المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكلب - قصة قصيرة - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
10/01/2007, 10:16 PM
الكلب
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس
سمعت دقا خفيفا على الباب ، فخرجت من الدار استقبل القادم . رأيت رجلا يبتعد ، ورأيت تحت الباب رسالة ... تركت الرجل يذهب والتقطت الرسالة . قرأت سطورها فلم أفهم شيئا . أعدت قراءتها مرة ومرات ، فاستعصى علي فك رموزها . وضعتها فوق طاولة صغيرة بجانب السرير ، وخرجت من البيت ... قررت الذهاب إلى البحر . في منتصف الطريق عدت وأنا أكاد أجري . خفت أم يصل حامد قبلي إلى البيت ويقرأ الرسالة . وحامد صديقي . يقاسمني نفس البيت ، ولا أخفي عنه حتى خلجات قلبي . لكنني لا أريده أن يقرأ هذه الرسالة . هذه الرسالة جرح أريد أن أزرعه في قلبي ، ولن يشاركني ألمه أحد .

*****
عندما دفعت باب المنزل ، خبطتني رائحة القهوة التركية ، واستقبلني حامد بكأس يصاعد منها البخار . وضعت الكأس فوق الطاولة الصغيرة ، قرب السرير ومددت يدي نحو الرسالة .
قال حامد :
- مبروك . أخبار سارة إن شاء الله ؟
وضحك .
فوخزتني سكين حادة في قلبي .
قلت له :
- شكرا .
وخرجت .
قال :
- اشرب قهوتك .إنها ستبرد .
قلت :
- لا يهم . هل لديك وصية لأهلك ، رسالة أو نقود . إنني عائد إلى البلد .
قال :
- لا .
لا وخزتني كطرف السكين الحاد .
وقام يغلق في وجهي الأبواب .
قلت :
- اتركني يا حامد . فما عاد لي متسع من الوقت أضيعه
فقال :
- هل أخذت مستحقاتك من مؤجرك ؟
قلت :
- سأعود . لن أبقى طويلا في الوطن . سأقضي شأنا خاصا ، وسأعود بسرعة .
قال ، وهو يكاد يبكي :
- لن تعود .
قلت وأنا أطبطب على كتفه بحنان :
- مع السلامة يا صاحبي
قال ، وهو يمسح دمعة نزلت على خده
- لا تترك الرسالة تقتلك .
قلت ، وقد صار شكي يقينا :
- و هل قرأتها ؟
فقال :
- الرسائل لا تقرأ على الورق . إنها مكتوبة على جبينك يا صاحبي .
وخرجت .
فخرج ورائي .

*****

ذهبت إلى محطة سيارات الأجرة ... والرسالة في جيبي ... والكلب ينبح داخلها ... كنت أسمع نباحه الأجش ، فأرتعش ، وتصيبني رعدة . وأقول وصراخي يخرج من كهوف الروح :
من يوصلني إلى البلد فأدفع له مقابل السفرة روحي .
ولا مجيب . إلى أن جاء حامد إلى المحطة .ناولته الرسالة فردها إلى جيبي وهو يقول :
- عد معي الآن إلى البيت .
تركته يسوقني ، وأغلقت فمي بالمفتاح .
وعدنا ... ونباح الكلب لم يسكت . كان يهر ويشخر ويعصر قلبي عصرا .
عندما وصلنا إلى البيت ، قصدت المطبخ واخترت سكينا حادة وأخرجت الرسالة من جيبي وأخرجت حورية من بين سطور الرسالة ، فذبحتها .
ذبحتها من الوريد إلى الوريد

*****

هل تعرفون حورية ؟
سأحدثكم عنها قليلا ولن أخجل . هي ابنة عمي الكبرى . وها ابنة العم تخون الماء والملح وتعشق كلبا .
وها معشوقها يعقر قلبي ، ويستوطنني داء بين الضلوع .
رأيت الدم يقطر على الأرض . ورأيت الكلب – كلبها – يخرج من الورقة التي غطت بها سوأتها حين لدغتها السكين .
تشمم الكلب الدم المسكوب فوق البلاط ، وهر داخل قلبي . ضربته بالسكين بين عينيه ، وقلت لحامد وهو يدفع الباب بكتفيه دفعا قويا :
- لا تحاول ، فوراء الباب مزلاج كبير .
قال مستعطفا :
- وأنت ، لماذا لا تخرج ؟
قلت :
- حتى أنتهي من قتل حورية والكلب .
قال :
- وهل هانت عليك ابنة عمك إلى هذا الحد ؟
وابتعد عن الباب ...
فعادت حورية تسكن أسطر الرسالة . وعاد الكلب يهر داخل جيبي .

