المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بصائر ذوي التمييز بلطائف الكتاب العزيز



محمد حسن يوسف
08/01/2007, 05:27 AM
بصائر ذوي التمييز
بلطائف الكتاب العزيز (1)


إن المتأمل في آيات القرآن ليدرك بما لا يدع مجالا للشك أنه مُنَزّل من لدن حكيم خبير. ذلك أن من يتصدى لتأليف كتاب أو الكتابة في موضوع ما – مهما بلغت درجة مهارته وحذقه – لابد وأن يعتريه قدر معين من القصور، يدركه القارئ بسهولة. ولذلك تجد الكاتب إذا ما انتهى من تأليفه، يعيد النظر فيما كتبه، فيضيف ويحذف، ويبدّل ويغير. وكذلك القارئ، إذا ما أمعن النظر فيما يقرأه، وأعاد القراءة ودقق، يجد من مثالب التأليف الكثير والكثير.
أما القارئ لكتاب الله العظيم فلا يلحظ إلا تألقا وسحر بيان. وكلما أطال المرء في مطالعته لهذا الكتاب، كلما وقف على معانٍ أخرى. ومن يفتح الله بصيرته للفهم والتدبر، يستخرج عجبا. " ومن مظاهر الإعجاز في هذا القرآن أنك لا تجد حرفا فيه إلا وهو في محله، وفي مكانه، ووجوده فيه في غاية الحكمة، ويعطي في المكان الذي هو فيه من المعاني العجيب ... ومن ثم فإن المعاني التي تتولد عن دراسة كتاب الله لا حدّ لها ".
وقد أتى المفسرون بزخم ضخم من المعاني الجليلة التي لو تدبرها الإنسان حين قراءته للقرآن لازداد فهمه لهذا الكتاب ويقينه به. وسوف أبدا فيما يلي باستعراض بعض هذه المعاني الجليلة، على أن أوالي الكتابة فيها على حلقات إن يسر الله وأعان، استعرض فيها صورا من الإعجاز اللغوي والبلاغي في القرآن، حتى إذا ما قرأ المرء هذه الآيات وقف على مراد الله منها واستطاع تدبرها وتعقلها.

الأدب مع الله سبحانه وتعالى:
وذلك بعدم نسبة الشر إليه سبحانه، أما أمور الخير فتنسب إليه تعالى، وذلك في ثنايا آيات القرآن جميعها. ونستعرض ذلك معا فيما يلي:
أ- في سورة الفاتحة، قال تعالى آمرا للمصلي أن يقول: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [ الفاتحة: 7 ]. فأسند الله تعالى الإنعام والهداية إليه، أما الغضب على الناس وإضلالهم فقد جاءت مجهولة، حيث حُذف فاعله أدبا.
ب- جاء حب الشهوات مبنيا للمجهول، في قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ... ﴾ [ آل عمران: 14 ]. أما حب الإيمان وتزيينه في القلوب فقد جاء صراحة أنه من عند الله، كما في قوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ اْلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات: 7 ].
ج- عند تعليل الخضر عليه السلام لأفعاله الثلاثة، نسب العيب إلى نفسه في الأولى، فقال تعالى على لسانه: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [ الكهف: 79 ]. أما حينما تحدث عن الخير في الثانية والثالثة، فقد نسبه إلى الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [ الكهف: 80-82 ].
ففي الثالثة أسند الإرادة إلى الله وحده، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله، ولأنه إنعام محض، فكان كمال الأدب أن يسند الفعل إلى الله. وفي المرة الثانية، قال: ﴿ فَأَرَدْنَا ﴾ لأنه إفساد من حيث الفعل، إنعام من حيث التبديل، فلم ينسبه إلى نفسه منفردة صراحة، ولم ينسبه إلى الله صراحة. وفي المرة الأولى، قال: ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ نسبة إلى نفسه فقط. لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، فكانت دقته في التعبير نموذجا على كمال أدبه، فهو تعليم لنا، وأدب من أدب الأولياء مع الله.
د- حينما أراد إبراهيم عليه السلام أن يذكر المرض، نسبه إلى المجهول، بينما نسب جميع أنواع النعم الأخرى إلى الله. فقال تعالى: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ اْلأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إَِّلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [ الشعراء: 75-82 ].
قال ابن كثير: وقوله: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قَدَر الله وقضائه وخلقه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا.
هـ- جاء أن الله هو الذي أورث الكتاب لعباده المصطفين، كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ فاطر: 32 ]. قال ابن كثير: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة. بينما جاء أن الشك في الكتاب قد أتى من الذين أورثوه، وذلك في موضعين: الأول: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [ الشورى: 14 ]، قال القرطبي: ﴿ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ ﴾: وهم: اليهود والنصارى، ﴿ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ﴾: من محمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى ﴾ [ الأعراف: 169 ]. قال ابن كثير: أي: ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة.
و- جاء أن جميع الشرور تأتي بما تكسب أيدي الناس: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [ الشورى: 30 ]. وأوضح منه ما جاء في قوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [ النساء: 79 ].
ز- نسب الجن الشر إلى المجهول، بينما نسبوا الخير إلى الله. قال تعالى: ﴿ وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اْلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [ الجن: 10 ]. قال ابن كثير: وهذا من أدبهم في العبارة، حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح: " والشر ليس إليك ".

