ابراهيم درغوثي
10/01/2007, 10:16 PM
الكلب
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس
سمعت دقا خفيفا على الباب ، فخرجت من الدار استقبل القادم . رأيت رجلا يبتعد ، ورأيت تحت الباب رسالة ... تركت الرجل يذهب والتقطت الرسالة . قرأت سطورها فلم أفهم شيئا . أعدت قراءتها مرة ومرات ، فاستعصى علي فك رموزها . وضعتها فوق طاولة صغيرة بجانب السرير ، وخرجت من البيت ... قررت الذهاب إلى البحر . في منتصف الطريق عدت وأنا أكاد أجري . خفت أم يصل حامد قبلي إلى البيت ويقرأ الرسالة . وحامد صديقي . يقاسمني نفس البيت ، ولا أخفي عنه حتى خلجات قلبي . لكنني لا أريده أن يقرأ هذه الرسالة . هذه الرسالة جرح أريد أن أزرعه في قلبي ، ولن يشاركني ألمه أحد .
*****
عندما دفعت باب المنزل ، خبطتني رائحة القهوة التركية ، واستقبلني حامد بكأس يصاعد منها البخار . وضعت الكأس فوق الطاولة الصغيرة ، قرب السرير ومددت يدي نحو الرسالة .
قال حامد :
- مبروك . أخبار سارة إن شاء الله ؟
وضحك .
فوخزتني سكين حادة في قلبي .
قلت له :
- شكرا .
وخرجت .
قال :
- اشرب قهوتك .إنها ستبرد .
قلت :
- لا يهم . هل لديك وصية لأهلك ، رسالة أو نقود . إنني عائد إلى البلد .
قال :
- لا .
لا وخزتني كطرف السكين الحاد .
وقام يغلق في وجهي الأبواب .
قلت :
- اتركني يا حامد . فما عاد لي متسع من الوقت أضيعه
فقال :
- هل أخذت مستحقاتك من مؤجرك ؟
قلت :
- سأعود . لن أبقى طويلا في الوطن . سأقضي شأنا خاصا ، وسأعود بسرعة .
قال ، وهو يكاد يبكي :
- لن تعود .
قلت وأنا أطبطب على كتفه بحنان :
- مع السلامة يا صاحبي
قال ، وهو يمسح دمعة نزلت على خده
- لا تترك الرسالة تقتلك .
قلت ، وقد صار شكي يقينا :
- و هل قرأتها ؟
فقال :
- الرسائل لا تقرأ على الورق . إنها مكتوبة على جبينك يا صاحبي .
وخرجت .
فخرج ورائي .
*****
ذهبت إلى محطة سيارات الأجرة ... والرسالة في جيبي ... والكلب ينبح داخلها ... كنت أسمع نباحه الأجش ، فأرتعش ، وتصيبني رعدة . وأقول وصراخي يخرج من كهوف الروح :
من يوصلني إلى البلد فأدفع له مقابل السفرة روحي .
ولا مجيب . إلى أن جاء حامد إلى المحطة .ناولته الرسالة فردها إلى جيبي وهو يقول :
- عد معي الآن إلى البيت .
تركته يسوقني ، وأغلقت فمي بالمفتاح .
وعدنا ... ونباح الكلب لم يسكت . كان يهر ويشخر ويعصر قلبي عصرا .
عندما وصلنا إلى البيت ، قصدت المطبخ واخترت سكينا حادة وأخرجت الرسالة من جيبي وأخرجت حورية من بين سطور الرسالة ، فذبحتها .
ذبحتها من الوريد إلى الوريد
*****
هل تعرفون حورية ؟
سأحدثكم عنها قليلا ولن أخجل . هي ابنة عمي الكبرى . وها ابنة العم تخون الماء والملح وتعشق كلبا .
وها معشوقها يعقر قلبي ، ويستوطنني داء بين الضلوع .
رأيت الدم يقطر على الأرض . ورأيت الكلب – كلبها – يخرج من الورقة التي غطت بها سوأتها حين لدغتها السكين .
