المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نجيب فاضل الصيدلي 1925-1978 الاديب الموصلي المنسي !!



ابراهيم خليل العلاف
26/04/2009, 08:19 PM
نجيب فاضل الصيدلي(1925 -1978 ):الاديب الموصلي المنسي !!

أ.د.إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية –جامعة الموصل
عندما كنت أُقلب صفحات مجلة ( المجلة ) الموصلية ، التي صدر عددها الأول في 6 شعبان 1357 هـ الموافق لليوم الأول من تشرين الأول سنة 1938 م ، لفت نظري أن ثمة أديب موصلي كان يحث الخطى لأن يحتل مكانه في الساحة الثقافية العراقية ، ذلك هو المرحوم الأستاذ نجيب فاضل الصيدلي ( 1925 ـ 1978 ) ، وقد وجت بأنه لم يأخذ نصيبه من الاهتمام ، ولعل من أسباب ذلك أن أخوين له هما أكرم فاضل وعبد الحق فاضل قد شغلا الناس والنقاد منهم خاصة ، وإنهما قد فرضا نفسيهما على حركة الأدب والفكر المعاصرة في العراق طيلة السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية . فعبد الحق فاضل المحامي هو رئيـس تحرير مجلة المجلة ، عمل في وزارة الخارجية موظفاً ، ثم سفيراً واستقر الأمر به خبيراً قانونياً في جامعة الدول العربية ، وله حضور فكري فاعل ، وانتاج أدبي ولغوي ثر . وأكرم فاضل بدأ معلماً ثم نال الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون وشغل كذلك منصب مدير عام في وزارة الاعلام العراقية ( الارشاد ) في أواخر الخمسينات من القرن الماضي ، وله كذلك انتاج أدبي كبير . والسبب الثاني الذي جعل المرحوم نجيب فاضل منسياً هو أنه لم يتواصل مع حركة الأدب والقصة والفكر شأن أخويه ، بل توقف وانشغل بالوظيفة كاتباً في محاكم البصرة وبعدها في محاكم الموصل فمديراً لأموال القاصرين فيها .
ولد نجيب فاضل سنة 1925 ، وقد كتب ولده الدكتور نبيل يقول : أن والده وهو في السادسة عشرة من عمره ، وبالتحديد في 2 تشرين الثاني 1941 كتب في دفتر انشائه مقالة عن الراديو جاء فيها : " … كان الموصلي يظن أن حدود العالم تنتهي عند تل قوينجق وحمام العليل ولكن آلة الراديو ، جعلته يدرك أن هناك عالماً فسيحاً آخر لا نهاية له ، وأن هناك دولاً ومدناً وحياة واناس مثله " . ويقيناً أن نجيب فاضل سجّل في تلك اللحظة شعور الإنسان الموصلي البسيط ، الذي بدأ يدرك بعد معرفته للمذياع ، أن العالم ليس محدداً بحدود مدينته الهادئة المطمئنة ،وإنما هو أكبر من ذلك ، وهذا يقتضي منه التفاعل مع المنجزات العلمية والمتغيرات السياسية والاجتماعية بما تستحقه .
وفي الدفتر نفسه ، كتب نجيب فاضل مقالةً عـن الوطن وما يتطلبه من تضحية وفداء ، فقال : " اعتاد الناس أن يدافعوا عن قطعة صغيرة من الجبن إذا ما حاول قط الاعتداء عليها ، والاستئثار بها ، وكذلك اعتادوا أن يحكموا بالموت شنقاً او خنقاً ، على فأر مسكين إذا تجاسر على تناول شيء من مأكولاتهم أو سرقة بضع حبات من الحنطة لتموين جحره ، بل يذهبون إلى أكثر من هذا فيصدرون عليه الحكم نفسه إذا ما دفعته حاسته الفنية إلى تخريم ثيابهم وقرضها وتطريزها .. فإذا كان حب التملك يدفع بالانسان إلى مقارعة القط برغم ما بينهما من تفاوت،وشنق الفأر دون التفات إلى ضعفه وضآلة حجمه ، فحري به أن يدافع عن الوطن !! " .