وحيد فرج
08/01/2007, 07:22 AM
جزاكم الله خيرا على هذه اللمحات القرآنية البليغة.

عبلة محمد زقزوق
08/01/2007, 08:39 AM
جزاك الله خيرا أخينا الفاضل / محمد حسن يوسف
متتبعة
تقديري

محمد حسن يوسف
08/01/2007, 04:29 PM
الأخ الكريم / وحيد فرج
جزانا وإياكم
مع خالص التحية والتقدير

محمد حسن يوسف
08/01/2007, 04:30 PM
الأخت الكريمة / عبلة
جزانا وإياكم
وسوف أوالي بإذن الله بقية الحلقات تباعا
مع خالص التحية والتقدير

محمد حسن يوسف
09/01/2007, 09:54 AM
بصائر ذوي التمييز
بلطائف الكتاب العزيز (2)

مشاهد من صور يوم القيامة: البعث والنشور

أكثر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من ضرب المثل للبعث والنشور، بإحياء الأرض بالنبات عقب نزول الغيث. فقال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف: 57 ] . وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [ فاطر: 9 ] . وقال عز من قال: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الروم: 48-50 ] . وقال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اْلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ فصلت: 39 ] .
لاحظ أن الأمثلة السابقة تدل على المماثلة والمشابهة بين إعادة الأجسام بإنباتها من التراب بعد إنزال الماء قبيل النفخ في الصور، وبين إنبات النبات بعد نزول الماء من السماء. ونحن نعلم أن النبات يتكون من بذور صغيرة، تكون ساكنة في الأرض. فإذا نزل عليها الماء تحركت الحياة فيها، وضربت بجذورها في الأرض، وبسقت بسيقانها إلى السماء، فإذا هي نبتة مكتملة خضراء.
فما هو وجه الشبه بين هذا والنشور؟!!
إن الإنسان حينما يموت يُدفن في الأرض. ثم يتحلل الجسد ويبلى كل شيء منه بمرور السنين، ولا يتبقى منه سوى عظمة صغيرة دقيقة تسمى " عجب الذنب ": وهو عظم الصلب المستدير الذي في أصل العجز وأصل الذنب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، منه خُلق، وفيه يُركّب ". رواه أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا، فيه يُركب يوم القيامة. قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب ". رواه مسلم.
هذه العظمة الصغيرة تشبه بذرة النبات. وفي يوم القيامة وبعد نفخة الصعق، يُنزل الله سبحانه وتعالى مطرا بصفة عينة ( يشبه مني الرجال ) على هذه العظام، فتتركب منه جميع الخلائق استعدادا للنشور بأمر ربهم سبحانه وتعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون [ ولم يحدد ] ثم ينزل من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل. وليس في الإنسان شيء إلا بلي، إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب، منه يركب الخلق يوم القيامة ". متفق عليه.
فانظر رحمك الله إلى إعجاز القرآن وتكامله مع السنة، وسبحان الله العظيم!!