تشمم الكلب الدم المسكوب فوق البلاط ، وهر داخل قلبي . ضربته بالسكين بين عينيه ، وقلت لحامد وهو يدفع الباب بكتفيه دفعا قويا :
- لا تحاول ، فوراء الباب مزلاج كبير .
قال مستعطفا :
- وأنت ، لماذا لا تخرج ؟
قلت :
- حتى أنتهي من قتل حورية والكلب .
قال :
- وهل هانت عليك ابنة عمك إلى هذا الحد ؟
وابتعد عن الباب ...
فعادت حورية تسكن أسطر الرسالة . وعاد الكلب يهر داخل جيبي .
*****
هذا الكلب الذي يهر الآن داخل جيبي هذا الكلب الأبيض كالثلج – كلبها – وجدته ذات يوم في البرية . لقيته جروا أعمى ، تركته قافلة في طريقها ، وارتحلت إلى الشمال .
قافلة تسير * في بلاد الخير .
سيري أيتها القوافل ، ولا تتوقفي .
سيري أيتها القوافل ، قوافل الجمال وقوافل سيارات الأندروفر برجالك البيض السمان ، الملثمين بالكوفية العربية .
سيري أيتها القوافل ولا تتوقفي . واتركي لنا في طريقك مما شئت : بعر الجمال والعوازل الجنسية وحبوب منع الحمل ومرض الإيدز والكلاب .
*****
هذا الكلب السمين الذي يهر الآن في جيبي ربيته مع أولادي في البيت . نام معهم في فراش واحد . وأكل مما يأكلون . وكبر حتى صار كالأسد .
قلت لحورية وأنا أغادرها والبيت والأولاد والأحلام التي لم تتحقق ، وأقتفي أثر قوافل الجمال المحملة بالملح والخرز وجلود الخرفان المدبوغة :
- تركت لك رجلا يحرسك ، فلا تخافي .
وربت على ظهر الكلب .
ردت وكأنها تترقب إقراري هذا :
- لن نخاف مادام معنا بوبي
هكذا أسمت الكلب .
وراحت تثني على شمائله وكأنها تتغزل بحبيب ، وأنا أعد حقائب السفر .
وذهبت ، وبقي بوبي في الدار يحرس النعاج وقن الدجاج ، وينبح السحاب المار فوق سماء البيت ، وينام في الليل متوسدا ذراع الباب . حتى جاء الرجل الغريب ودفع بالرسالة تحت بابي . وذاب ...
هتك الغريب أسراري هناك ، وجاءني غماما أسود حط فوق القلب المثخن بالجراح :
زوجتك تخونك مع الكلب في بيت نومك .
*****
أغلقت أبواب السماوات السبع وفتحت باب المطبخ بهدوء حتى لا يسمعني حامد . ورجعت إلى سريري . ولم أشعل نور الكهرباء . تحسست بيدي الغطاء ، وتمددت على السرير . جعلت الرسالة تحت الحشية ، وتمددت بكامل ثيابي فوق الفراش البارد .
سمعت طرقا خفيفا على الباب . أغمضت عيني وقلت :
- ادخل يا حامد
قال الطارق :
- باسم الله مرساها
ولفحت وجهي نسمة خفيفة . وسمعت أزيزا وصريرا يشبه احتكاك عجلات طائرة بأرض المطار . وأصابتني رعدة شديدة ، فناديت :
- دثرني يا حامد ...
زملني يا حامد ...
فرد على استغاثتي صوت نسائي أعرفه جيدا :
أنا حورية يا أيها المزمل . قم وانظر في عيني إن استطعت .
ورميتها بالرسالة ، فقالت
- آه ... الكلب ؟ ألم توصني به خيرا وأنت تعد حقائب السفر ؟ .
ألم تقل إنه أحفظ للود من بني البشر ؟
فصحت :
- إذن فعلتها ؟
فقالت :
- ألم تقل إنه رجل البيت بعدك . فكيف لا أطيعه إذا دعاني ؟
وجلست على حافة السرير .
