د0 احمد فنديس
09/01/2007, 02:35 PM
استيقظ مخلص ذات يوم على جلبة باعة الصحف تقتحم نافذة حجرة نومه:
ـ .اقرا حادثة رمسيس يا جدع.حادثة رمسيس يا أستاذ.
اعتقد أن بعض قطارات السكك الحديدية قد عادت إلي هوايتها المفضلة وهى اقتحام الميادين.لقد ملت قاطرات القطارات انتظار الناس داخل محطات السكة الحديد فقررت أن تخرج هي إليهم بشحمها ولحمها لتقابلهم وتقبلهم في مساكنهم ومحلاتهم .هرول مخلص مسرعا إلى الشارع.اشتري جريدة يومية قرأ في صفحتها الأولى خبرا مثيرا عن اختفاء تمثال رمسيس من ميدانه بالقاهرة.من تفاصيل الخبر علم أنهم وجدوا خطابا مكتوبا بالهيروغليفية على ورقة بردى مكان التمثال المختفي يخبرهم فيه رمسيس أنه قرر أن يعود إلى ميت رهينة حيث وجدوه أول مرة .
التمثال ؟! الذي يبلغ وزنه عشرات الأطنان وارتفاعه ثمانية وعشرين مترا قرر أن يهجر مكانه في الميدان المسمى باسمه ويعود مرة أخرى رهينة أثرية في "ميت رهينه ." أدرك مخلص أن شيئا قهريا دفع جلالة الملك إلى الفرار من مكانه .
بعد قليل أذاعت محطات الإذاعة والتلفزيون خبرا أكثر إثارة.التمثال موجود غير بعيد عن كوبري المنيب الجديد.هرول مخلص إلى هناك حيث وجد رمسيس جالسا وقد أنهكه التعب يلتقط أنفاسه الحجرية بصعوبة بالغة.لقد حاول التمثال اجتياز الكوبري قفزا لكن وزنه الهائل لم يمكنّه من ذلك.حاول أن يحنى قامته الطويلة ليعبر من تحته لكن كرامته كملك سابق منعته من الانحناء .لم تمكنه خشونة مفاصله الحجرية الناتجة عن طول وقوفه في ميدانه من ثنى ركبتيه .
كان التمثال عائدا إلى حيث اكتشفوه غير أن تصلبا في شرايينه التاجية الحجرية من جراء أطنان عوادم السيارات والقطارات التي استقرت في رئتيه على مدى السنوات السابقة قطّع أنفاسه وأوقفه عن متابعة رحلة العودة .
اقترب مخلص من تمثال الملك بحذر.وبمنتهى الرقة سأله :
ـ اسمح لي جلالتكم بتفسير للي حصل ..
ـ انت مين ؟؟
ـ صحفي يا أفندم
ـ مادام موش عارفين تتفقوا على رأى.قررت أن أعود إلى حيث كنت أستريح من آلاف السنين.أنا شفت الذل يا أستاذ في الخمسة والأربعين سنة اللي وقفتهم أرش ميه زى الجناينيه في ميدان باب الحديد.بعد ما قعدت أكتر من تلاتلاف سنة نايم مرتاح في ميت رهينة .
ـ وليه جلالتكم تتعبوا نفسكم وتمشى كل المشوار دا.وازاى عديت كل الشوارع دي من غير ما حد ياخد باله من جلالتكم؟! دول كانوا هاينقلوا جلالتكم في موكب رسمي فرعوني و..
وقبل أن يسترسل مخلص في كلامه قاطعه التمثال قائلا:
ـ سمعت عن حكاية الونش اللي اتسرق في القاهرة ؟؟!! دا كان أطول منى بكتير ومع ذلك اختفى.سمعت عن عمليات تطوير ميدان التحرير.الميدان اللي اتغير عشرين مره خلال السنوات الأربعين الماضية ولسه بيطوروا فيه لحد دلوقتى.بصراحة أنا خفت على نفسي .
احمر وجه مخلص خجلا وهو يتذكر قصة الونش المسروق.ونش عملاق يختفي وكأن نشالا قد أخفاه في جيبه الصغير في حركة خاطفة .
ـ اطمئن جلالتكم موش ممكن حد يقدر يسرقك .
ـ الخوف موش من السرقة يا أستاذ.أنا كنت رهين المحبسين.سجن عوادم السيارات وسجن الكباري الحديدية اللي محاوطانى زى كلبش ضخم.عرفت ليه كان اسم الميدان باب الحديد..
حاول مخلص أن يشرح للملك أن الحديد المقصود يعنى السكة الحديدية لكن التمثال انفجر فيه :
ـ أنا زعلان.طهقان.قرفان.حرام عليكم.ستاشر مليون نسمة عايشين في العاصمة يعنى ربع سكان مصر.خايليني ليل ونهار وعشرات الآلاف من السيارات بتمر عليه عمال على بطال.من فوق ومن تحت.دا لولا عوادم ملايين السيارات اللي اتنفستها من يوم ما وقفت في الميدان كنت قفزت فوق الكوبري.انت ما تعرفش إنني حاربت لوحدى ألفين وخمسميت عربة عسكرية حيثية في معركة قادش سنة 1295 قبل الميلاد.انتو ما بتقروش تاريخ ولا إيه.يبدو انكو مانتوش عارفين أنا مين؟؟!!