في هذه السن المبكرة تفتحت موهبة نجيب فاضل وبدأ يتحسس ما حوله ويتحمل همومه وهموم النـاس المحيطين به وليـس هذا بمستغرب على ابن شاعـر الموصل المرحوم فاضل حامد الصيدلي، فالرجل قد وضع أولاده :عبد الحق ، ونجيب ، وأكرم ، وعبد النافع في دائرة المسؤولية ، وزرع فيهم حب الشعر والقصة ، ونمّى فيهم ذائقة الأدب وساعدهم في أن يتحسسوا واقعهم ، ويدركوا أبعاده ، ويسهموا في تغييره . ومن هنا فقد توجهوا جميعاً وجهة فيها الكثير من الأيمان بالعقل والرغبة في التغيير ومواكبة التقدم الانساني وعلى مختلف أصعدة الحياة .
ولكن ماذا عن سيرة نجيب فاضل ؟ ولد سنة 1925 ، وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والأعدادية في الموصل ، لكن ظروف الحياة الصعبة خلال الحرب العالمية الثانية ، وعدم رغبة والده في تحقيق ثروة تساعده وأولاده على مواجهة الحياة بحكم عزوفه عن الدنيا وزهده وتصوفه ، دفعت تجيب واخوته إلى شق طريقهم بصعوبة ، بل أنهم صادفوا شظف العيش فانطلقوا معتمدين على أنفسهم وكلاً حسب اجتهاده وسعيه ، وكان نصيب نجيب أن توظف كاتباً للضبط في محكمة الصلح في البصرة،وانتقل ليعمل كاتباً أولاً في محاكم الموصل ، وتدرج في الوظيفة حتى أصبح مديراً لأموال القاصرين في الموصل ، ولم يعش طويلاً ، إذ أنه توفي في اليوم السابع والعشرين من شباط سنة 1978 وعمره لا يتجاوز الـ ( 53 ) سنة .
اتجه نجيب إلى الصحافة ، فعمل مديراً لصحيفة الهدى الموصلية التي كان يرأس تحريرها ( نسيبه ) المحامي فخري الخيرو ، وصدرت سنة 1947 ، وعندما أصدر شقيقه عبد الحق فاضل مع زميليه القاص ذو النون أيوب والمحامي يوسف الحاج الياس مجلة المجلة كتب فيها نجيب فاضل بعض الأعمال منها :

1 ـ قصة " العاشق المسحور " ونشرت في العدد ( 9 ) ، السنة ( 1 ) من مجلة
المجلة ، 1 شباط 1939 .
2 ـ قصة " انتقـام " ونشرت في العدد ( 13 ) ، السنة ( 1 ) من مجلة المجلة ،
1 نيسان 1939 .
3 ـ قطعة أدبية بعنوان " نسيـم " نشرت في العدد ( 14 ) ، السنة ( 1 ) ، من مجة
المجلة ، 16 نيسان 1939 .
4 ـ قصيدة نثرية بعنوان " ليلة " نشرها في مجلة المجلة ، العدد (20) ، السنة (1) ،
16 تموز 1939 .
5 ـ قطعة أدبية بعنوان " أيها المصباح " نشرت في مجلة المجلة ، العدد ( 6 ) ،
السنة ( 1 ) ، 17 كانون الأول 1938 .
6 ـ قصة بعنوان " ليلة أرق " نشرت في مجلة المجلة ، العدد ( 17 ) ، السنة (1) ،
1 حزيران 1939
7 ـ قطعة أدبية بعنوان " في صحراء الحياة " نشرت في مجلة المجلة ، العدد (19) ،
السنة ( 1 ) ، 1 تموز 1939 .
كما نشر العديد من المقالات الأدبية في جريدتي الجداول والهدى الموصليتين ، فعلى سبيل المثال ، وجدت في جريدة الجداول ( العدد 24 ، الصادر في 24 كانون الثاني 1950 ) مقالاً له بعنوان " بين اللغة والأديب " أكد فيه أن اللغة ليست أكثر من وسيلة أو أداة للتعبير السليم وبشكل مستساغ للجميع ، وأنكر نجيب فاضل على من يستخدم ضروب المحسنات والجناس والتورية مما يؤكد عدم امتلاكه لفكرة أو رأي فيما يكتب . وينصح الأدباء بقوله : " أن اللغة هي ليست كل شيء للأديب وأن على الأديب أن لايفرغ لها سـوى جزء محدود من وقته ، لكيما يفرغ بقية جهوده في هضم الأفكار الحديثة …ومتابعة العلوم والفنون … ومواكبة أحداث الحياة …وصوّغ الأفكار بأسلوب يكفي أن يكون مفهوماً من قبل أكبر عدد ممكن من الناس ، ولا يجب أن تطغى اللغة على الفكرة بأي حال من الأحوال " .