التفت يمنة ويسرة ، فرأيت أمامي صورة معلقة على الجدار . في الصورة ، فدائي يحمل رشاشا و ... ثورة ثورة ... حتى النصر . غمزته بعيني فأعطاني الرشاش ، فصوبت نحو رأس حورية وأطلقت النار .
رأيتها تتخبط في دمها . وجاء حامد يجري . قال :
- فعلتها ... ، إنها لن تموت بطلقة واحدة .
وخرج .
أرجعت للفدائي رشاشه ، فرفع في وجهي علامة النصر معكوسة إلى الأسفل . وأعدت صورته ّإلى الجدار فغطى وجهه بالكوفية ، وبكى نشيجا متواصلا ، لا ينتهي ...
قلت له : حطم بلور الصورة ، وتعال عندي أحررك وتحررني .
وسكت ، فسكت .
*****
ودفع حامد من جديد باب الدار ، ودخل ، فدخل وراءه كلب .
قلت : هذا كلبنا ، فمن جاء به إلى هنا ؟
رد حامد مرتبكا :
- وجدته في صندوق البريد مع الرسائل .
وتشمم الكلب حورية ، فأفاقت .
قال حامد ، وفي عينيه إصرار غريب على الانتصار :
- ألم أقل إنها لن تموت بطلقة واحدة .
وأقعى الكلب بجانب حورية ، فدست رأسها بين قائمتيه الخلفيتين ومصت ذكرة . فسال لعابه و عوى وحرك ذنبه يمنة ويسرة . أصابني القرف وهي تتعرى أمامي وتغازل الكلب ، تحت صورة الفدائي ، فهممت بهما لكن الكلب كشر عن أنيابه ونبح بصوت راعد . أخافني النباح ، فناديت حامدا لكنه قال لي :
- أنت وشأنك يا صاحبي . هذه قضية داخلية لا ناقة لي فيها ولا جمل .
فرددت عليه محزونا :
- دعنا من النوق والجمال يا أخي ، وتعال نتعاون على هذا الكلب الذي أكل المرأة وسيأكلنا بعدها لا محالة .
قال ، وهو يهز كتفيه :
- أكلها بإرادتها : والبندقية فوق رأسك .
بحثت عن الصورة ، وناديت الفدائي . قلت عله يساعدني في هذه الساعة العصيبة .
قال ، مستسلما لقدره :
أنا كما ترى يا سيدي ، صورة معلقة في الجدار للزينة
فقط للزينة لا غير ، فأغمضت له عينيه حتى لايرى المرأة والكلب .
وذهبت إلى المحطة . جلست في المقعد الخلفي في سيارة الأجرة الراجعة إلى البلد . دفعت لصاحب السيارة معلوم مقعدين ومددت رجلي محاولا النوم ، فدست على لحم سخن ، طري . كانت حورية بجانبي تجلس في المقعد الخالي ، وتتألم بصوت مرتفع جعل السائق يلتفت وراءه ويسألني إن كنت أحمل في داخلي إمرأة ؟
لم أرد على إهانته ، فشجعها سكوتي ، ومدت لي لسانها ، وعرت عن فخذ سمين .
قلت ، مستسلما لمشيئتها :
لماذا تتعهرين في هذا المكان العمومي ؟
ودست على فخذها بحذائي الملوث بالطين ، فكنت كمن يدوس على ظل .
وجاء الكلب وهي تتعطر . جلس بيني وبينها وجعل يتشممها ، ثم عضها من خصرها عضا لطيفا . وهم بها .
قلت : أرى الكلب يتغزل بك ؟
قالت : أتغار من كلب ؟
قلت : بعد العودة ، سأجعلك والكلب في خازوق واحد ، وأبيع صوركما إلى مجلة ( بلاي بوي ) لتجعلها حدث الموسم .
قالت : ستزيدني شهرة حتى لكأني بريجيت باردو ، ولن أخسر سوى سراويلك .