ـ عارفين يا صاحب الجلالة.عارفين .
ـ جلالة إيه.انتو خليتوها خل.أردف بعد تنهيدة حجرية كادت أن تطيح بمخلص أرضا. تماسك الصحفي وعدّل من هندامه احتراما لتاريخ التمثال العريق وعاد يحاوره :
ـ إيه بس اللي مزعل جلالتكم؟؟
ـ كل حاجة بتعملوها مزعلانى.مطهقانى.يا أستاذ لو فيه تمثال لفراش في مصلحة حكومية من حضارة قديمة في بلد تانية يعملوله شنة ورنة.ويجيلو السواح من كل الدنيا يحترموه ويقدروه.وانتو عندكم تلت آثار الدنيا ..
حاول مخلص مقاطعة الملك الذي أكمل وهو يهز رأسه تحسرا : ياسلام.ياسلام على احترام الآثار في بلاد بره.سمعت عن حفاوة الفرنسيين بالمسلة المصرية.سمعت عن استقبال الموميا بتاعتى استقبال الملوك.سمعت عن حفاوة الغرب بواحد من أجدادي اسمه توت عنخ.سمعت...
ـ سمعت يا جلالة الملك.سمعت.أجابه مخلص وقد أدرك حجم المرارة التي يعانيها الملك.وقال في نفسي : نعم سمعت وقرأت ورأيت.ونظر إلى الأرض خجلا متمنيا أن تحميه من لذعات الملك حكمة القرود فلا يسمع ما يقول ولا يرى سحابة الكآبة التي تغطى وجهه الملكي ولا يتكلم.لأنه لن يجد الكلمات التي يدافع بها عن جيله ويدفع بها سيل اتهامات التمثال التي له كل الحق فيها .
ـ وبعدين.إيه حكاية النقش ع الحجر دى.أكمل رمسيس متعجبا .
نظر مخلص إلى وجه التمثال فوجد علامات التعجب والاحتجاج قد غطته.وقبل أن ينطق بكلمة واحدة أكمل الملك :
ـ الله يرحم زمان وأيام زمان.مصر اللي علمت الدنيا القراية والكتابة لسه فيها نسبة أمية مرتفعة .
ـ وعرفت منين جلالتكم ؟ سأله مخلص مندهشا..
ـ سمعت واحد بيقول للتانى العلم في الصغر كالنقش ع الحجر بالذمة دا كلام.النقش ع الحجر دا هوه الطريقة اللي سجلنا بها تاريخ أول حضارة في العالم.ثم أنا اعتقد إن أمخاخ أحفاد أحفاد أحفادي اللي همه انتم موش ناشفة للدرجة دى .
تذكر مخلص أن حجم الإصبع الكبير لقدم التمثال في حجم رأس الإنسان قبل أن يوضح له المقصود بالعبارة.شجعه ارتياح جلالة الملك لتفسيرها على أن يكمل الكلام عن عظمة مصر المعاصرة :
رغم الأمية المرتفعة يا مولانا إلا إن فيه علماء مصريين من أحفاد جلالتكم رافعين اسم مصر عاليا في كل المجالات.في الطب وعلوم الفضاء والذرة والجغرافيا منهم مثلا المرحوم الدكتور مصطفى مشرّفة والمرحوم الدكتور جمال حمدان والمرحومة الدكتورة فاطمة موسى والدكتور فاروق الباز والدكتور مجدي يعقوب والدكتور أحمد زويل.وغيرهم كتير كتير في كل التخصصات .
ظهرت على وجه الملك الحجري علامات الارتياح بعد أن عدد مخلص له مظاهر عظمة مصر ومدى التقدم الذي بلغته في نهاية القرن العشرين غير أنه عاجله بتساؤل أشد إيلاما :
ـ ياأخى.هي دلوقتى الفلوس أصبحت جواز المرور لمجتمع الصفوة ؟؟!! .
كاد مخلص أن يجن من حجم الثقافة العصرية التي تختزنها ذاكرة التمثال الحجرية الذي بادره وكأنه توقع أن يسأله عن كيفية معرفته :
ـ أنا موش نايم على ودانى يا أستاذ.أنا عارف كل حاجة بتحصل في البلد.انت نسيت إن أنا كنت ملك؟؟! ما فيش حاجة بتستخبى.ما فيش حد بتتبل ف بقه فوله.وعلى طريقة الفنان فؤاد المهندس أنهى عبارته قائلا : مش كدا ولا إيييه !
تصبب عرق الخجل من جبين مخلص .أحس أن التمثال اختاره من بين كل سكان مصر ليصب عليه حميم انتقاداته .
ـ كفايه أرجوك.قالها المخلص وهو في نصف هدومه .
