المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيد الخدير .....الفصل الثالث



علي مرزوق
12/05/2009, 03:42 PM
لبسم الله الرحمن الرحيم الفصل الثالث

ضوء سيدنا جبريل
بعد هذه الوجبة الخفيفة .أخرجت المصباح من حقيبتي , وخرجنا لنروح على أنفسنا حتى تنضج وجبة العشاء الرئيسية . وفي طريقنا نحو المسجد كان سي العياشي يرمي الحجارة على الكلاب التي تتهيء للهجوم علينا وقد ارتفع نباحها وازداد هجومها نحوي خاصة وأنا لاحول لي ولا قوة إلا الاختباء وراء سي العياشي لأني صرت كالبصير لا أرى شيئا من كثرة الظلام المنتشر في هذه الليلة الصيفية .
ونحن في الطريق فوجئنا بضوء يضيء ويختفي تارة أخرى يشبه وميض البرق فسالت صهري قائلا : (( ما هذا الضوء الخاطف الذي ينبعث من هناك ..))
فقال لي وهو يبتسم ..: (( هذا ليس بضوء وليس وميض البرق بل هو عود الثقاب الذي يستعملونه لإشعال السبسي الذي يدو ر بين مجموعة من الشباب العاطل وهم تحت سقف هذا المسجد ))
فأشعلت مصباحي اليدوي وعكسته نحوهم وقلت : (( والله إنهم كذلك إني أرى رؤوسهم تتحرك وأصواتهم ترتفع كلما اقتربنا منهم ..هيا اسرع حتى نتأكد ...))
اقترب مني سي العياشي ثم همس في ادني قائلا : (( وحين تقترب منهم سوف تسمع أكثر من هذا الهرج والعبث بسكينة هذا الليل ))
توقفت قليلا لادخل رجلي في حدائي جيدا ثم استأنفت الطريق وقد سمعت أحدهم يقول : (( انتبهوا ربما هناك اشخاص مقبلين علينا هيا خبيئو ا الدخان ..))
وما كدنا نقف أمامهم حتى اختفى الدخان الذي بين أيديهم و الكلام الفاحش الذي كان يدور بينهم .اقتربت شيئا فشيئا وبدأت اتأمل في الوجوه بعدما أفشيت السلام عليهم فوقف احدهم وعانقني عناقا حارا وهو يقول : ((نهار كبير هذا اسي احمد ونورت دوارنا بقدومك مرحبا ...))
فعكست المصباح نحو وجهه وأنااأتأمل وأتفحص ثم جذبته عندي وقلت له : (( ماذا أرى سي ميلود عزري الدوار قاض القضاة نهار كبير شفناك فيه شخت وشاخ معاك السبسي ))
(( هذا ما عطى الله أخاي احمد بليتنا هي هذه والله يعفو علينا لانتعدى على احد وداخلين لسوق روسنا ))
(( واسي ميلود راك كتقتل راسك ما شي داخل لسوق راسك على كل حال الحالة الصحية كيف هي ))
(( حتى حاجة ما خبيناها عليك كلشي قدامك ))
سي ميلود هوأكبر سنا بين هؤلاء الشباب عمره يناهز الأربعين غالبية شباب هذا الدوار يذهبون الى المدينة من اجل العمل الا هو يقضي جل وقته تحت سقف هذا المسجد إما نائما أ ومستيقظا يسجل الداخل والخارج من هذا الدوار .