ووضعت كعبها في أسفل بطني وقالت :
- عقولكم هنا يا أولاد القحاب ، يا عرب آخر الزمان .
يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااااااااااااااااا .
وأفقت وسائق سيارة الأجرة يسب ويشتم سائق شاحنة كادت تدهسنا .
قلت : هل وصلنا ؟
رد بنرفزة : إلى جهنم وبئس المصير إن شاء الله .
وأوقف السيارة لإصلاح عجلة انفلق إطارها .
ونزلت أعاونه فقال : عد إلى مكانك يا رجل ، فأنت أكثر من نجاسة .
قلت " لماذا ؟
قال : لأن رائحة بول الكلاب ترشح من أثوابك .
فعدت إلى جوار حورية وكلبها فسألتني : لماذا عدت ولم تساعد الرجل ؟
قلت لها أنني نجس ، وتفوح مني رائحة بول الكلاب .
قالت : حقا لقد سكنك الكلب يا صاحبي .
قلت : أي من الكلاب تعنين فهم أكثر من العد .
قالت : أنا الآن أعني كلب الرسالة التي في جيبك . أما بقية الكلاب فلم تعد تعنيني .
ووضعت يدها في مكان القلب ، فسكت إلى أن عاد السائق
التفت الرجل إلى الوراء ورفع يده يسد بها أنفه وهو يردد :
ما أنتن هذه الرائحة .
فقال بقية الركاب الذين ظلوا صامتين طيلة الرحلة :
هي رائحة بول الكلاب .
ونزلوا من السيارة . وتركوني وحدي ، فأخرجت الكلب من جيبي ، وبدأنا في النباح .
*****
جاء حامد يجري . دفع باب الدار كالمجنون ، ووضع يده على فمي حتى كاد يقطع أنفاسي . هززت جسمي هزا عنيفا فوق السرير ، وفتحت عيني .
قال : مالك تنبح هكذا أيها المجنون هل تحولت إلى كلب ؟
أدرت وجهي جهة الحائط ، وعدت أنبح من جديد .
كنت يقضا هذه المرة .
dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس
سمعت دقا خفيفا على الباب ، فخرجت من الدار استقبل القادم . رأيت رجلا يبتعد ، ورأيت تحت الباب رسالة ... تركت الرجل يذهب والتقطت الرسالة . قرأت سطورها فلم أفهم شيئا . أعدت قراءتها مرة ومرات ، فاستعصى علي فك رموزها . وضعتها فوق طاولة صغيرة بجانب السرير ، وخرجت من البيت ... قررت الذهاب إلى البحر . في منتصف الطريق عدت وأنا أكاد أجري . خفت أم يصل حامد قبلي إلى البيت ويقرأ الرسالة . وحامد صديقي . يقاسمني نفس البيت ، ولا أخفي عنه حتى خلجات قلبي . لكنني لا أريده أن يقرأ هذه الرسالة . هذه الرسالة جرح أريد أن أزرعه في قلبي ، ولن يشاركني ألمه أحد .
*****
عندما دفعت باب المنزل ، خبطتني رائحة القهوة التركية ، واستقبلني حامد بكأس يصاعد منها البخار . وضعت الكأس فوق الطاولة الصغيرة ، قرب السرير ومددت يدي نحو الرسالة .
قال حامد :
- مبروك . أخبار سارة إن شاء الله ؟
وضحك .
فوخزتني سكين حادة في قلبي .
قلت له :
- شكرا .
وخرجت .
قال :
- اشرب قهوتك .إنها ستبرد .
قلت :
- لا يهم . هل لديك وصية لأهلك ، رسالة أو نقود . إنني عائد إلى البلد .
قال :
- لا .
لا وخزتني كطرف السكين الحاد .
وقام يغلق في وجهي الأبواب .
قلت :
- اتركني يا حامد . فما عاد لي متسع من الوقت أضيعه
فقال :
- هل أخذت مستحقاتك من مؤجرك ؟
قلت :
- سأعود . لن أبقى طويلا في الوطن . سأقضي شأنا خاصا ، وسأعود بسرعة .