ـ الصفوة يا أستاذ أساسها السلوك الحضاري.اسألني أنا.أكمل الملك وكأنه يتحسر على مُلك زائل.عمر الفلوس ما بتعمل حضارة.ما سمعتش عن قارون وخزائنه ؟! الساحل الشمالي بتاعكم كان مزرعة قمح الإمبراطورية الرومانية دلوقتى مزروع قرى سياحية.مليارات من الجنيهات أهدرت علشان منظرة فاضية.ما فيش مانع إن الناس تتبسط.بس بالتخطيط السليم.اللى يحقق التوازن بين أفراد المجتمع وينمى مصر تنمية حقيقية .
ـ ما تنساش جلالتكم إن مصر دلوقتى مليانة مدن جديدة.زى ما فيه قرى سياحية فيه مشروعات تنمية مالية البلد.فيه كده وفيه كده.زى كل بلاد الدنيا .
لم يقتنع الملك بكلام مخلص هذه المرة ..
ـ إحنا رافعين عليكم قضية في محكمة التاريخ .قال التمثال والامتعاض يغلف شفتيه .
ـ ليه لا سمح الله ؟ سأله مخلص كمن يوقع مرتجفا بالعلم على طلب المثول سريعا أمام المحكمة .
ـ موش من حقكم تستغلوا أسماءنا في الدعاية للسلع غير الحضارية بتاعة الأيام دى.أنا عرفت إن عيون توت عنخ آمون كانت ها تتطلع على حاجة اسمها مكرونة في إعلان تلفزيوني وان كليوباترا لها سيجارة وبلاطة باسمها دلوقتى.مع العلم إنها مش من سلالتنا.الأدهى إن الفراعنة كلهم محطوط اسمهم على شوية بلاط .
ـ ما فيش ضرر من كدا جلالتكم.دى حاجة بتحصل في كل الدنيا.دى مجرد إعلانات.علق مخلص على كلام الملك مواسيا.لم ينتظر التمثال حتى يكمل مخلص كلامه وسأله :
ـ ليه كل حاجة بترقص عندكم؟؟! مافيش إعلان تلفزيوني سادة أبدا.كله بالرقص.من البطاطس للحاجة الساقعة للحشرات للمبيد الحشري.اسمح لي دى بقت حاجة ساقعة خالص .
عجز مخلص عن الإجابة عن سؤال الملك الذي قال وكأنه يجيب عنه بنفسه :
ـ المصيبة موش في امتهان الماضي عندكم.المصيبة في امتهان المستقبل كمان .
ـ إزاى.سأله المخلص بعد أن تحول الموقف بينهما من محاورة إلى محاضرة تأديبية من الملك ممثلا لماضي مصر إلى مخلص ممثلا لحاضرها .
ـ مشروع زراعي قومي ضخم عظيم قريّب من معبد أبو سمبل اسمه توشكا ها ينقل جزء كبير من سكان مصر بعيدا عن النيل اللي لوثتوه وشوهتوه.ولو شافه أي فرعوني دلوقتى يتوه .قللتم فرحة الناس وافتخارهم بيه وحطيتم اسمه على علبة سجاير.موش عيب برضه !!
توقفت تماما مقدرة مخلص على الرد على تساؤلات الملك وانتقاداته اللاذعة وكلماته الحادة.قرر أن يسمع ولا يتكلم تاركا للتمثال الفرصة ليخرج كل ما في قلبه فتوالت انتقادات الملك كالسهام المشتعلة .
ـ نرجع للنيل.دا كان إله بيعبد قبل ظهور الأديان السماوية ويا ويله اللي كان يلوثه من ضميره ومن المجتمع.دلوقتى مراكب السواح بترمى فيه فضلاتها.ومراكب تانيه بتغرق فيه بحمولاتها السامة.وناس تبنى أبراجها على ضفافه تحرم الآخرين من رؤيته.ومصانع تلوثه بمخلفاتها.حتى العربجية بيحمّوا فيه خيولهم .دا غير الستات اللى بتغسل فيه هدومها وحللها وبعدين تقولوا انه شريان الحياة في مصر !! .
ـ وهضبة الأهرام.ازاى تسمحوا بالبناء عليها.انتم موش عارفين إن أرضها من الحجر الجيري وان مياه الصرف الصحي لمساكن الصفوة ممكن تتسرب وتدمر آثار المنطقة.نسيتم اللى حصل لأبو الهول قريبي .
أصبح مخلص في الربع الثالث من هدومه وقبل أن يبلع ريقه داهمه الملك بعتابه التالي:
ـ ما شاء الله.كل دى أبراج سكنية.أنا كنت هاتوه وأنا راجع.النيل أصبح سجينا يا أستاذ.مئات الأبراج الخرسانية العملاقة.مغروزة على الضفتين اللي كنا بنعمل فيهم مهرجانات وفاء النيل.دى موش مباني.دى في الحقيقة قضبان سجن النيل.نسيتم نظام البناء على أيامنا.الرمل للأموات والطين للأحياء.يعنى الطين نعيش على الخير اللي بيطلع منه والصحرا نبنى عليها بيوتنا ومقابرنا وأهراماتنا .انتم قلبتوا الآية. دلوقتى الطين بيموت بعد ما تحولوه لمباني والرمل بتحاولوا تستصلحوه.لسه عايشين بطريقة ودنك منين ياجحا؟؟!! طب ما تسيبوا الطين للزراعة وتبنوا بيوتكم في الصحراء.
