المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إحساس



محمد صباح الحواصلي
05/10/2006, 04:41 PM
إحساس


قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي


انتزعت بطل قصتي من جلسته الهادئة, وسط عالم يغلي, فيما كان يتابع برامجه المختارة عبر الفضائيات العربية وغير العربية, ومسخته بارادة حانقة جاعلا منه صرصارا حقيرا ليس بالضرورةِ أن يكون شبيها بصرصار "كافكا". وأردتُ أيضاً أن يكون مقرفا, فجعلتُ وجه المرأة التي صادفته على أرض مطبخها, مشمئزا يعتصرُه القرف فيما هي تلتقطه بملقط وتلقي به في كيس نايلون أسود يُغلفُ سلة القمامة. ناداني بطل قصتي:
"هيه يا أستاذ؟ ماذا دهاك! أي قدر مقرف وضعتني به! ارجعني إلى ما كنت عليه.. أرجوك.."
وأردف قائلا:
"ثم ماذا تريد أن تقول لقرائك؟ ماهذه الفكرة العظيمة التي جعلتك تمسخُ إنسانا مثلك وتلقي به في غياهب المجهول؟ أنتَ تتحمل مسؤولية تحولي إلى حشرة؟"
اسقطتُ بطلي فوق طبقة كثيفة من الزبالة, وبما أن الصباح كان قد استفاق لتوه فقد تعين عليه أن ينتظر طويلا حتى تمتلئ سلة المهملات.
"أرحمني يا أستاذ..هل تسمعني؟"
ثم مرَّتْ فترة صمت عصيبة كاد خلالها أن يختنق وسط الفضلات. كان واضحا أن المساء قد أقبل, أدركَ ذلك من السكون الذي خيم على المطبخ, وهاهي ذي يد تلوي عنق كيس القمامة الأسود فينضغط بطل قصتي مع الفضلات, وبدأ يشعر بالتلويح والهبوط.. ثم أخيرا بصدمة عنيفة ركن بعدها مع الفضلات داخل الكيس الأسود قرب جذع شجرة كينا على الرصيف.
حركة السيارات التي أخذت تفتر بدت له آتية من عالم افتقده ولن يعود إليه, وأحاديث السابلة ينصت إليها بشوق واهتمام وكأنها آتية من دنيا لن يعود اليها. تمكنتْ منه غصة فبكى. تعجَّبَ بطلي كيف أن حشرة مقرفة تحس وتبكي.. تساقطت دموعه الدافئة على القمامة التي طوقته من كل جانب والتي بدت تتفسخ وتتحل. بعد قليل, أحس بشيء يعبث بالكيس فتملكه خوف طغى على أي إحساس آخر. لا بد أنه قط!
"يا أستاذ.. يستر حريمك اخرجني.. إن لم تكن تريد أن تعيدني إلى حالي السابق إنسانا مثلك فعلى الأقل انقذني من هذا الوحش الهائل الذي يهم بإلتهامي."
الكيس يتمايل ويهتز. فعلا.. لا بد أن القط يدسُّ أنفه في المواضع التي يمزقها بمخالبه, في المواضع الشهية. ولابد من أن يكون بطلي هو المُشْتهى لدى القط. لا يدري إن كان يصلح له طعاما لذيذا ما دام قد تحول إلى حشرة حقيرة, بل ربما مقرفة أيضا. ولكن هذا لم يمنع من تعاظم خوفه, ولا سيما بعدما شعر أن أنفَ القطِ قد استقرَّ عند الجانب القريب منه. يهمسُ بطلي خشية أن يسمعه القط:
"يا أستاذ؟ يا كاتب؟ يا مثقف؟ يا بني آدم؟ أخرجني لعنة الله عليك.."
النبش أخذ حركة أسرع.. تمزيق متلاحق وقد خفَّ ضغط القمامة على أثر اندلاقها عبر الثغرة التي أحدثتها مخالب القط. تأهب بطل قصتي للدفاع عن نفسه التي استحالت إلى شيء حقير مقرف.. إمَّا هو أو القط.. ولن يدعه يلتهمه رخيصا. خاف – وإنه ليعجب لِمَ خاف- تساءل حتى الحشرات المقرفة تشعر بالخوف وتسعى للحفاظ على بقائها. بإمكانه الآن أن يلمح مخالب القط الوحشية وهي تنبش باحثة عنه فأدرك أن موته قادم لا محالة. ويحدثني وقد تملكه الرعب:
"إذا لم تكن تريد أن تنقذني, فقل لي بصفتك الكاتب العارف لمصيري.. هل سيلتهمني هذا القط؟ أنا أعرف أنك لا تستطيع أن تبوحَ بذلك أمام القراء فتفسد القصة.. لذا بإمكانك أن تهمس في أذني.. ماذا قلت؟"
كان هذا الإحساس مصاحبا لهبشة مخلب القط على وجْهِ حشرتي, ومصاحبا أيضا لصوت وقوف سيارة كبيرة ثقيلة, تبعه صوت آدمي, ثم خطو ثقيل, ثم يد تلم القمامة الساقطة من ثقب الكيس, ثم شعر بطلي أن الكيس قد حُمِلَ بعنف وأُلقي به داخل السيارة, ثم سمع صوتا يستحثُ السائقَ بمتابعة السير:
"يلله روح.."
لو تتصوروا كم كانت سعادة بطل قصتي الجريح عظيمة بخلاصة من مخالب القط الذي كان على وشك أن يلتهمه. بامكانه, وهو يعتلي الآن كومة القمامة في شاحنة الزبالة, أن يرى القطَّ الخائب. لم يستطعْ أن يكتم شماتته من القطِ وقد تمكن من الفرار من مخالبه, فانفجر ضاحكا على خيبة القط وسوء حظه, ولعن أبا المؤلف مئة مرة, حتى غابت السيارة ببطلي بعيدا عن خطر القط, إلى قدره المجهول, إلى أن بدا القط والمدينة نقطة سوداء مشوهة الشكلِ تحت مصباح الشارع الباهت.