ثم حييت باقي الأخوة الذين اعرفهم جيدا وكان من بينهم شاب حديث العهد بهذا الدوار لم اراه سابقا يبدو من خلال هندامه متحضر , اسود البشرة لاتستطيع ان تميز بين وجهه وسواد الليل
لولا بياض عينيه اللامعتين مع أسنانه المضيئة كالجبس وارنبته الرابضة على وجهه , شعره حلقه لم يترك منه الا بقعة مستديرة كثيفة الشعر بعيدة عن أدنيه (طايزن ) وقد وضع في عنقه سلسلة ويرتدي صدارأصفر عليه رسم بالأحمر مكتوب تحتها بالأزرق باللغة الانجليزية ( you look like monkey ) وهو لايدري ماذا كتب والكلمة ترجمتها بالعربية هي ( أنت شبيه بالقرد أو قريب الشبه ) حتى لاأطيل فهذه حالة شباب هذا العصر لايميز بين الصالح والطالح وتراه ينجر مع كل تيار غربي في لباسه في حلاقته ومشيته وغير ذلك مما يندى له الجبين .
نحن الآن في حاجة لمن يوجه التوجيه الصحيح وليس العكس لان ما نراه وما يوجه إلينا من إعلامنا فهو يساعد أكثر هذا الغزو الشرس على امتنا ترى من يحمي أصالتنا وثقافتنا إن لم يكن إعلامنا يعمل لصالحنا .
عدت إلى ميلود وهمست في أدنه : (( هل لازلت تجيد لعبة الملاكمة ..))
فا بتسم في وجهي وحرك يديه حركة الملاكمين مؤكدا انه مستعدا لمنازلتي إن شئت , كانت لعبة الملاكمة أشهر رياضة أنداك وهي لعبة الدفاع عن النفس الوحيدة لاوجود لتايكواندو ا ولا الكراطية ولا غير ذلك .وقد انتشرت انتشارا كبيرا بين الفئات المدنية وخصوصا المثقفة من صغارالسن , وكانت تمارس في الحلقة أمام معلم اتخذها وسيلة للكسب وكانت تقام لها مباريات في المنسابات والمواسيم .
كان ميلود من بين خصومي الذي كنت أنازلهم في كثير من الأحيان وربما خارج الحلقة في الدوار , وكنت انتصر في كثير من اللقاءات الحبية .
وقد حدث في يوم من أيام عاشورا أن بنات وصبية أولاد لفقيه ذهبوا إلى سيد الخدير في موكب على نغمات وأهازيج فلكلورية ودقات التعاريج وهن يشيعن جنازة بابا عاشور وهي على شكل صليب ملفوف بالأثواب البالية وقد اشتهر بهذا الاسم , كان البنات يجذبن ويتناوبن على ذلك معبرين على لوعة فراقهن مع بابا عاشور وبدان يتغنين بصوت واحد ودقة واحدة .
وفي نفس اليوم كان بنات الدوار المجاور يلعبن مثلهن ويجذبن كذلك على عاشور ويرثين بالطريقة نفسها ومعهن أبناء دوارهن , اجتمع الكل هناك في مقبرة سيد الخدير وقد اشتد ت حرارة المنافسة والحماس بين الطرفين ادت في الاخير الى تحرشات كادت تشعل فتيل المصادمة لولا ان احدهم صعد فوق صخرة ثم رفع صوته عاليا (( أولاد دوار لفقيه وأولاد دوارا بيه نحن جيران هيا توقفوا هذا نهار كبير لايصلح فيه الخصام اتركوا البنات وحدهن وتعالو نلعب لعبة الرجال )) ثم أشار إلى صبي من دواره وقال : (( هذا ولد الشيخ الحيد شيخ لقبيلة تعرفوه جيدا سيدي عبد الغني قاريء وولد المدرسة وكيبوكسي تفضلوا خرجو ليه البيضاوي ))
كان هذا الصبي كلما لفظ بكلمة ينظر إلي نظرة غير عادية تعبر عن مدى حقده على أبناء المدينة
أما ابن الشيخ فكان كلما سمع اسمه والمدح عليه يرفع رأسه ويداه مبرزا عضلاته , وفي اللحظة تقدم إليه ولد سي العالم طفل يافع أفطس الأنف ضخم الوجنتين عريض الكتفين اسود العينين كبير الرأس عليه رقعة شعر مستديرة تتدلى منها ضفيرة وكان شجاعا جريئا ورد بصوت عال : (( تهددنا بولد شيخكم بومة بنت الخراب حتى نحن لدينا ولد خالي محمد ولد سي علي بن حمزة بطلنا غليظ الدبزة ومديغ الخبزة وبيضاوي أصيل ))
ثم بدا الجميع يتراجعون إلى الوراء ليشكلون حلقة لأكون أنا وابن الشيخ في الوسط , وقفت أمام الأمر الواقع بكل سلبياته ثم أمعنت النظر في شخص خصمي الذي كان طويل القامة ويكبرني سنا
وكانت عينه تشتعل غضبا وغيضا ,فشعرت بشيء من الارتباك والاندهاش كاد قلبي يخرج من جنبي من شدة الخوف والفزع ولولا هذا الكم الغفير الذي حولي من الصبية للدت بالفرار طالبا النجاة لنفسي وهذه اول مرة أقابل فيها من اكبر مني وأقوى ولكنني كنت في صحة جيدة .
