المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : .............ماتت...........



ضيف الجيلاني
20/04/2009, 10:43 AM
ـ أعظمْ بالحياة من عدوٍّ وحبيب في هذا الوجود!!
ـ ما أفدح أن تستلب الحياة منا أناسًا نشرع لهم قلوبنا, ليرحلوا وتبقى تلك القلوب شاغرة تتجرع مرارة الألم!!
وما أقساها تلك اللحظات التي تصفعك بخبر رحيل عزيز!! إنّها الصدمة القاتلة التي تغيّب في ذاتك كل شعورجميل.....
استيقظت ذات الصباح وفي نفسي رغبة في أن لا أعمل هذا اليوم!! الرؤى والأفكار والإحساسات القبليّة تشجع فيّ أن أخلد هذا اليوم للنوم, على الأقلّ صباحًا..
ـ الفترة فترة امتحانات ولا غرو أن هناك من سيرثي لحالي.. ويخلفني في عملية الحراسة!!
ظللت أبحث واستجمع المبرّرات التي تمنحني ترخيصًا للمكوث في هذا الصباح .
ـ مروة!! لقد وعدتنا المعلمة اليوم بأنها ستعلن عن نقاط التعبير. لقد كتبت موضوعًا رائعًا عن القدس واليهود!! ما أن طرقت كلمات ابنتي أحلام هذه سمعي وهي تحادث شقيقتها الصغرى. حتى تناهي إليّ نداءٌ من أعماق روحي:
ـ هبّ يا رجل إلى عملك !! إن تلاميذك في انتظارك..
ـ لا أخفيك سرًّا. أحاسيس غريبة تثقل تفكيري وتوصد الباب في وجه رغبتي في العمل. استجمعت قواي.. كنت أترشف القهوة على غير عادتي... كنت أشربها بتلذذ عجيب تنتابني أشياء لاأعرف إن كانت مشاعر او أفكارًا لم أعهدهاتحفزني إلى النظر من زجاجة المطبخ المشروخ إلى السحب التي بدت لي تتخاصم وتتجادل فهي تقترب وتتجمع ثم لاتفتأ تتباعد وتتمزّق... شجرة المشمش العجوز وأوراقها المصفّرة ينقضان حلفهما,فهاهي الأوراق تتخلى عنها إلى الفنــــاء . والجذع الهرم لايملك غير أن يتعرّى في هذا اليوم...
ربّاه ما أشبه حياتي بهذه الموقف.. ما انا إلا شجرة المشمش وما هذه الأوراق سوى ابنائي يومًا بعد يومًا تعطيهم الحياة ما يستغنون به عني... خوفي واضطرابي يقطعان حبل هذه الأفكار ويعيداني إلى الزمان والمكان.
ـ الجيلاني متى ستغيّر زجاج نافذتنا المشروخ.. إنّ الشتاء ينوي الهجوم!!
وكأن عبارات زوجتي ما طرقت سمعي إلاّ لتؤجج هذا الاضطراب في نفسي..
ـ قوات الاحتلال الصهيوني بجرافاتهاوو........ كانت الكلمات تصلني متقطّعة من تلفاز في غرفة أيمن.. لم أشأ أن أنهض وأسرع لسماع الخبر.. فما أنا فيه يكفيني.......
وصلت إلى مكان عملي.. الحركة عادية ..الطلبة تموقعوا في أقسامهم.. تم توزيع الوثائق على التلاميذ..
ـ نص الامتحان جميل!! بارك الله فيك يا أستاذ..
بادرني أحدهم ليجاملني في هذا الصباح!! غير أن مجاملته ستظل على الرفِّ إذ لا مكان لها. لم أكن في مستوى لباقته, لم أرض غروره. صعدت إلى روا ق الأوائل والثواني.. تطلعت من نوافذ بعضها .. الله !! إنها مشروخة!! حتى زجاج نوافذ المباني الحكومية مشروخ .. شعرت بسعادة غبيّة وكأنه أي الزجاج المشروخ يبرّر بعضًا مما تعيشه نفسي هذا الصباح.. الوجوه على غير ما عتدتها عليه: أو هكذا بدت لي.. الحراسة وأجواء الامتحانات تقلق النفوس و تجعل الجميع يقفون على أطراف أعصابهم!!
ـ باب الرقابة العامة موصد!! المخبري النشيط كعادته يبتهل في خلوته مع مصحفه. إنّه يطأطىء رأسه وهو يقاطع الدنيا...:
ـ صباح الخير أستاذنا.
ـ صباح الخير!!
من حين لآخر أتطلع إلى السحب علّها تصالحت.. لقد تركتها تتخاصم وتتجادل تجتمع وتتمزّق!! ما هذه السذاجة التي تعتصر فكري اليوم.. لعلّي صرت كشجرة المشمش العجوز؟!؟!
