المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المعذرة أيها الطلبة !!



ضيف الجيلاني
20/04/2009, 10:36 AM
.......... الجموع حاشدة أمام مدخل الجامعة.....قامات منتصبة وأخرى ملقاة على هامشي الطريق تفترش صفحات بالية من الكرتون والجرائد.. وأعناق مشرئبّة.. قلوب تنبض, وداخل كل منها تتباين وتتصارع المشاعر.. خوف من ولوج الجامعة هذا العالم الفسيح. وأمل وتطلّعٌ في مستقبل ضبابي يعد في سمائه بالكثير من الإثارة.. إنّها السنة الجامعية الجديدة!!
سيارات تترنّح أضناها الصداع من طوافها بهذا الشارع الفسيح,تنبعث منها موسيقا صاخبة متبجّحة في القوّة والكلمات!! أتمثّلها فراشات تقترب و تنفر من هذا المحجّ!!
ذئاب بشرية شرهة!! تنظر بعطش هستيري إلى زرافات الفتيات الّلائي يتعمدن إثارة كلّ ناظر إليهن, بقهقهات عالية وحركات توقظ الغرائز الميتة!!
كانت هذه المشاهد لاتعني للَخْضَر الكثير فهي وإن كانت.... تقلّل من مؤشر اضطرابه وقلقه.. إنّه اليوم طالب جامعي!! وهاهو حلمه يتحقق, إنّه على مرمى حصى من المكان الذي وعد أبويه المعدمين بدخوله!!
لم يعد لعبد القادر ابن جارهم الموسر أن يتطاول عليه ويتبجّح, فهما اليوم سيّان..
حذاؤه الجديد الضيِّق يوقظ فيه شعورًا بالألم حينا بعد حين.وبذلته الرمادية الجديدة تستثير فيه الرغبة الملحة للنظر إلى لباس رفاقه. لا لشيء إلاّ ليقارنها بما يرتدون!!
ـ كم أنت رائع بهذه البذلة يا لخضر؟
الله يحفظك من العين!! بهذه الكلمات ودّعته أمه هذا الصباح , ورسمت بشفتيها الذابلتين على جبينه الأسمر قبلة عريضة. إنّهما الحدث الأهم في الصفحة الأولى من ذكريات الطالب الجامعي.
ـ لم يستطع البارحة أن يخلد إلى النوم لاضطرابه وتكدّس المشاعرالغامضة في خلده!!
سمع والده يفضي إلى أمّه رحمة قائلاً:
ـ كم أنا سعيد يا رحمة بابننا لخضر؟ ! إنني لا أريده أن يفكّر إلاّ في مستقبله!!
حلمي بأن أراه مهندسًا لا يبرح تفكيري.. كان حوار والديه الذي تعمّدا أن يكون خافتًا يولّد لديه إصرارًا قويًّا يحفّزه للنجاح....
تُفتَح بوابة الجـــامعة ويندفق هذا السيل البشري: الصخب والضحكات المتعالية وطقطقات أحذية الطالبات,تمتزج بأنات تصدرها البوابة تعبّر بها عن رغبة في أن تبقى موصدة!!
تطلّع عبر الأمواج البشرية التي وقفت وكأنها تذود عن حماها محاولاً أن يعرف مدرّجه .
بعد جهدٍ توصّل إلى مبتغاه, على غير عادته لم يكن سبّاقًا إلى الانتقاد فهاهو يلتمس الأعذار لزملائه.. إنه اليوم الأول في الجامعةوهو ليس كبقية الأيام..
ـ قسم الهندســة المدنية ــ المدرج رقم:05
لخضر! لخضر!
تناهى إلى سمعه النداء إنّه بنبرة ليست غريبة عنه, التفت يمينا ويسارًا , استطال ببصره , فإذا بها هي!!
إنّها سعاد الثرثارة زميلته السابقة في الثانوية. لشدّ ما سرّته رؤياها وبعثت في نفسه الثقة التي يحقُّ لها أن تغيب في يوم كهذا.
ـ كيف حالك يا لخضر؟ مبروك!!
ـ بخير والحمد لله!! الله يبارك فيك.
ــ كم تبدو أنيقًا بهذه البذلة!؟ لم يشأ أن يعير تعليقاتها أقل اهتمام. كانت تسأله وتسأله وهو يكتفي مجيبًا عنها بهزِّ رأسه حينًا والابتسام حينَا آخر.وكأنه يوفّر طاقته الكلاميّة للحوار والمناقشة داخل المدرّج, وهو الطالب المعروف بفصاحته وجرأته الأدبية.
توجه صحبة زميلته إلى المدرّج. كان يحملق في الوجوه داخل الرواق عله يحظى برؤية واحد من الوجوه القديمة,
سعاد لاتزال ترافقه إنّه لايأبه لها..
أن وقاره وهدوءه واتزانه كلها صفات تميّزه عن غيره من الطلبة:
ـ أنظر إلى قامتهــــا!!
ـ الله ما أجملهـــــــا!!
ـ ابتسم يا جميل!!
ـ رضاك يا حلوة!!
كانت هذه التغزلات والتحرّشات الكلامية بالطالبات تقصف سمعه!! غير أنه كان يتعمّد تجاهلها فهي لا تعنيه, وربّما سعادته في اللحظة التي يعيشها جعلته يتسامح ويغفر بل ويبحث عن مبرّرات لتجاوزات وأخطاء الآخرين. إنّه ليس كعادته اليوم فقد تغيّرت فيه أشياء كثيرة غير البذلة والحذاء... ولعلّ الجامعة ستستنسخه بشكل يختلف تمامًا عن شخصيته الحالية.
المدرج رقم:05
يدخل وزميلته يحثان خطاهما فجأة وكأنهما يخشيان ألاّ يجدا مقعدين شاغرين!! يجلسان في الصفِّ الأول يبدأ المدرج في احتضان طلبة الهندسة المدنية , في أعلى المدرج تتعالى قهقهات الشباب العابث على إيقاع نغمات الهواتف المحمولة, يغيب بعيدًا لينظر إلى ساعته الجديدة فيرتسم في مخيّلته المشهد مشهد أخته البكر:
ـ تقبّل يا خيضور ـ كما كان يحلو لها أن تناديه ـ هذه الهدية إنّها ساعة جميلة انتقيتها لك حسب ذوقي ما رأيك؟
ــ رائعة!! أشكرك. الله يحفظك.
تناهى إلى فكره صورة أخته وهي تخوض معركة قويّة ضد زوجها أحمد لتنتزع منه ثمن الساعة, وهو الرجل البخيل,لعلّها عانت المسكينة كثيرًا لتأخذ منه ثمن الساعة!! إنّه يدرك خبث طبع زوج اخته وما تعانيه المسكينة معه.
.......
صوت قويٌّ ينبعث من مصطبة المدرّج إنه يشل حركة تفكيره ويوقف استرجاعه لذكرياته.
المعذرة أيها الطلبة!! الشروع في الدروس سيكون الأسبوع القادم!!
الصياح والاحتجاج والتذمّر يملأ القاعة. يخرج الطلبة كجندي مهزوم وينصرفون, لخضر يتسلل كعادته ولكن بمشاعر محبطة وأسى يعتصر قلبه ......
ضيف الجيلاني