المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكوخرا



الملوح
10/01/2007, 12:27 AM
فصل آخر من رواية ’’ منذ’’ بعنوان الكوخرا

عند هذه الصفحة؛ الصفحة 76 يمكن التوقُّف عن الكتابة والاكتفاء بزواج ليلى من خليفة وحالة الهستيريا التي داهمت عبد الله نهاية لهذه الحكاية ولعلها فعلا الخاتمة المناسبة لمثل هذه الرواية التي يمكن تصنيفها ضمن الروايات العاطفية من نسج خيال رومنطيقي جموح أو مستوحاة من قضايا المحاكم العديدة مما دأبت على نشره الصحف السيارة باستمرار. يمكن الفراغ إذا من الكتابة وإرسال المخطوط لناشريتولىأمر طباعتها أو إهمالها وبالتالي فالإشارة لشخصية بُراق تبدو مقحمة وزائدة ولا معنى لها مما يكسبها صفة المجانية ضمن مسار الأحداث. فعبد الله محجوب خرج أو لم يخرج لن يغير من الأمر شيئا؛ حكايته مع ليلى انتهت من زمان وأمر سفره لن يهم كثيرا. غير أنَّ هناك أشياء عديدة ما تزال ملتبسة وإيضاحها يبدو أمرا مهما....طيِّب, هو مهم لمن ؟لي؟ للقارىء؟ لعبد الله محجوب ؟لمن؟ لناقد قد يقرأ هذه الحكاية ؟لمن؟ هذا سؤال اعتباطي ناهيك على أنَّه سؤال مغلوط وإلا لماذا أكتب هذه الحكاية أصلاً.
قلت؛ هناك مسائل مهمة لابدَّ من إيضاحها؟؟؟
أوَّلا: إنَّ ما تقدَّم ليس رواية؛ بل هي حقائق فعلية أوردتها كما اطلعت عليها
ثانيا: إنَّ جميع الشخصيات الواردة هنا هي شخصيات حقيقية مازالت تحيا إلى اليوم.
ثالثا:إنَّ الحكم المتسرِّع على هذه الحكاية, هو رأي إجرائي وبالتالي وجب مواصلة الكتابة ومواصلة القراءة أيضا لتعديل الموقف.
رابعا: ثمَّة أمر سيحدث في الصفحة 93 ما بعدها من هذه الحكاية لا بدَّمن التهيئة له من الآن, وهذا لن يتمَّ إلاَّبالإستطراد في الحديث عن بُراق الذي أهملته الدنيا فأهملها؛ اتخذ من غابة على ربوة تطلُّ على المدينة من جهة الجنوب سكنا..
بدعائم من حديد وخشب أقام عشَّة وجعل من أ لواح الزنك المتماوج سقفا لها, أعدَّها سكنا له. يخرج كل صباح رفقة حمارته المسنَّة قاصدا المدينة يرابض عند مدخلها الجنوبي من الشرق مع مجموعة أخرى من طالبي الرزق أمثاله. يوثق الحمارة ومجرور ته إلى عمود الكهرباء. يجلس على الرصيف متكئا إلى الحائط وينتظر. ينتظر قدوم الشاحنات القادمة من شتَّى أنحاء البلاد مملوءة بمختلف المواد من جميع الأنواع؛ وإذ يشير إليه سائق شاحنة يهبُّ إلى تفريغ الحمولة بما كتب الله كما يقول. أضحى معروفا في هذه الأوساط لحسن أدائه ولثقته ولسرعته في العمل؛ يظلُّ هكذا طول النهار؛ يحمل ويُحمِّل؛ يفرِّغ ويملأ. وكم مرَّة حاول أعوان التراتيب افتكاك كريطته بحجَّة أنَّها تفسد منظر المدينة الحداثي وأنَّ حمارته توسِّخ إسفلت الشوارع ببرازها الأخضر؛ غير أنَّهم في آخر الأمر تركوه وتناسوه بل أهملوه. أهملته الدنيا فأهملها. آخر النهار يشتري قوته وقوت حمارته ويعود أدراجه إلى العشَّة ومن هناك يُطلُّ على الدنيا يازدراء؛ يحدِّث حمارته’’ مادونا’’ كما يُصرُّ على تسميتها يتحاور معها بشأن ما يستمع إليه من أخبار يثرثر بها الترانزيستور الصغير الذي لا يفارقه أبدا ولئن كان لا يُطفئه إلاَّ عند النَّوم فهو لا ينصت إليه دائماولايهتمُّ بما’’ يُخرنن’’ به كما يقول غير أنَّه يزيد من حجم الصوت أثناء نشرات الأخبار التي يصرُّ على سماعها من إذاعة الشرق الأوسط أو إذاعة لندرة ونفس الشيء يقوم به حين يتعلَّق الأمر بمباراة في كرة القدم بين النَّادي الإفريقي التونسي وأيَّ فريق آخر؛ ومن حين لآخر يقهقه بصوته الجهوري لرؤية جسدين يلتحمان تحت سياط غلمة مشتعلة...تنفذ إليه عبر السكون صرخات مكتومة وتأوهات ملتهبة؛ يمسح بيديه على خدِّ حمارته ويُسرُّ إليها:
-لم أخسر من الدنيا غير هذه اللحظات.