ويتضح من مقاله هـذا ، أن نجيب فاضل كان يهتم بالأفكار أكثر مما يهتم بالقالب والصيغ الشكلية ، فالمهم عنده أن يستطيع الإنسان أن يتابع مستجدات الحياة ومكتشفاتها ويواكب الأحداث وملابساتها بقدر واضح من اللغة ، وبشكل بسيط ييسر لكل قارئ أن يفهم الهدف من الكتابة الأدبية أو العلمية ، ولا يعني هـذا أن نجيب فاضل كان يضحي باللغة وبالأسلوب على حساب الأفكار ، بل نراه يعطي المضمون اهتماماً أكبر من الشكل . ويدعو هذا إلى أن نكتشف بأن نجيب فاضل كان ، بحق ، أديباً تقدمياً قرأ للكتّاب والروائيين الروس منهم الأديب مكسيم غوركي ، ولم يكن هذا غريباً على أولاد المرحوم فاضل الصيدلي ، فلقد نشأوا وتربوا على مفاهيم الحداثة والتغيير مع الحفاظ على الأصالة .. قرأوا التراث العربي الإسلامي واكتشفوا الأبعاد الانسانية فيه ووجدوا أن للأدب رسالة،وان الأديب لايسمى أديباً إلاّ إذا كان ملتزماً بقضايا شعبه ووطنه وفوق هذا لابد أن يكون إنسانياً .. وهكذا كان نجيب قد قال مرة ، حسبما حدثني ولده الدكتور نبيل ، " أن لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم " .. اقترب نجيب من الناس وتحسس بآلامهم وتبنى آمالهم " ، وسـر حبه لغوركي أنه تغلغـل في أعماق الناس البسطاء .. وعاش حياة التشرد ، وهذا ما خلق لديه " النظرة العميقة " إلى الأمور .. كان نجيب فاضل إنسانياً في علاقاته مع الناس ، عطوفاً ، دمث الأخلاق حيياً .. متحدثاً لبقاً جاداً حريصاً متقناً متفانياً في عمله فحاز احترام الناس ومحبتهم وتقدير رؤسائه في العمل .. ومن طرائف ما يرويه ولده لي أن وزارة العدل في العراق أرسلت برقية إلى عائلته في الموصل تطلب حضوره إلى بغداد لتكريمه .. ولكن نجيب كان قد فارق الحياة قبل مدة قصيرة من ورود برقية الوزارة .. له من الأولاد أطباء وطبيبات هم : نبيل ونزار وندى ونهلة .. ومن أولاده أستاذ في الزراعة هو الدكتور نمير .
ومن أعماله كذلك قصة باسم : " العاشق المسحور " وهي قصة قصيرة : انسان يشتري حماراً ، ويعود إلى بيته فرحاً .. لكن الحمار لا يكف عن " النهيق المتواصل المزعج " .. وفوق هذا فقد عاجله الحمار برفسة قوية طرحته أرضاً .. فصرح الرجل ألماً .. وصرخت زوجته فزعاً وذعراً .. ونهض الرجل حانقاً فاهوى بهراوته على الحمار … حتى كلّتْ يداه وهدأت سورته ، واحتمل الحمار كل ذلك صابراً محتسباً .. ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، فالرجل لم يحتمل وجود الحمار في بيته " أعاده إلى صاحبه الذي اشتراه منه .. وكان لصاحب الحمار على السحر فرش عليه ماءاً سحرياً فارتدَ انساناً .. وصل به الأمر إلى أن يطلب ابنة صاحب الحمار للزواج ولكن صاحب الحمار وكان يهودياً رشَ على ذلك الإنسان الماء السحري ، وتحول إلى خروف وذهب به إلى السوق وباعه إلى قصاب وأوصاه أن يستعجل بذبحه ، لكن القصّاب تركه لابنه الصغير يلهو به .. وفي إحدى الأيام زارت عائلة القصاب امرأة تتعاطى السحر وقالت بعد أن رأت الخروف أنه شاب مسحور ، وتمكنت من اعادته إلى وضعه الطبيعي فأحب ابنة القصاب ، لكن الفتاة الأولى سمعت حكايته فأخذت تبكي في سرّها حزناً على خروفها الذي فقدته إلى الأبد وعلى هذا الشاب الذي أحبته أول ما رأته فإذا به يعشق غيرها ولم يدرِ الشـاب ماذا يصنع وشرع يلعـن العجوز اللئيمة التي تدخلت في أمـره وحرمته السعادة ، ولما أدركت الفتاة أنه يوشك أن يفارقها إلى الأبد صاحت بأهلها : لا تدعوه يذهب . انه خروفنا ! فقال الشاب من فوره : نعم لقد اشتريتموني بنقودكم فيجب أن انتظر سيدي القصاب !!