تراجعت إلى الوراء لاتامل جيدا في وجه الشيخ , فبدأ الصبية يصرخون ويشجعون ويقولون ( زيد القدام تأكل لدام))
فأنصاري يصفرون وأنصاره كذلك , انطلقت المبارة الحاسمة فبادرني خصمي بلكمة قوية كادت تصيبني لولا أنني انحنيت قليلا فأصابت احد أنصاره إصابة كاد من شدة قوتها أن يسقط
على الارض , فسنحت لي الفرصة لاصيبه صدفة بلكمة باليد اليمنى على انفه جعلت دمه يسيل وبدا يبكي ويصرخ طالبا النجاة لنفسه فتفرق أنصاره من الحلقة وشعروا بالهزيمة الغير منتظرة فعادوا من حيث جاءو خائبين .
لم اشعر الا واني محمول فوق كاهل ولد سي العالم وهو يركض كالدب ويصيح بأعلى صوته ويرقص رقصات غريبة ويجيء ويذهب بي يمينا وشمالا ويقول : (( رفعت رؤوسنا وطولت قروننا وهكذا يكونو الذكورا الله يبارك في البيدر ويعمر المطمورة ))
فعاد مكان الحزن على بابا عاشور فرحة انتصارنا على دوار أبيه ومما زاد الجو حماسا ومساندة
وتشجيعا بنات الدوار لنا فكان حفلا بهيجا وعبرن فيه عن شعورهن وغيرتهن بأغنيتهن الجميلة :
(( هكا يكونو لعزارى اولاد الدوار المغيارة
يا لبنات كبرو الكارا سيد الرجال بلا رشوة بلا حزارة ))
وهكذا عدنا إلى الدوار في موكب مغاير للموكب الأول فرحين مسرورين بالنصر المبين .
بعد هذه المشاعر والارتسمات الجياشة التي كانت في يوم من أيام طفولة لاقيود لها والتي قد ذهبت ولن تعود ابدا .
رد ميلود بكلمات متعثرة يشدها الأسف ويقيدها الشوق إلى ماض جميل : (( شكون ينس نهارك مع ولد الشيخ ايه ياالصحة وماذا تعمل لكمتك عمرها ما تنس صورتها باقى بين عينيا ))
كانت كل هذه الخواطر والتأملات الدقيقة أجمل شريط شاهدته على محيا ميلود .
ميلود هذا اسود اللون , سواده لاينتمي للأفارقة ولا الصحراوين لكنه لون صنعته المعاناة وشدة الفقر والحرمان من عطف الولدين .
فقد الام والاب وهو في الرابعة من عمره , ليتكفل تربيته عمه ثم يتوفى كذلك ليبق ميلود واخوه مبارك الذي يكبره بعشر سنوات يتيمين لايملكون إلا البيت الذي ترك لهم أبوهم .