قال ، وهو يكاد يبكي :
- لن تعود .
قلت وأنا أطبطب على كتفه بحنان :
- مع السلامة يا صاحبي
قال ، وهو يمسح دمعة نزلت على خده
- لا تترك الرسالة تقتلك .
قلت ، وقد صار شكي يقينا :
- و هل قرأتها ؟
فقال :
- الرسائل لا تقرأ على الورق . إنها مكتوبة على جبينك يا صاحبي .
وخرجت .
فخرج ورائي .
*****
ذهبت إلى محطة سيارات الأجرة ... والرسالة في جيبي ... والكلب ينبح داخلها ... كنت أسمع نباحه الأجش ، فأرتعش ، وتصيبني رعدة . وأقول وصراخي يخرج من كهوف الروح :
من يوصلني إلى البلد فأدفع له مقابل السفرة روحي .
ولا مجيب . إلى أن جاء حامد إلى المحطة .ناولته الرسالة فردها إلى جيبي وهو يقول :
- عد معي الآن إلى البيت .
تركته يسوقني ، وأغلقت فمي بالمفتاح .
وعدنا ... ونباح الكلب لم يسكت . كان يهر ويشخر ويعصر قلبي عصرا .
عندما وصلنا إلى البيت ، قصدت المطبخ واخترت سكينا حادة وأخرجت الرسالة من جيبي وأخرجت حورية من بين سطور الرسالة ، فذبحتها .
ذبحتها من الوريد إلى الوريد
*****
هل تعرفون حورية ؟
سأحدثكم عنها قليلا ولن أخجل . هي ابنة عمي الكبرى . وها ابنة العم تخون الماء والملح وتعشق كلبا .
وها معشوقها يعقر قلبي ، ويستوطنني داء بين الضلوع .
رأيت الدم يقطر على الأرض . ورأيت الكلب – كلبها – يخرج من الورقة التي غطت بها سوأتها حين لدغتها السكين .
تشمم الكلب الدم المسكوب فوق البلاط ، وهر داخل قلبي . ضربته بالسكين بين عينيه ، وقلت لحامد وهو يدفع الباب بكتفيه دفعا قويا :
- لا تحاول ، فوراء الباب مزلاج كبير .
قال مستعطفا :
- وأنت ، لماذا لا تخرج ؟
قلت :
- حتى أنتهي من قتل حورية والكلب .
قال :
- وهل هانت عليك ابنة عمك إلى هذا الحد ؟
وابتعد عن الباب ...
فعادت حورية تسكن أسطر الرسالة . وعاد الكلب يهر داخل جيبي .
*****
هذا الكلب الذي يهر الآن داخل جيبي هذا الكلب الأبيض كالثلج – كلبها – وجدته ذات يوم في البرية . لقيته جروا أعمى ، تركته قافلة في طريقها ، وارتحلت إلى الشمال .
قافلة تسير * في بلاد الخير .
سيري أيتها القوافل ، ولا تتوقفي .
سيري أيتها القوافل ، قوافل الجمال وقوافل سيارات الأندروفر برجالك البيض السمان ، الملثمين بالكوفية العربية .
سيري أيتها القوافل ولا تتوقفي . واتركي لنا في طريقك مما شئت : بعر الجمال والعوازل الجنسية وحبوب منع الحمل ومرض الإيدز والكلاب .
*****
هذا الكلب السمين الذي يهر الآن في جيبي ربيته مع أولادي في البيت . نام معهم في فراش واحد . وأكل مما يأكلون . وكبر حتى صار كالأسد .
قلت لحورية وأنا أغادرها والبيت والأولاد والأحلام التي لم تتحقق ، وأقتفي أثر قوافل الجمال المحملة بالملح والخرز وجلود الخرفان المدبوغة :
- تركت لك رجلا يحرسك ، فلا تخافي .
وربت على ظهر الكلب .
ردت وكأنها تترقب إقراري هذا :
- لن نخاف مادام معنا بوبي
هكذا أسمت الكلب .