ويتضح من القصة التي كتبت على نمط قصص ألف ليلة وليلة أنها أقرب إلى الحكاية والتي تتضح فيها قيمة الوفاء .
أما قصته الموسومة " انتقام " فتدور حول ( سلمى ) الراقصة التي وقفت في سطح دارها وبيدها مجلة مصورة تقلب صفحاتها بفتور وخمول … وأدارت وجهها فجأة نحو المقهى المقابل لسطحها ، وكانت النظرات تسدد عليها من المقهى بشدة وشراهة … يا للشقية ! ان قلبها الفتي ما انفك ظامئاً للحب ! ولكن .. من عساها تحب ؟ أو بالأحرى من هؤلاء الذين التهموها بنظراتهم يحبها حباً حقيقياً ؟ … ارادت أن تبكي … ولكنها استطاعت أن تمنع دمعها خوفاً على المساحيق التي طلت بها وجهها من الزوال .. وقد أدركت في النهاية أن مهمتها مقتصرة على استمالة قلوب الناس بغنائها .. فهي تمعن في الخلاعة والاستهتار وتبتز ما في جيوب الشباب ما دامت قد فجعت في حبها .. ان حياتها مجرد انتقام !!
في " نسيم " التي أهداها إلى صديقه غانم .. ولم يقل من هو وإنما ذكر في مطلع هذه القطعة الأدبية " اليك يا صديقي غانم أهدي هذه القطعة فكم تغنيت بقولك : أن الحياة مآسٍ ومهازل .. القطعة تتألف من أربع فقرات ، في الفقرة الأولى يتحدث نجيب فاضل عن الطفل الذي يرتجف تحت اسماله الرثة … وحذت اخته الصغرى حذوه ورددت " لقد وعدتني سعدية خانم زوجة البيك أن تعطيني ثياباً … وأشاحت الأم وجهها … كي تخفي الدمعة التي سالت على وجهها .. دنت الأم من ولدها ، وسحبت ابنتها نحوها وذهبت بهما إلى زاوية معتمة من الغرفة حيث يوجد فراش واحد ممزق ، واندس الثلاثة تحت الفراش واحتضنت الأم ولديها كما تحتضن الدجاجة أفراخا " .
وفي الفقرة الثانية هناك سعيد الذي نهض إلى ثيابه فارتدى قفازاً من الجلد ، وثياباً سميكة وأخفى وجههه وعنقه بوشاح من الصوف ... وخرج وهو يتغنى بأنشودة غرامية شائعة وهو جذلان لا يهمه البرد لكثرة ثيابه التي يرتديها " .
وذلك عمر الذي صاح : هيا اغلقي الباب والنوافذ يا حمدية ، فهذا نسيم بارد كفيل أن يدني مريضنا عدة خطوات نحو القبر هيا اسرعي فأطاعت حمدية وأغلقت الباب والنوافذ وعادت تحمل أغطية كثيرة لتدثر بها المريض لأنهم ينتظرون أن ( يعرق ) حتى يشفى كما قال الطبيب .
وفي الفقرة الرابعة صاح أحدهم بالواقفين : ماذا تريدون ؟ أليس لديكم ضمير ؟ بالله عليكم تفرقوا عنه كي يدخل الهواء إليه فيفيق من اغمائه … تحرك الرجل وفتح عينيه ونهض يفحص جسمه ولكنه لم يجد جراحاً أو شيئاً ينبئ بأنه قد أصيب بأذى …

" ليلـة " قصيدة نثرية يقول فيها نجيب فاضل :
كانت ليلة حالكة الظلام
وكان نهاد يتقلب في فراشه أرقاً
وفجأةً شقَ السكون عويل مُحزن
شق سكون الليل
كان عويلاً مؤثراً يفتت الأكباد
فارتجف نهاد فزعاً وتمتم قائلاً :
لقد أفل نجم الإنسان !
