المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة سيكولوجية في قصة (انتحار) لطه خضر



آداب عبد الهادي
21/05/2009, 02:37 PM
قراءة سيكولوجية في قصة (انتحار) للكاتب طه خضر
بقلم: آداب عبد الهادي
في الواقع كنت قد كتبت رداً ليلة أمس لهذه القصة لكن بعد نشري للرد ارتأيت أن أقدم قراءة في متصفح منفصل وذلك لعدة أسباب:
اولاً:ربما تكون نوع من الأنانية لأنني قلما أجد نصاً يتوافق مع فكرة أرغب بطرحها من خلال نقد أدبي أو قراءة متانية أوضحها من خلال قصة كتبت.
ثانيا: الفكرة التي أرغب بالحديث عنها هي ذات الفكرة التي قدمها كاتبنا في قصته وهي (الانتحار) ولماذا يلجأ إليه المرء ولماذا انتشر بشكل موسع في هذه الأيام حيث تزداد أعداد المنتحرين بشكل لافت للنظر.
ثالثاً:قلما يتناول كتاب القصص الانتحار في آدابهم بشكل مباشر كما فعل كاتبنا هنا تاركين الوازع الديني جانباً.
رابعاً:: وجدت في بعض الردود للسادة المتداخلين أسئلة دفعتني لأن أجيب عليها وهذه فقط من حق المؤلف لكن هنا أستطيع أن أوضحها من وجهة نظري .

القصة
انتحار:للكاتب طه خضر
رن جرس الهاتف من جديد، رفعت السماعة وبقيت صامتة، إنه هو، لا شك في ذلك،...أغلقت الهاتف وقد اكتنفتها رغبة عارمة في تحطيم كل ما حولها، انتحبت بشدة حتى كادت تشطر إلى نصفين، وبعد أن هدأت انتصبت واقفة وزرعت أقدامها في الأرض حتى لا تعصف بها رياح عقلها الهوج، ترددت قليلا فلم يستغرقها التردد إلا ثوان ٍ معدودات ٍ تقدمت بإصرار وفتحت الخزانة بعنف، ألقت نظرة ذاهلة، وبحركة خاطفة قامت بجمع كل ما يتعلق به من أوراق ورسائل وصور وأشعلت بها حريقا كاد يأتي على الغرفة بأكملها،.. انطفأت النار بعد أن أتت على فريستها ونارها لم تنطفئ، إنه لا يستحقها ولا يستحق الحب الذي منحته إياه!!

أغلقت على نفسها الغرفة بإحكام دون أن تهمس بحرف وتوقفت عن البكاء فجأة، جلست على المقعد وهي تنظر في شيء ٍ غير مرئي يروح ويجيء كما بندول الساعة ثم يقترب منها، ضحكت بعنف؛ فتفجرت قهقهتها وتناثرت في كلّ أنحاء الغرفة وأخيرا تحطمت على جسدها ثم انفجرت من جديد، أغرقت بعدها فيما يشبه الذهول للحظة، وفجأة سكنت وتكورت بعضا على بعض وانزوت، أحست أنها غريبة عن الدنيا كلها، دخيلة ، تتحرش بها تحرّشا، وتفرض نفسها عليها، بل وتنهمر كما الظلمة الحالكة التي تقبض باليد، ذلك هو الهوان بعينه، إنها تقتحم على الجميع، حتى على أهلها، وعلى حبيبها الخائن، بل تفرض نفسها عليهم، .. حقا إنني مجنونة، وهبني الله جمالاً وفتنة، لكني بلا عقل ٍ ولا كرامة، ماذا تراني أفعل في هذه الدنيا؟ لا بل أن ثمة ظلم يقع باستمراري في هذه الحياة، ...أحست بقرع طبول شديد في أذنيها يرتفع ويتصاعد ويقترب بطريقة مروّعة حتى كاد يعصف بها، رأت طيورا سوداء كثيرة تهاجم وجهها من كل صوب، وصوت الطيور يرتفع، نظرت إلى السقف، كان يتساقط عليها، الطاولة وما عليها من شموع وأزهار تطايرت في كل مكان، صوت الطبول أصبح كهدير المدافع، إيماض برق ٍ التمع في جانب الغرفة وشق طريقه إلى عنان السماء من مكان ٍ غير مرئي، أيقنت أنها على وشك الجنون، قبضت على رأسها بكلتا يديها وزحفت نحو الخزانة، أخرجت عدة حبات صفراء اللون، ترددت قليلا ثم ابتلعتها، صوت الطبول بدأ يخفت، ويرتفع مكانه هدير قطار يقترب بسرعة والطيور السوداء تنعق بعنف وتحاول نهش ما تصل إليه من اشلاء، .. احتوت رأسها بيديها وصرخت صرخة عظيمة وخرّت بعدها صريعة !!