ثمَّ يقوم يتوضَّأ ويصلِّي لتبدأ بعد ذلك رحلته الأخرى؛ يشرب ويدخِّن ويحشي أنفه بالسعوط وهو يرتشف الشاي الأسود ويمسِّد عزرائيل, عزرائيل لا يفارق بُراق أبدا يلازمه مثل روحه وليس مثل ظلِّه كما تعوَّد النَّاس الإشارة لمن لايفارق إنسانا أبدا؛ وعزرائيل هو جمجمة عثر عليها براق أوَّل مجيئه إلى هذا المكان:
- كنت نلم باش نبني ها العشَّة؛ اللي يطيح تحت ايدي نهزَّه؛ مرَّة بعدت من جهة الشرق نلڤاها ملوَّحة؛ هزيتها؛ ما نعر فش قصتها ولا نعرف شنيه زنسها؛ المفيد طاسة إمتاع مخ بشر؛ نظفتها بالڤاز والكول والجافال ومن وقتها وهي معايا؛ ذكر وآلاَّ أنثى سميته عزرائيل؛ صاحبي اللي مايفارقنيش لا في الحياة ولا في الموت.
يمسِّد الجمجمة بيده الخشنة؛ يضع حبَّة الكوخرا(14) بين السبَّابة الإبهام يضغط عليها حتَّى تصير غبارا ويذرُّ منها شيئا في كأس الشاي ثم يلقي بمحتوى الكأس في جوفه. سألته مرَّة عنها؛ مصمص بشفتيه وقال:
- ما تعرفهاش الكوخرا؛ تخلِّي الرُّوح ترفرف بعيد لا في السما ولا في الوطى؛ ها وينهِ؛ 3كعبات منها يوصلوا الواحد لجهنم طول بلا ڤبر ولاحساب.
يشير بأصابعه إلى نبتة قريبة؛ ترتفع مقدار شبر عن الأرض لها حبَّات خضراء في حجم حبة البندورا غير أنّها كثيرة الشَّوك.
- هذيكه اللِّي تكوخر المخ؛ يقولك واحد مكوخر.
وهو يحيط نفسه دائما بأشياء قديمة و غريبة؛ تمتليء بها عشَّته أو هي ملقاة من حولها؛ زجاجات فارغة؛ صناديق تلفزيونات مهشَّمة؛ طناجر مثقوبة علاها الصَّدأ؛ إطارات صور؛ صور قديمة؛ سجلّاَت ودفاتر وكرَّاسات امتلأت بالأرقام والخرباشات؛ أزهار اصطناعية؛ أطر نظارات قرنية ومعدنية؛ مصابيح كهر بائية معطَّبة؛ ترومبيتة نحاسية؛ ميداليات معدنية تقشَّر لونها؛ شعارات للنَّادي الإفريقي بالأحمر والأبيض؛ أعلام بلدان: فلسطين, العراق, الإتِّحاد السوفيتي سابقا؛ قطع غيار سيارات مفككة, معطَّبة؛ مصراع نافذة تداعى لوحه؛ معطف عسكري بأزرار صفراء بهت لونها؛ خوذة بيضاء من الصِّنف المستعمل في المناجم؛ حذاء عسكري بصفيحة معدنية تآكلت من الصدأ؛ سمَّاعة جهاز هاتف من الطِّراز القديم؛ كرسي سيَّارة محطَّم برزت أسلاكه الداخلية؛ مصباح نفطي صور لمشاهير لاعبي النَّادي الإفريقي ورجالات السياسة عُلقت إلى سقف العشَّة؛ عتُّوقة؛ الشايب؛ الرويسي؛ السليمي؛ عبد النَّاصر؛ عرفات؛ أبو جهاد إنه محلُّ اوكازيون أو أنتيك؛هذه الأشياء تأتيه بنفسها, يتسلَّمها من أحد زبائنه أحيانا وأحيانا يجدها ملقاة في طريقه وهو لا يذهب إطلاقا إلى مصبِّ الفضلات؛ أحيانا يبيع بعضها.
