المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تزوير التاريخ "لوكاس فرين"



منـصور العســيري
22/05/2009, 11:53 PM
في التاريخ يوجد الكثير من الأحداث والشخصيات التي نقرأ عنها بنهم ونهيم في تفاصيلها وتظل عبر الزمان تروى وتدون لتقرأها الأجيال ، ويتيه خيال الأدباء والمنتجين خلف سيناريوهاتها ، بينما هي في حقيقتها ولدت في خيال الرواة أو المدونين أو المزوين للتاريخ عبر الزمان ، فهل تساءلنا يوماً عن حقيقة ما نقرأه من أخبار وقصص تاريخية وأخضعناها لميزان العقل والعلم لنسبر أغوار مصداقيتها كما نحاول سبر أغوار تفاصيلها بين الكتب .

إن التاريخ من الأهمية بمكان يجعلنا نتساءل دائماً عن مدى تأثير التزوير على نسيجه المتاح بين أيدينا والذي يشوبه الكثير من التناثر ، لذا فمن المهم أن نتعرف في التاريخ على قصص التزوير التي تم الكشف عنها قبل أن تتحول إلى إسطورة ، وظروف الكشف عنها ومن ثم يمكننا أن نتنبأ بحجم تلك التي مررت وحجمها ومدى مصداقية ما بين أيدينا من روايات للتاريخ .

لقد دأب الناس في متجمعنا وربما كل المجتمعات على تقبل الروايات التاريخية الشفهية كوقائع نتناقلها فوراً خاصةً إذا كانت العاطفة تميل إلى تقبلها ، أو إذا لم تكن تتعارض مع أهوائنا ، وعندما يتبادر إلى أذهاننا أي تساؤل عن مدى مصداقيتها لسبب من الأسباب فإن مجرد خروج وثيقة قديمة تؤيد هذه الرواية فإننا سنكون فوراً مستسلمين لحقيقة قد تكون مختلقة ، فهل تزوير الوثائق أمر من الصعوبة بما يجعلنا نسلم بمصداقية ما يرد لنا من وثائق ، في ظل الهوس التاريخي حول الأحداث والروايات التاريخية التي لا يوجد ما يسندها .

سأعرض تباعاً بعض القصص التاريخية للتزوير الذي تم الكشف عنه قبل أن يستفحل أو ربما بعدما استفاد منه المزور في حينه فكشفه الزمن لاحقاً .

وهنا سنعرض واحدة من القصص الطريفة المشهورة حول التزوير وهي واحدة من أشهر عمليات التزوير في العصر الحديث وقع ضحيتها جمع من العلماء ذوي المكانة العالية ورئيس إحدى أكثر الدول تقدماً في ذلك العصر ، ولو لم يكن هنالك تداعيات دولية لهذه الحادثة تطلبت تدخلاً دولياً على أعلى المستويات لأمكن للمزور أن يقلب التاريخ العلمي رأساً على عقب ويعطي الحق لغير أهله ولبقيت الحقيقة مجهولة على مدى التاريخ وهي قصة لوكاس فرين :


لوكاس فرين

هو شاب فرنسي وفد في آيار 1852م إلى باريس حائزاً على قسط من التعليم ، وكان يشغل في البداية كاتب لدى أحد المحامين ببلدة شاتودون ، ثم أراد أن يحقق في العاصمة آمالاً جاشت بصدره ، ويشبع طموحاً إلى العلا جبلت عليه نفسه .
هذا الشاب أخذ يجوب شوارع باريس وهمه الأكبر أن يبحث عن الكتب القديمة الرخيصة ، فصار يرتاد المكتبات العامة ويطلب كل كتاب قديم أو مخطوط لم يطبع ، فيغرق رأسه في صفحاته ولا يكاد يرفع بصره عن أسطره ، لكنه كلما أبصر المراقب غافلاً عنه مد يده إلى جيبه في مثل لمح البصر وتناول سكيناً دقيقاً فقطع من الكتاب الذي يقرأه الورقة التي تروقه .... وقدر له أن يفتضح ، إذ رآه أحد المراقبين وهو يمارس هذه السرقة ، ومنذ ذلك اليوم حرم عليه أن يدخل مكتبة عامة .
وبعد ذلك شاء حسن حظه ـ أوسوءه ـ أن يتصل برجل يدعى لتلييه كان يمارس صناعة هي أعجب الصناعات إذ تتلخص في تزييف تاريخ الأسر ، واختراع شجرات التناسل الكاذبة لأولئك الأغنياء المحدثين الذين إذا صادفتهم الثروة والجاه لم تقنعهم عن ادعاء أصل رفيع ، وقد صار لتلييه هذا بمثابة الاستاذ (لمترجمنا) وخصوصاً أنه كان إلى جانب تلك الصناعة الرابحة يتجر بالمخطوطات اليدوية القديمة .