قراءتي:
بدا الكاتب قصته بالجملة التالية(رن جرس الهاتف من جديد)إذن ليست هذه هي المرة الأولى التي يرن فيها جرس الهاتف،وهل هذا الجرس هو للحبيب بالطبع لا...إنه الجرس الآتي من البعيد ،لحظة الإنذار التي قالت لها (لا تقدمي على ذلك) لحظة تنبيه لها ،لأن ليست هذه هي المرة الاولى التي تفكر بها بشيء خطير تنهي به كل عذاباتها السابقة...فقد كانت هناك سوابق إذن...(إنه هو، لا شك في ذلك،...أغلقت الهاتف وقد اكتنفتها رغبة عارمة في تحطيم كل ما حولها).
في الجملة السابقة يؤكد لنا الكاتب أن الجرس لم يكن للحبيب مما دفعها إلى التمسك بفكرتها الخطيرة من خلال الرغبة التي انتابتها في تحطيم كل شيء كل شيء على الإطلاق (المادي والروحي بآن واحد).
فهاجت وماجت وخبطت الأرض بأقدامها تأنت ثم ثارت انتحبت ثم ارتاحت ،أفعال متحركة استخدمها كاتبنا هنا ليؤكد لنا عمق الضجيج الخطير الذي يعتمل في داخلها لكن ولأنها لم تكن على درجة عالية من العقل والتفكير هرعت إلى خزانتها (حتى لا تعصف بها رياح عقلها الهوج) وفي هذه الجملة يؤكد لنا الكاتب أن لعقلها عواصف غير مضبوطة، فهي ليست مستقرة ولاتملك ما يكفي من التفكير لتميز بين الصح والخطأ وهذه الجملة بحد ذاتها تبريراً للقفلة التي سنأتي على ذكرها بل هذه الجملة تلخص الكثير وتجيب على تساؤلات أطلقها بعض الزملاء لماذا تكون النهاية بهذا الشكل.(تقدمت بإصرار وفتحت الخزانة بعنف، ألقت نظرة ذاهلة، وبحركة خاطفة قامت بجمع كل ما يتعلق به من أوراق ورسائل وصور وأشعلت بها حريقا كاد يأتي على الغرفة بأكملها،.. انطفأت النار بعد أن أتت على فريستها ونارها لم تنطفئ، إنه لا يستحقها ولا يستحق الحب الذي منحته إياه!!)
أغلقت على نفسها الغرفة بإحكام دون أن تهمس بحرف وتوقفت عن البكاء فجأة، جلست على المقعد وهي تنظر في شيء ٍ غير مرئي يروح ويجيء كما بندول الساعة ثم يقترب منها)،
هنا في هذا المقطع الهام والذي يعتبر بيت القصيد في هذه القصة نقرأ الحالة النفسية للبطلة التي أصرت وألحت على الدخول والنبش في أعماقها والتي صورها لنا الكاتب على أنها خزانتها والعقل الباطن (اللاشعور وما قبل الشعور) هو الخزانة الحقيقية والمستودع الآمن أحياناً وغير الآمن في أحايين أخرى، هو بيت الداء والدواء.في هذه الخزانة (ماقبل الشعور) حيث ينطوي هذا الجزء من غرفتها (أي كيانها ككل) على الحالات النفسية التي لا تكون في ساحة الشعور والتي من السهل جداً إحضارها إليه وقد استعلمت في أحاديث ساعتها الكثير من المعاني والتصورات واستدعتها بسرعة فائقة من مكانها المحفوظ (خزانتها) وهي في الواقع لا تمت إلى مستوى الشعور المباشر لأنها ليست فيه ،فهي مخبأة في خزانتها وربما من أمد بعيد.