لقد أصاب الموت هدفاً
وأخفى رأسه في الفراش
ليطرد الأشباح المخيفة
التي تراءت له
وحاول النوم
ولكنه لم يستطع إليه سبيلاً
تمتم مع نفسه
هذه ليلة مخيفة
حقاً أنها لتخفى بين سجن ظلالها الحالك مآسٍ
يخيل لمن يرى هذه الليلة أن الموت
كامن في مكان قريب
هذه ليالي البؤس والتعاسة
حقاً أن الحياة لـ …

وفي مقطع آخر يقول :
تمتم نهاد :
ما هذا ؟ ماذا أسمع ؟
يا الهي ..!
إني اسمع زغردة
أهو عرس إذن ؟
بالتأكيـد !
إني أكاد أجن
ولماذا ؟
أمن العجب أن أسمع زغردة ؟
ألم يحدث هذا من قبل ؟
ولكن هذه الزغردة قد اختلطت
والعويل …
وراح يفكر ويفكر !
وأخذته سنة من النوم مزعجة مفعمة بالأحلام

وأهدى قطعته الأدبية " أيها المصباح " لأخيه أكرم ، وقال فيها :
تتتتتتتااا تتتتتتتتتاااا أأأمصباحي العزيز ‍ ما لضوئك يتهافت هكذا ؟
أفيلسوف أنت أم متفلسف ؟ لو كنت كذلك
لتوهمت أنك تأنف أن تضيء لفتى كئيب مثلي ..
أأدركك النعاس ، وأنا صاحبك مؤرق ساهد ؟
أم تراك تحكم ؟ ..
ما لك لا تضيء ؟ بربك كن صريحاً معي
كصراحتي معك
ويقول في مقطع آخر مخاطباً المصباح :
لئن هجرك الناس واتخذوا الكهرباء عنك بديلاً
فلست بهاجرك يا صاحبي ، بل اني
لأهرب من ضوء الكهرباء النير وأجلس
إلى ضوئك اليسير
لقد اتخذتك والكتاب سميرين لي من دون
الناس وبعثت فيك الحياة ، أفبعد كل هذا تجحد ؟
ألا تجيب ؟ تباً لك ما لك لا تجيب ؟
هل الخوف قد عقد لسانك ؟ ولم الخوف ؟
أهو أنا ..
أنا الذي آثرتك وفي وسعي الآن أن أخمد
أنفاسك اللاهثة .. أفق أيها الصباح النعسان ..
أنر لي كتابي ولا تتركني وحيداً في ظلمة الليل
فحسبي أنني وحيد في ظلمة النهار
أفق أيها السمير الكسول ‍ أفق وإلاّ حطمتك
تحطيماً واتخذت الكهرباء عنك بديلاً .
ولكن ؛ ما هذا ‍ آه عفواً يا صديقي . لقد
علمت سر تهافتك . لقد نضب زيتك ، أليس
كذلك ؟ ولكن لم تقل لي ذلك من قبل ؟
اغفر لي ‍ لقد ظننتك تتهافت عن حكمة
وفلسفة ‍ طبيعتك هكذا ، إذا نفذ زيتك
تهافت ضوؤك ‍ كلنا هكذا يا صديقي ..
