المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عقد الصلح في الشريعة الاسلامية



المحامية علياء النجار
17/05/2009, 11:41 AM
عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية
( الجزء الأول )
التّعريف :
الصّلح في اللّغة : اسم بمعنى المصالحة والتّصالح ، خلاف المخاصمة والتّخاصم .
قال الرّاغب : والصّلح يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس . يقال : اصطلحوا وتصالحوا .
وعلى ذلك يقال : وقع بينهما الصّلح ، وصالحه على كذا ، وتصالحا عليه واصطلحا ، وهم لنا صلح ، أي مصالحون .
وفي الاصطلاح : معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين .
فهو عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتّراضي ، وهذا عند الحنفيّة .
وزاد المالكيّة على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقاية ، فجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ففي التّعبير ب ( خوف وقوعه ) إشارة إلى جواز الصّلح لتوقّي منازعةً غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .
والمصالح : هو المباشر لعقد الصّلح والمصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه إذا قطع النّزاع فيه بالصّلح والمصالح عليه ، أو المصالح به : هو بدل الصّلح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّحكيم :
التّحكيم عند الفقهاء : تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين . وهذه التّولية قد تكون من القاضي ، وقد تكون من قبل الخصمين .
ويختلف التّحكيم عن الصّلح من وجهين :
أحدهما : أنّ التّحكيم ينتج عنه حكم قضائيّ ، بخلاف الصّلح فإنّه ينتج عنه عقد يتراضى عليه الطّرفان المتنازعان . وفرق بين الحكم القضائيّ والعقد الرّضائيّ .
والثّاني : أنّ الصّلح يتنزّل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حقّ ، بخلاف التّحكيم فليس فيه نزول عن حقّ .
ب - الإبراء :
الإبراء عبارة عن : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . أمّا عن العلاقة بين الصّلح والإبراء ، فلها وجهان :
أحدهما : أنّ الصّلح إنّما يكون بعد النّزاع عادةً ، والإبراء لا يشترط فيه ذلك .
والثّاني : أنّ الصّلح قد يتضمّن إبراءً ، وذلك إذا كان فيه إسقاط لجزء من الحقّ المتنازع فيه، وقد لا يتضمّن الإبراء ، بأن يكون مقابل التزام من الطّرف الآخر دون إسقاط .
ومن هنا : كان بين الصّلح والإبراء عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان في الإبراء بمقابل في حالة النّزاع ، وينفرد الإبراء في الإسقاط مجّاناً ، أو في غير حالة النّزاع ، كما ينفرد الصّلح فيما إذا كان بدل الصّلح عوضًا لا إسقاط فيه .
ج - العفو :
العفو : هو التّرك والمحو ، ومنه : عفا اللّه عنك . أي محا ذنوبك ، وترك عقوبتك على اقترافها . عفوت عن الحقّ : أسقطته . كأنّك محوته عن الّذي هو عليه .
هذا ويختلف العفو عن الصّلح في كون الأوّل إنّما يقع ويصدر من طرف واحد ، بينما الصّلح إنّما يكون بين طرفين . ومن جهة أخرى : فالعفو والصّلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص إلى مال .
مشروعيّة الصّلح :
ثبتت مشروعيّة الصّلح بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
أمّا الكتاب :
أ - ففي قوله تعالى : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } قال القاضي أبو الوليد بن رشد : وهذا عامّ في الدّماء والأموال والأعراض ، وفي كلّ شيء يقع التّداعي والاختلاف فيه بين المسلمين .
ب - وفي قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فقد أفادت الآية مشروعيّة الصّلح ، حيث إنّه سبحانه وصف الصّلح بأنّه خير ، ولا يوصف بالخيريّة إلاّ ما كان مشروعاً مأذوناً فيه .
وأمّا السّنّة :
أ - فما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلح جائز بين المسلمين » . وفي رواية : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » . والحديث واضح الدّلالة على مشروعيّة الصّلح .
ب - وما روى « كعب بن مالك - رضي الله عنه أنّه لمّا تنازع مع ابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلح بينهما : بأن استوضع من دين كعب الشّطر ، وأمر غريمه بأداء الشّطر » .
وأمّا الإجماع :
فقد أجمع الفقهاء على مشروعيّة الصّلح في الجملة ، وإن كان بينهم اختلاف في جواز بعض صوره .
وأمّا المعقول :
فهو أنّ الصّلح رافع لفساد واقع ، أو متوقّع بين المؤمنين ، إذ أكثر ما يكون الصّلح عند النّزاع . والنّزاع سبب الفساد ، والصّلح يهدمه ويرفعه ، ولهذا كان من أجلّ المحاسن .
أنواع الصّلح :
الصّلح يتنوّع أنواعاً خمسةً :
أحدهما : الصّلح بين المسلمين والكفّار . ( ر . جهاد ، جزية ، عهد ، هدنة ) .
والثّاني : الصّلح بين أهل العدل وأهل البغي . ( ر . بغاة ) .
والثّالث : الصّلح بين الزّوجين إذا خيف الشّقاق بينهما ، أو خافت الزّوجة إعراض الزّوج عنها .
والرّابع : الصّلح بين المتخاصمين في غير مال . كما في جنايات العمد .
والخامس : الصّلح بين المتخاصمين في الأموال . وهذا النّوع هو المبوّب له في كتب الفقه ، وهو موضوع هذا البحث .
الحكم التّكليفيّ للصّلح :
قال ابن عرفة : وهو - أي الصّلح - من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيّن مصلحة ، وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدةً واجبة الدّرء أو راجحته .
وقال ابن القيّم : الصّلح نوعان :
أ - صلح عادل جائز . وهو ما كان مبناه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين ، وأساسه العلم والعدل ، فيكون المصالح عالماً بالوقائع ، عارفاً بالواجب ، قاصداً للعدل كما قال سبحانه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } .
ب - وصلح جائر مردود : وهو الّذي يحلّ الحرام أو يحرّم الحلال ، كالصّلح الّذي يتضمّن أكل الرّبا ، أو إسقاط الواجب ، أو ظلم ثالث ، وكما في الإصلاح بين القويّ الظّالم والخصم الضّعيف المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظّ ، بينما يقع الإغماض والحيف فيه على الضّعيف ، أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقّه .
ردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح :
جاء في " البدائع " : ولا بأس أن يردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح إن طمع منهم ذلك ، قال اللّه تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فكان الرّدّ للصّلح ردّاً للخير . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : " ردّوا الخصوم حتّى يصطلحوا ، فإنّ فصل القضاء يورث بينهم الضّغائن ". فندب - رضي الله عنه - القضاة إلى الصّلح ونبّه على المعنى ، وهو حصول المقصود من غير ضغينة . ولا يزيد على مرّة أو مرّتين ، فإن اصطلحا ، وإلاّ قضى بينهما بما يوجب الشّرع . وإن لم يطمع منهم فلا يردّهم إليه ، بل ينفّذ القضاء فيهم ؛ لأنّه لا فائدة في الرّدّ .
حقيقة الصّلح :
يرى جمهور الفقهاء أنّ عقد الصّلح ليس عقداً مستقلّاً قائماً بذاته في شروطه وأحكامه، بل هو متفرّع عن غيره في ذلك ، بمعنى : أنّه تسري عليه أحكام أقرب العقود إليه شبهاً بحسب مضمونه . فالصّلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع ، والصّلح عن مال بمنفعة يعدّ في حكم الإجارة ، والصّلح على بعض العين المدّعاة هبة بعض المدّعى لمن هو في يده، والصّلح عن نقد بنقد له حكم الصّرف ، والصّلح عن مال معيّن بموصوف في الذّمّة في حكم السّلم ، والصّلح في دعوى الدّين على أن يأخذ المدّعي أقلّ من المطلوب ليترك دعواه يعتبر أخذًا لبعض الحقّ ، وإبراءً عن الباقي ... إلخ .
وثمرة ذلك : أن تجري على الصّلح أحكام العقد الّذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلّباته . قال الزّيلعيّ : وهذا لأنّ الأصل في الصّلح أن يحمل على أشبه العقود به ، فتجري عليه أحكامه ؛ لأنّ العبرة للمعاني دون الصّورة .
أقسام الصّلح :
الصّلح إمّا أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه ، وإمّا أن يكون بين المدّعي والأجنبيّ المتوسّط ، وينقسم إلى ثلاثة أقسام ، صلح عن الإقرار ، وصلح عن الإنكار ، وصلح عن السّكوت .
الصّلح بين المدّعي والمدّعى عليه :
وهو ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل :
الصّلح مع إقرار المدّعى عليه :
وهو جائز باتّفاق الفقهاء . وهو ضربان : صلح عن الأعيان ، صلح عن الدّيون .
أ - الصّلح عن الأعيان . وهو نوعان : صلح الحطيطة ، وصلح المعاوضة .
أوّلاً : صلح الحطيطة :
وهو الّذي يجري على بعض العين المدّعاة ، كمن صالح من الدّار المدّعاة على نصفها أو ثلثها . وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال .
أحدها : للمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : وهو أنّه يعدّ من قبيل هبة بعض المدّعى لمن هو في يده ، فتثبت فيه أحكام الهبة ، سواء وقع بلفظ الهبة أو بلفظ الصّلح .
