المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قبل الغروب*



مصطفى لغتيري
09/01/2007, 11:48 PM
قبـل الغـــروب

رن الهاتف رنينا مفزعا, فارتج قلبي, وكأنني أنتظر خبرا ما, والحقيقة أنني لا أنتظر أي شيء .. تحفزت حواسي, وضعت الكتاب الذي كنت أغوص في مجرى أحداثه .. هرولت نحو الهاتف, وقبل أن ينقطع الرنين الثاني أمسكت بالسماعة, وخفقان قلبي لم يستقر بعد :
" ألو من؟ "
" أنا علي "
" علي من ؟ "
"أرجوك لا تستغرب ولا تقطع الاتصال قبل أن تسمع كل ما أقول"
" تفضل ما دام الاتصال على نفقتك, فلا يهم, قل ما تشاء "
" أنا علي .. ألا يذكرك هذا الاسم بشيء ؟ "
" لا أظن ذلك .. هل تود أن تتسلى, لقد أخطأت الرقم "
" أرجوك لا تغضب, أنا فقط .. أرغب في عدم مفاجأتك "
" يا سيدي لن تفاجئنا, قل لي من أنت, وماذا تريد "
" أنا علي بطل الرواية التي تقرأها "
تسللت ابتسامة إلى شفتي في الوقت الذي شق الاستغراب طريقه نحوي .. تمالكت نفسي محـاولا الحفـاظ على برودة أعصـابي:
" مــاذا تقول ؟ من أنت ؟"
" أعرف أنك ستستغرب .. لكنها الحقيقة .. فأنا بطل الرواية التي تقرأها الآن.. قل, ألا تقرأ رواية عنوانها " قبل الغروب " ؟
شيء من القلـق أخذ يتسـرب إلى ذهـني .. تصنعـت الجـديـة والصلابـة في قولـي :
" اسمع أنت .. لعبتك تافهة, ولست مستعدا لسماع سخافاتك .. ابحث عن غيري "
"أرجوك لا تقطع الاتصال, وأجبني من فضلك, فالمسألة مسألة حياة أو موت, هل تقرأ الرواية التي سألتك عنها سابقا ؟ "
تمالكت نفسي .. زفرت آهة عميقة ثم أجبت :
" نعم أقرأها, ثم ماذا بعد ؟ "
أردف بكلمات مستعطفة :
" أعرف أنك لن تصدقني .. لكنني أنا علي بطل الرواية .. وأرجوك أن تساعدني "
انفلتت مني ضحكة خفيفة تمازجها نبرة احتجاج واضحة :
"اسمع يا بطل الرواية . ولو أنني لا أعرف من أخبرك بأنني أقرأ هذه الرواية ولا من أعطاك رقم هاتفي .. إلا أنني لست مستعدا للاستمرار في هذه اللعبة السخيفة . أرجوك اقطع الاتصال وإلا بادرت بقطعه ".
أخذ يصلني من الجهة الأخرى نحيـب جعلـني أتوقـف عن كلامي .. ثم تهادت إلى مسمعي كلماته المستعطفة :
"أرجوك ساعدني فأنا في ورطة, لا أعرف ما أقوم به .. إن مصيري معلق بين يديك .. "
لمست الصدق في كلماته .. فأخذت أتراجع رويدا رويدا عن صرامتي تجاهه .. ثم قلت بكلمات خفت حدة غضبها:
" ولو أنني لا أصدق شيئا مما تقول . إلا أنني لن أخسر شيئا إذا سايرتك في لعبتك .. ماذا تريد مني إذن ؟ "
تغيرت لهجته لحظتئذ, وظهرت علامات البهجة على نبرات صوته " شكرا لك يا سيدي .. فقط أريد منك أن تذكرني بما يجب أن أقوم به .. لقد اختلطت علي الأمور, وأنا الآن في موقف لا أحسد عليه .. دخلت المصرف .. أخذت النقود, وفي الوقت الذي كنت أنوي مغادرته . تقدم نحوي موظف أخبرني بأدب أن المدير يريد أن يحدثني في أمر يهمني .. ولقد أخبرني أن التوقيع الذي سحبت به الأموال غير مطابق للتوقيع الأصلي الذي يحتفظون به في أرشيفهم ..
قاطعته :"ولكن كل هذه التفاصيل غير موجودة في الرواية.. ما قرأته أن البطل بعد أن أخذ الأموال .. غادر المصرف دون أن تعترضه كل هذه التعقيدات"
عاد صوته إلى تهدجه :
" أرأيت يا سيدي ألم أقل لك ؟ إنني في ورطة حقيقية أرجوك ..ساعدني من فضلك . فلقد طلبت منهم أن يسمحوا لي باتصال لأحل المشكل .. فسمحوا لي بذلك .. وكان من حظي أن اتصلت بك .. أرجوك ساعدني ولا تتخلى عني . "
ساورتني الحيرة .. فكرت في الأمر من جميع وجوهه . الشك لا زال يداعب وجداني .. والمعلومات الدقيقة التي تصلني من الشخص تربكني .. قطع علي حبل تفكيري. "اِسمع يا سيدي .. إنهم سيستدعون لي الشرطة إذا لم أبرهن لهم أن التوقيع صحيح .. أو على الأقل سيجردونني من المبلغ "
قلت والحماس أخذ يستولي علي :
" اِسمع, إنك لست إلا وهما .. أنت إنسان من كلمات, فلم الخوف ؟ "
أحسست أن صوت الرجل تكتنفه نبرة غريبة : " أنا من كلمات وأنت تقرؤني في الرواية .. أما الآن, فأنا من لحم ودم ..أنا في مصرف حقيقي وأمام أناس حقيقيين "
فوجئت بمدى الجدية التي يتحدث بها, فتبرعم في ذهني عدد من الأسئلة أجلت الإجابة عنها إلى حين .. ثم توجهت إليه بالكلام :
" اسمع, إذا قلت لي من أين حصلت على رقم هاتفي.. أعدك أن أقدم لك العون "
"سوف لا تصدق إذا قلت لك "
"بل سأصدق .. أنـا بعـد كلامـك هذا .. مستعد لتصديـق أي شيء "
" الحقيقة يا سيدي أن الشيك كان يحمل توقيعك واسمك, وقد رجوتهم أن يعطوني هاتفك لأحل المشكل معك "
نزلت علي كلماته كالصاعقة . فبدا الارتباك والغضب على حركاتي .. وقبل أن أتفوه بكلمة سمعته يقول :
" لا تنسى يا سيدي أنك وعدت بمساعدتي ".
قاطعته بعنف : " ولكن كيف حصلت على شيكي وتوقيعي ؟"
أجاب بارتباك " لا أدري يا سيدي, اسأل المؤلف,"
حينها خطرت لي فكرة فسألته:
" ما اسمي واسم المصرف الذي أتعامل معه ؟ "
فإذا بإجابته تأتي دقيقة, بيد أن ملامح الصوت بدأت تذكرني بشيء ما.. استدرجته في الكلام حتى أستطيع أن أتبين ما أفكر فيه ثم سألته :
" اسمع بقي سؤال واحد إن أجبتني عليه ساعدتك "
" تفضل يا سيدي, اسأل ما تشاء ؟ "
" كيف عرفت أنني أقرأ هذه الرواية ؟ "
وقبل أن أتوصل بجوابه, انقطع الاتصال .. شرد ذهني للحظات .. انتبهت بعدها لنفسي .. وضعت السماعة في مكانها.. عدت إلى روايتي, وكلمات البطل المزعوم ما فتئت تلقي بظلالها على كياني ..

