مصطفى لغتيري
05/10/2006, 01:57 PM
اللوحة
مصطفى لغتيري
في زيارتي الأخيرة لأحد المعارض، لوحة واحدة دون سواها استوقفتني. لم أكد أخطو بعض الخطوات داخله، حتي وجدت نفسي انتصب أمامها. عبثا حاولت تجاوزها، وكأن قوة خفية تسحبني نحوها. لم تكن اللوحة تحتل مكانا مميزا. بل وضعت في موقع مهمل. وكأن الذي خصها بذلك الحيز، يود ان يعتذر بهذه الطريقة عن تواجدها، أصلا، بالمعرض. اللوحة تشع بياضا. في أعماقها صورة سوداء لما يشبه انسانا. ملامحه مبهمة. لاستجلائها يحتاج المرء الي كثير من التركيز. انشغلت باستشفاف معنى معين لهذه اللوحة الغريبة. لم أظفر بشيء، ومع ذلك لم أنفلت من سطوتها، حتي أنني عجزت عن مبارحتها. الغريب ان كل من مروا أمامها، لم يتوقف منهم أحد. بل كانوا يحثون السير مبتعدين، وكأنهم أمام مسخ يستوجب إشاحة النظر.. وأنا مستغرق في تفاصيل اللوحة، محاولا أن أبرر لنفسي طول مكوثي إزاءها، فاجأني مالا يمكن توقعه. صورة الانسان في أعماق اللوحة أخذت تتحرك. فركت عيني جيدا. أمعنت النظر أكثر، فإذا الصورة- حقا- تتحرك. بانبهار اقتربت منها، حتي كدت ألامسها. بغتة نط الإنسان الصورة من اللوحة. المفاجأة كادت تشل دماغي. فغرت فمي عن آخره، وأنا أتتبع حركاته. كان ضئيلا، لا يكاد يري. سرت خلفه، وهو يمر بين أقدام رواد المعرض. لا أحد انتبه لوجوده. وحدي كنت أنقب بين الأقدام، محاولا رصد سيره. بين لحظة وأخري يظهر ويختفي. اصطدمت بالكثيرين، وأنا أحاول احتواءه ببصري. الناس، في تلك الأثناء، أخذوا يرشقونني بنظرات قاسية، علامات الاستغراب والاحتجاج تنضح من حركاتهم. أحسست أنه يمارس معي لعبة ما. اهتمامي به، أذكي لديه حب المشاكسة. ما إن تحتضنه عيناي حتي ينفلت من قبضتهما. فجأة، توجه نحو بوابة القاعة. كاد قلبي يتوقف نبضه. قلت في نفسي 'إن خرج حتما، سيتيه'. لم أتوان في اقتفاء أثره. لا أدري كيف أصبحت أحس بالمسئولية تجاهه. يراودني أمل في القبض عليه واعادته الي مكانه الطبيعي. خرج من المعرض، وأنا خلفه.. الانبهار والقلق متربعان علي سحنتي. بالقرب من المعرض حديقة، قدرت أنه لابد، سيختفي في جنباتها. هكذا، كالمجنون طفقت أبحث عنه خلف الأشجار وبين النباتات.. لم يمض زمن طويل حتي لاح لي، يتوسط مساحة من العشب . ابتهجت برؤيته. في نفسي رددت أنه، أخيرا، وقع بين يدي. وبالتأكيد لن أفلته.. بخطي حازمة تقدمت نحوه. متمنطقا بالصمت والحذر دنوت منه. خاتلته، ثم ارتميت عليه بكل جسدي. بيد أنني لم أمسك سوي الفراغ. علي بعد خطوات كان يتطلع الي شامتا.. لحظتها، فكرت أن أدعه وشأنه، لم أمتلك الجرأة الكافية لفعل ذلك.. مرة أخري، قلت في نفسي محاولا التخفيف عنها 'خسرت معركة ولكنني لم أخسر الحرب، سأحاول ثانية'.