قال الشّافعيّة : لأنّ الخاصّيّة الّتي يفتقر إليها لفظ الصّلح ، وهي سبق الخصومة قد حصلت . والثّاني : للحنابلة ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة : وهو أنّه إذا كان له في يده عين ، فقال المقرّ له : وهبتك نصفها ، فأعطني بقيّتها ، فيصحّ ويعتبر له شروط الهبة ؛ لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من هبة بعض حقّه ، كما لا يمنع من استيفائه ، ما لم يقع ذلك بلفظ الصّلح، فإنّه لا يصحّ ؛ لأنّه يكون قد صالح عن بعض ماله ببعضه ، فهو هضم للحقّ ، أو بشرط أن يعطيه الباقي ، كقوله : على أن تعطيني كذا منه أو تعوّضني منه بكذا ؛ لأنّه يقتضي المعاوضة ، فكأنّه عاوض عن بعض حقّه ببعضه ، والمعاوضة عن الشّيء ببعضه محظورة ، أو يمنعه حقّه بدون الصّلح ، فإنّه لا يصحّ كذلك .
والثّالث : للحنفيّة : وهو أنّه لو ادّعى شخص على آخر داراً ، حصل الصّلح على قسم معيّن منها ، فهناك قولان في المذهب :
أحدهما : لا يصحّ هذا الصّلح ، وللمدّعي الادّعاء بعد ذلك بباقي الدّار ؛ لأنّ الصّلح إذا وقع على بعض المدّعى به يكون المدّعي قد استوفى بعض حقّه ، وأسقط البعض الآخر ، إلاّ أنّ الإسقاط عن الأعيان باطل ، فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، كما أنّ بعض المدّعى به لا يكون عوضاً عن كلّه ، حيث يكون ذلك بمثابة أنّ الشّيء يكون عوضاً عن نفسه ، إذ البعض داخل ضمن الكلّ .
والثّاني : يصحّ هذا الصّلح ، ولا تسمع الدّعوى في باقيها بعده ، وهو ظاهر الرّواية ؛ لأنّ الإبراء عن بعض العين المدّعى بها إبراء في الحقيقة عن دعوى ذلك البعض ، فالصّلح صحيح ولا تسمع الدّعوى بعده .
أمّا لو صالحه على منفعة العين المدّعاة ، بأن صالحه عن بيت ادّعى عليه به وأقرّ له به على سكناه مدّةً معلومةً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك الصّلح على قولين :
أحدهما : الجواز وهو قول الحنفيّة : ويعتبر إجارةً . وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ، ويعتبر إعارةً ؛ فتثبت فيه أحكامها . فإن عيّن مدّةً فإعارة مؤقّتة ، وإلاّ فمطلقة .
والثّاني : عدم الجواز ، وهو للحنابلة ووجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه ، فكأنّه ابتاع داره بمنفعتها ، وهو لا يجوز .
ثانياً : صلح المعاوضة :
وهو الّذي يجري على غير العين المدّعاة ، كأن ادّعى عليه داراً ، فأقرّ له بها ثمّ صالحه منها على ثوب أو دار أخرى .
وهو جائز صحيح باتّفاق الفقهاء ، ويعدّ بيعاً ، وإن عقد بلفظ الصّلح ؛ لأنّه مبادلة مال بمال، ويشترط فيه جميع شروط البيع : كمعلوميّة البدل ، والقدرة على التّسليم ، والتّقابض في المجلس إن جرى بين العوضين ربا النّسيئة .
كذلك تتعلّق به جميع أحكام البيع : كالرّدّ بالعيب ، وحقّ الشّفعة ، والمنع من التّصرّف قبل القبض ونحو ذلك ، كما يفسد بالغرر والجهالة الفاحشة والشّروط المفسدة للبيع .
ولو صالحه من العين المدّعاة على منفعة عين أخرى ، كما إذا ادّعى على رجل شيئاً ، فأقرّ به ، ثمّ صالحه على سكنى داره ، أو ركوب دابّته ، أو لبس ثوبه مدّةً معلومةً فلا خلاف بين الفقهاء في جواز هذا الصّلح ، وأنّه يكون إجارةً ، وتترتّب عليه سائر أحكامها ؛ لأنّ العبرة للمعاني ، فوجب حمل الصّلح عليها ، لوجود معناها فيها ، وهو تمليك المنافع بعوض .
ب - الصّلح عن الدّين :
وذلك مثل أن يدّعي شخص على آخر ديناً ، فيقرّ المدّعى عليه له به ، ثمّ يصالحه على بعضه ، أو على مال غيره . وهو جائز - في الجملة - باتّفاق الفقهاء ، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم في بعض صوره وحالاته .
وهو عند الفقهاء نوعان : صلح إسقاط وإبراء ، وصلح معاوضة .
أوّلاً : صلح الإسقاط والإبراء :
ويسمّى عند الشّافعيّة صلح الحطيطة .
وهو الّذي يجري على بعض الدّين المدّعى ، وصورته بلفظ الصّلح ، أن يقول المقرّ له : صالحتك على الألف الحالّ الّذي لي عليك على خمسمائة .
وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، هو أنّ هذا الصّلح جائز ؛ إذ هو أخذ لبعض حقّه وإسقاط لباقيه ، لا معاوضة ، ويعتبر إبراءً للمدّعى عليه عن بعض الدّين ؛ لأنّه معناه .
ثمّ قال الشّافعيّة : ويصحّ بلفظ الإبراء والحطّ ونحوهما ، كالإسقاط والهبة والتّرك والإحلال والتّحليل والعفو والوضع ، ولا يشترط حينئذ القبول على المذهب ، سواء قلنا : إنّ الإبراء تمليك أم إسقاط . كما يصحّ بلفظ الصّلح في الأصحّ . وفي اشتراط القبول إذا وقع به وجهان -كالوجهين فيما لو قال لمن عليه دين : وهبته لك - والأصحّ الاشتراط ؛ لأنّ اللّفظ بوضعه يقتضيه .
والثّاني : للحنابلة : وهو أنّه إذا كان لرجل على آخر دين ، فوضع عنه بعض حقّه ، وأخذ منه الباقي ، كان ذلك جائزاً لهما إذا كان بلفظ الإبراء ، وكانت البراءة مطلقةً من غير شرط إعطاء الباقي ، كقول الدّائن : على أن تعطيني كذا منه ، ولم يمتنع المدّعى عليه من إعطاء بعض حقّه إلاّ بإسقاط بعضه الآخر . فإن تطوّع المقرّ له بإسقاط بعض حقّه بطيب نفسه جاز، غير أنّ ذلك ليس بصلح ولا من باب الصّلح بسبيل .
أمّا إذا وقع ذلك بلفظ الصّلح فأشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ ، وهي الرّواية الأصحّ في المذهب ؛ وذلك لأنّه صالح عن بعض ماله ببعضه ، فكان هضماً للحقّ .
والثّانية : وهي ظاهر " الموجز " " والتّبصرة " أنّه يصحّ .
أمّا لو صالحه عن ألف مؤجّل على خمسمائة معجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والصّحيح عند الحنابلة أنّ ذلك لا يجوز .
واستثنى الحنفيّة والحنابلة من ذلك دين الكتابة ؛ لأنّ الرّبا لا يجري بينهما في ذلك .
وعلّل الشّافعيّة عدم الصّحّة : بأنّه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي ، والصّفة بانفرادها لا تقابل بعوض ؛ ولأنّ صفة الحلول لا يصحّ إلحاقها بالمؤجّل ، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله لم يصحّ التّرك .
ووجه المنع عند المالكيّة : أنّ من عجّل ما أجّل يعدّ مسلّفاً ، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند الأجل ألفاً من نفسه .
وقد علّل الحنفيّة المنع في غير دين الكتابة : بأنّ صاحب الدّين المؤجّل لا يستحقّ المعجّل ، فلا يمكن أن يجعل استيفاءً ، فصار عوضاً ، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز .
وبيان ذلك : أنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والتّعجيل خير من النّسيئة لا محالة ، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من الدّين ، والتّعجيل في مقابلة الباقي ، وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو باطل ؛ ألا ترى أنّ الشّرع حرّم ربا النّسيئة ، وليس فيه إلاّ مقابلة المال بالأجل شبهةً ، فلأن تكون مقابلة المال بالأجل حقيقةً حرامًا أولى .
الثّاني : جواز ذلك - وهو رواية عن الإمام أحمد ، حكاها ابن أبي موسى وغيره ، وهو قول ابن عبّاس وإبراهيم النّخعيّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة. قال ابن القيّم : لأنّ هذا عكس الرّبا ، فإنّ الرّبا يتضمّن الزّيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمّن براءة ذمّته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كلّ واحد منهما ، ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً ، فإنّ الرّبا الزّيادة ، وهي منتفية هاهنا ، والّذين حرّموا ذلك إنّما قاسوه على الرّبا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : إمّا أن تربي ، وإمّا أن تقضي . وبين قوله : عجّل لي وأهب لك مائةً . فأين أحدهما من الآخر ؛ فلا نصّ في تحريم ذلك ، ولا إجماع ، ولا قياس صحيح .
ولو صالح من ألف درهم حالّ على ألف درهم مؤجّل ، فقد اختلف الفقهاء في صحّة ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ التّأجيل لا يصحّ ، ويعتبر لاغياً ؛ إذ هو من الدّائن وعد بإلحاق الأجل ، وصفة الحلول لا يصحّ إلحاقها ، والوعد لا يلزم الوفاء به .