هنا كان عمل ما قبل الشعور لديها:حيث تحرك وفق مبادئ الزمن والواقع والمنطق كما في حالة الشعور تماماً لكنه ليس (الشعور) أي هي ليست في كامل وعيها.في هذه الحالة يكون الشعور ينطوي من هذه الناحية على أساس من النزعة النقدية وعلى درجات من اليقين وعلى فاعلية تأخذ شروط الواقع الموضوعي بعين الاعتبار ،يضاف إليه هنا أن التمركز حول الذات الغالب في مستوى اللاشعور ليس الصفة الغالبة على محتويات ما قبل الشعور ( إنه مخزن المعاني والخبرات القريبة)[/COLOR[COLOR="Black"]]...أي مخزن كل الآلام التي عانتها البطلة في القصة، والتي عمل فيها ما قبل الشعور تحليلاً وتركيباً ودفعها نتيجة التحليل والتركيب إلى اتخاذ قرار نفذ قبل الوصول إلى الشعور.
إذن كان هناك صراع في ما قبل الشعور ولد حالة من الإحباط لم تاتي فجاة بل كان لها مراحل سابقة مرت بها،والإحباط كظاهرة قد تتنشر أكثر في مطلع الشباب وتكون أكثر قوة عند بعضهم مما هي عند الآخر وهو بكل الأحوال فإن الأحباط هو إدراك الفرد لعائق يعوق إشباع حاجة ما أو توقع حدوث هذا العائق في المستقبل وتوقع الفرد تعرضه لنوع من التهديد في المستقبل.
كل هذا كان دافعاً قوياً للوصول إلى أخطر مرحلة ألا وهي الإكتئاب.
التي تمثلت في العبارات التالية:غريبة عن الدنيا كلها، دخيلة
تتحرش بها تحرّشا، وتفرض نفسها عليها
إنها تقتحم على الجميع، حتى على أهلها،
وعلى حبيبها الخائن،
بل تفرض نفسها عليهم
بل أن ثمة ظلم يقع باستمراري في هذه الحياة
وبعد ذلك دخلت البطلة في النفق المظلم ،نفق اعتقدت به الخلاص،والجميل بالقصة أن الكاتب صور لنا هذه اللحظة بالذات تصويراً رائعاً ،حيث أنه استحضر لنا جوا رائعا يشبه تماما الأجواء الأسطورية أجواء اللحظات الحاسمة قبل الموت.
طبول_ طيورا سوداء بأعداد هائلة تهاجم من كل حدب وصوب والجميل أن الكاتب لم يقل طيوراً بيضاء لأنها فعلا طيور الشؤم وطيور الموت المتوحشة وطيور الضياع والنهايات الوخيمة والتي انهالت عليها بأصواتها وبأجنحتها فجعلت كل ما في غرفتها يتساقط والمقصد هنا غرفة روحها ونفسها وكيانها ككل ،هذه اللحظة بالذات هي لحظة الانهيار الحقيقي التي انتهت بالذروة والذروة هنا هي تناول الحبات القاتلة والانتحار المادي .
أسلوب رائع وجميل حقاً ولا أقصد المجاملة إطلاقا ،لأنني شعرت بالقصة بكل حروفها وحيثياتها وشعرت بالطيور السوداء والطبول وهي تقرع لدرجة خفق قلبي من الخوف.

كلمة أخيرة
مسألة الإحباط والفشل وفقدان الأمل هو ما أرى أن كاتبنا أراد تصويره هنا وليس فقط لحظة الانتحار الأليمة،لأن الانتحار لا ياتي بشكل مفاجئ ولا يداهم النفس البشرية فجاة وبدون سوابق،كي يصل المرء إلى هذه اللحظة التي صورها لنا كاتبنا الأديب طه خضر بحرفية وتقنية عالية ،لا بد من سلاسل لا نهائية ومراحل مختلفة تبدأ بقتل الروح من لحظة تبدأ قبل الصفر،لتكون لحظة الصفر هي بداية الطريق.