*
قال مرَّة لعبد الله محجوب:
- ما الذي أتى بك إلى هذه المدينة الكلبة الداخل إليها يفقد كل أمل في الخروج منها؟
يعبُّ عبد الله محجوب من طاسة النبيذ الأحمر قدَّامه؛ يسرح بنظراته في الظلام الساجي من حوله ويتمتم:
-جئت أبحث عن الموت !!
يُنزل بُراق البرَّاد من فوق الأثفية, يملأ الكأسين بالسائل الكحلي, يحرِّك الجمرات بين الحجرات الثلاث, يعيد البرَّاد إلى مكانه ثمَّ يقول:
-لو بقيت مكانك سيأتيك الموت.
-لا أريد أن يجيئني......أريد أ ن أذهب إليه.
-أنت مضبَّع.
- حبَّذا لو فقدت عقلي !!!
يسكت عبد الله محجوب ويحدِّق إليه بُراق في الظلام بعينيه الثاقبتين, يَحْمِشُ النار بعصا في يده ثمَّ يقول:
- لابدَّ أنَّها هيَ...... هيَ التي أفقدتك عقلك؛ تلك المجنونة مثلك.
يخيِّم الصمت من جديد على المكان إلاَّ من حفيف الوُرْقِ ينشج في شجو خافت وصفير صرَّار الليل يمزِّق ستائر السكون المهيب وأصوات أخرى ناشزة تعتق الوقت من غيبوبته وسط هذا الأشبِّ؛ خفقة جناحين, تَغَازُلُ عصفورين, هبَّة هواء تلامس الطرابين الحيية لشجرة تنام حالمة. يقطع عبد الله أشجان هذا السكون ويهمس لمرافقه قائلا:
-هل تريد أن أحكي لك حكاية؟
يستوي بُراق في جلسته دون أن يلتفت إلى محدِّثه؛ يتوجَّه إلى حمارته غير بعيدة عنهما:
- يريد أن يحكي لنا حكاية....إنه مار أيك ؟ إنه اِحك لنا حكاية يا سيدي.
-كان هناك في قديم الزمان......منذ آلاف السنين ملك جبَّار عظيم الشأن
’’ وهبته الشمس الحسن والجمال, ثلثاه اله وثلثه الباقي إنسان..
ألقى الرعب في قلوب الناس؛ بغى وظلم لم يترك ابنا لأبيه.....بغى وظلم.....فضجَّ البشر.....أنَّاتهم بلغت مسامع ا لآلهة في السماء ’’
غيَّر براق غيَّر من جلسته وقاطع جليسه ودويُّ قهقهته تردّ د الغاب صداه:
- الملوك دائما جبابرة طغاة, قطَّاع الطرق واللصوص أفضل منهم والآلهة لن تجعلهم طيبين.
واصل عبدالله حديثه لا يُلقي بالا لتعليقات صاحبه:
- ما كان من الآلهة إلاَّ أن خلقت غريما لهذا الملك ’’ يرعى العشب مع الأيائل يرتاد الماء مع القطيع....له قوَّة زمرة جند من السماء ’’
سمع الملك بهذا الغريم الذي أفزع رعيته وأثار الفوضى في مملكته ’’فاحتال عليه ودبَّر له مكيدة إلى أن جيء به إليه وحين التقيا وسط سوق المدينة سدَّ الباب بقدمه ومنع الملك من الدخول’’صفَّق بُراق بيديه الكبيرتين فأجفلت طيور من أعشاشها ونعق غراب غير بعيد عنهما ونهقت الحمارة:
- هذه خرافة. ثمَّة ملك يمنعه أحدٌ من الدخول إلى مكان ما. يكفي بلا تخريف يا رجل.....اِشرب طاستك يا رجل,,,اِشرب .
يشرب عبد الله وبُراق يقرقر ضاحكا:
-هذا ليس ملكا ومن أين له أن يكون جبَّارا وقد منعه واحد من رعاياه من الدخول.