والثّاني : للحنفيّة : وهو صحّة التّأجيل ، وذلك ؛ لأنّه إسقاط لوصف الحلول فقط ، وهو حقّ له ، فيصحّ ، ويكون من قبيل الإحسان . قالوا : لأنّ أمور المسلمين محمولة على الصّحّة ، فلو حملنا ذلك على المعاوضة فيلزم بيع الدّراهم بالدّراهم نساءً ، وذلك لا يجوز ؛ لأنّه بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّ الدّراهم الحالّة والدّراهم المؤجّلة ثابتة في الذّمّة ، والدّين بالدّين لا يجوز ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الكالئ بالكالئ » ، فلمّا لم يكن حمله على المعاوضة حملناه على التّأخير تصحيحاً للتّصرّف ؛ لأنّ ذلك جائز كونه تصرّفاً في حقّ نفسه، لا في حقّ غيره .
ولو اصطلحا عن الدّين الحالّ على وضع بعضه وتأجيل الباقي ، كما لو صالح الدّائن مدينه عن ألف حالّة على خمسمائة مؤجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة . وهو صحّة الإسقاط والتّأجيل . وقد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة . قال ابن القيّم : وهو الصّواب ، بناءً على صحّة تأجيل القرض والعاريّة .
والثّاني : للحنابلة في الأصحّ والشّافعيّة : وهو أنّه يصحّ الإسقاط دون التّأجيل . وعلّة صحّة الوضع والإسقاط : أنّه أسقط بعض حقّه عن طيب نفسه ، فلا مانع من صحّته ؛ لأنّه ليس في مقابلة تأجيل ، فوجب أن يصحّ كما لو أسقطه كلّه ؛ إذ هو مسامحة وليس بمعاوضة . والثّالث : لبعض الحنابلة : وهو أنّه لا يصحّ الإسقاط ولا التّأجيل ؛ بناءً على أنّ الصّلح لا يصحّ مع الإقرار ، وعلى أنّ الحالّ لا يتأجّل .

عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية
( الجزء الثاني )

ثانياً : صلح المعاوضة :
وهو الّذي يجري على غير الدّين المدّعى ، بأن يقرّ له بدين في ذمّته ، ثمّ يتّفقان على تعويضه عنه . وحكمه حكم بيع الدّين ، وإن كان بلفظ الصّلح . وهو عند الفقهاء على أربعة أضرب :
الأوّل : أن يقرّ بأحد النّقدين ، فيصالحه بالآخر ، نحو : أن يقرّ له بمائة درهم ، فيصالحه منها بعشرة دنانير ، أو يقرّ له بعشرة دنانير ، فيصالحه منها على مائة درهم .
وقد نصّ الفقهاء على أنّ له حكم الصّرف ؛ لأنّه بيع أحد النّقدين بالآخر ، ويشترط له ما يشترط في الصّرف من الحلول والتّقابض قبل التّفرّق .
والثّاني : أن يقرّ له بعرض ، كفرس وثوب ، فيصالحه عن العرض بنقد ، أو يعترف له بنقد، كدينار ، فيصالحه عنه على عرض .
وقد نصّ الفقهاء على أنّ له حكم البيع ؛ إذ هو مبادلة مال بمال ، وتثبت فيه أحكام البيع . والثّالث : أن يقرّ له بدين في الذّمّة - من نحو بدل قرض أو قيمة متلف - فيصالح على موصوف في الذّمّة من غير جنسه ، بأن صالحه عن دينار في ذمّته ، بإردبّ قمح ، ونحوه في الذّمّة .
وقد نصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على صحّة هذا الصّلح ، غير أنّه لا يجوز التّفرّق فيه من المجلس قبل القبض ؛ لأنّه إذا حصل التّفرّق قبل القبض كان كلّ واحد من العوضين دينًا - لأنّ محلّه الذّمّة - فصار من بيع الدّين بالدّين ، وهو منهيّ عنه شرعاً .
وقال الشّافعيّة : يشترط تعيين بدل الصّلح في المجلس ليخرج عن بيع الدّين بالدّين .
وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان : أصحّهما : عدم الاشتراط إلاّ إذا كانا ربويّين . والرّابع : أن يقع الصّلح عن نقد ، بأن كان على رجل عشرة دراهم ، فصالح من ذلك على منفعة : كسكنى دار ، أو ركوب دابّة مدّة معيّنة ، أو على أن يعمل له عملاً معلوماً .
وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ لهذا الصّلح حكم الإجارة ،وتثبت فيه أحكامها.
القسم الثّاني :
الصّلح مع إنكار المدّعى عليه :
وذلك كما إذا ادّعى شخص على آخر شيئاً ، فأنكره المدّعى عليه ، ثمّ صالح عنه . وقد اختلف الفقهاء في جوازه على قولين :
أحدهما لجمهور الفقهاء - من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - : وهو جواز الصّلح على الإنكار . بشرط أن يكون المدّعي معتقداً أنّ ما ادّعاه حقّ ، والمدّعى عليه يعتقد أن لا حقّ عليه . فيتصالحان قطعاً للخصومة والنّزاع . أمّا إذا كان أحدهما عالماً بكذب نفسه ، فالصّلح باطل في حقّه ، وما أخذه العالم بكذب نفسه حرام عليه ؛ لأنّه من أكل المال بالباطل . واستدلّوا على ذلك :
أ - بظاهر قوله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } . حيث وصف المولى عزّ وجلّ جنس الصّلح بالخيريّة . معلوم أنّ الباطل لا يوصف بالخيريّة ، فكان كلّ صلح مشروعاً بظاهر هذا النّصّ إلاّ ما خصّ بدليل .
ب - بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الصّلح جائز بين المسلمين » .
فيدخل ذلك في عمومه .
ج - وبأنّ الصّلح إنّما شرع للحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة ، والحاجة إلى قطعها في التّحقيق عند الإنكار - إذ الإقرار مسالمة ومساعدة - فكان أولى بالجواز .
قال ابن قدامة : وكذلك إذا حلّ مع اعتراف الغريم ، فلأن يحلّ مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقّه إلاّ بذلك أولى .
د - ولأنّه صالح بعد دعوى صحيحة ، فيقضى بجوازه ؛ لأنّ المدّعي يأخذ عوضاً عن حقّه الثّابت له في اعتقاده ، وهذا مشروع ، والمدّعى عليه يؤدّيه دفعاً للشّرّ وقطعاً للخصومة عنه ، وهذا مشروع أيضاً ، إذ المال وقاية الأنفس ، ولم يرد الشّرع بتحريم ذلك في موضع.
هـ - ولأنّ افتداء اليمين جائز ؛ لما روي عن عثمان وابن مسعود : أنّهما بذلا مالاً في دفع اليمين عنهما . فاليمين الثّابتة للمدّعي حقّ ثابت لسقوطه تأثير في إسقاط المال ، فجاز أن يؤخذ عنه المال على وجه الصّلح ، أصله القود في دم العمد .
والثّاني للشّافعيّة وابن أبي ليلى : وهو أنّ الصّلح على الإنكار باطل .
واستدلّوا على ذلك :
أ - بالقياس على ما لو أنكر الزّوج الخلع ، ثمّ تصالح مع زوجته على شيء، فلا يصحّ ذلك.
ب - وبأنّ المدّعي إن كان كاذباً فقد استحلّ مال المدّعى عليه ، وهو حرام ، وإن كان صادقًا فقد حرّم على نفسه ماله الحلال ؛ لأنّه يستحقّ جميع ما يدّعيه ، فدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » .
ج - وبأنّ المدّعي اعتاض عمّا لا يملكه ، فصار كمن باع مال غيره ، والمدّعى عليه عاوض على ملكه ، فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله . فالصّلح على الإنكار يستلزم أن يملك المدّعي ما لا يملك ، وأن يملك المدّعى عليه ما يملك ، وذلك إن كان المدّعي كاذباً . فإن كان صادقاً انعكس الحال .
د - ولأنّه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه ، فبطل كالصّلح على حدّ القذف .
التّكييف الفقهيّ للصّلح على الإنكار :
قال ابن رشد في " بداية المجتهد " : وأمّا الصّلح على الإنكار ، فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه : أنّه يراعى فيه من الصّحّة ما يراعى في البيوع . ثمّ قال : فالصّلح الّذي يقع فيه ما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام : صلح يفسخ باتّفاق ، وصلح يفسخ باختلاف ، وصلح لا يفسخ باتّفاق إن طال ، وإن لم يطل ففيه اختلاف .
وفرّق الحنفيّة والحنابلة بين تكييفه في حقّ المدّعي وبينه في حقّ المدّعى عليه وقالوا : يكون الصّلح على مال المصالح به معاوضةً في حقّ المدّعي ؛ لأنّه يعتقده عوضاً عن حقّه ; فيلزمه حكم اعتقاده ، وعلى ذلك : فإن كان ما أخذه المدّعي عوضاً عن دعواه شقصاً مشفوعاً ، فإنّها تثبت فيه الشّفعة لشريك المدّعى عليه ؛ لأنّه أخذه عوضاً ، كما لو اشتراه . - ويكون الصّلح على الإنكار في حقّ المدّعى عليه خلاصاً من اليمين وقطعاً للمنازعة ؛ لأنّ المدّعي في زعم المدّعى عليه المنكر غير محقّ ومبطل في دعواه ، وأنّ إعطاءه العوض له ليس بمعاوضة بل للخلاص من اليمين ، إذ لو لم يصالحه ويعط العوض لبقي النّزاع ولزمه اليمين . وقد عبّر الحنابلة عن هذا المعنى بقولهم : يكون صلح الإنكار إبراءً في حقّ المنكر؛ لأنّه دفع إليه المال افتداءً ليمينه ودفعاً للضّرر عنه لا عوضاً عن حقّ يعتقده عليه .