وكان من علماء فرنسا العظام في ذلك الحين العلامة (ميشيل شال) عضو المجمع العلمي الفرنسي ، وقد اشتهر بحبه للبحث عن الوثائق التاريخية النادرة واقتنائها . وسرعان ما اتصل به (لوكاس فرين) وكان ذلك في آذار سنة 1861م فعرض عليه أن يبيعه خطاباً قديماً بخط الشاعر موليير بخمسمائة فرنك ، فسر العلامة بهذه الصفقة واقتنى تلك اللقية النادرة ، ومنذ ذلك الوقت لازمه لوكاس وصار يبيعه مخطوطاً إثر آخر حتى بلغ عدد المخطوطات التي باعه إياها في ثمان سنين 27320 مخطوطة وبلغت قيمتها 14000 فرنك وهي ثروة طائلة قضت على مركز (شال) المالي .

وكانت تلك المجموعة من المخطوطات تشمل كتباً بخط عظماء العصور القديمة وفلاسفتها مثل أرخميدس والسبيادس وأبقراط وهيرودس وبومبيوس وكاتو وتاسيتوس وفرجيل وغيرهم من مشاهير اليونان والرومان .
على أن الجزء الأكبر منها يتألف من رسائل بخط بعض ملوك فرنسا مثل لويس الحادي عشر ولويس الثاني عشر والرابع عشر ، وبعض مشاهير الكتاب والفلاسفة الفرنسيين مثل موليير وروسو وفولتير ولافنتين ، بل كان منها كذلك خطاب موجز زعم المزيف الجريء ـ لوكاس فرين ـ أنه بخط جان دارك .

ولكن أتحف فرائد المجموعة في نظر العلامة ميشيل شال تلك الرسائل التي دارت بين بسكال الفرنسي ونيوتن الإنجليزي وقد جاء بها لوكاس فرين مكتوبة بخطهما ـ كما زعم ـ ولا يقل عددها عن ثلاثة آلاف خطاب ! ، ووجه القيمة التي لهذه المكاتبات بين العالم الفرنسي والعالم الإنجليزي أنها تثبت بشكل قاطع أن بسكال ـ لا نيوتن ـ هو الذي كشف قانون الجاذبية ، وأن الفضل في هذا الإكتشاف العلمي العظيم يعود لفرنسا لا لانجلترا .

وإلى القارئ أمثلة من تلك الوثائق التاريخية (الهامة) التي باعها فرين إلى العلامة ميشيل شال على أنها قديمة وبخط يد مرسليها :


من الإسكندر الملك إلى عزيزه أرسطا طاليس


عزيزي
لم يسرني أنك نشرتكتاباً من كتبك التي يجب أن تحفظها سراً من الأسرار فإن ذلك يذهب بقيمة الكتاب، ويدفعني هذا إلى أن أرجو منك سحب ذلك الكتاب من الأيدي الدنسة وألا تنشر كتاب إلا بعد موافقتي .
أما عن طلبك أن تقوم برحلة في بلاد الغال لكي تقف على علوم أهلها فإنني أوافق على ذلك بل وأدعوك إليه لمصلحة أمتي ، وينبغي لك أن تعلم أني أقدر ذلك الشعب حق قدره وأرى أنه هو الذي نشر ضوء العلم في العالم .
في 20 أيار السنة الأولومبية الخامسة بعد المائة
الإسكندر


وهذا يوليوس قيصر يتحدى فرسنجتوريس

إني باعث إليك أحد أصحابي لكي يبين لك الغاية من سفري ، إني أريد أن أستولي بجنودي على ذلك البلد الذي أنجبك ، ومن العبث أن تحاول الدفاع عنه ، إني أعلم أنك شجاع ، ولكني سأكون شجاعاً كذلك إذا شاءت الآلهة ، فهيا سلم لي سلاحك ، وإلا فاستعد للحرب .