مسح عبد الله شفتيه بظاهر كفِّه وواصل حديثه:
-’’ تصارعا. نخرا كالثيران حطما أركان البيوت.اهتزَّ الجدار’’
وانتهت المعركة دون أن يظفر أحد منهما بالآخر. فما كان من الغريم إلا أن أدان للملك بقوته وهو ما فعله الملك أيضا.’’تعانقا؛عقدا عهد صداقة’’
وأصبح صديقين. صاح بُراق:
-أوجز يا سيدي ما الذي تريد أن تقوله. لم أعد أفهم ما تريد.أنا أعرف شيئا واحدا أنَّ من كان في السلطة لا صديق له. جذب عبد الله سيجارة أشعلها وجذب نفسا ثمَّ واصل حديثه:
- فجأة برز في المملكة عدوٌّ للرعية يأكل ما يزرعونه ويفسد ما يغرسونه ولم يجد الناس سبيلا لردعه وبلغ أمره الملك. فجهَّز نفسه وخرج لتأديب هذا المارق فلحقه صديقه واستطاع الاثنان أن يخضع هذا الآبق لسلطة الملك غير أن قوى الشرِّ لم يعجبها هذا الأمر فأرسلت حيوانا مفترسا للانتقام من الملك بقتل صديقه وإن لم يقتله في الحين فقد ابتلاه بمرض أماته مما جعل الملك يحزن لموته حزنا شديدا خلع رداءه الملكي وألقى تاجه ونزل من كرسيه, ترك سلطته وخرج يهيم في العراء والبراري صائحا: ’’وَجْهِي يُشْبِهُ المُسَافِرَ مِنْ بَعِيدٍ
وَمَلاَمِحِي تَتَجَعَّدُ مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ
وَكَالْبَاحِثِ عَنْ نِسْمَةِ رِيحٍ أَهِيمُ فِي الْبَرَارِي
صَدِيقِي اْلأَصْغَرُ مِنِّي سِنًّا
الْذِي طَارَدَ وُحُوشَ التِّلاَلِ وَأُسُودَ الْغَابِ
الْذِي أَناَ وَإِيَّاهُ غَلَبْناَ كُلَّ شَيْءٍ
تَسَلَّقْنَا الْجِبَالَ؛ أَمْسَكْناَ بِنُورِ السَّمَاءِ, ذَبَحْناَهُ
أَنْزَلْناَ الْوَيْلَ بِخِمْباَبَا, السَّاكِنِ فِي غَابِ الْأَرُزِّ
صَدِيقِي الْذِي أَحْبَبْتُ كَثِيرًا
الْذِي قَاسَى مَعِي جَمِيعَ الشَّدَائِدِ…….
سِتَّة أَيَّامٍ وَسَبْع لَيَالٍ بَكِيتُ عَلَيْهِ
حَتَّىسَقَطَتْ الدُّودَةُ مِنْ أَنْفِه
وَخَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ؛ رُحْتُ أَجُوبُ الْقِفَارَ
فَمَصِيرُ صَدِيقِي يَجْثُمُ ثَقِيلاً عَليََّ
كَيْفَ أَلْزِمُ الصَّمْتَ ؟كَيْفَ أََخْلدُ إِلَى السَّكِينَة ِ؟
صَدِيقِي الْذِي أَحْبَبْتُ صَارَ طِينًا
أَأَضْطَجِعُ أَنَا مِثْله هَكَذَا فَلاَ أَنْهَضُ أَبَداً؟(15)
توقف عبد الله عن الكلام وصا ح في بُراق:
-اِنه ما رأيك في هذه الحكاية؟
*
غير أن براق شرد بعيدا. تبدَّلت سحنته فجأة؛ وانقبضت أساريره, ضاقت عيناه وزاغت نظراته وانكمشت روحه داخل جسده فانكمش جسده متكوِّرا وقرفص في جلسته. زمَّ شفتيه يضغط بهما على السيجارة التي أخذ يجرُّ منها أنفاسا متلاحقة متتالية متواترة متوترة, وينفث دخانها من منخريه متكاثفا لا يصعد إلى فوق ولا يضمحلُّ في الهواء بل يتلبَّث في شكل سحائب أضحت طبقات من الغيوم تطمس الرؤية وتزيد من عتمة المكان. حطَّ صمت ثقيل؛ ثقل الهواجس التي مافتئت تستبدُّ بعبد الله؛ ثقل الغموض الذي استولى فجأة على براق والذي تحوَّل كتلا متراكبة ومتماوجة من الضباب؛ فانقلب شبحا من دخان. فزَّ قائما فتحفَّزت الحمارة ونخرت بمنخريها؛ نقَّلت حافريها ثم لبدت. سحب براق البرَّاد من فوق الأثفية, جرَّ التراب بقدمه اليمنى يطمس به اللهب الكابي وهو يغمغم بصوت شارد:
- فزْ…..فزْ ……الليل عقِّبْ.