وبناءً على ذلك : لو كان ما صالح به المنكر شقصاً لم تثبت فيه الشّفعة ؛ لأنّ المدّعي يعتقد أنّه أخذ ماله أو بعضه مسترجعاً له ممّن هو عنده ، فلم يكن معاوضةً ، بل هو كاسترجاع العين المغصوبة .
القسم الثّالث :
الصّلح مع سكوت المدّعى عليه :
وذلك كما إذا ادّعى شخص على آخر شيئاً ، فسكت المدّعى عليه دون أن يقرّ أو ينكر، ثمّ صالح عنه .
وقد اعتبر الفقهاء - ما عدا ابن أبي ليلى - هذا الصّلح في حكم الصّلح عن الإنكار ؛ لأنّ السّاكت منكر حكماً . صحيح أنّ السّكوت يمكن أن يحمل على الإقرار ، وعلى الإنكار ، إلاّ أنّه نظراً لكون الأصل براءة الذّمّة وفراغها ، فقد ترجّحت جهة الإنكار .
ومن هنا كان اختلافهم في جوازه تبعاً لاختلافهم في جواز الصّلح عن الإنكار .
وعلى هذا ، فللفقهاء في الصّلح عن السّكوت قولان :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : وهو جواز الصّلح على السّكوت ، وحجّتهم نفس الأدلّة الّتي ساقوها على جوازه عن الإنكار .
وقد اشترطوا فيه نفس الشّروط ورتّبوا ذات الأحكام الّتي اعتبروها في حالة الإنكار .
هذا وقد وافقهم على جوازه ابن أبي ليلى - مع إبطاله الصّلح عن الإنكار - حيث اعتبره في حكم الصّلح على الإقرار .
والثّاني : للشّافعيّة : وهو عدم جواز الصّلح على السّكوت ، وأنّه باطل وذلك لأنّ جواز الصّلح يستدعي حقّاً ثابتاً ، ولم يوجد في موضع السّكوت ؛ إذ السّاكت يعدّ منكراً حكماً حتّى تسمع عليه البيّنة ، فكان إنكاره معارضاً لدعوى المدّعي . ولو بذل المال لبذله لدفع خصومة باطلة ، فكان في معنى الرّشوة .
الصّلح بين المدّعي والأجنبيّ :
اختلف الفقهاء في الأحكام المتعلّقة بالصّلح الكائن بين المدّعي والأجنبيّ على النّحو التّالي :
أوّلاً : مذهب الحنفيّة :
نصّ الحنفيّة على أنّ الصّلح إذا كان بين المدّعي والأجنبيّ ، فلا يخلو : إمّا أن يكون بإذن المدّعى عليه أو بغير إذنه .
أ - فإن كان بإذنه ، فإنّه يصحّ الصّلح ، ويكون الأجنبيّ وكيلاً عن المدّعى عليه في الصّلح ، ويجب المال المصالح به على المدّعى عليه دون الوكيل ، سواء أكان الصّلح عن إقرار أم إنكار ؛ لأنّ الوكيل في الصّلح لا ترجع إليه حقوق العقد . وهذا إذا لم يضمن الأجنبيّ بدل الصّلح عن المدّعى عليه ، فأمّا إذا ضمن ، فإنّه يجب عليه بحكم الكفالة والضّمان لا بحكم العقد .
ب - وأمّا إذا كان بغير إذنه ، فهذا صلح الفضوليّ ، وله وجهان :
أحدهما : أن يضيف الفضوليّ الصّلح إلى نفسه ، كأن يقول للمدّعي : صالحني عن دعواك مع فلان بألف درهم فيصالحه ذلك الشّخص . فهذا الصّلح صحيح ، ويلزم بدل الصّلح الفضوليّ ، ولو لم يضمن أو يضف الصّلح إلى ماله أو ذمّته ؛ لأنّ إضافة الفضوليّ الصّلح إلى نفسه تنفذ في حقّه ، ويكون قد التزم بدل الصّلح مقابل إسقاط اليمين عن المدّعى عليه، وليس للفضوليّ الرّجوع على المدّعى عليه ببدل الصّلح الّذي أدّاه ، طالما أنّ الصّلح لم يكن بأمر المدّعى عليه . قال السّمرقنديّ في ( التّحفة ) : وإنّما كان هكذا ، لأنّ التّبرّع بإسقاط الدّين، بأن يقضي دين غيره بغير إذنه صحيح ، والتّبرّع بإسقاط الخصومة عن غيره صحيح، والصّلح عن إقرار إسقاط للدّين ، والصّلح عن إنكار إسقاط للخصومة ، فيجوز كيفما كان . والثّاني : أن يضيف الفضوليّ الصّلح إلى المدّعى عليه ، بأن يقول للمدّعي : تصالح مع فلان عن دعواك . ولهذا الوجه خمس صور : في أربع منها يكون الصّلح لازماً ، وفي الخامسة منها يكون موقوفاً .
ووجه الحصر في هذا الوجه : أنّ الفضوليّ إمّا أن يضمن بدل الصّلح أو لا يضمن ، وإذا لم يضمن ، فإمّا أن يضيف الصّلح إلى ماله أو لا يضيفه . وإذا لم يضفه ، فإمّا أن يشير إلى نقد أو عرض أو لا يشير . وإذا لم يشر ، فإمّا أن يسلّم العوض أو لا يسلّم .
فالصّور خمس هي :
الصّورة الأولى : أن يضمن الفضوليّ بدل الصّلح ، كما إذا قال الفضوليّ للمدّعي : صالح فلاناً عن دعواك معه بألف درهم ، وأنا ضامن لك ذلك المبلغ وقبل المدّعي تمّ الصّلح وصحّ؛ لأنّه في هذه الصّورة لم يحصل للمدّعى عليه سوى البراءة ، فكما أنّ للمدّعى عليه أن يحصل على براءته بنفسه ، فللأجنبيّ - أيضاً - أن يحصل على براءة المدّعى عليه .
وفي هذه الصّورة ، وإن لم يلزم الفضوليّ بدل الصّلح بسبب عقده الصّلح - من حيث كونه سفيراً - إلاّ أنّه يلزمه أداؤه بسبب ضمانه .
الصّورة الثّانية : أن لا يضمن الفضوليّ بدل الصّلح إلاّ أنّه يضيفه إلى ماله ، كأن يقول الفضوليّ : قد صالحت على مالي الفلانيّ ، أو على فرسي هذه ، أو على دراهمي هذه الألف فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ المصالح الفضوليّ بإضافة الصّلح إلى ماله يكون قد التزم تسليمه ، ولمّا كان مقتدراً على تسليم البدل صحّ الصّلح ولزم الفضوليّ تسليم البدل .
الصّورة الثّالثة : أن يشير إلى العروض أو النّقود الموجودة بقوله : عليّ هذا المبلغ ، أو هذه السّاعة فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ بدل الصّلح المشار إليه قد تعيّن تسليمه على أن يكون من ماله وبذلك تمّ الصّلح .
والفرق بين الصّورة الثّانية والثّالثة : هو أنّ الفضوليّ في الثّانية قد أضاف الصّلح إلى ماله الّذي نسبه إلى نفسه ، أمّا في الثّالثة فبدل الصّلح مع كونه ماله إلاّ أنّه لم ينسبه إلى نفسه عند العقد .
الصّورة الرّابعة : إذا أطلق بقوله : صالحت على كذا ، ولم يكن ضامناً ولا مضيفاً إلى ماله ولا مشيراً إلى شيء ، وسلّم المبلغ فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ تسليم بدل الصّلح يوجب بقاء البدل المذكور سالماً للمدّعي ، ويستلزم حصول المقصود بتمام العقد ، فصار فوق الضّمان والإضافة إلى نفسه .
وعلى ذلك : إذا حصل للمدّعي عوض في هذه الصّور وتمّ رضاؤه به برئ المدّعى عليه ، ولا شيء للفضوليّ المصالح من المصالح عنه .
ويستفاد من حصر لزوم التّسليم في الصّورة الرّابعة أنّ تسليم بدل الصّلح في الصّورتين الثّانية والثّالثة ليس شرطاً لصحّة الصّلح ، فيصحّ فيهما ولو لم يحصل التّسليم ، ويجبر الفضوليّ على التّسليم .
هذا وحيث صحّ الصّلح في هذه الصّور الأربع ، فإنّ الفضوليّ المصالح يكون متبرّعاً بالبدل ; لأنّه أجرى هذا العقد بلا أمر المدّعى عليه .
الصّورة الخامسة : أن يطلق الفضوليّ بقوله للمدّعي : أصالحك عن دعواك هذه مع فلان على ألف درهم ، ولا يكون ضامناً ، ولا مضيفاً إلى ماله ولا مشيراً إلى شيء ، ثمّ لا يسلّم بدل الصّلح ، فصلحه هذا موقوف على إجازة المدّعى عليه ؛ لأنّ المصالح هاهنا - وهو الفضوليّ - لا ولاية له على المطلوب المدّعى عليه ، فلا ينفذ تصرّفه عليه ، فيتوقّف على إجازته .
وعلى ذلك : فإن أجاز المدّعى عليه صلحه صحّ ؛ لأنّ إجازته اللّاحقة بمنزلة ابتداء التّوكيل ، ويلزم بدل الصّلح المدّعى عليه دون المصالح ؛ لأنّه التزم هذا البدل باختياره ، ويخرج الأجنبيّ الفضوليّ من بينهما ، ولا يلزمه شيء . وإن لم يجز المدّعى عليه الصّلح فإنّه يبطل؛ لأنّه لا يجب المال عليه والمدّعى به لا يسقط .