*المصدر ..شيء من الوجل -مجموعة قصصية صدرت سنة2004.

محمد فؤاد منصور
07/08/2007, 02:02 AM
المبدع العزيز مصطفى لغتيرى
عثرت على هذا النص الجميل أثناء جولتى اليومية لألتقاط أحد النصوص المنسية والتى لم يعلق عليها أحد وأنا أدعو النقاد للتعليق عليه فهو بالفعل عمل ممتاز يعبر عن حالة تنتابنا جميعاً فى أحيان كثيرة حين نندمج لحد التوحد مع مانقرا وكأن الشخوص التى نقرأعنها حية بالفعل من لحم ودم ، أيضاً حين يغيّر القارئ مسار الأحداث عن عمد ليدفع برؤيته هو لارؤية الكاتب
النص فيه كلام كثير ولكن العرض أستهوانى واللغة أسرتنى فشكرأ لك أيها المبدع المتميز.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

نزار ب. الزين
08/08/2007, 05:18 AM
أخي الأديب الأستاذ مصطفى
ما أحلى أن يشطح الكاتب بخياله ليدمج الوهم بالحقيقة في مجرى روائي يأخذ بالألباب ...
و كثيرا ما يجمح العقل ليكمل أحداث قصة ، أو ليتفاعل مع شخوصهم فيجسدهم أما ناظريه ليحاورهم و يحاورونه ، ذلك أن المسافة بين الحقيقة و الوهم لا تتعدى سماكة شعرة .
إبداع جميل لكاتب متمكن .
دمت و دام إبداعك
نزار ب. الزين

عبدالله البقالي
08/08/2007, 08:06 PM
الصديق المبدع مصطفى لغتيري

أول ما عرفتك، التصق بذهني كونك رجل تقني ميال للنقد أكثر من قربك للابداع. لكن هذا النص غير هذا اليقين في ذهني تماما
كنت مبدعا على مستويات شتى. الالتقاط. و التوظيف ، والبناء. ثم هذا الافق المشرع على مصراعيه حين تصل بنا إلى النهاية

عمل رائع فعلا.

فيصل الزوايدي
09/08/2007, 01:44 AM
هل يمكن ذلك حقا أخي مصطفى لغتيري أن تخرج كائناتنا الورقية من قصصنا الى حياتنا و لكن لم لا ؟ ألسنا نخلقها من واقعنا فلم لا تعود اليه ؟؟
مع الاعجاب و المودة