخر حلقات مآسيهـــا... انطلقت مذعورة.. علق الكرسي بثوبها وكأنه أراد أن يمنعهـــا!!
ـ ماذا ياطبيب؟
ـ أرجوك ماذا حدث لابني؟
انطلقت بسرعة مجنونة إلى الغرفة حيث ولدها.. فما أبصرت غير جسم ساكن قد أسدلت عليه قطعة قماش بيضـــاء..
حينها أدركت أن الحياة كانت سخية حين أعطتها قلبًا .. لكنه لم يكن غيرَ قلب ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍمن اسفنج...
ضيف الجيلاني