ولا فرق في هذه الصّورة بين أن يكون المدّعى عليه مقرّاً أو منكراً ، وبين أن يكون بدل الصّلح عيناً أو ديناً ؛ لأنّ المصالح الفضوليّ لم يضف بدل الصّلح لنفسه أو ماله ، كما أنّه لم يضمنه ؛ فلا يلزمه البدل المذكور .
ثانياً : مذهب المالكيّة :
ذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز للرّجل أن يصالح عن غيره بوكالة أو بغير وكالة ، وذلك مثل أن يصالح رجل على دين له على رجل ، ويلزم المصالح ما صالح به .
جاء في " المدوّنة " في باب الصّلح : ومن قال لرجل : هلمّ أصالحك من دينك الّذي على فلان بكذا ، ففعل ، أو أتى رجل رجلاً فصالحه عن امرأته بشيء مسمّىً لزم الزّوج الصّلح ، ولزم المصالح ما صالح به وإن لم يقل : أنا ضامن ؛ لأنّه إنّما قضى عن الّذي عليه الحقّ ممّا يحقّ عليه .
ثالثاً : مذهب الشّافعيّة :
ذهب الشّافعيّة إلى أنّ للصّلح الجاري بين المدّعي والأجنبيّ حالتين :
الأولى : مع إقرار المدّعى عليه :
وفي هذه الحال فرّقوا بين ما إذا كان المدّعى عيناً أو ديناً .
أ - فإن كان المدّعى عيناً ، وقال الأجنبيّ للمدّعي : إنّ المدّعى عليه وكّلني في مصالحتك له عن بعض العين المدّعاة ، أو عن كلّها بعين من مال المدّعى عليه ، أو بعشرة في ذمّته ، فتصالحا عليه ، صحّ الصّلح ؛ لأنّ دعوى الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة .
ثمّ ينظر : فإن كان الأجنبيّ صادقاً في الوكالة ، صار المصالح عنه ملكاً للمدّعى عليه . وإلاّ كان فضوليّاً ولم يصحّ صلحه ، لعدم الإذن فيه ، كشراء الفضوليّ .
ولو صالحه الوكيل على عين مملوكة للوكيل ، أو على دين في ذمّته صحّ العقد ، ويكون كشرائه لغيره بإذنه بمال نفسه ، ويقع للآذن ، فيرجع المأذون عليه بالمثل إن كان مثليّاً ، وبالقيمة إن كان قيميّاً ؛ لأنّ المدفوع قرض لا هبة .
أمّا لو صالح عن العين المدّعاة لنفسه بعين من ماله أو بدين في ذمّته فيصحّ الصّلح للأجنبيّ، وكأنّه اشتراه بلفظ الشّراء ، ولو لم يجر مع الأجنبيّ خصومه ؛ لأنّ الصّلح ترتّب على دعوى وجواب .
ب - وإن كان المدّعى ديناً ، فينظر : فإن صالحه عن المدّعى عليه ، كما لو قال الأجنبيّ للمدّعي : صالحني على الألف الّذي لك على فلان بخمسمائة صحّ الصّلح ؛ لأنّه إن كان قد وكّله المدّعى عليه بذلك فقد قضى دينه بإذنه ، وإن لم يوكّله فقد قضى دينه بغير إذنه وذلك جائز . ومثل ذلك ما لو قال له الأجنبيّ : وكّلني المدّعى عليه بمصالحتك على نصفه ، أو على ثوبه هذا ، فصالحه فإنّه يصحّ ، وإن صالحه عن نفسه فقال : صالحني عن هذا الدّين ليكون لي في ذمّة المدّعى عليه ففيه وجهان - بناءً على الوجهين في بيع الدّين مَن غير من عليه - .
أحدهما : لا يصحّ ؛ لأنّه لا يقدر على تسليم ما في ذمّة المدّعى عليه .
والثّاني : يصحّ كما لو اشترى وديعةً في يد غيره .
والثّانية : مع إنكار المدّعى عليه :
وفي هذه الحال - أيضاً - فرّقوا بين ما إذا كان المدّعى عيناً أو ديناً .
أ - فإن كان عيناً ، وصالحه الأجنبيّ عن المنكر ظاهراً بقوله : أقرّ المدّعى عليه عندي ووكّلني في مصالحتك له ، إلاّ أنّه لا يظهر إقراره لئلاّ تنتزعه منه ، فصالحه صحّ ذلك ؛ لأنّ دعوى الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة . قال الشّيرازيّ : لأنّ الاعتبار بالمتعاقدين ، وقد اتّفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز ، ثمّ ينظر فيه : فإن كان قد أذن له في الصّلح ملك المدّعى عليه العين ؛ لأنّه ابتاعه له وكيله ، وإن لم يكن أذن له في الصّلح لم يملك المدّعى عليه العين ؛ لأنّه ابتاع له عيناً بغير إذنه ، فلم يملكه .
ولو قال الأجنبيّ للمدّعي : هو منكر ، غير أنّه مبطل ، فصالحني له على داري هذه لتنقطع الخصومة بينكما فلا يصحّ على الأصحّ ؛ لأنّه صلح إنكار .
وإن صالح لنفسه فقال : هو مبطل في إنكاره ؛ لأنّك صادق عندي ، فصالحني لنفسي بداري هذه أو بعشرة في ذمّتي فهو كشراء المغصوب ، فيفرّق بين ما إذا كان قادراً على انتزاعه فيصحّ ، وبين ما إذا كان عاجزًا عن انتزاعه فلا يصحّ .
ب - وإن كان المدّعى ديناً : وقال الأجنبيّ : أنكر الخصم وهو مبطل ، فصالحني له بدابّتي هذه لتنقطع الخصومة بينكما ، فقبل صحّ الصّلح ، إذ لا يتعذّر قضاء دين الغير بدون إذنه ، بخلاف تمليك الغير عين ماله بغير إذنه فإنّه لا يمكن .
وإن صالحه عن الدّين لنفسه فقال : هو منكر ، ولكنّه مبطل ، فصالحني لنفسي بدابّتي هذه أو بعشرة في ذمّتي لآخذه منه فلا يصحّ ؛ لأنّه ابتياع دين في ذمّة غيره .
رابعاً : مذهب الحنابلة :
تكلّم الحنابلة عن صلح الأجنبيّ مع المدّعي في حالة الإنكار فقط ، ولم يتعرّضوا لصلحه في حالة الإقرار ، وقالوا :
أ - إنّ صلح الأجنبيّ عن المنكر ، إمّا أن يكون عن عين أو دين :
فإن صالح عن منكر لعين بإذنه ، أو بدون إذنه صحّ الصّلح ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي بصحّة دعواه على المنكر ، أو لم يعترف له بصحّتها ، ولو لم يذكر الأجنبيّ أنّ المنكر وكّله في الصّلح عنه ؛ لأنّه افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدّعوى ، ولا يرجع الأجنبيّ بشيء ممّا صالح به على المنكر إن دفع بدون إذنه ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه فكان متبرّعاً، كما لو تصدّق عنه . أمّا إذا صالح عنه بإذنه فهو وكيله ، والتّوكيل في ذلك جائز ويرجع عليه بما دفع عنه بإذنه إن نوى الرّجوع عليه بما دفع عنه .
وإن صالح عن منكر لدين بإذنه أو بدون إذنه ، صحّ الصّلح ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي لصحّة دعواه على المطلوب ، أو لم يعترف ؛ لأنّ قضاء الدّين عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه ، فإنّ « عليّاً وأبا قتادة - رضي الله عنهما - قضيا الدّين عن الميّت ، وأقرّهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم » ، ولو لم يقل الأجنبيّ إنّ المنكر وكّله في الصّلح عنه ؛ لأنّه افتداء للمنكر من الخصومة ، وإبراء له من الدّعوى ، ولا يرجع الأجنبيّ على المنكر بشيء ممّا صالح به إن دفع بدون إذنه ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه فكان متبرّعاً ، كما لو تصدّق عنه . فإن أذن المنكر للأجنبيّ في الصّلح ، أو الأداء عنه رجع عليه بما ادّعى عنه إن نوى الرّجوع بما دفع عنه .
ب - وإن صالح الأجنبيّ المدّعي لنفسه ، لتكون المطالبة له فلا يخلو : إمّا أن يعترف للمدّعي بصحّة دعواه ، أو لا يعترف له :
فإن لم يعترف له كان الصّلح باطلاً ؛ لأنّه اشترى من المدّعي ما لم يثبت له ، ولم تتوجّه إليه خصومة يفتدي منها ، أشبه ما لو اشترى منه ملك غيره .
وإن اعترف له بصحّة دعواه وصالح المدّعي ، والمدّعى به دين لم يصحّ ؛ لأنّه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه ؛ ولأنّه بيع للدّين من غير من هو في ذمّته . وإذا كان بيع الدّين المقرّ به من غير من هو في ذمّته لا يصحّ ؛ فبيع دين في ذمّة منكر معجوز عن قبضه منه أولى .