لم يستطع مخلص الالتزام بما قرره واندفع كمحام نشط مدعم بالأسانيد القانونية يترافع عن موكله الذي هو شعب مصر في النصف الثاني من القرن العشرين :
ـ أذكّر جلالتكم بمشروعات استصلاح الأراضي الزراعية في مديرية التحرير والوادي الجديد والنوبارية وشمال سيناء وآخرها مشروع توشكا وشرق العوينات.كما اذكّر جلالتكم بالمشروعات الصناعية العملاقة في منطقة شرق التفريعة وشمال خليج السويس.وطبعا المدن الجديدة اللي سبق وحكيت لجلالتكم عنها .
نظر مخلص إلى وجه التمثال الملكي متمنيا أن يرى انطباعات طيبة عما قال.تركه جلالته قليلا ليسترد أنفاسه اللاهثة بعد دفاعه القوى.بعد قليل سأله بابتسامة ساخرة ماكرة : صحيح فيه شقة بخمسين مليون جنيه في عمارة على النيل ؟؟
وقبل أن يجيبه سأله ونظرات ذات مغزى معين تصاحب سؤاله: مين اللي هايسكن فيها.هيه؟.برضه ناس من الصفوة مظبوط؟؟..ولا ناس عندهم فلوس لو وقفوا عليها يشوفوا بلاد بونت.؟! ولا يمكن ناس بيقولوا على نفسهم انهم أهرامات.؟! مش برضوا فيه اتنين مليون نسمة في القاهرة وحدها ساكنين في المقابر؟؟!! مش برضه فيه حداشر مليون مواطن ساكنين في المناطق العشوائية في المدن المصرية دلوقتى.
ـ وبرضه فيه مشاريع لإسكان شباب مصر في كل المدن الجديدة وفيه..
ـ مدن جديدة.مدن جديدة. قاطع الملك مخلص محتدا.تقدر تقوللى فيه كام مليون ساكنها لغاية دلوقتى ؟؟!!
ـ لم يجد مخلص الشجاعة الكافية ليخبر الملك أن عدد سكان 2. مدينة جديدة بعد 24 سنة من قرار إنشاء المدن الجديدة في مصر في عام 1975 أصبح أقل من 62. ألف نسمة يعنى 1% من سكان مصر سنة 1996 .وأن هذه النسبة تعنى أن مصر إذا أرادت إخراج ربع سكانها الحاليين من الوادي والدلتا إلى المدن الجديدة فإنها في حاجة إلى 485 مدينة جديدة تبنى خلال 52. سنة ..
ـ اسمح لى أقولك يا أستاذ إن مصر رجعت تانى لأيام الملك مينا .
أعاد كلام التمثال مخلصا إلى واقعه مرة أخرى.أفاقه من تخيلاته.لاحظ الملك أن الصحفي لم يعد قادرا على الرد على تساؤلاته.وأن قدراته الذهنية قد خارت ولم يعد في حالة تسمح له بمجادلته فوفر عليه عناء محاولة فهم كلماته الأخيرة .
ـ طبعا انت عارف إن الملك مينا جدي الكبير هوه اللي وحّد القطرين.أى المصرين.مصر العليا ومصر السفلى.الدلتا والصعيد يعنى.دلوقتى مصر على وشك إنها ترجع مصرين تانى .لكن المرة دى مصر سكان القصور ومصر سكان القبور.مصر الصفوة ومصر الفقرا .مصر السفلى ومصر العليا .
توقف مخلص عن التفكير وعن الكلام.أغمض عينيه وتمنى أن يكون ما يحدث له حلم أو حتى كابوس.أما التمثال فقد استراح بعد أن أفرغ ما في قلبه من هموم.استعاد قواه الحجرية بعد أن خف وزنه بالتخلص من مئات الأطنان من الأحزان.أدرك أن مكانته كملك لايزال لها احترامها.انتعشت معنوياته فقفز عاليا ليجتاز الكوبري في طريقه إلى ميت رهينة .
لملم مخلص أشلاء كرامة أحد أبناء جيل النصف الثاني من القرن العشرين بعد الميلاد بعثرها تمثال ملك حكم مصر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.لم يصدق أن الملك يعلم كل شيء عن مملكته حتى وهو تمثال.جلس كتمثال في المكان ذاته الذي كان يجلس فيه الملك علّه يسترد بعض كرامته.تصلبت نظراته على لا شيء وكأنه قد أصبت بـ " لخمة الفراعنة " .شعر ببرودة تجتاح كل جسمه.قال في نفسي وهو شبه غائب عن الوعي فعلا الملك هو الملك كما كتب سعد الله ونّوس.وعندما نهض من مكانه ليعود إلى حيث أتى كان النصف الثاني من هدومه قد اختفى تماما
=================
مهداة الى الأخ العزيز هشام السيد منشورة ضمن مجموعتى (العابر والتماثيل) 1999
ـ .اقرا حادثة رمسيس يا جدع.حادثة رمسيس يا أستاذ.