أخذ يدخل إلى عِشَّته ويخرج منها صامتا يرتِّب أشياءه. استولى على عبد الله الوجوم ولم يعرف ما الذي حدث ؟ وما الذي يفعله؟ فكَّر في استدراجه للحديث علَّه يبوح بما في داخله ولم يفعل. قرَّر مبارحة المكان. ألقى التحيَّة وانصرف. كان عبد الله محجوب يدفع بخطواته خارج الغاب في اتجاه الطريق المعبَّدة تتقاذفه شتَّى الهواجس والأسئلة؛ ما الذي عكَّر مزاج براق بهذا الشكل. توقَّف عن المشي؛ كانت أضواء المدينة تظهر من بعيد خافتة, أمَّا أضواء السيارات فكانت تتراءى من بعيد ثقبا بيضاء تكبر حينا ثم سرعان ما تختفي وتتناءى. غداة اليوم التالي لم ينتظر عبد الله حتَّى يأتي المساء ليقصد الغاب؛ منذ الظهيرة ابتغى المسلك الذي تعوَّد أن يفٍرَّعبره من جحيم هذه المدينة؛ كان يمشي وهو يفكر في أمر براق لم يحدث أن انقلب مزاج الرجل بالشكل الذي حدث البارحة؛ لقد كان دائما متوقِّدا متوهِّجا وهو وإن تجاوز الستين من عمره لكنَّ الزمن لم يكسره ولم يفعل فيه أفاعيله إنه يبدو شابا ممتلئا بالحياة في الوقت الذي لا يبالي بها وهو يعتقد أنه مهما تلفعت برداء النكد والأحزان إنما هي فرحة وزهرة لابدَّ من امتصاص رحيقها مهما كان طعم هذا الرحيق …قهقهاته الجهورية المدوية, تعليقاته الساخرة, نكته الطريفة وصمته البعيد الذي يؤثِّثه أحيانا بدندنات موسيقية تراثية يهتف بها في آهات مكتومة, وتحليلاته لمقابلات كرة القدم التي يخوضها النادي الإفريقي. كل هذه الأشياء جعلت من براق شخصا غير عادي بالنسبة لعبد الله الذي تعرَف إليه أثناء جولاته وحده في الغاب أثناء تلك الأيام الأولى لمجيئه إلى هذه المدينة؛ استبدَّ به القلق وأزعجته الضوضاء وحاصرته العزلة ففزع ينشد الأنس بين هذه الأشجار.....بقعة عذراء مازالت تتشبَّث بنقاوتها البرية وتحتفظ بطبيعتها المتوحِّشة وسط هذا الغزو الإسمنتي المسلَّح؛ لم يقدر الوعي الانضباطي الذي تفرضه جيوش المدنية الحديثة على اجتياحها, لذلك لا أثرلأيِّ ترتيب بشري بين أحراشها؛ كانت أشجار الخرُّوب الكثيفة وأشجار الكستناء الطويلة والكاليبتوس الفارعة ذات الطرابين المتدلية في فوضى وأشجار الأكاسيا الغافية؛ كانت كلُّ هذه الأشجار تلتفُّ ببعضها بعضا, تتعانق, تلتحم, تلتصق فلا يمكن لأيَّة أشعَّة ضوئية أن تخترقها؛ بالكاد تنفلت خيوط فضيَّة من بين الأوراق والأغصان, تتسلَّل حيِّيَة, تبحث لها عن مسالك وسط هذه الأجمات؛ ولم يكن بإمكان أيًّا كان أن يجد له سبيلا مريحا يمكِّنه من التوغُّل هنا , فلا وجود لممرات ؛ الأعشاب الطفيلية النامية هنا وهناك والصخور النابتة , ناتئة تبدو ناعسة تلتحف أردية الحشائش لكنها تتربص بقدمٍ لا تعرف موطئا لها في هذا الوسط البري الذي تهيَّأ مأوى للنزوات النافرة والغرائز الملتهبة والأرواح العطشى لكلِّ ما يوقد جمراتها التي أطفأتها ’’أخلاق المدينة الفاضلة’’؛ وحتَّى هذه الأرواح لم تكن لتستأنس لوحشة الليل في هذا الغاب؛ لذلك كانت تكتفي بالنهار رغم أنه لافرق هنا بين الليل والنهار ولذلك أيضا لم تكن هذه الغاب ملكا لأحد . كانت ملكا للريح والوحشة والأحلام المتوحشة وملكا ل.....بُراق.