وإن كان المدّعى به عيناً ، وعلم الأجنبيّ عجزه عن استنقاذها من مدّعىً عليه لم يصحّ الصّلح ؛ لأنّه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه كشراء الشّارد . وإن ظنّ الأجنبيّ القدرة على استنقاذها صحّ ؛ لأنّه اشترى من مالك ملكه القادر على أخذه منه في اعتقاده ، أو ظنّ عدم المقدرة ثمّ تبيّنت قدرته على استنقاذها صحّ الصّلح ؛ لأنّ البيع تناول ما يمكن تسليمه فلم يؤثّر ظنّ عدمه .
ثمّ إن عجز الأجنبيّ بعد الصّلح ظانّاً القدرة على استنقاذها خُيّر الأجنبيّ بين فسخ الصّلح - ولأنّه لم يسلّم له المعقود عليه ؛ فكان له الرّجوع إلى بدله - وبين إمضاء الصّلح ؛ لأنّ الحقّ له كخيار العيب . وإن قدر على انتزاعه استقرّ الصّلح .
ج - وإن قال الأجنبيّ للمدّعي : أنا وكيل المدّعى عليه في مصالحتك عن العين ، وهو مقرّ لك بها في الباطن ، وإنّما يجحدك في الظّاهر فظاهر كلام الخرقيّ : لا يصحّ الصّلح ؛ لأنّه يجحدها في الظّاهر لينتقص المدّعي بعض حقّه ، أو يشتريه بأقلّ من ثمنه ؛ فهو هاضم للحقّ يتوصّل إلى أخذ المصالح عنه بالظّلم والعدوان ، فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك فقال : أنا أعلم صحّة دعواك ، وأنّ هذا لك ، ولكن لا أسلّمه إليك ولا أقرّ لك به عند الحاكم حتّى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه ، وهو غير جائز . وقال القاضي : يصحّ . ثمّ ينظر إلى المدّعى عليه : فإن صدّقه على ذلك ملك العين ، ولزمه ما أدّى عنه ورجع الأجنبيّ عليه بما أدّى عنه إن كان أذن له في الدّفع . وإن أنكر المدّعى عليه الإذن في الدّفع فالقول قوله بيمينه ، ويكون حكمه كمن أدّى عن غيره ديناً بلا إذنه . وإن أنكر الوكالة فالقول قوله بيمينه ، ولا رجوع للأجنبيّ عليه ولا يحكم له بملكها ؛ ثمّ إن كان الأجنبيّ قد وكّل في الشّراء، فقد ملكها المدّعى عليه باطناً ؛ لأنّه اشتراها بإذنه فلا يقدح إنكاره في ملكها ؛ لأنّ ملكه ثبت قبل إنكاره ، وإنّما هو ظالم بالإنكار للأجنبيّ ، وإن لم يوكّله لم يملكها ؛ لأنّه اشترى له عيناً بغير إذنه .
ولو قال الأجنبيّ للمدّعي : قد عرف المدّعى عليه صحّة دعواك ، ويسألك الصّلح عنه ، وكّلني فيه فصالحه صحّ ؛ لأنّه هاهنا لم يمتنع من أدائه ، بل اعترف به وصالحه عليه مع بذله فأشبه ما لو لم يجحده .
أركان الصّلح :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ للصّلح ركناً واحداً : وهو الصّيغة المؤلّفة من الإيجاب والقبول الدّالّة على التّراضي . وخالفهم في ذلك جمهور الفقهاء - من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - حيث عدّوا أركان الصّلح ثلاثةً :
أ - الصّيغة .
ب - والعاقدان .
ج - والمحلّ . " وهو المصالح به والمصالح عنه " .

عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية
( الجزء الثالث )
شروط الصّلح :
للصّلح شروط يلزم تحقّقها لوجوده ، هي خارجة عن ماهيّته ، منها ما يرجع إلى الصّيغة ، ومنها ما يرجع إلى العاقدين ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه ، وهو الشّيء المتنازع فيه ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عليه ، وهو بدل الصّلح .
وبيان ذلك فيما يأتي :
الشّروط المتعلّقة بالصّيغة :
المراد بالصّيغة : الإيجاب والقبول الدّالّين على التّراضي . مثل أن يقول المدّعى عليه: صالحتك من كذا على كذا ، أو من دعواك كذا على كذا ، ويقول الآخر : قبلت ، أو رضيت أو ما يدلّ على قبوله ورضاه . فإذا وجد الإيجاب والقبول فقد تمّ الصّلح .
هذا ، ولم يتعرّض فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في باب الصّلح لبيان الشّروط المتعلّقة بصيغته ؛ نظراً لاعتبارهم عقد الصّلح غير قائم بذاته ، بل تابعاً لأقرب العقود به في الشّرائط والأحكام ، بحيث يعدّ بيعاً إذا كان مبادلة مال بمال ، وهبةً إذا كان على بعض العين المدّعاة، وإبراءً إذا كان على بعض الدّين المدّعى ، اكتفاءً منهم بذكر ما يتعلّق بالصّيغة من شروط وأحكام في تلك العقود الّتي يلحق بها الصّلح ، بحسب محلّه وما تصالحا عليه .
أمّا الحنفيّة : فقد تكلّموا على صيغة الصّلح بصورة مستقلّة في بابه ، وأتوا على ذكر بعض شروطها وأحكامها ، وسكتوا عن البعض الآخر ، اكتفاءً بما أوردوه من تفصيلات تتعلّق بالصّيغة في أبواب البيع والإجارة والهبة والإبراء ، الّتي يأخذ الصّلح أحكامها بحسب أحواله وصوره .
أمّا كلامهم في باب الصّلح عن صيغته وشروطها : فهو أنّه يشترط في الصّلح حصول الإيجاب من المدّعي على كلّ حال ، سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أم لم يكن ، ولذلك لا يصحّ الصّلح بدون إيجاب مطلقاً . أمّا القبول ، فيشترط في كلّ صلح يتضمّن المبادلة بعد الإيجاب .
ثمّ قالوا : تستعمل صيغة الماضي في الإيجاب والقبول ، ولا ينعقد الصّلح بصيغة الأمر ، وعلى ذلك لو قال المدّعي للمدّعى عليه : صالحني على الدّار الّتي تدّعيها بخمسمائة درهم ، فلا ينعقد الصّلح بقول المدّعى عليه : صالحت ؛ لأنّ طرف الإيجاب كان عبارةً عن طلب الصّلح ، وهو غير صالح للإيجاب ، فقول الطّرف الآخر : قبلت ، لا يقوم مقام الإيجاب .
أمّا إذا قال المدّعي ثانياً : قبلت . ففي تلك الحالة ينعقد الصّلح .
وبناءً على ما تقدّم :
إذا كان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين : كالعقارات ، والأراضي ، وعروض التّجارة ، ونحوها فيشترط القبول بعد الإيجاب لصحّة الصّلح ؛ لأنّ الصّلح في هذه الحالة لا يكون إسقاطاً حتّى يتمّ بإرادة المسقط وحدها ، وسبب عدم كونه إسقاطاً مبنيّ على عدم جريان الإسقاط في الأعيان .
وإذا كان الصّلح واقعاً على جنس آخر ، فيشترط القبول - أيضاً - سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أو كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين : كالنّقدين ، وما في حكمهما .
وسبب اشتراط القبول في هاتين المسألتين : أنّ الصّلح فيهما مبادلة ، وفي المبادلة يجب القبول ، ولا يصحّ العقد بدونه .
أمّا الصّلح الّذي ينعقد بالإيجاب وحده ، فهو الّذي يتضمّن إسقاط بعض الحقوق ، فيكتفى فيه بالإيجاب ، ولا يشترط القبول .
وعلى ذلك : فإذا وقع الصّلح على بعض الدّين الثّابت في الذّمّة ، بمعنى أن يكون كلّ من المصالح عنه والمصالح به من النّقدين ، وهما لا يتعيّنان بالتّعيين ، فهاهنا ينعقد الصّلح بمجرّد إيجاب الدّائن ، ولا يشترط قبول المدين ؛ لأنّ هذا الصّلح عبارة عن إسقاط بعض الحقّ ، والإسقاط لا يتوقّف على القبول ، بل يتمّ بمجرّد إيجاب المسقط .
فمثلاً : لو قال الدّائن للمدين : صالحتك على ما في ذمّتك لي من الخمسمائة دينار على مائتي دينار فينعقد الصّلح بمجرّد الإيجاب ، ولا يشترط قبول المدين ، ويلزم الصّلح ما لم يردّه الدّين . إلاّ أنّه يشترط في ذلك أن يكون الموجب المدّعي ؛ لأنّه لو كان المدّعى عليه هو الموجب ، فيشترط قبول المدّعي ؛ سواء أكان الصّلح عمّا يتعيّن بالتّعيين ، أم عمّا لا يتعيّن بالتّعيين ، وذلك لأنّ هذا الصّلح إمّا أن يكون إسقاطاً ، فيجب أن يكون المسقط المدّعي أو الدّائن ، إذ لا يمكن سقوط حقّه بدون قبوله ورضاه ، وإمّا أن يكون معاوضةً ، وفي المعاوضة يشترط وجود الإيجاب والقبول معاً . أمّا في الصّلح عمّا لا يتعيّن بالتّعيين الّذي يقع على عين الجنس ، فيقوم طلب المدّعى عليه الصّلح مقام القبول .
الصّلح بالتّعاطي :
ذهب الحنفيّة إلى انعقاد الصّلح بالتّعاطي إذا كانت قرائن الحال دالّةً على تراضيهما به، كما لو أعطى المدّعى عليه مالاً للمدّعي لا يحقّ له أخذه وقبض المدّعي ذلك المال . وبيان ذلك : أنّه لو ادّعى شخص على آخر بألف درهم ، وأنكر المدّعى عليه الدّين ، وأعطى المدّعي شاةً وقبضها المدّعي منه فإنّه ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وليس للمدّعي بعد ذلك الادّعاء بالألف درهم ، كما أنّه ليس للمدّعى عليه استرداد تلك الشّاة .