اغفر لي . سوف اسقيك زيتاً كثيراً

قصة " ليلة أرق " تدور حول أديب مسكين .. راح يحلم ، وراحت صور حياته الماضية تتراءى له : منها المؤلم ومنها المفرح السار ، ولم يشعر بهموم الحياة إلاّ بعدما فهم الحياة على حقيقتها ، وذلك بعد أن استشف الآراء والفلسفة ، وفلسفة الحياة في الكتب وبمخالطة الناس على اختلاف طبقاتهم ومذهبهم .. كان طفلاً صغيراً يذهب إلى الكتاب مرة أو مرتين في الأسبوع لأنه يكرهه ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز السادسة .. ثم كانت السنة الثانية وفتحت في القرية مدرسة ، فكان أول من دخلها … وأتم الدراسة الابتدائية وهو في الرابعة عشرة ودخل الثانوية وبعد الانتهاء من دراسته … عاد إلى مسقط رأسه وهو يحمل شهادة النجاح … والتفت من حوله نساء القرية وكل واحدة ترمقه بعين الاعجاب … وتزوج سعيد … ولم يكن راغباً في الزواج لولا الحاح أمه … هو لا يزال يشعر بدفء رماد نار حبه القديم وأمانيه الأولى التي ثابر على الدراسة والتحصيل من أجلها … عاد إلى المدينة لاتمام الدراسة … وطرق أبواب العمل وأصاب وظيفة لا بأس بها ، وشرع يقتني الكتب ويطالعها كلما وجد فرصة ، وكان يشعر بأنه بحاجة إلى الكتابة وله ميل إلى القصص ، فراح يكتب قصصاً متنوعة وينشرها في الصحف .. وانتهى إلى هذا الحد من مشاهدة عرض صور حياته على شاشة الخيال ، على صوت شخير والده ، ونظر إلى أبيه نظرة عطف وحنان وراج ينقل البصر بين أطفاله الصغار ، وشعر بسرور جارف يدفعه إلى العمل وإلى الجهاد لأجلهم ، وكانت زوجته آخر من وقع عليها نظره ، وكانت صامتة كأنها ميتة فنظر إليها طويلاً ، نظرة نفور واشمئزاز ، ثم أعقبتها نظرة شفقة ورحمة ، زوجته التي تتباهى به بين رفيقاتها كلما وجدت للكلام فرصة عن مركز زوجها وعن مركزها وهي زوجته . وتثائَبَ سعيد وتمطى ووضع رأسه على الوسادة وراح في سبات عميق ! ! .

في " صحراء التيه " يناجي نجيب فاضل محبوبته قائلاً : اجلسي هنا ! على هذه الرابية … اوه ياعزيزتي ! هذا سؤال محرج . إلى أين ؟ نعم إلى أين سينتهي بنا المسير ؟ ولكن .. آه لقد تذكرت ، إلى حيث نحن سائرون ، إلى حيث بدأنا الرحلة لأجله ! أيمكن أن نكون قد ضللنا الطريق ؟ ! ولكن .. كلا ها هي آثار أقدام كثيرة … حسنتا لنسر الآن وسنرى النتيجة .. انني لست أدري .. أنك أضجرتني … ألا تكفين عن استجوابي ؟ دعينا نسير … هل يؤلمك رؤية هذه الشيبة تعلو شعر رأسي ؟ سأقلعها إذاً .. ولكن لا أنهن كثيرات .. كثيرات ومتى وصلنا اقتلعهن كلهن ..
هيا … سأحملك على ظهري أيتها العزيزة … وسأسير بك الأشواط الباقية .. لقد وصلنا أو كدنا .. لا لا ، لا تحاولي الهرب … أترين ذلك الشاب ؟ لقد ترك صاحبته وحدها فعاثت فساداً وأتلفت أرواحاً .. و و . ولكن سوف لا أحذو حذوه فأتركك وحدك بل سأحملك واتحسس طريقي … آه لقد تعبت … ليتني لم آت إلى هنا .. وأنت .. أنت ماذا دهاك ؟ وما هذا الشحوب الذي يعلو محياك .. لقد هرمت .. وأنا أيضاً هرمت .. وهذا شأن من يأتي إلى هنا .. ماذا أصابك ؟ انك تخيفينني .. لقد وصلنا! .. هيا أفيقي ، لنتنفس الصعداء فقد وصلنا هيا لننعم بحاضرنا .. ولكنك لا تجيبين .. أواه … أواه يا نفسي .. لقد أدركنا الموت ! .
لقد اتسم النتاج الأدبي لنجيب فاضل بالمسحة الإنسانية .. انسان عاقل يشقى بعقله .. يتحسس الألم .. ويتفاعل مع الناس ، يحلم بغدٍ سعيد .. يدرك بأنه لم يخلق عبثاً .. وينتقد الظلم والقهر والظرف الصعب .. وفي الوقت نفسه لا يركن إلى الواقع ، بل يسعى بكل الوسائل لتغييره ، ويحرص على استمرارية الحياة ، وبدلاً من أن يلعن الظلام فإنه يشعل شمعة ، ويعمل على مد مصباح الحياة بكل ما يساعده على اضاءة ما حوله .. رحم الله أديبنا نجيب فاضل وعزاؤنا أنه ترك من الولد الصالح والعلم النافع والصدقة الجارية ما يجعلنا نتذكره ونشيد بما أنجزه خدمةً لمدينته ووطنه وأمته .