وراحت تثني على شمائله وكأنها تتغزل بحبيب ، وأنا أعد حقائب السفر .
وذهبت ، وبقي بوبي في الدار يحرس النعاج وقن الدجاج ، وينبح السحاب المار فوق سماء البيت ، وينام في الليل متوسدا ذراع الباب . حتى جاء الرجل الغريب ودفع بالرسالة تحت بابي . وذاب ...
هتك الغريب أسراري هناك ، وجاءني غماما أسود حط فوق القلب المثخن بالجراح :
زوجتك تخونك مع الكلب في بيت نومك .
*****
أغلقت أبواب السماوات السبع وفتحت باب المطبخ بهدوء حتى لا يسمعني حامد . ورجعت إلى سريري . ولم أشعل نور الكهرباء . تحسست بيدي الغطاء ، وتمددت على السرير . جعلت الرسالة تحت الحشية ، وتمددت بكامل ثيابي فوق الفراش البارد .
سمعت طرقا خفيفا على الباب . أغمضت عيني وقلت :
- ادخل يا حامد
قال الطارق :
- باسم الله مرساها
ولفحت وجهي نسمة خفيفة . وسمعت أزيزا وصريرا يشبه احتكاك عجلات طائرة بأرض المطار . وأصابتني رعدة شديدة ، فناديت :
- دثرني يا حامد ...
زملني يا حامد ...
فرد على استغاثتي صوت نسائي أعرفه جيدا :
أنا حورية يا أيها المزمل . قم وانظر في عيني إن استطعت .
ورميتها بالرسالة ، فقالت
- آه ... الكلب ؟ ألم توصني به خيرا وأنت تعد حقائب السفر ؟ .
ألم تقل إنه أحفظ للود من بني البشر ؟
فصحت :
- إذن فعلتها ؟
فقالت :
- ألم تقل إنه رجل البيت بعدك . فكيف لا أطيعه إذا دعاني ؟
وجلست على حافة السرير .
التفت يمنة ويسرة ، فرأيت أمامي صورة معلقة على الجدار . في الصورة ، فدائي يحمل رشاشا و ... ثورة ثورة ... حتى النصر . غمزته بعيني فأعطاني الرشاش ، فصوبت نحو رأس حورية وأطلقت النار .
رأيتها تتخبط في دمها . وجاء حامد يجري . قال :
- فعلتها ... ، إنها لن تموت بطلقة واحدة .
وخرج .
أرجعت للفدائي رشاشه ، فرفع في وجهي علامة النصر معكوسة إلى الأسفل . وأعدت صورته ّإلى الجدار فغطى وجهه بالكوفية ، وبكى نشيجا متواصلا ، لا ينتهي ...
قلت له : حطم بلور الصورة ، وتعال عندي أحررك وتحررني .
وسكت ، فسكت .
*****
ودفع حامد من جديد باب الدار ، ودخل ، فدخل وراءه كلب .
قلت : هذا كلبنا ، فمن جاء به إلى هنا ؟
رد حامد مرتبكا :
- وجدته في صندوق البريد مع الرسائل .
وتشمم الكلب حورية ، فأفاقت .
قال حامد ، وفي عينيه إصرار غريب على الانتصار :
- ألم أقل إنها لن تموت بطلقة واحدة .
وأقعى الكلب بجانب حورية ، فدست رأسها بين قائمتيه الخلفيتين ومصت ذكرة . فسال لعابه و عوى وحرك ذنبه يمنة ويسرة . أصابني القرف وهي تتعرى أمامي وتغازل الكلب ، تحت صورة الفدائي ، فهممت بهما لكن الكلب كشر عن أنيابه ونبح بصوت راعد . أخافني النباح ، فناديت حامدا لكنه قال لي :
- أنت وشأنك يا صاحبي . هذه قضية داخلية لا ناقة لي فيها ولا جمل .
فرددت عليه محزونا :
- دعنا من النوق والجمال يا أخي ، وتعال نتعاون على هذا الكلب الذي أكل المرأة وسيأكلنا بعدها لا محالة .