أمّا إذا أعطى المدّعى عليه للمدّعي بعض المال الّذي كان للمدّعي حقّ أخذه وقبضه المدّعي، ولم يجر بينهما كلام يدلّ على الصّلح فلا ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وللمدّعي طلب باقي الدّين؛ لأنّ أخذ المدّعي بعضاً من المال الّذي له حقّ أخذه ، يحتمل أنّه قصد به استيفاء بعض حقّه على أن يأخذ البعض الباقي بعد ذلك ، كما أنّه يحتمل أنّه اكتفى بالمقدار الّذي أخذه وعدل عن المطالبة بالباقي ، والحقّ لا يسقط بالشّكّ .
الشّروط المتعلّقة بالعاقدين :
وهي على ثلاثة أقسام : منها ما يرجع إلى الأهليّة ، ومنها ما يرجع إلى الولاية ، ومنها ما يرجع للتّراضي .
الشّروط المتعلّقة بالمصالح عنه :
المصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه ، وهو نوعان : حقّ اللّه ، وحقّ العبد .
أمّا حقّ اللّه : فلا خلاف بين الفقهاء في عدم صحّة الصّلح عنه . وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح عن حدّ الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ، بأن صالح زانياً أو سارقاً من غيره أو شارب خمر على مال على أن لا يرفعه إلى وليّ الأمر ؛ لأنّه حقّ اللّه تعالى فلا يجوز ، ويقع باطلاً ؛ لأنّ المصالح بالصّلح متصرّف في حقّ نفسه ، إمّا باستيفاء كلّ حقّه ، أو باستيفاء البعض وإسقاط الباقي ، أو بالمعاوضة ، وكلّ ذلك لا يجوز في غير حقّه .
وكذا إذا صالح من حدّ القذف ، بأن قذف رجلاً ، فصالحه على مال على أن يعفو عنه ؛ لأنّه وإن كان للعبد فيه حقّ ، فالمغلّب فيه حقّ اللّه تعالى ، والمغلوب ملحق بالعدم شرعاً ، فكان في حكم الحقوق المتمحّضة حقّاً للّه عزّ وجلّ ، وهي لا تحتمل الصّلح ، فكذلك ما كان في حكمها .
وكذلك لو صالح شاهداً يريد أن يشهد عليه على مال ليكتم شهادته فهو باطل ؛ لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسب حقّاً للّه عزّ وجلّ لقوله سبحانه : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } والصّلح عن حقوق اللّه باطل .
وإذا بطل الصّلح في حقوق اللّه تعالى وجب عليه ردّ ما أخذ ؛ لأنّه أخذه بغير حقّ ، ولا يحلّ لأحد أخذ مال أحد إلاّ بسبب شرعيّ .
وأمّا حقّ العبد : فهو الّذي يصحّ الصّلح عنه عند تحقّق شروطه الشّرعيّة ، وشروطه عند الفقهاء ثلاثة :
أحدها : أن يكون المصالح عنه حقّاً ثابتاً للمصالح في المحلّ :
وعلى ذلك : فما لا يكون حقّاً له ، أو لا يكون حقّاً ثابتاً له في المحلّ لا يجوز الصّلح عنه ، حتّى لو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها ، وجحد الرّجل، فصالحت عن النّسب على شيء فالصّلح باطل ؛ لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا حقّها ، فلا تملك الاعتياض عن حقّ غيرها ؛ ولأنّ الصّلح إمّا إسقاط أو معاوضة ، والنّسب لا يحتملهما. وكذا لو صالح الشّفيع من الشّفعة الّتي وجبت له على شيء ، على أن يسلّم الدّار للمشتري فالصّلح باطل ؛ لأنّه لا حقّ للشّفيع في المحلّ ، إنّما الثّابت له حقّ التّملّك ، وهو ليس لمعنىً في المحلّ ، بل هو عبارة عن الولاية ، وأنّها صفة الوالي فلا يحتمل الصّلح عنه ، وهو قول الجمهور - خلافاً للمالكيّة - فيجوز عندهم الصّلح عن الشّفعة .
وكذلك لو صالح الكفيل بالنّفس المكفول له على مال ، على أن يبرّئه من الكفالة فالصّلح باطل ؛ لأنّ الثّابت للطّالب قبل الكفيل بالنّفس حقّ المطالبة بتسليم نفس المكفول بنفسه ، وذلك عبارة عن ولاية المطالبة ، وأنّها صفة الوالي فلا يجوز الصّلح عنها كالشّفعة .
أمّا لو ادّعى على رجل مالاً وأنكر المدّعى عليه ، ولا بيّنة للمدّعي ، فطلب منه اليمين فصالح عن اليمين على أن لا يستحلفه جاز الصّلح وبرئ من اليمين ، بحيث لا يجوز للمدّعي أن يعود إلى استحلافه . وكذا لو قال المدّعى عليه : صالحتك من اليمين الّتي وجبت لك عليّ. أو قال : افتديت منك يمينك بكذا وكذا صحّ الصّلح ؛ لأنّ هذا صلح عن حقّ ثابت للمدّعي ؛ لأنّ اليمين حقّ للمدّعي قبل المدّعى عليه ، وهو ثابت في المحلّ - وهو الملك في المدّعي في زعمه - فكان الصّلح في جانب المدّعي عن حقّ ثابت في المحلّ ، وهو المدّعي، وفي جانب المدّعى عليه بذل المال لإسقاط الخصومة والافتداء عن اليمين . قاله الكاسانيّ . ونصّ الحنفيّة والحنابلة : على أنّه لو ادّعى رجل على المرأة نكاحاً فحجّته ، وصالحته على مال بذلته حتّى يترك الدّعوى جاز هذا الصّلح ؛ لأنّ النّكاح حقّ ثابت في جانب المدّعي حسب زعمه ، فكان الصّلح على حقّ ثابت له ، والدّافع يقطع به الخصومة عن نفسه ، فكان في معنى الخلع .
والثّاني : أن يكون ممّا يصحّ الاعتياض عنه :
أي : أن يكون ممّا يجوز أخذ العوض عنه ، سواء أكان ممّا يجوز بيعه أو لا يجوز ، وسواء أكان مالاً أو غير مال .
وعلى ذلك : فيجوز الصّلح عن قود نفس ودونها ، وعن سكنى دار ونحوها ، وعن عيب في عوض أو معوّض ، قطعاً للخصومة والمنازعة .
ومتى صالح عمّا يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقلّ جاز . لقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فقوله عزّ وجلّ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } أي : أعطى له . كذا روي عن عبد اللّه بن عبّاس - رضي الله عنهما - وقوله عزّ شأنه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أي : فليتبع " مصدر بمعنى الأمر " فقد أمر اللّه تعالى الوليّ بالاتّباع بالمعروف إذا أعطي له شيء ، واسم الشّيء يتناول القليل والكثير ، فدلّت الآية على جواز الصّلح عن القصاص على القليل والكثير . وقال الزّيلعيّ : ولأنّ القصاص حقّ ثابت في المحلّ ، ويجري فيه العفو مجّاناً ، فكذا تعويضاً لاشتماله على الأوصاف الجميلة من إحسان الوليّ ، وإحياء القاتل ... والكثير والقليل سواء في الصّلح عن القصاص ؛ لأنّه ليس فيه شيء مقدّر ، فيفوّض إلى اصطلاحهما ، كالخلع على مال .
أمّا إذا صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز . وكذلك لو أتلف شيئاً غير مثليّ لغيره ، فصالح عنه بأكثر من قيمته من جنسها لم يجز أيضاً ، وذلك لأنّ الدّية والقيمة ثبتت في الذّمّة مقدّرةً ، فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر من جنسها الثّابتة عن قرض أو ثمن مبيع ؛ ولأنّه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقّه وزيادةً لا مقابل لها ، فيكون أكل مال بالباطل . فأمّا إذا صالحه على غير جنسها بأكثر من قيمتها ، فيجوز ؛ لأنّه بيع ، ويجوز للمرء أن يشتري الشّيء بأكثر من قيمته أو أقلّ ؛ ولأنّه لا ربا بين العوض والمعوّض عنه فصحّ . وبناءً على ما تقدّم : لا يجوز الصّلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه ، مثل أن يصالح امرأةً على مال لتقرّ له بالزّوجيّة ؛ لأنّه صلح يحلّ حراماً ؛ ولأنّها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز .
الثّالث : أن يكون معلوماً :
وقد اختلف الفقهاء في اشتراطه أو في مداه على ثلاثة أقوال :
أحدها للشّافعيّة : وهو عدم صحّة الصّلح عن المجهول .
قال الإمام الشّافعيّ في " الأمّ " : أصل الصّلح أنّه بمنزلة البيع ، فما جاز في البيع جاز في الصّلح ، وما لم يجز في البيع لم يجز في الصّلح ، ثمّ يتشعّب ... ولا يجوز الصّلح عندي إلاّ على أمر معروف ، كما لا يجوز البيع إلاّ على أمر معروف ، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - : « الصّلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » .
ومن الحرام الّذي يقع في الصّلح أن يقع عندي على المجهول الّذي لو كان بيعاً كان حراماً .