عبلة محمد زقزوق
09/01/2007, 10:36 AM
سبحان الله العظيم
سبحان الله العظيم
اللهم أمتنا على الطاهرة ودين الإسلام ، وأحيينا يوم البعث والنشوز على خير وإكتمال بكمال الإيمان .
جزاك الله خيرا أخينا الفاضل / محمد حسن يوسف
ما زلت متتبعة عظيم العطاء
عظم الله أجرك وأثابك .

محمد حسن يوسف
11/01/2007, 10:34 AM
الأخت الكريمة / عبلة
والله أخجل من نشاطكِ وهمتك العالية في المتابعة والقراءة. وأتمنى أن أصل لنصف هذا المستوى. ثبتكِ الله وأيدكِ بنصره.
مع خالص التحية والتقدير

محمد حسن يوسف
11/01/2007, 10:35 AM
المواثيق في القرآن:
ذكر الله في كتابه العزيز عدة مواثيق قد أخذها على عباده لكي يقيم عليهم الحجة والبينة يوم القيامة. وهذه المواثيق هي:
1- ميثاق الذر:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [ الأعراف: 172 ] . يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو.
2- ميثاق الفطرة:
حيث بيّن سبحانه أنه خلق الناس على الفطرة وجبلهم عليها، فقال سبحانه: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [ الروم: 30 ] . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة "، وفي رواية: " على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ". [ متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 1702 ]. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء، كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ". [ صحيح مسلم، 2865/63 ].
3- الميثاق على النبيين بتبليغ رسالاتهم:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [ الأحزاب: 7 ] . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله تعالى وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق ... فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم ... ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولوا العزم وهو من باب عطف الخاص على العام ... فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها ... وبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم ... وقد قيل إن المراد بهذا الميثاق الذي أُخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه السلام.
4- الميثاق على النبيين بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ آل عمران: 81 ] . فهذا العهد والميثاق أُخذ عليهم بعد إرسالهم. قال القرطبي: الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم ... واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين ... فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه, وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم. واللام من قوله: ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾ جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق, إذ هو بمنزلة الاستحلاف.

محمد حسن يوسف
11/01/2007, 10:37 AM
التحدي في القرآن:
تحدى الله سبحانه وتعالى البشرية بأن يأتوا بمثل القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وتدرج معهم في التحدي إلى عدة مراحل. قال ابن كثير في تفسيره لآية يونس (38): قد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ( أي العرب )، ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب. ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به. ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشهرهم له انقيادا. كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى عليه السلام بُعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله. ولهذا جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ". [ متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 93 ].
وقد جاء التحدي من الله سبحانه للبشر في هذا القرآن على ثلاث مراحل:
المقام الأول: القرآن كله: قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ اْلإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [ الإسراء: 88 ] .
المقام الثاني: عشر سور من القرآن: قال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ هود: 13 ] .
المقام الثالث: سورة واحدة من القرآن: قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ البقرة: 23 ] . وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس: 38 ] .
وتحداهم بغير هذا كذلك، فقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ القصص: 48-49 ] .
وما زال هذا التحدي قائما إلى الآن، منذ ألف وأربعمائة سنة منذ أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع أحد أن يأتي بما تحداهم الله به، فهل تذعن العقول وتخبت النفوس، أم ما زال على قلوب أقفالها؟!!

بنت الشهباء
11/01/2007, 10:51 AM
الداعية المتأدب
أستاذنا محمد حسن يوسف
نقلتنا عبر صفحاتك الكريمة الطاهرة
إلى أعظم شيء في الوجود وأجلّه !!!..
إلى كتاب الله العلي القدير ومعجزاته البيانية , ولطائفه البديعة
ونسأل الله أن يجعل كل كلمة في موازين حسناتكَ ,
وأن لا يحرمنا من مواضيعكَ المميّزة الراقية
ودمت ذخرًا لنا ولأمتكَ