كان جلباب ميلود اسود ممزق من اكمامه ومن اسفله , تحته قميس ابيض قد تغير لونه من كثرة الأوساخ المتراكمة عليه من جهة العنق فصار لونه بني , شعر رأسه خفيف خشن تنحدر منه ظفيرة على قفاه وينتعل حداءا اسودا قد خرجت منه احدى اصابعه .
قبل ان اغادر ميلود سالته عن الصبي الاسود من يكون فقال : (( هذا ولد جميعة بنت امي حليمة الخادم جاء ليقضي العطلة معنا ))
تركت ميلود وشانه وتوجهت نحو باب المسجد والحسرة تلجم لساني والتساؤلات تدق في راسي ....كيف يمكنني ان انسى وان نسيت هل أنسى هذا الصبي الأسود الذي يحمل رسوما على صدارته تهين من كرامته , من يرشده من يوجهه إن لم نكن نحن الآباء والمجتمع الذي يعيش فيه ,انه من استصغر الصغير أوشك أن يجمع عليه صغيرا وصغيرا , وإذا الصغير كبير وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع فإذا لم تسد أوشكت إن تتفجر بما لايطاق ولم نر شيئا قط إلا أوتي من قبل الصغير المتهاون به , قد رأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به .
ساد صمت رهيب ولا احد يستطيع أن يقتحم هدوءه وسكونه إلا بومة طارت من أمامنا لتنتقل إلى مكان أمين , ونحن في طريقنا نحو باب المسجد , فتحت بابه ثم دخلت وسط فناءه حيث توجد مطفية لتخزين الماء وثلاث غرف متجاورة ...غرفة الصلاة وغرفة للطلبة والثالثة للاكل والنوم .
فالتفت يمينا وشمالا ثم بصوت مرتفع : (( السلام عليكم ..السلام عليكم )) فلم يجبني احد الا صدى المطفية معيدا قلت حرفا حرفا , ثم فتحت غرفة الصلاة فلم اجد سوى شمعة تضيء على نفسها وكأنها تبكي حسرة على زمن كان فيه الطلبة يجتمعون حولها يتدارسون كتاب الله الى وقت متاخر من الليل , صليت العشاء التي أخرتها حتى هذا الوقت ثم غادرت الغرفة وأغلقت بابها وفتحت الغرفة المجاورة فطار بغثة سرب من الخفافيش , كاد قلبي يخرج من جنبي من شدة الفزع وشعرت بارتعاشة تسري في جسدي والعرق يتصبب من جبيني وغشيتني غشاوة جعلتني لا أتمالك نفسي لولا نداء سي العياشي (( لبسم الله عليك أسي احمد )) وأدركني حتى لاأسقط أرضا , استعدت أنفاسي ونظرت إلى سي العياشي فأجلسني حتى استرجعت أنفاسي ثم دخلت الغرفة فلم أجد فيها إلا شمعتان متقابلتان في زاوية من زوايا الغرفة وكأنهما حزينتان على فراق أحبة زال أثرهم . وحصيرا ملقى على أرضيتها أكلته ديدان الليالي والشهور والأعوام , ثم أغلقتها لأ فتح الغرفة الثالثة فاندهشت لأنه لايوجد غير الشمع وعلى من يضيء , أين الفقيه أين الطلبة وأين ذهب الجميع , وهل يعقل يترك الشمع في الحجرات ولا أحد يوجد داخلها , ما هذه المفسدة في مكان ينهى فيه عن ذلك , تراكمت في دهني التساؤلات فخرجت مسرعا حتى وقفت على صهري الذي جلس بعدما أعياه الوقوف ,والبومة عادت لتحط فوق جدار المسجد وبدأت تنعي بصوتها الساجي على هذا البيت المهجور وتبكي أصحاب الحس والشعور , اندهش سي العياشي فوقف وقد رابه أمري فقال : (( سي احمد مالي أراك مضطربا وفاقد الشعور ...اجلس ..اجلس واسترح ..)) فأجبته (( ما يقع في هذا المسجد سيضر بأهل هذه القرية وسمعتها بين القرى ...))