أضعُ قلمي بعدما انتهيتُ من قصتي التي اسميتها "إحساس", ودخلتُ إلى الحمامِ ونظرتُ إلى وجهي في المرآة فيما كنتُ أمسحُ بمعقم خدشا في خدي.

سياتل, سيتمبر 2004

ظلال
05/10/2006, 09:50 PM
كنت أقرأ كل كلمة وسطر بابتسامة عريضة. واقول: من أين تأتيه الافكار يا ترى؟ قصة تحمل معاني رائعة. تعجز كلماتي عن وصف مدى اعجابي بما تخط يداك من بنات أفكارك.
شكرا لك لأنك تستطيع بكل ما تملك من احاسيس مرهفة ان ترسم الابتسامة على شفاه قرائك.

الشربيني المهندس
28/02/2007, 01:42 AM
استاذنا الحواصلي تنوعت احاسيسي وانا اتابع الحكاية فقد اشفقت علي الصرصار مرة وقومت تكشيرة كافكا ووقفت له بالمرصاد ادفعه بعيدا عنك حتي جاءت النهاية المفارقة
وتلون الاحساس ليصبح ادبيا وفنيا بامتياز
:vg:

محمد صباح الحواصلي
03/03/2007, 07:10 PM
كنت أقرأ كل كلمة وسطر بابتسامة عريضة. واقول: من أين تأتيه الافكار يا ترى؟ قصة تحمل معاني رائعة. تعجز كلماتي عن وصف مدى اعجابي بما تخط يداك من بنات أفكارك.
شكرا لك لأنك تستطيع بكل ما تملك من احاسيس مرهفة ان ترسم الابتسامة على شفاه قرائك.

أشكرك يا ظلال على كلماتك الرائعة التي كتبتها لي في تشرين الأول الماضي!!
عجبا!! كيف لم أرها؟!
ارجو منك السماح.. وآمل أن يستمر التواصل الإبداعي, هنا في واتا العزيزة, التي عرَّفتنا على باقة من المبدعين والكتاب.
مع تقديري
صباح

محمد صباح الحواصلي
03/03/2007, 07:29 PM
استاذنا الحواصلي تنوعت احاسيسي وانا اتابع الحكاية فقد اشفقت علي الصرصار مرة وقومت تكشيرة كافكا ووقفت له بالمرصاد ادفعه بعيدا عنك حتي جاءت النهاية المفارقة
وتلون الاحساس ليصبح ادبيا وفنيا بامتياز
:vg:

عزيزي الشربيني
أشكرك على كلماتك التي آمل أن استحقها..
أنت دائما تبهرنا بتعليقاتك الإبداعية التي لا تخطئ هدفها
دمت مبدعا وصديقا
صباح

عبلة محمد زقزوق
03/03/2007, 09:21 PM
روعة تلك القصة تكمن في بساطتها .
فكم من أفكار تراودنا وتخيلات ؛ ولكن لإبتعاد الورقة والقلم عن أيادينا وقت الاحتياج .... تضيع الفكرة وطرافتها أدراج الرياح .
الروعة هي روعة تواجد الورقة والقلم في اللحظة ....:) هه
أستاذنا الفاضل ـ محمد صباح الحواصلي
تقديري واحترامي وشكري
قاسم السماوي:)