محمد حسن يوسف
25/01/2007, 11:15 AM
الداعية المتأدب
أستاذنا محمد حسن يوسف
نقلتنا عبر صفحاتك الكريمة الطاهرة
إلى أعظم شيء في الوجود وأجلّه !!!..
إلى كتاب الله العلي القدير ومعجزاته البيانية , ولطائفه البديعة
ونسأل الله أن يجعل كل كلمة في موازين حسناتكَ ,
وأن لا يحرمنا من مواضيعكَ المميّزة الراقية
ودمت ذخرًا لنا ولأمتكَ

الأخت الكريمة / بنت الشهباء
جزاكِ الله خيرا

محمد حسن يوسف
25/01/2007, 11:24 AM
من روائع التفسير:

1- قال تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفاتحة: 6-7 ] . فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟ فسرها تعالى بقوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [ النساء: 69 ] .

2- من البراهين التي استدل الله عز وجل بها على البعث في كتابه الكريم، هو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا. لأن من أحيا نفسا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إَِّلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان: 28 ] . وذكر الله ذلك في سورة البقرة في خمسة مواضع:
- ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ البقرة: 56 ] .
- ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة: 73 ] .
- ﴿ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ [ البقرة: 243 ] .
- ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ البقرة: 259 ] .
- ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ البقرة: 260 ] .

3- قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ ﴾ [ البقرة: 255 ] . الكرسي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: " إنه موضع قدمي الله عز وجل ". وليس هذا هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض. وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة ". هذا يدل على عظم هذه المخلوقات، وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق.

4- جاء في سورة الأحزاب قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ اْلأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إَِّلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [ الأحزاب: 22 ] . ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب، يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، في غزوة الخندق، قالوا: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ ، ولم يبين هنا الآية التي وعدهم إياه فيها. فما هو الذي وعدهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ بيّن ذلك في سورة البقرة، في قوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [ البقرة: 214 ] . وممن قال إن آية البقرة المذكورة مبينّة لآية الأحزاب هذه: ابن عباس، وقتادة، وغير واحد، وهو ظاهر.

5- اعترض الكفار على الآية: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء: 98 ] . واحتجوا بها على دخول عيسى وعزير عليهما السلام النار. نقل القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ ، قال ابن عباس: آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها, أو جهلوها فلا يسألون عنها; فقيل: وما هي؟ قال: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ ، لما أنزلت شق على كفار قريش, وقالوا: شتم آلهتنا, وأتوا ابن الزبعري وأخبروه, فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى واليهود تعبد عزيراً أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته, ورأوا أن محمدا قد خصم; فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء: 101 ] .

6- قال تعالى: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [ الحجر: 2 ] . نقل ابن كثير: عن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار. قال: فيقول لهم المشركون ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا؟ قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم، فذلك حين يقول: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ . وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن حماد عن إبراهيم وعن خصيف عن مجاهد قالا: يقول أهل النار للموحدين ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك، قال الله: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. قال: فعند ذلك قوله: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ . وهكذا روي عن الضحاك وقتادة وأبي العالية وغيرهم.

7- قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ الأعراف: 54 ] . تدل هذه الأيام على أن الله سبحانه خلق السماوات والأرض في ستة أيام. ومدة هذه الأيام كأيامنا التي نعرف، لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها منكّرة، فتحمل على ما كان معروفا. وأول هذه الأيام يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. منها أربعة أيام للأرض، ويومان للسماء، كما فصّل ذلك في سورة فصلت: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اْلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [ فصلت: 9-10 ] ، فصارت أربعة. ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِْلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت: 11-12 ] . وفي سورة السجدة: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ السجدة: 4 ] . زاد هنا كلمة ﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ ، وتعني بين السماء والأرض. والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسموات والأرض. وهذه المخلوقات العظيمة منها ما هو معلوم لنا، كالشمس والقمر والنجوم والسحاب، ومنها ما هو مجهول إلى الآن.

8- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ﴾ [ يونس: 15 ] . فماذا كان الرد؟ كان الرد بأن أجاب عن شيء من كلامهم وترك شيئا. فقال تعالى: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾ [ يونس: 15 ] . ولم يقل: " ولا آتِ بقرآن غيره ". لماذا؟ لأنه قد يأتي بتبديل من عنده. وإذا كان لا يمكنه تبديله، فالإتيان بغيره أولى بالامتناع.