اعتقد أن بعض قطارات السكك الحديدية قد عادت إلي هوايتها المفضلة وهى اقتحام الميادين.لقد ملت قاطرات القطارات انتظار الناس داخل محطات السكة الحديد فقررت أن تخرج هي إليهم بشحمها ولحمها لتقابلهم وتقبلهم في مساكنهم ومحلاتهم .هرول مخلص مسرعا إلى الشارع.اشتري جريدة يومية قرأ في صفحتها الأولى خبرا مثيرا عن اختفاء تمثال رمسيس من ميدانه بالقاهرة.من تفاصيل الخبر علم أنهم وجدوا خطابا مكتوبا بالهيروغليفية على ورقة بردى مكان التمثال المختفي يخبرهم فيه رمسيس أنه قرر أن يعود إلى ميت رهينة حيث وجدوه أول مرة .
التمثال ؟! الذي يبلغ وزنه عشرات الأطنان وارتفاعه ثمانية وعشرين مترا قرر أن يهجر مكانه في الميدان المسمى باسمه ويعود مرة أخرى رهينة أثرية في "ميت رهينه ." أدرك مخلص أن شيئا قهريا دفع جلالة الملك إلى الفرار من مكانه .
بعد قليل أذاعت محطات الإذاعة والتلفزيون خبرا أكثر إثارة.التمثال موجود غير بعيد عن كوبري المنيب الجديد.هرول مخلص إلى هناك حيث وجد رمسيس جالسا وقد أنهكه التعب يلتقط أنفاسه الحجرية بصعوبة بالغة.لقد حاول التمثال اجتياز الكوبري قفزا لكن وزنه الهائل لم يمكنّه من ذلك.حاول أن يحنى قامته الطويلة ليعبر من تحته لكن كرامته كملك سابق منعته من الانحناء .لم تمكنه خشونة مفاصله الحجرية الناتجة عن طول وقوفه في ميدانه من ثنى ركبتيه .
كان التمثال عائدا إلى حيث اكتشفوه غير أن تصلبا في شرايينه التاجية الحجرية من جراء أطنان عوادم السيارات والقطارات التي استقرت في رئتيه على مدى السنوات السابقة قطّع أنفاسه وأوقفه عن متابعة رحلة العودة .
اقترب مخلص من تمثال الملك بحذر.وبمنتهى الرقة سأله :
ـ اسمح لي جلالتكم بتفسير للي حصل ..
ـ انت مين ؟؟
ـ صحفي يا أفندم
ـ مادام موش عارفين تتفقوا على رأى.قررت أن أعود إلى حيث كنت أستريح من آلاف السنين.أنا شفت الذل يا أستاذ في الخمسة والأربعين سنة اللي وقفتهم أرش ميه زى الجناينيه في ميدان باب الحديد.بعد ما قعدت أكتر من تلاتلاف سنة نايم مرتاح في ميت رهينة .
ـ وليه جلالتكم تتعبوا نفسكم وتمشى كل المشوار دا.وازاى عديت كل الشوارع دي من غير ما حد ياخد باله من جلالتكم؟! دول كانوا هاينقلوا جلالتكم في موكب رسمي فرعوني و..
وقبل أن يسترسل مخلص في كلامه قاطعه التمثال قائلا:
ـ سمعت عن حكاية الونش اللي اتسرق في القاهرة ؟؟!! دا كان أطول منى بكتير ومع ذلك اختفى.سمعت عن عمليات تطوير ميدان التحرير.الميدان اللي اتغير عشرين مره خلال السنوات الأربعين الماضية ولسه بيطوروا فيه لحد دلوقتى.بصراحة أنا خفت على نفسي .
احمر وجه مخلص خجلا وهو يتذكر قصة الونش المسروق.ونش عملاق يختفي وكأن نشالا قد أخفاه في جيبه الصغير في حركة خاطفة .
ـ اطمئن جلالتكم موش ممكن حد يقدر يسرقك .
ـ الخوف موش من السرقة يا أستاذ.أنا كنت رهين المحبسين.سجن عوادم السيارات وسجن الكباري الحديدية اللي محاوطانى زى كلبش ضخم.عرفت ليه كان اسم الميدان باب الحديد..
حاول مخلص أن يشرح للملك أن الحديد المقصود يعنى السكة الحديدية لكن التمثال انفجر فيه :
ـ أنا زعلان.طهقان.قرفان.حرام عليكم.ستاشر مليون نسمة عايشين في العاصمة يعنى ربع سكان مصر.خايليني ليل ونهار وعشرات الآلاف من السيارات بتمر عليه عمال على بطال.من فوق ومن تحت.دا لولا عوادم ملايين السيارات اللي اتنفستها من يوم ما وقفت في الميدان كنت قفزت فوق الكوبري.انت ما تعرفش إنني حاربت لوحدى ألفين وخمسميت عربة عسكرية حيثية في معركة قادش سنة 1295 قبل الميلاد.انتو ما بتقروش تاريخ ولا إيه.يبدو انكو مانتوش عارفين أنا مين؟؟!!