*****
هذا الكلب الذي يهر الآن داخل جيبي هذا الكلب الأبيض كالثلج – كلبها – وجدته ذات يوم في البرية . لقيته جروا أعمى ، تركته قافلة في طريقها ، وارتحلت إلى الشمال .
قافلة تسير * في بلاد الخير .
سيري أيتها القوافل ، ولا تتوقفي .
سيري أيتها القوافل ، قوافل الجمال وقوافل سيارات الأندروفر برجالك البيض السمان ، الملثمين بالكوفية العربية .
سيري أيتها القوافل ولا تتوقفي . واتركي لنا في طريقك مما شئت : بعر الجمال والعوازل الجنسية وحبوب منع الحمل ومرض الإيدز والكلاب .

*****

هذا الكلب السمين الذي يهر الآن في جيبي ربيته مع أولادي في البيت . نام معهم في فراش واحد . وأكل مما يأكلون . وكبر حتى صار كالأسد .
قلت لحورية وأنا أغادرها والبيت والأولاد والأحلام التي لم تتحقق ، وأقتفي أثر قوافل الجمال المحملة بالملح والخرز وجلود الخرفان المدبوغة :
- تركت لك رجلا يحرسك ، فلا تخافي .
وربت على ظهر الكلب .
ردت وكأنها تترقب إقراري هذا :
- لن نخاف مادام معنا بوبي
هكذا أسمت الكلب .
وراحت تثني على شمائله وكأنها تتغزل بحبيب ، وأنا أعد حقائب السفر .
وذهبت ، وبقي بوبي في الدار يحرس النعاج وقن الدجاج ، وينبح السحاب المار فوق سماء البيت ، وينام في الليل متوسدا ذراع الباب . حتى جاء الرجل الغريب ودفع بالرسالة تحت بابي . وذاب ...
هتك الغريب أسراري هناك ، وجاءني غماما أسود حط فوق القلب المثخن بالجراح :
زوجتك تخونك مع الكلب في بيت نومك .

*****

أغلقت أبواب السماوات السبع وفتحت باب المطبخ بهدوء حتى لا يسمعني حامد . ورجعت إلى سريري . ولم أشعل نور الكهرباء . تحسست بيدي الغطاء ، وتمددت على السرير . جعلت الرسالة تحت الحشية ، وتمددت بكامل ثيابي فوق الفراش البارد .
سمعت طرقا خفيفا على الباب . أغمضت عيني وقلت :
- ادخل يا حامد
قال الطارق :
- باسم الله مرساها
ولفحت وجهي نسمة خفيفة . وسمعت أزيزا وصريرا يشبه احتكاك عجلات طائرة بأرض المطار . وأصابتني رعدة شديدة ، فناديت :
- دثرني يا حامد ...
زملني يا حامد ...
فرد على استغاثتي صوت نسائي أعرفه جيدا :
أنا حورية يا أيها المزمل . قم وانظر في عيني إن استطعت .
ورميتها بالرسالة ، فقالت
- آه ... الكلب ؟ ألم توصني به خيرا وأنت تعد حقائب السفر ؟ .
ألم تقل إنه أحفظ للود من بني البشر ؟
فصحت :
- إذن فعلتها ؟
فقالت :
- ألم تقل إنه رجل البيت بعدك . فكيف لا أطيعه إذا دعاني ؟
وجلست على حافة السرير .
التفت يمنة ويسرة ، فرأيت أمامي صورة معلقة على الجدار . في الصورة ، فدائي يحمل رشاشا و ... ثورة ثورة ... حتى النصر . غمزته بعيني فأعطاني الرشاش ، فصوبت نحو رأس حورية وأطلقت النار .
رأيتها تتخبط في دمها . وجاء حامد يجري . قال :
- فعلتها ... ، إنها لن تموت بطلقة واحدة .
وخرج .
أرجعت للفدائي رشاشه ، فرفع في وجهي علامة النصر معكوسة إلى الأسفل . وأعدت صورته ّإلى الجدار فغطى وجهه بالكوفية ، وبكى نشيجا متواصلا ، لا ينتهي ...
قلت له : حطم بلور الصورة ، وتعال عندي أحررك وتحررني .
وسكت ، فسكت .