هذا اليوم ثقيل جدًّا أنظر إلى السماء كيف تتجهّم؟ يا الله.. كانت كلمات بلال تزيد قلبي انقباضًا. تمثلت بيت إيليا أبي ماضي.. ولكن شيئاً يعقد لساني لأرد عليه:......... ابتسم يكفي التجهم في السمـــا
ـ المدير يريدك؟!
لم أتفاجأ لما سمعت, لعلّ أشجار المشمش العجوز حين تلتقي وتتقارب,, يسهل عليها أن ترى المحنة تحلّ بها. تواسي بعضهــا !!انطلقت بخطًى رتيبة مملّة...حين انتصف الطريق ..بدا لي وجه ارتسمت ملامحه في غموض ..إنّه أبي!! نعم أبي بلحيته البيضاء ذات الشعر الخفيف يحاور الحاجب وهو يحرك عصاه..وقفت مشلولا لا ألوي على شيء.. اليوم غريب!! والمفاجآت تتوالى تباعًا... مكتب المدير أقرب إلى نقطة تمركزي..ربّاه إن وقفته امام الادارة وتطلّّعاته فيّ ليست عاديّة .. يتسارع النبض وتتراجع قدرتي على الحراك.. أبي ليس من عادته أن يزو رني في مكان عملي!! تتابعت الظنون, خناجرَ تمزّق هدوئي وسكوني!!
وكان المدير سبر بنظره ما يثور في قلبي من اضطراب,فقد أسرع إليّ.
ــ صباح الخير يا سي الجيلاني.
بحركة غير مألوفه ولا معهودة منه, أخذ من يد ي اليسرى مجموعة من وثائق الامتحان .. فما استغربت وما عدت أعجب لما يحدث هذا اليوم:
ــــ الحاج المختار يريدك وهو مستعجل.
التفت غير واعٍ وماهي إلاّ خطوتان حتى سمعت المدير يقول:
ـــ خذ ما يكفيك من الوقت.. أسبوع ..أسبوعان . لاتحمل همَّا..
كانت كلماته رصاصات تتوالى تباعًا على جسمي الذي تحالف اليوم فكري وقلبي على تمزيقه.
أسبوع ..أسبوعان... . لاتحمل همَّا..ـ ما الأمر الذي يحتاج هذه المدة؟ ولماذا هذا السخاء الحاتمي في تقديم الوقت هديّة لي؟
خفق قلبي خفقة والله ما شعرت بها في سابق حياتي: والداي؟...لا ..الأم تركتها البارحة لاتشكو ألمًا وأبي كما أراه.. زوجتي ؟لا..ربما لقد اشتكت البارحة من معدتهــا..لا ..ربّما الأولاد؟ ..ربّما فالمتهورون من سائقي السيارات تتضاعف أعدادهم... أحلام... أيمن.. لقد سمعت أمهم توصيهم بأن يسيروا على الرصيف وأن يبتعدوا عن الطريق.. الحاج لم يأت إلى مكان عملي أبدًا!! وليس من عادته أن يتبع أبناءه إلى أماكن عملهم.
بخطوات متعثرة وصلت غرفة الحاجب.
ــالسلام عليكم. كيف أصبحت يا الحاج؟
الحاج اليوم متغيّر, بسماته المعهودة التي تعوّد أن يصرفها لمن يلقاهم غائبة!!
ـ هيا بنا.. حليمة زوجة أخيك عامر مـ ــا تــ ـ ـ ــــت!! كانت كلماته المتقطعة بحشرجة صوته وعيناه المغرورقتان بالدموع..قد قضتا على ما تبقى لديّ من ثبات..غبت ولا أدري أين غبت؟!
الخبر وقع كالصاعقة التي أنهت القلق الذي صاحبني اليوم.. وقفت صامتًا ! لم أحرك ساكنًا...........................................
ـ هيا ..هل ستخرج بمئزرك؟! زحفت بركبتين مثاقلاً نحو القاعة..قاعة الأساتذة ..رميت المئزر وارتديت معطفي...نظرات الزملاء المتطفلة لم تكن لتقلقني.. فأنا غير موجود!! نعم غير موجود!!
ركبنا السيّارة... لم أعد أذكرها ولا سائقها...
لقد تجلّى لي سرّ ذلك الإحساس الغريب بتميّز هذا اليوم الحزين..لقد وجدت المبرر لإحساسي المفعم بالإنقباض وكأن نفسي أبرق إليها خفاءً من توعّدها بخطف شخصٍ غال عليهــا!!
وكأنني ما صدّقت الخبر ساعة, صفعني به والدي..
ــ نعم ماتت حليمة ذلك اليوم.. ماتت الطيبة .. وغاب عن حياتنا ذلك الوجه الطلق المرح!! ماتت ذات القلب الذي ما نبض إلاّ بالخير والحبّ والنبـــل!! اختطفها الموت في ريعان شبابها ..ليترك في قلوبنا فراغات قاتلة وشروخًا لن يرأبهـــا تتالي الأيام.. رحمها الله وألهم قلوبنا الجريحة وافر الصبر والسلوان.................
ضيف الجيلاني
ذاتَ خريف..