ـ عارفين يا صاحب الجلالة.عارفين .
ـ جلالة إيه.انتو خليتوها خل.أردف بعد تنهيدة حجرية كادت أن تطيح بمخلص أرضا. تماسك الصحفي وعدّل من هندامه احتراما لتاريخ التمثال العريق وعاد يحاوره :
ـ إيه بس اللي مزعل جلالتكم؟؟
ـ كل حاجة بتعملوها مزعلانى.مطهقانى.يا أستاذ لو فيه تمثال لفراش في مصلحة حكومية من حضارة قديمة في بلد تانية يعملوله شنة ورنة.ويجيلو السواح من كل الدنيا يحترموه ويقدروه.وانتو عندكم تلت آثار الدنيا ..
حاول مخلص مقاطعة الملك الذي أكمل وهو يهز رأسه تحسرا : ياسلام.ياسلام على احترام الآثار في بلاد بره.سمعت عن حفاوة الفرنسيين بالمسلة المصرية.سمعت عن استقبال الموميا بتاعتى استقبال الملوك.سمعت عن حفاوة الغرب بواحد من أجدادي اسمه توت عنخ.سمعت...
ـ سمعت يا جلالة الملك.سمعت.أجابه مخلص وقد أدرك حجم المرارة التي يعانيها الملك.وقال في نفسي : نعم سمعت وقرأت ورأيت.ونظر إلى الأرض خجلا متمنيا أن تحميه من لذعات الملك حكمة القرود فلا يسمع ما يقول ولا يرى سحابة الكآبة التي تغطى وجهه الملكي ولا يتكلم.لأنه لن يجد الكلمات التي يدافع بها عن جيله ويدفع بها سيل اتهامات التمثال التي له كل الحق فيها .
ـ وبعدين.إيه حكاية النقش ع الحجر دى.أكمل رمسيس متعجبا .
نظر مخلص إلى وجه التمثال فوجد علامات التعجب والاحتجاج قد غطته.وقبل أن ينطق بكلمة واحدة أكمل الملك :
ـ الله يرحم زمان وأيام زمان.مصر اللي علمت الدنيا القراية والكتابة لسه فيها نسبة أمية مرتفعة .
ـ وعرفت منين جلالتكم ؟ سأله مخلص مندهشا..
ـ سمعت واحد بيقول للتانى العلم في الصغر كالنقش ع الحجر بالذمة دا كلام.النقش ع الحجر دا هوه الطريقة اللي سجلنا بها تاريخ أول حضارة في العالم.ثم أنا اعتقد إن أمخاخ أحفاد أحفاد أحفادي اللي همه انتم موش ناشفة للدرجة دى .
تذكر مخلص أن حجم الإصبع الكبير لقدم التمثال في حجم رأس الإنسان قبل أن يوضح له المقصود بالعبارة.شجعه ارتياح جلالة الملك لتفسيرها على أن يكمل الكلام عن عظمة مصر المعاصرة :
رغم الأمية المرتفعة يا مولانا إلا إن فيه علماء مصريين من أحفاد جلالتكم رافعين اسم مصر عاليا في كل المجالات.في الطب وعلوم الفضاء والذرة والجغرافيا منهم مثلا المرحوم الدكتور مصطفى مشرّفة والمرحوم الدكتور جمال حمدان والمرحومة الدكتورة فاطمة موسى والدكتور فاروق الباز والدكتور مجدي يعقوب والدكتور أحمد زويل.وغيرهم كتير كتير في كل التخصصات .
ظهرت على وجه الملك الحجري علامات الارتياح بعد أن عدد مخلص له مظاهر عظمة مصر ومدى التقدم الذي بلغته في نهاية القرن العشرين غير أنه عاجله بتساؤل أشد إيلاما :
ـ ياأخى.هي دلوقتى الفلوس أصبحت جواز المرور لمجتمع الصفوة ؟؟!! .
كاد مخلص أن يجن من حجم الثقافة العصرية التي تختزنها ذاكرة التمثال الحجرية الذي بادره وكأنه توقع أن يسأله عن كيفية معرفته :
ـ أنا موش نايم على ودانى يا أستاذ.أنا عارف كل حاجة بتحصل في البلد.انت نسيت إن أنا كنت ملك؟؟! ما فيش حاجة بتستخبى.ما فيش حد بتتبل ف بقه فوله.وعلى طريقة الفنان فؤاد المهندس أنهى عبارته قائلا : مش كدا ولا إيييه !
تصبب عرق الخجل من جبين مخلص .أحس أن التمثال اختاره من بين كل سكان مصر ليصب عليه حميم انتقاداته .
ـ كفايه أرجوك.قالها المخلص وهو في نصف هدومه .