*****

ودفع حامد من جديد باب الدار ، ودخل ، فدخل وراءه كلب .
قلت : هذا كلبنا ، فمن جاء به إلى هنا ؟
رد حامد مرتبكا :
- وجدته في صندوق البريد مع الرسائل .
وتشمم الكلب حورية ، فأفاقت .
قال حامد ، وفي عينيه إصرار غريب على الانتصار :
- ألم أقل إنها لن تموت بطلقة واحدة .
وأقعى الكلب بجانب حورية ، فدست رأسها بين قائمتيه الخلفيتين ومصت ذكرة . فسال لعابه و عوى وحرك ذنبه يمنة ويسرة . أصابني القرف وهي تتعرى أمامي وتغازل الكلب ، تحت صورة الفدائي ، فهممت بهما لكن الكلب كشر عن أنيابه ونبح بصوت راعد . أخافني النباح ، فناديت حامدا لكنه قال لي :
- أنت وشأنك يا صاحبي . هذه قضية داخلية لا ناقة لي فيها ولا جمل .
فرددت عليه محزونا :
- دعنا من النوق والجمال يا أخي ، وتعال نتعاون على هذا الكلب الذي أكل المرأة وسيأكلنا بعدها لا محالة .
قال ، وهو يهز كتفيه :
- أكلها بإرادتها : والبندقية فوق رأسك .
بحثت عن الصورة ، وناديت الفدائي . قلت عله يساعدني في هذه الساعة العصيبة .
قال ، مستسلما لقدره :
أنا كما ترى يا سيدي ، صورة معلقة في الجدار للزينة
فقط للزينة لا غير ، فأغمضت له عينيه حتى لايرى المرأة والكلب .
وذهبت إلى المحطة . جلست في المقعد الخلفي في سيارة الأجرة الراجعة إلى البلد . دفعت لصاحب السيارة معلوم مقعدين ومددت رجلي محاولا النوم ، فدست على لحم سخن ، طري . كانت حورية بجانبي تجلس في المقعد الخالي ، وتتألم بصوت مرتفع جعل السائق يلتفت وراءه ويسألني إن كنت أحمل في داخلي إمرأة ؟
لم أرد على إهانته ، فشجعها سكوتي ، ومدت لي لسانها ، وعرت عن فخذ سمين .
قلت ، مستسلما لمشيئتها :
لماذا تتعهرين في هذا المكان العمومي ؟
ودست على فخذها بحذائي الملوث بالطين ، فكنت كمن يدوس على ظل .
وجاء الكلب وهي تتعطر . جلس بيني وبينها وجعل يتشممها ، ثم عضها من خصرها عضا لطيفا . وهم بها .
قلت : أرى الكلب يتغزل بك ؟
قالت : أتغار من كلب ؟
قلت : بعد العودة ، سأجعلك والكلب في خازوق واحد ، وأبيع صوركما إلى مجلة ( بلاي بوي ) لتجعلها حدث الموسم .
قالت : ستزيدني شهرة حتى لكأني بريجيت باردو ، ولن أخسر سوى سراويلك .
ووضعت كعبها في أسفل بطني وقالت :
- عقولكم هنا يا أولاد القحاب ، يا عرب آخر الزمان .
يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااااااااااااااااا .
وأفقت وسائق سيارة الأجرة يسب ويشتم سائق شاحنة كادت تدهسنا .
قلت : هل وصلنا ؟
رد بنرفزة : إلى جهنم وبئس المصير إن شاء الله .
وأوقف السيارة لإصلاح عجلة انفلق إطارها .
ونزلت أعاونه فقال : عد إلى مكانك يا رجل ، فأنت أكثر من نجاسة .
قلت " لماذا ؟
قال : لأن رائحة بول الكلاب ترشح من أثوابك .
فعدت إلى جوار حورية وكلبها فسألتني : لماذا عدت ولم تساعد الرجل ؟
قلت لها أنني نجس ، وتفوح مني رائحة بول الكلاب .
قالت : حقا لقد سكنك الكلب يا صاحبي .
قلت : أي من الكلاب تعنين فهم أكثر من العد .
قالت : أنا الآن أعني كلب الرسالة التي في جيبك . أما بقية الكلاب فلم تعد تعنيني .
ووضعت يدها في مكان القلب ، فسكت إلى أن عاد السائق
التفت الرجل إلى الوراء ورفع يده يسد بها أنفه وهو يردد :
ما أنتن هذه الرائحة .
فقال بقية الركاب الذين ظلوا صامتين طيلة الرحلة :
هي رائحة بول الكلاب .
ونزلوا من السيارة . وتركوني وحدي ، فأخرجت الكلب من جيبي ، وبدأنا في النباح .