خطاب من جان دارك إلى أهل باريس

يا أهل باريس البواسل
اطمئنوا فقد وصلت جيوش ملككم إلى مقربة من باريس وهي معسكرة بين شابيل وباب سانه او نوريه ، وأنا نفسي بالقرب من تل الطاحونة ، إن باريس لنا ، وسننام غداً ، هذا هو اليقين كيوم ميلاد أم الآلهة ، والحمد لله .
في 7 أيلول
يوهان المسماة بالعذراء


خطاب من رابليه إلى مارتن لوثر

يا معلم لوثر
لقد قلت لك مراراً من زمن أني لا أريد أن أتدخل في المنازعات المدنية ، أما وقد أرسلت الي برسالتك المعنونة (ضد البابا في روما) فإني أعدك بأن أقرأها وأن أبدي لك الرأي فيها ، وتحياتي إليك ما زلت خادمك المطيع .
ربليه


وقد انتهى هذا التزييف بمهزلة أضحكت العالم كله ، ففي سنة 1866م احتفل المجمع العلمي (أكاديمية العلوم) بباريس بمرور مائتي سنة على تأسيسه ، وبعد عام اجتمع أعضاء هذا المجمع لكي يسمعوا محاضرة يلقيها زميلهم العلامة ميشيل شال ، وقد انتهز فرصة هذه المحاضرة فجادتمكارمه للجميع بخطابين أثريين من مجموعته لاثنين من الشعراء ، وفي الوقت نفسه أعلن أنه سيدلي في محاضرته التالية (بالدليل القاطع) على ان الذي اكتشف قانون الجاذبية الأرضية هو باسكال الفرنسي لا نيوتن الانجليزي ، ومن البداهة أن يفرح علماء فرنسا بهذا النبأ العظيم وأن يترقبوا تلك المحاضرة وذلك الدليل بصبر وشوق .

وقد حان موعد تلك المحاضرة يوم 15 تموز من تلك السنة فاهتزت لها جوانب المجمع اللغوي ، وخصوصاً حين عرض العلامة على زملائه الخطابات التي كان يتبادلها باسكال ونيوتن المكتوبة بخط كل منهما ، وفيها ما يدحض الاعتقاد الشائع بأن نيوتن هو كاشف ذلك القانون الطبيعي الهام ، وقد بادرت الأكاديمية إلى طبع تلك الوثائق الخطيرة ونشرها في كافة الأوساط العلمية في فرنسا وفي الخارج ، ولم يلبث الاستاذ شال حتى قدم لها خطابات أخرى تزيد نظريته تأييداً .

واختلفت الآراء في الأكاديمية ، ولكن الرأي العام الفرنسي فرح بهذا النصر المبين ، وشجع ذلك صاحبنا على ابراز وثائق تاريخية من مجموعته النفيسة بشأن أمور أخرى غير قانون الجاذبية ، وأخصها بالذكر خطابات من غالييه وبخط يده تسجل لفرنسا وجوهاً أخرى من الفخر بمسائل علمية شتى .

وكان لذلك صدى في نواحي العالم العلمي بأجمعه ، فتتابعت البرقيات وتكاثرت المذكرات وكثر الهجوم واشتد الدفاع ، ونشبت حرب دولية لم يقلل من خطرها أنها علمية مقصورة على دوائر العلماء ، وكان أشد الوقائع الحربية بالبداهة بين الفرنسيين والإنجليز ، فقد كره هؤلاء أن يلبسوا بغتة ذلك الفخر الذي أكسبهم إياه نيوتن ونعموا به طويلاً ، فأنكرواتلك الخطابات والمراسلات وأصروا على أن فضل استكشاف الجاذبية باق لعالمهم نيوتن لا يسلبه إياه باسكال ولا غيره ، ولم يقبع العلماء الإيطاليون كذلك ، فقد أقحمهم في تلك المعارك ورود إسم عالمهم غالييه ونسبة خطابات إليه ، فنادوا بأن تلك المخطوطات زائفة وأن الأكاديمية الفرنسية تحمل وزرها ، بل تطاير الشرر من هذه الحرب إلى أمريكا على بعد المزار .