هذا ، وقد نصّ الشّافعيّة على صحّة الصّلح عن المجمل عندهم ، فلو ادّعى عليه شيئاً مجملاً فأقرّ له به وصالحه عنه على عوض ، صحّ الصّلح .
قال الشّيخ أبو حامد وغيره : هذا إذا كان المعقود عليه معلوماً لهما فيصحّ الصّلح وإن لم يسمّياه ، كما لو قال : بعتك الشّيء الّذي نعرفه أنا وأنت بكذا فقال : اشتريت صحّ .
والثّاني للحنفيّة : وهو أنّه يشترط كون المصالح عنه معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى التّسليم، فإنّه لمّا كان مطلوب التّسليم اشترط كونه معلوماً لئلاّ يفضي إلى المنازعة .
جاء في فتاوى قاضي خان : إذا ادّعى حقّاً في دار رجل ولم يسمّ ، فاصطلحا على مال معلوم يعطيه المدّعي ليسلّم المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي لا يصحّ هذا الصّلح ؛ لأنّ المدّعى عليه يحتاج إلى تسليم ما ادّعاه المدّعي ، فإذا لم يعلم مقدار ذلك لا يدري ماذا يسلّم إليه ، فلا يجوز .
أمّا إذا كان ممّا لا يحتاج التّسليم - كترك الدّعوى مثلاً - فلا يشترط كونه معلوماً ؛ لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة ، والمصالح عنه هاهنا ساقط ، فهو بمنزلة الإبراء عن المجهول ، وهو جائز . قال الإسبيجابيّ : لأنّ الجهالة لا تبطل العقود لعينها ، وإنّما تبطل العقود لمعنىً فيها ، وهو وقوع المنازعة . فإن كان ممّا يستغنى عن قبضه ولا تقع المنازعة في ثاني الحال فيه جاز ، وإن كان ممّا يحتاج إلى قبضه ، وتقع المنازعة في ثاني الحال عند القبض والتّسليم لم يجز .
والثّالث للمالكيّة والحنابلة : وهو التّفريق بين ما إذا كان المصالح عنه ممّا يتعذّر علمه . وبين ما إذا كان ممّا لا يتعذّر .
فإن كان ممّا يتعذّر علمه ، فقد نصّ المالكيّة والحنابلة على صحّة الصّلح عنه .
قال الحنابلة : سواء أكان عيناً أم ديناً ، وسواء جهلاه أو جهله من عليه الحقّ ، وسواء أكان المصالح به حالّاً أو نسيئةً ، واستدلّوا على ذلك :
أ - بما ورد عن أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت : « جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس بينهما بيّنة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّكم تختصمون إليّ ، وإنّما أنا بشر ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته أو قد قال : لحجّته من بعض ، فإنّي أقضي بينكم على نحو ممّا أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار ، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . فبكى الرّجلان ، وقال كلّ واحد منهما حقّي لأخي . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمّا إذ قلتما ، فاذهبا ، فاقتسما ثمّ توخّيا الحقّ ، ثمّ استهما ، ثمّ ليحلل كلّ واحد منكما صاحبه » .
ب - ولأنّه إسقاط حقّ ، فصحّ في المجهول كالطّلاق للحاجة .
ج - ولأنّه إذا صحّ الصّلح مع العلم وإمكان أداء الحقّ بعينه فلأن يصحّ مع الجهل أولى . وذلك لأنّه إذا كان معلومًا فلهما طريق إلى التّخلّص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ، ومع الجهل لا يمكن ذلك ، فلو لم يجز الصّلح لأفضى ذلك إلى ضياع الحقّ ، أو بقاء شغل الذّمّة على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كلّ واحد منهما قدر حقّه منه .
أمّا إذا كان ممّا لا يتعذّر علمه ، كتركة باقية ، صالح الورثة الزّوجة عن حصّتها منها مع الجهل بها . فقال المالكيّة ، وأحمد في قول له : لا يجوز الصّلح إلاّ بعد المعرفة بذلك .
وقال الحنابلة في المشهور عندهم : يصحّ لقطع النّزاع .
الشّروط المتعلّقة بالمصالح به :
المصالح به ، أو المصالح عليه : هو بدل الصّلح . وشروطه عند الفقهاء اثنان .
أحدهما : أن يكون مالاً متقوّماً :
وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح على الخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدّم ، وصيد الإحرام والحرم ، وذلك لأنّ في الصّلح معنى المعاوضة ، فما لا يصحّ عوضاً في البياعات لا يصحّ جعله بدل صلح ، ولا فرق بين أن يكون المال ديناً أو عيناً أو منفعةً .
فلو صالحه على مقدار من الدّراهم ،أو على سكنى دار أو ركوب دابّة وقتاً معلوماً صحّ ذلك. قال الكاسانيّ : الأصل أنّ كلّ ما يجوز بيعه وشراؤه يجوز الصّلح عليه ، وما لا فلا .
والثّاني : أن يكون معلوماً :
وعلى ذلك قال الحنابلة : فإن وقع الصّلح بمجهول لم يصحّ ؛ تسليمه واجب والجهل يمنعه . أمّا الحنفيّة ، فقد فصّلوا في المسألة وقالوا : يشترط كون المصالح به معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى القبض والتّسليم ؛ لأنّ جهالة البدل تؤدّي إلى المنازعة ، فتوجب فساد العقد ، أمّا إذا كان شيئاً لا يفتقر إلى القبض والتّسليم فلا يشترط معلوميّته ، مثل أن يدّعي حقّاً في دار رجل ، وادّعى المدّعى عليه حقّاً في أرض بيد المدّعي فاصطلحا على ترك الدّعوى جاز ، وإن لم يبيّن كلّ منهما مقدار حقّه ؛ لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة .
قال الكاسانيّ : لأنّ جهالة البدل لا تمنع جواز العقد لعينها ، بل لإفضائها إلى المنازعة المانعة من التّسليم والتّسلّم ، فإذا كان مالاً يستغنى عن التّسليم والتّسلّم فيه ، لا يفضي إلى المنازعة فلا يمنع الجواز .
آثار الصّلح :
قال الفقهاء : إنّ الآثار المترتّبة على انعقاد الصّلح هو حصول البراءة عن الدّعوى ووقوع الملك في بدل الصّلح للمدّعي ، وفي المصالح به للمدّعى عليه إن كان ممّا يحتمل التّمليك ، وأنّ الصّلح يعتبر بأقرب العقود إليه - إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني - فما كان في معنى البيع أو الإجارة أو الإسقاط أخذ حكمه .
وعلى ذلك قالوا : إذا تمّ الصّلح على الوجه المطلوب دخل بدل الصّلح في ملك المدّعي ، وسقطت دعواه المصالح عنها ، فلا يقبل منه الادّعاء بها ثانياً ، ولا يملك المدّعى عليه استرداد بدل الصّلح الّذي دفعه للمدّعي .
وأصل ذلك : أنّ الصّلح من العقود اللّازمة ، فلذلك لا يملك أحد العاقدين فسخه ، أو الرّجوع عنه بعد تمامه أمّا إذا لم يتمّ فلا حكم له ولا أثر يترتّب عليه . فلو ادّعى أحد على آخر حقّاً وتصالح مع المدّعى عليه على شيء ، ثمّ ظهر بأنّ ذلك الحقّ أو المال لا يلزم المدّعى عليه فلا يتمّ ولا حكم له ، وللمدّعى عليه استرداد بدل الصّلح ، وكذلك لو تصالح البائع مع المشتري عن خيار العيب ، ثمّ ظهر عدم وجود العيب ، أو زال العيب من نفسه وبدون معالجة أو كلفة بطل الصّلح ، ويجب على المشتري ردّ بدل الصّلح الّذي أخذه للبائع . وكذا إذا كان المدّعي مبطلاً وغير محقّ في دعواه ، فلا يحلّ له ديانةً بدل الصّلح في جميع أنواع الصّلح ، ولا يطيب له ، ما لم يسلّم المدّعى عليه للمدّعي بدل الصّلح عن طيب نفس ، وفي تلك الحالة يصبح التّمليك بطريق الهبة .
وعلى أساس ما تقدّم نصّ الفقهاء على : أنّه إذا مات أحد المتصالحين بعد تمام الصّلح ، فليس لورثته فسخه .
وقال المالكيّة : من ادّعى على آخر حقًّا ، فأنكره ، فصالحه ، ثمّ ثبت الحقّ بعد الصّلح باعتراف أو بيّنة فله الرّجوع في الصّلح ، إلاّ إذا كان عالمًا بالبيّنة وهي حاضرة ولم يقم بها، فالصّلح له لازم . أمّا إذا كان أحد المتصالحين قد أشهد قبل الصّلح إشهاد تقيّة : أنّ صلحه إنّما هو لما يتوقّعه من إنكار صاحبه أو غير ذلك ، فإنّ الصّلح لا يلزمه إذا ثبت أصل حقّه .
ما يترتّب على انحلال الصّلح :
إذا بطل الصّلح بعد صحّته ، أو لم يصحّ أصلاً فيرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصّلح عن إنكار . وإن كان عن إقرار فيرجع على المدّعى عليه بالمدّعى لا غيره ، إلاّ في الصّلح عن القصاص إذا لم يصحّ فإنّ لوليّ الدّم أن يرجع على القاتل بالدّية دون القصاص ، إلاّ أن يصير مغروراً من جهة المدّعى عليه ، فيرجع عليه بضمان الغرور أيضاً .






من نشرتي البريدية