*****

جاء حامد يجري . دفع باب الدار كالمجنون ، ووضع يده على فمي حتى كاد يقطع أنفاسي . هززت جسمي هزا عنيفا فوق السرير ، وفتحت عيني .
قال : مالك تنبح هكذا أيها المجنون هل تحولت إلى كلب ؟
أدرت وجهي جهة الحائط ، وعدت أنبح من جديد .
كنت يقضا هذه المرة .


dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/

فيصل الزوايدي
13/07/2007, 05:50 PM
الأستاذ ابراهيم درغوثي .. النص يفضح كثيرا من مواطن الخلل حتى لكأنه صفعة في وجه الخيبة و الهزيمة ..
مع كل الود

ابراهيم عبد المعطى داود
13/07/2007, 10:17 PM
ألأديب والكاتب الكبير / ابراهيم درغوثى
( تعال نتعاون على هذا الكلب الذى أكل المرأة وسيأكلنا بعدها لآمحاله )
************************************************** ****
الكلب يا مبدعنا العزيز أكل أخلآقنا الكريمه 00وشيمنا ألأصيله 00وعاداتنا السمحة 0
الكلب قضى على تراثنا وأفكارنا وغزانا فكريا وجنسيا وأصبح يجرى فى عروقنا 0
نشاهده فى كل موقع 0وأمام كل دار 0وخلف كل شجرة 0
يطفىء ألأنوار 00ويقطع الطريق 00ويمنع الرزق 00ويمحق البركه 00ويسحق الفضيله 0
وما الحل 00؟؟
الحل هو العوده 00والتوبه 00والندم 0
الحل هو التطلع الى المستقبل بمنظارين :
منظار الأيمان 00ومنظار العلم 00
نص جميل ورائع ودرامى سواده كالح فيه وصف للحاله التى وصلنا اليها 0
وتقبل خالص إمتنانى 00
ابراهيم عبد المعطى ابراهيم

ابراهيم درغوثي
11/09/2007, 06:44 PM
الفاضل ابراهيم عبدالمعطي
أعتذر على التأخير في الرد فما قرأت تعليقك الا اليوم
هذا التعليق الذي يفسر حالنا وأحوالنا في علاقاتنا ب " الكلاب "
سعيد بكل ما جاء في كلامك
مع الود والتقدير

حنين حمودة
13/09/2007, 04:36 PM
انت تفاجئني دوما..
من اين تأتي بهذه الأفكار؟!
لقد شددني حتى بقيت " متيقظة"
حتى ساعة متأخرة، وآنا اسافر فيها
تقديري

ابراهيم درغوثي
14/09/2007, 01:51 AM
العزيز فيصل
سعيد يقراءاتك أيها الغالي
نص هو نص فاضح لواقع لا بد من تعريته
لعلنا نصلح ما اعوج منه
ها أنت تجد مكانك تحت شمس الأدب
في أجمل مواقع الأدب العربي

ابراهيم درغوثي
14/09/2007, 01:53 AM
أختنا حنين
شكرا على هذا التقدير الجيد لنصي
معتز بقراءاتك الذواقة للابداع
دمت متألقة