9- قال تعالى: ﴿ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ﴾ [ فصلت: 37 ] . فجمع بالهاء والنون، لأن المراد من الكلام: واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر. وإن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذكر إلى الأنثى أن يخرجوا كنايتهما بلفظ كناية المذكر فيقولوا: أخواك وأختاك كلموني، ولا يقولوا: كلمني. وإنما أنث هاهنا على جمع التكثير، ولم يجر على طرق التغليب للذكر والمؤنث، لأنه فيما لا يعقل، والمقصود تعليق الفعل بهما إشعاراً بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار، لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث.

10- قال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إَِّلا هُوَ ﴾ [ الأنعام: 59 ] . هذه المفاتح فسرها أعلم الخلق بكلام الله محمد صلى الله عليه وسلم حين قرأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي اْلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ لقمان: 34 ] . فهي خمسة أمور:
- فعلم الساعة، مفتاح لحياة الآخرة.
- ونزول المطر، مفتاح لحياة الأرض بالنبات، وبحياة النبات يكون الخير في المرعى وجميع ما يتعلق بمصالح العباد.
- وعلم ما في الأرحام، مفتاح للحياة الدنيا.
- وعلم ما في الغد، مفتاح الكسب في المستقبل أو مفتاح للعمل في المستقبل.
- وعلم مكان الموت، مفتاح لحياة الآخرة.

11- قال تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إَِّلا بِاللَّهِ ﴾ [ الكهف: 39 ] . قوله ﴿ جَنَّتَكَ ﴾ هذه مفرد، والمعلوم من الآيات أن له جنتين – فما هو الجواب؟ الجواب أن يقال: إن المفرد إذا أضيف يعم، فيشمل الجنتين، أو إن هذا القائل أراد أن يقلل من قيمة الجنتين، لأن المقام مقام وعظ وعدم إعجاب بما رزقه الله. كأنه يقول: هاتان الجنتان جنة واحدة، تقليلا لشأنهما. والوجه الأول اقرب لقواعد اللغة العربية.

12- قال تعالى: ﴿ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء: 16 ]. قال القرطبي في تفسيره: رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا: " إنا ذوو رسالة رب العالمين " ... ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع، فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي, وهذان رسولي ووكيلي, وهؤلاء رسولي ووكيلي. ومنه قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ﴾ [ الشعراء: 77 ]. وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين. وقال الكرماني في الفرق بين هذه الآية وآية طه: ﴿ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ ﴾ [ طه: 47 ]: ويجوز أن يقال: إن الرسول: حيث وُحِدّ حُمل على الرسالة، لأنهما أرسلا لشيء واحد، وحيث ثُنيّ حُمل على الشخصين.

13- قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾ [ النبأ: 40 ]. قال القرطبي في تفسيره: الكافر ها هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب, وافتخر بأنه خُلق من نار, فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة والرحمة, ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب, تمنى أنه يكون بمكان آدم, فيقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾ ... وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مُدت الأرض مد الأديم, وحُشر الدواب والبهائم والوحوش, ثم يوضع القصاص بين البهائم, حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها, فإذا فُرغ من القصاص بينها، قيل لها: كوني ترابا, فعند ذلك يقول الكافر: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾.

14- جاء حديث القرآن عن عذاب الكفار في النار أنه يتم بعد تقييدهم في القيود والأصفاد. والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذْ الْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ [ غافر: 69-74 ]، وقوله تعالى: ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اْلأَصْفَادِ ﴾ [ إبراهيم: 49 ]. فما حكمة ذلك؟ والجواب: أنه لما تحدى الكفار إرادة الله سبحانه وتعالى في عدم الالتزام بتكاليفه الشرعية والتقيد بها اختيارا في الدنيا، كان تقييدهم في النار حتى يعرفوا خطأهم في ذلك. ومن المعلوم أنه لن يستطيع أحد منهم أن يفر من النار، ولكن هذا القيد يأتي للتقريع والتوبيخ.