توجهت صوبه. هذه المرة لم يمهلني. انطلق مسرعا. هرولت خلفه، حين أدركت وجهته، اسقط في يدي.. إنه يتجه نحو الشارع. انخرطت في الركض، لعلني أتفادي ما يمكن حدوثه. فعلا تحقق ما استشرفته، انه الان يقف علي الطوار.. ضئيلا ولا معني له بدا لي من موقعي. اسرعت نحوه محاولا امساكه. حين دنوت منه، غاص في الاسفلت. كدت اصرخ لأنبهه من حركة المرور المجنونة. لاحظت- بأسف- بعض الناس يحملقون في خلقتي، بطريقة غريبة، فتمالكت نفسي لجمت الكلمات داخلي. عيناي تسمرتا عليه. ولأن الاسفلت أسود، غدا من الصعب تمييزه. بعد جهد تبينته. حاولت اللحاق به. انسياب السيارات منعني من ذلك، فاكتفيت بتتبعه من بعيد. العجلات تمرق بمحاذاته، وأنا في حالة من التوتر. في كل لحظة اظنه اندهس. وبالفعل لم يمض كثير من الزمن حتي سمعت صرخة ألم قوية. فإذا به ملقي علي الأسفلت، لايحرك ساكنا.. حين خفت حركة المرور، دلفت نحوه بخطي مرتعشة. وقفت وسط الشارع. مددت يدي نحوه، كان مستويا بالأرض، ولايزال به رمق من حياة. حملته في راحتي، وعدت به نحو المعرض. في طريقي انسلت دموع بئيسة من محجري، حين لاحظت الناس ينظرون الي مستغربين وأنا أبسط راحتي، وضعته في جيب معطفي. حثثت السير نحو قاعة العرض. ولكم كانت خيبتي كبيرة حين ألفيتها مغلقة. متحسرا، جلت بنظري في كل الاتجاهات. اخترت مكانا متواريا عن الأنظار. اخرجته من جيبي. بخشوع، وضعته هناك، ثم انسحبت بكثير من الوقار. ابتعدت قليلا، التفت نحوه. لوحت له بيدي. التأثر منبث في دواخلي.. بعد هنيهة انتشلت نفسي من ذهولها. استأنف المسير، متمنيا أن يتمكن صباح الغد من العودة الى لوحته.
مصطفى لغتيري
في زيارتي الأخيرة لأحد المعارض، لوحة واحدة دون سواها استوقفتني. لم أكد أخطو بعض الخطوات داخله، حتي وجدت نفسي انتصب أمامها. عبثا حاولت تجاوزها، وكأن قوة خفية تسحبني نحوها. لم تكن اللوحة تحتل مكانا مميزا. بل وضعت في موقع مهمل. وكأن الذي خصها بذلك الحيز، يود ان يعتذر بهذه الطريقة عن تواجدها، أصلا، بالمعرض. اللوحة تشع بياضا. في أعماقها صورة سوداء لما يشبه انسانا. ملامحه مبهمة. لاستجلائها يحتاج المرء الي كثير من التركيز. انشغلت باستشفاف معنى معين لهذه اللوحة الغريبة. لم أظفر بشيء، ومع ذلك لم أنفلت من سطوتها، حتي أنني عجزت عن مبارحتها. الغريب ان كل من مروا أمامها، لم يتوقف منهم أحد. بل كانوا يحثون السير مبتعدين، وكأنهم أمام مسخ يستوجب إشاحة النظر.. وأنا مستغرق في تفاصيل اللوحة، محاولا أن أبرر لنفسي طول مكوثي إزاءها، فاجأني مالا يمكن توقعه. صورة الانسان في أعماق اللوحة أخذت تتحرك. فركت عيني جيدا. أمعنت النظر أكثر، فإذا الصورة- حقا- تتحرك. بانبهار اقتربت منها، حتي كدت ألامسها. بغتة نط الإنسان الصورة من اللوحة. المفاجأة كادت تشل دماغي. فغرت فمي عن آخره، وأنا أتتبع حركاته. كان ضئيلا، لا يكاد يري. سرت خلفه، وهو يمر بين أقدام رواد المعرض. لا أحد انتبه لوجوده. وحدي كنت أنقب بين