في هذه القصة ليست المشكلة في الخيانة فقط (وهنا خيانة الحبيب) لأنه كما يبدو كانت خيانة الحبيب هي القشة التي قصمت ظهر البعير.
وتبين ذلك في أماكن مختلفة من هذه القصة فمثلاً: (جلست على المقعد وهي تنظر في شيء ٍ غير مرئي يروح ويجيء كما بندول الساعة ثم يقترب منها).
في هذه الجملة نلاحظ أن هذه اللحظة التي جلست فيها البطلة على مقعد وهي تنظر في شيء غير مرئي ياتي ويروح كما بندول الساعة ،إذا فكرنا بماهية هذا الشيء فنجده حياتها الماضية التي ظهرت إليها وتماثلت أمامها بثوانيها المتعبة وبدقائقها المرهقة وساعاتها القاتلة ،حياتها السابقة التي أفقدتها الصواب ليضيع اتزانها فجاة وليجعلها تختل كما عقارب الساعة لاتهدأ أبداً ،هذه اللحظة التي استحضرت ماهو محفوظ في ذاكرة مرهقة غير مرئية كانت هي السكين التي اقتربت لتجز رقبتها،وتدفعها دفعاً إلى خزانتها وأي خزانة يا ترى إنها خزانتها الحقيقية (العقل الباطن وماهو مكبوت فيه تنبشه نبشاً وتحضره أمامها لتكوي روحها به (مازوشية بحتة تتلذذ بها حد المرض )ولأنه ليس كما هو مرغوب وتتمناه عملت على إشعال الحرائق به وهي في الواقع تحرق نفسها وتحرق روحها وتحرق ماضيها وحياتها الحاضرة ،ومن يصل إلى هذه المرحلة أي مرحلة الاحتراق الروحي يشعر أن لا قيمة للجسد وبالتالي بقائه حياً لم يعد له معنى وحرقه هو الآخر سيكون بالضبط تأكيد للحظة رفض تعيشها البطلة والرفض ليس رفض الآخرين لها في المقام الأول بل رفضها لنفسها ورفضها لخيباتها ورفضها للحياة بشكل عام لذلك قالت (مامعنى لوجودي ولماذا أعيش في هذه الحياة(ماذا تراني أفعل في هذه الدنيا؟ ) وهي في الواقع لماذا تعيش إن كانت قد وصلت إلى حرق كل الماضي والحاضر روحياً .
المعاناة التي عانتها البطلة والتي دفعتها بشدة إلى التخلص من جسدها بعد (أن كانت قد تخلصت من روحها) يجعلنا نقف هنا عند الأمور التالية التي عانت منها البطلة :
أولاً:عدم الكفاية العقلية.
ثانياً:عدم القدرة على التحكم بالافكار والتكامل بينها.
ثالثاً:عدم المقدرة على التحكم بين العواطف والتحكم بالصراع والإحباط .
رابعاً:فقدان الهدوء العقلي أو الطمانينة العقلية.
خامساً:المفهوم السلبي حول الذات.
سادساً:عدم وعي الذات المناسب.
سابعاً:عدم قدرتها إلى إنشاء علاقة مناسبة مع الواقع.
بعد كل هذا لا بد أن يتم الانتحار بالصورة التي أظهرها لنا الكاتب ولو كانت الصورة غير ذلك لكان هناك ضعف في القصة ،بل أتت النهاية تماماً كما يجب ليؤكد لنا أن القتل كان روحياً وجسدياً، وهو النتيجة الحتمية للحالة التي وصلت إليها ألا وهي الإكتئاب ،وعلمياً وكما هو معروف ان للإكتئاب نتيجتين لا ثالث لهما وهما إما الجنون أو الانتحار واختار لنا الكاتب الانتحار كحل درامي وقفلة منطقية للقصة.
أحييك الأخ والصديق العزيز طه خضر ،وأعجبتني القصة جداً،أتمنى أن نقرأ لك المزيد من إبداعاتك في هذا الفن القصصي الجميل.
احترامي وتقديري
وكل الأمنيات الطيبة لك