ـ الصفوة يا أستاذ أساسها السلوك الحضاري.اسألني أنا.أكمل الملك وكأنه يتحسر على مُلك زائل.عمر الفلوس ما بتعمل حضارة.ما سمعتش عن قارون وخزائنه ؟! الساحل الشمالي بتاعكم كان مزرعة قمح الإمبراطورية الرومانية دلوقتى مزروع قرى سياحية.مليارات من الجنيهات أهدرت علشان منظرة فاضية.ما فيش مانع إن الناس تتبسط.بس بالتخطيط السليم.اللى يحقق التوازن بين أفراد المجتمع وينمى مصر تنمية حقيقية .
ـ ما تنساش جلالتكم إن مصر دلوقتى مليانة مدن جديدة.زى ما فيه قرى سياحية فيه مشروعات تنمية مالية البلد.فيه كده وفيه كده.زى كل بلاد الدنيا .
لم يقتنع الملك بكلام مخلص هذه المرة ..
ـ إحنا رافعين عليكم قضية في محكمة التاريخ .قال التمثال والامتعاض يغلف شفتيه .
ـ ليه لا سمح الله ؟ سأله مخلص كمن يوقع مرتجفا بالعلم على طلب المثول سريعا أمام المحكمة .
ـ موش من حقكم تستغلوا أسماءنا في الدعاية للسلع غير الحضارية بتاعة الأيام دى.أنا عرفت إن عيون توت عنخ آمون كانت ها تتطلع على حاجة اسمها مكرونة في إعلان تلفزيوني وان كليوباترا لها سيجارة وبلاطة باسمها دلوقتى.مع العلم إنها مش من سلالتنا.الأدهى إن الفراعنة كلهم محطوط اسمهم على شوية بلاط .
ـ ما فيش ضرر من كدا جلالتكم.دى حاجة بتحصل في كل الدنيا.دى مجرد إعلانات.علق مخلص على كلام الملك مواسيا.لم ينتظر التمثال حتى يكمل مخلص كلامه وسأله :
ـ ليه كل حاجة بترقص عندكم؟؟! مافيش إعلان تلفزيوني سادة أبدا.كله بالرقص.من البطاطس للحاجة الساقعة للحشرات للمبيد الحشري.اسمح لي دى بقت حاجة ساقعة خالص .
عجز مخلص عن الإجابة عن سؤال الملك الذي قال وكأنه يجيب عنه بنفسه :
ـ المصيبة موش في امتهان الماضي عندكم.المصيبة في امتهان المستقبل كمان .
ـ إزاى.سأله المخلص بعد أن تحول الموقف بينهما من محاورة إلى محاضرة تأديبية من الملك ممثلا لماضي مصر إلى مخلص ممثلا لحاضرها .
ـ مشروع زراعي قومي ضخم عظيم قريّب من معبد أبو سمبل اسمه توشكا ها ينقل جزء كبير من سكان مصر بعيدا عن النيل اللي لوثتوه وشوهتوه.ولو شافه أي فرعوني دلوقتى يتوه .قللتم فرحة الناس وافتخارهم بيه وحطيتم اسمه على علبة سجاير.موش عيب برضه !!
توقفت تماما مقدرة مخلص على الرد على تساؤلات الملك وانتقاداته اللاذعة وكلماته الحادة.قرر أن يسمع ولا يتكلم تاركا للتمثال الفرصة ليخرج كل ما في قلبه فتوالت انتقادات الملك كالسهام المشتعلة .
ـ نرجع للنيل.دا كان إله بيعبد قبل ظهور الأديان السماوية ويا ويله اللي كان يلوثه من ضميره ومن المجتمع.دلوقتى مراكب السواح بترمى فيه فضلاتها.ومراكب تانيه بتغرق فيه بحمولاتها السامة.وناس تبنى أبراجها على ضفافه تحرم الآخرين من رؤيته.ومصانع تلوثه بمخلفاتها.حتى العربجية بيحمّوا فيه خيولهم .دا غير الستات اللى بتغسل فيه هدومها وحللها وبعدين تقولوا انه شريان الحياة في مصر !! .
ـ وهضبة الأهرام.ازاى تسمحوا بالبناء عليها.انتم موش عارفين إن أرضها من الحجر الجيري وان مياه الصرف الصحي لمساكن الصفوة ممكن تتسرب وتدمر آثار المنطقة.نسيتم اللى حصل لأبو الهول قريبي .
أصبح مخلص في الربع الثالث من هدومه وقبل أن يبلع ريقه داهمه الملك بعتابه التالي:
ـ ما شاء الله.كل دى أبراج سكنية.أنا كنت هاتوه وأنا راجع.النيل أصبح سجينا يا أستاذ.مئات الأبراج الخرسانية العملاقة.مغروزة على الضفتين اللي كنا بنعمل فيهم مهرجانات وفاء النيل.دى موش مباني.دى في الحقيقة قضبان سجن النيل.نسيتم نظام البناء على أيامنا.الرمل للأموات والطين للأحياء.يعنى الطين نعيش على الخير اللي بيطلع منه والصحرا نبنى عليها بيوتنا ومقابرنا وأهراماتنا .انتم قلبتوا الآية. دلوقتى الطين بيموت بعد ما تحولوه لمباني والرمل بتحاولوا تستصلحوه.لسه عايشين بطريقة ودنك منين ياجحا؟؟!! طب ما تسيبوا الطين للزراعة وتبنوا بيوتكم في الصحراء.
