المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السقوط محمد صباح الحواصلي



محمد صباح الحواصلي
27/09/2006, 08:01 AM
السقوط

قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي

إذاًً لم يكنْ عابراً غريباً الرجلُ الذي وصلَ في وقتِهِ إلى ساحَةِ الملعَبِ, بل هو نفسُهُ مدرسُ التاريخِ, والطلبةُ الذين يرتدونَ القمصانَ الزرقاءَ ويلعبونَ بمهارةٍ وحِنكةٍ هم تلامذتُهُ.
المشهدُ كامل الحضورِ, وكأنَّ كلَّ شيءٍ من حولِهِ مقدرٌ له أن يصيرَ لكي يُلقي بالعبرةِ لذوي الألباب من الصبية والمتفرجين, ويثيرَ الدهشةَ في نفوسهم.
الوقتُ هو ظهيرةُ عطلة الجمعة أو السبت أو الأحد, وفسحَةُ الملعَبِ الخضراءِ الواسعَةِ تحمَّسَتْ للعبهم, والشمسُ - سُلطانُ السماءِ - بَدَتْ وكأنَّها قد استأنَسَتْ لعبَهُم فنسيَتْ نفسَهَا, وحسبَتْ أنَّ الزمانَ قد توقفَ, وأنَّهَا لن تبْرَحَ رُكْنَهَا في قبةِ السماءِ.. وكأنَّ هذا الزمانَ هو نهايَةُ الزمنِ..
الصِبْيَةُ يلعبونَ بمهارةٍ منقطعةِ النظير. أقدامُهُم تركلُ الكرةَ من واحدٍ لآخرَ بدُرْبَةٍ وهِمَّةٍ عالية.
الجزءُ الأهمُّ من مشهدِ تلك الظهيرَةِ هو أنْ تُركلَ الكرةُ خطأ في غير اتجاهها المرجو فتتدحرج بسرعةٍ ولهفةٍ صوبَ أستاذ التاريخ الذي كان يسيرُ عند حافةِ الملعبِ وكأنَّهُ على موعدٍ معها فاستوقفها بقدمِهِ, وقد توقفَ الجميعُ عن اللعِبِ وانشدّتْ عيونهم نحوه, والعَرَقُ يسيلُ من جباههم وعبر انحناءات أبدانهم الفتية المتماسكة.

تبوحُ الثواني الأولى عن مكنونِها: فمدرسُ التاريخ على ما يبدو غيرُ راغبٍ أنْ يعيدَ الكرةَ إلى الصِبيةِ ليستأنفوا لعبَهم.. بل مقدرٌ له أنْ يفعلَ شيئاً آخرَ: أنْ يدنو من الأرضِ, وفعلا دنى, وأن يُمسكَ بالكرةِ الجَسِئَةِ التي طالما رُكِلَتْ عاليا مراتٍ ومراتٍ عبرَ تاريخِ الكرةِ المديد, وعادَتْ إلى الأرضِ وهمدت عَقِبَ كل مرة..
وأن يريحها قليلا على راحة يده, يهيؤها لركلة جديدة ليست هي الأولى ولن تكون الأخيرة.. وفعلا أراحها على راحة يده.
وأن يرفع بصره نحوهم كأنه يناشدهم ألاَّ تغيب أنظارهم, كما لم تغبْ أنظار الكثيرين من قبلهم, عن مشهدٍ رائع مثير للتفكُّرِ والدهشةِ.
وما هي إلا ثوانٍ حتى رَكَلَ الكرةَ برأسِ قدمِةِ المدربة الواثقة ركلة دفعت بها إلى أعلى بقوة هائلة مزقت حُجُبَ الهواء..
شهد الجميع كيف تغيبُ الكرةُ في الارتفاع ورؤوسهم ترتفعُ معها درجة درجة وقد اعتمرتهم النشوة, وتمكَّنَ منهم الذهولُ.. تلك النشوةُ التي كثيرا ما تخدع فريقا منهم الذين يحسبون أن نشوتهم ستبقى تصعد الى أعلى دون هبوط وكأن الكرة ستبقى معلقة, ثمة, في قبة السماء لا عودة لها إلى الأرض.
أما الباقون من الصبية والمتفرجين فيدركون أن الكرة التي اندفعت منذ البداية بسرعة هائلة تتناسب مع شدة الركلة ستبقى ترتفع بقوة وثبات إلى أن تبلغ ارتفاعا من المستحيل أن تتجاوزه, وأن سرعتها ستتناقص إلى أن تفتر, فتضعف, إلى أن تبلغ نقطة من المستحيل أن تعلو بعدها ولو قيد أنملة.
هاهي الكرة تتوقف في السماء لجزء من الثانية يكاد لا يبين, بل يكاد لا يكون توقفا بالمعنى الرياضي الصحيح, بل امتثالا لخيار وحيد هو السقوط الحتمي الذي لن تملكَ الكرةُ خلال ذلك الزمن المتناهي في الصغر حتى القدرة على التطلع إلى نقطة أعلى, ولن يكن أمامها الا أن تستسلمَ لسقوطٍ غير إرادي.

هي الآن في قبَّةِ السماء وقد استنفذَتْ قوَّتها الدافعة إلى أعلى, واستسلمَتْ صاغرة مطيعة لقانونِ السقوطِ الذي لا محيد عنه, والذي سيضاعِفُ من قوَّةِ نفسهِ مع تعاظُمِ وزن الكرة الساقطة.

استدارَ أستاذُ التاريخِ تاركا رؤوس تلاميذه مرفوعة إلى أعلى وقد غطى بعضهم عيونهم براحاتهم درءَ أشعة الشمس, وغاب خارج الملعب, إذْ لم يجد ضرورة بأن يبقى ليشهدَ سقوطاً مؤكداً للكرةِ الذي سيأخذ زمنا مساويا لزمن اندفاعها إلى أعلى مع فارق كبير أن سقوطها سيلاقي الأرض وليس السماء..
سياتل 17 نسيان 2004


نشرت في مجلة "أفق" الإلكترونية في 20 أيلول 2005

http://ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=2779

محمد فؤاد منصور
15/06/2007, 10:59 PM
الأستاذ الكريم محمد صباح
جميل جداً هذا المشهد الذى يدعو للتأمل ..لقد أدهشنى أن أحداً لم يتوقف عنده فقررت أن أعيده إلى الذاكرة من جديد .النص رائع تتوفر فيه عناصر القصة بشكلها التقليدى ثم الدعوة للتفكير والتأمل وكأنما أراد المدرس أن يعطى تلاميذه درساً جديدً فى حتمية السقوط وأنه ماطار طير وأرتفع إلا كما طار وقع ..كل شئ يأخذ مداه إلى نهايته ثم يعود من حيث بدأ، ذلك هو قانون الحياة الأزلى..
الفكرة رائعة وقد عبّرت عنها بإقتدار والنص جدير بالتوقف لتأمله..تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :good:

زاهية بنت البحر
16/06/2007, 12:38 AM
دكتور/ محمد فؤاد منصور :vg:

أحسن الله إليك أخي المكرم على هذه الدرة المعادة إلينا كي نقرأها فأنا لم أرها قبل ..قصة رائعة من أول كلمة حتى آخر الكلمات ..أبدعت أخي المكرم د.محمد صباح الحواصلي وعبرت بشكل مدهش عن الفكرة ..أهم مالفت نظري أن نقطة بداية السقوط لايحس بها أحد لأنها تحدث بسرعة وفيها يكمن السر ..بارك الله بك ورعاك
أختك
بنت البحر