الأقدام، محاولا رصد سيره. بين لحظة وأخري يظهر ويختفي. اصطدمت بالكثيرين، وأنا أحاول احتواءه ببصري. الناس، في تلك الأثناء، أخذوا يرشقونني بنظرات قاسية، علامات الاستغراب والاحتجاج تنضح من حركاتهم. أحسست أنه يمارس معي لعبة ما. اهتمامي به، أذكي لديه حب المشاكسة. ما إن تحتضنه عيناي حتي ينفلت من قبضتهما. فجأة، توجه نحو بوابة القاعة. كاد قلبي يتوقف نبضه. قلت في نفسي 'إن خرج حتما، سيتيه'. لم أتوان في اقتفاء أثره. لا أدري كيف أصبحت أحس بالمسئولية تجاهه. يراودني أمل في القبض عليه واعادته الي مكانه الطبيعي. خرج من المعرض، وأنا خلفه.. الانبهار والقلق متربعان علي سحنتي. بالقرب من المعرض حديقة، قدرت أنه لابد، سيختفي في جنباتها. هكذا، كالمجنون طفقت أبحث عنه خلف الأشجار وبين النباتات.. لم يمض زمن طويل حتي لاح لي، يتوسط مساحة من العشب . ابتهجت برؤيته. في نفسي رددت أنه، أخيرا، وقع بين يدي. وبالتأكيد لن أفلته.. بخطي حازمة تقدمت نحوه. متمنطقا بالصمت والحذر دنوت منه. خاتلته، ثم ارتميت عليه بكل جسدي. بيد أنني لم أمسك سوي الفراغ. علي بعد خطوات كان يتطلع الي شامتا.. لحظتها، فكرت أن أدعه وشأنه، لم أمتلك الجرأة الكافية لفعل ذلك.. مرة أخري، قلت في نفسي محاولا التخفيف عنها 'خسرت معركة ولكنني لم أخسر الحرب، سأحاول ثانية'.
توجهت صوبه. هذه المرة لم يمهلني. انطلق مسرعا. هرولت خلفه، حين أدركت وجهته، اسقط في يدي.. إنه يتجه نحو الشارع. انخرطت في الركض، لعلني أتفادي ما يمكن حدوثه. فعلا تحقق ما استشرفته، انه الان يقف علي الطوار.. ضئيلا ولا معني له بدا لي من موقعي. اسرعت نحوه محاولا امساكه. حين دنوت منه، غاص في الاسفلت. كدت اصرخ لأنبهه من حركة المرور المجنونة. لاحظت- بأسف- بعض الناس يحملقون في خلقتي، بطريقة غريبة، فتمالكت نفسي لجمت الكلمات داخلي. عيناي تسمرتا عليه. ولأن الاسفلت أسود، غدا من الصعب تمييزه. بعد جهد تبينته. حاولت اللحاق به. انسياب السيارات منعني من ذلك، فاكتفيت بتتبعه من بعيد. العجلات تمرق بمحاذاته، وأنا في حالة من التوتر. في كل لحظة اظنه اندهس. وبالفعل لم يمض كثير من الزمن حتي سمعت صرخة ألم قوية. فإذا به ملقي علي الأسفلت، لايحرك ساكنا.. حين خفت حركة المرور، دلفت نحوه بخطي مرتعشة. وقفت وسط الشارع. مددت يدي نحوه، كان مستويا بالأرض، ولايزال به رمق من حياة. حملته في راحتي، وعدت به نحو المعرض. في طريقي انسلت دموع بئيسة من محجري، حين لاحظت الناس ينظرون الي مستغربين وأنا أبسط راحتي، وضعته في جيب معطفي. حثثت السير نحو قاعة العرض. ولكم كانت خيبتي كبيرة حين ألفيتها مغلقة. متحسرا، جلت بنظري في كل الاتجاهات. اخترت مكانا متواريا عن الأنظار. اخرجته من جيبي. بخشوع، وضعته هناك، ثم انسحبت بكثير من الوقار. ابتعدت قليلا، التفت نحوه. لوحت له بيدي. التأثر منبث في دواخلي.. بعد هنيهة انتشلت نفسي من ذهولها. استأنف المسير، متمنيا أن يتمكن صباح الغد من العودة الى لوحته.