ثم علا أوارها حتى دخل ميدانها رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه ، المسيو تيير وصرح في البرلمان الفرنسي بأن الوثائق الخطيرة التي نشرتها الأكاديمية لا غبار عليها ، وكانت بعض الصحف الفرنسية قبل ذلك قد وقفت موقف المتشكك المرتاب ، ولكن بعد التصريح الرسمي من قبل رئيس الجمهورية لم يبق مجال للشك والريبة ، وحق للرأي العام الفرنسي كله أن يهنأ بالنصر العلمي المبين الذي حازه بسكال الفرنسي على نيوتن الانجليزي ـ وإن يكن كلاهما ساكن في قبره .

ومكثت الحرب عامين كاملين حتى إذا آن لها أن تضع أوزارها ككل حرب في العالم ـ وردت من مدينة البندقية صور فوتوغرافية لبعض الخطابات التي كتبها غالييه بخطه والتي لا يمكن ان يعتوها شك ، وأقبل بعض خبراء الخطوط ذوي السمعة والثقة في باريس على مضاهاة الخط الذي كتب به تلك الخطابات بالخط الظاهر بخطابات غالييه الأخرى التي أهداها العلامة ميشيل شال الى الأكاديمية الفرنسية ، وكان يسيراً عليهم أن يتبينوا الزيف في هذه الخطابات ثم رفعوا تقريرهم إلى الأكاديمية ، ولما جاء شال ـ او جيء به يوم 19 تموز سنة 1869م إلى المجمع العلمي ليسأله عن سر هذه الفضيحة اضطرب وارتبك ، واضطر إلى أن يقر بزيف تلك الوثائق التي حاول بها أن ينصر مواطنه بسكال على العلامة بيوتن ، وما كان أشد حنقه على المجرم لوكاس فرين الذي أوقعه في هذا الموقف المهين وهو العالم الوقورذو السمعة والمكانة ، غير أنه لم يدر بعد مدى الخديعة التي حاكها له والغفلة التي بات فيها طوال السنين الماضية ، وعلى كل حال طلب الى بوليس أن يراقب لوكاس فرين عن كثب ، وقد قبض عليه يوم 19 ايلول سنة 1869م ، واهتم الرأي العام بهذا التحول المفاجئ في موضع فخره وأمله ، ولكن الصحف الفرنسية ، سكتت أو أسكتت خوف شماتة الأعداء وسخرية الساخرين .

وقدم لوكاس فرين للمحاكمة يوم 16 شباط سنة 1870م متهماً بالنصب والإحتيال كما جرى إصلاح القانون ، وقد شهد الخبراء أما المحكمة بأنجميع الرسائل مزيفة لا البعض منها فقط ، ولكن الذي عجبت منه المحكمة أن تلك الرسائل مكتوبة بإسلوب القرن الثامن ولغته ، ولما سئل لوكاس فرين عن ذلك حاول أن يفسره بأن المخطوطات كانت في حوزة الراهب الفرنسي المشهور (الكوين) وأنه هو الذي ترجمها إلى اللغة الفرنسية حوالي سنة 1800م ، وكان قد أدخل في روع العلامة شال حتى بقي هذا مصر عليه في المحكمة ، غير أن تقرير الخبراء ـ ومنهم أدباء وعلماء معروفون ـ ورد فيه أن تلك المخطوطات الزائفة إن دلت على معرفة بالتاريخ وسعة اطلاعه على كتبه ، فإن الإسلوب والتفكير الباديين فيها يدلان على نقص فاضح وعجز كبير ، واتضح أن لوكاس قد اتبع في تزييفه الوسيلة القديمة المعروفة وهي وضع الورقة المكتوبة في قهوة ثم تجفيفها لتبدو بعد ذلك وعليها سمة القدم ، اما الحبر فقد أضاف له محلول النحاس لهذا الغرض نفسه .