لم يستطع مخلص الالتزام بما قرره واندفع كمحام نشط مدعم بالأسانيد القانونية يترافع عن موكله الذي هو شعب مصر في النصف الثاني من القرن العشرين :
ـ أذكّر جلالتكم بمشروعات استصلاح الأراضي الزراعية في مديرية التحرير والوادي الجديد والنوبارية وشمال سيناء وآخرها مشروع توشكا وشرق العوينات.كما اذكّر جلالتكم بالمشروعات الصناعية العملاقة في منطقة شرق التفريعة وشمال خليج السويس.وطبعا المدن الجديدة اللي سبق وحكيت لجلالتكم عنها .
نظر مخلص إلى وجه التمثال الملكي متمنيا أن يرى انطباعات طيبة عما قال.تركه جلالته قليلا ليسترد أنفاسه اللاهثة بعد دفاعه القوى.بعد قليل سأله بابتسامة ساخرة ماكرة : صحيح فيه شقة بخمسين مليون جنيه في عمارة على النيل ؟؟
وقبل أن يجيبه سأله ونظرات ذات مغزى معين تصاحب سؤاله: مين اللي هايسكن فيها.هيه؟.برضه ناس من الصفوة مظبوط؟؟..ولا ناس عندهم فلوس لو وقفوا عليها يشوفوا بلاد بونت.؟! ولا يمكن ناس بيقولوا على نفسهم انهم أهرامات.؟! مش برضوا فيه اتنين مليون نسمة في القاهرة وحدها ساكنين في المقابر؟؟!! مش برضه فيه حداشر مليون مواطن ساكنين في المناطق العشوائية في المدن المصرية دلوقتى.
ـ وبرضه فيه مشاريع لإسكان شباب مصر في كل المدن الجديدة وفيه..
ـ مدن جديدة.مدن جديدة. قاطع الملك مخلص محتدا.تقدر تقوللى فيه كام مليون ساكنها لغاية دلوقتى ؟؟!!
ـ لم يجد مخلص الشجاعة الكافية ليخبر الملك أن عدد سكان 2. مدينة جديدة بعد 24 سنة من قرار إنشاء المدن الجديدة في مصر في عام 1975 أصبح أقل من 62. ألف نسمة يعنى 1% من سكان مصر سنة 1996 .وأن هذه النسبة تعنى أن مصر إذا أرادت إخراج ربع سكانها الحاليين من الوادي والدلتا إلى المدن الجديدة فإنها في حاجة إلى 485 مدينة جديدة تبنى خلال 52. سنة ..
ـ اسمح لى أقولك يا أستاذ إن مصر رجعت تانى لأيام الملك مينا .
أعاد كلام التمثال مخلصا إلى واقعه مرة أخرى.أفاقه من تخيلاته.لاحظ الملك أن الصحفي لم يعد قادرا على الرد على تساؤلاته.وأن قدراته الذهنية قد خارت ولم يعد في حالة تسمح له بمجادلته فوفر عليه عناء محاولة فهم كلماته الأخيرة .
ـ طبعا انت عارف إن الملك مينا جدي الكبير هوه اللي وحّد القطرين.أى المصرين.مصر العليا ومصر السفلى.الدلتا والصعيد يعنى.دلوقتى مصر على وشك إنها ترجع مصرين تانى .لكن المرة دى مصر سكان القصور ومصر سكان القبور.مصر الصفوة ومصر الفقرا .مصر السفلى ومصر العليا .
توقف مخلص عن التفكير وعن الكلام.أغمض عينيه وتمنى أن يكون ما يحدث له حلم أو حتى كابوس.أما التمثال فقد استراح بعد أن أفرغ ما في قلبه من هموم.استعاد قواه الحجرية بعد أن خف وزنه بالتخلص من مئات الأطنان من الأحزان.أدرك أن مكانته كملك لايزال لها احترامها.انتعشت معنوياته فقفز عاليا ليجتاز الكوبري في طريقه إلى ميت رهينة .
لملم مخلص أشلاء كرامة أحد أبناء جيل النصف الثاني من القرن العشرين بعد الميلاد بعثرها تمثال ملك حكم مصر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.لم يصدق أن الملك يعلم كل شيء عن مملكته حتى وهو تمثال.جلس كتمثال في المكان ذاته الذي كان يجلس فيه الملك علّه يسترد بعض كرامته.تصلبت نظراته على لا شيء وكأنه قد أصبت بـ " لخمة الفراعنة " .شعر ببرودة تجتاح كل جسمه.قال في نفسي وهو شبه غائب عن الوعي فعلا الملك هو الملك كما كتب سعد الله ونّوس.وعندما نهض من مكانه ليعود إلى حيث أتى كان النصف الثاني من هدومه قد اختفى تماما
=================
مهداة الى الأخ العزيز هشام السيد منشورة ضمن مجموعتى (العابر والتماثيل) 1999