قال ، وهو يهز كتفيه :
- أكلها بإرادتها : والبندقية فوق رأسك .
بحثت عن الصورة ، وناديت الفدائي . قلت عله يساعدني في هذه الساعة العصيبة .
قال ، مستسلما لقدره :
أنا كما ترى يا سيدي ، صورة معلقة في الجدار للزينة
فقط للزينة لا غير ، فأغمضت له عينيه حتى لايرى المرأة والكلب .
وذهبت إلى المحطة . جلست في المقعد الخلفي في سيارة الأجرة الراجعة إلى البلد . دفعت لصاحب السيارة معلوم مقعدين ومددت رجلي محاولا النوم ، فدست على لحم سخن ، طري . كانت حورية بجانبي تجلس في المقعد الخالي ، وتتألم بصوت مرتفع جعل السائق يلتفت وراءه ويسألني إن كنت أحمل في داخلي إمرأة ؟
لم أرد على إهانته ، فشجعها سكوتي ، ومدت لي لسانها ، وعرت عن فخذ سمين .
قلت ، مستسلما لمشيئتها :
لماذا تتعهرين في هذا المكان العمومي ؟
ودست على فخذها بحذائي الملوث بالطين ، فكنت كمن يدوس على ظل .
وجاء الكلب وهي تتعطر . جلس بيني وبينها وجعل يتشممها ، ثم عضها من خصرها عضا لطيفا . وهم بها .
قلت : أرى الكلب يتغزل بك ؟
قالت : أتغار من كلب ؟
قلت : بعد العودة ، سأجعلك والكلب في خازوق واحد ، وأبيع صوركما إلى مجلة ( بلاي بوي ) لتجعلها حدث الموسم .
قالت : ستزيدني شهرة حتى لكأني بريجيت باردو ، ولن أخسر سوى سراويلك .
ووضعت كعبها في أسفل بطني وقالت :
- عقولكم هنا يا أولاد القحاب ، يا عرب آخر الزمان .
يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااااااااااااااااا .
وأفقت وسائق سيارة الأجرة يسب ويشتم سائق شاحنة كادت تدهسنا .
قلت : هل وصلنا ؟
رد بنرفزة : إلى جهنم وبئس المصير إن شاء الله .
وأوقف السيارة لإصلاح عجلة انفلق إطارها .
ونزلت أعاونه فقال : عد إلى مكانك يا رجل ، فأنت أكثر من نجاسة .
قلت " لماذا ؟
قال : لأن رائحة بول الكلاب ترشح من أثوابك .
فعدت إلى جوار حورية وكلبها فسألتني : لماذا عدت ولم تساعد الرجل ؟
قلت لها أنني نجس ، وتفوح مني رائحة بول الكلاب .
قالت : حقا لقد سكنك الكلب يا صاحبي .
قلت : أي من الكلاب تعنين فهم أكثر من العد .
قالت : أنا الآن أعني كلب الرسالة التي في جيبك . أما بقية الكلاب فلم تعد تعنيني .
ووضعت يدها في مكان القلب ، فسكت إلى أن عاد السائق
التفت الرجل إلى الوراء ورفع يده يسد بها أنفه وهو يردد :
ما أنتن هذه الرائحة .
فقال بقية الركاب الذين ظلوا صامتين طيلة الرحلة :
هي رائحة بول الكلاب .
ونزلوا من السيارة . وتركوني وحدي ، فأخرجت الكلب من جيبي ، وبدأنا في النباح .
*****
جاء حامد يجري . دفع باب الدار كالمجنون ، ووضع يده على فمي حتى كاد يقطع أنفاسي . هززت جسمي هزا عنيفا فوق السرير ، وفتحت عيني .
قال : مالك تنبح هكذا أيها المجنون هل تحولت إلى كلب ؟
أدرت وجهي جهة الحائط ، وعدت أنبح من جديد .
كنت يقضا هذه المرة .
dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/