المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حالات وأحوال - قصص قصيرة جدا - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
11/01/2007, 11:33 PM
حالات وأحوال
قصص قصيرة جدا

ابراهيم درغوثي/ تونس


غربة-1

خرجنا من المدرسة والشمس تلهث في السماء التي تحول لونها إلى الأزرق الباهت . والإسفلت ، ذاب وسال على جانبي الطريق . والعرق تخلل الثياب . وسيارات المازدا والنيسان وامازدا والكريسيدا والكرونا تمرق من أمامنا كالعفاريت المهتاجة ، وتختفي في غمضة عين .
وكنا وحيدين في الشارع الطويل .
قال : سنرتاح حين نصل المنزل .
قلت : كيف ؟ وأمامنا الطبيخ وإحضار الغداء ؟
أردت أن أواصل الحديث ، إلا أن جملته الأخيرة أوقفتني . فقد صار يهذي بكلام المجانين منذ أيام . وكنت أجاريه في كل مرة حتى لا يغضب .
البارحة مثلا ، قبل النوم ، دخلت غرفته فوجدت بين يديه مجموعة كبيرة من المجلات ، مجلات نسائية في أغلبها . وكان يختار صور النساء الجميلات . صور عارضات الأزياء وممثلات السينما . وكان يقصها بأنات وحذق .
قال : حتى لا أخدش ساقا أوصدرا ، فيسيل الدم وتتألم هذه الملائكة .
في الصباح ، وجدته قد غطى كل جدران البيت بنبيلة عبيد وشريهان والهام شاهين وليلى علوي .
حدثني عنهن بصوت خافت يكاد لا يسمع .
قال : حتى لا يذهب عنهن النوم ، فقد بت الليلة معهن في كلام وسلام الى أن طلع الصباح ، فسكتنا عن الكلام المباح .
في الطريق إلى المدرسة ، همس في أذني : لن نتعب هذا اليوم عند الغداء . لقد وعدتني البارحة الهام شاهين بمائدة من موائد ملوك الحيرة .
ولم أرد عليه ، فقد أصبت بأرق من جراء ضحكه العالي ، وصوت مكيف الهواء ، وضجيج المسجل والتلفزيون .
حين وصلنا أمام البيت ، وضعت المفتاح في القفل ، ودفعت الباب . وقفت مشدوها في العتبة ، فقد شممت رائحة الشواء ، وسمعت خبطا على أواني الأكل في المطبخ ...

2-الحصن الحصين

وقفت في باب قاعة الانتظار المكتظة بالمرضى والمرافقين : أطفال صغار في أحضان أمهاتهم . عجوز افترشت الأرض ونامت . امرأة شابة تشكي لجارتها غبنها بهذا الولد الذي لا يبرأ إلا ليعود في اليوم التالي إلى المستشفى . رجل كهل يطلب من زوجته أن تنيم الطفل فقد أعياه الجري بين الصفوف ...
ثم فجأة دخل علينا . رجل أنيق . في أربعينات العمر . أجال النظر ذات اليمين وذات الشمال، ثم اختار امرأة مسنة تقطر الطيبة من وجهها . تقدم نحوها ، وقدم لها كتيبا قال : هو الحصن الحصين ، يشفي من الروماتيزم والصداع وجريان الجوف والأورام السرطانية الخبيثة ومرض القلب ، ويداوي كل العلل . ادفعي نصف دينار فقط ثمنا لهذه الثروة يا سيدتي .
امتدت يد المرأة إلى حقيبتها اليدوية . أخرجت منها النقود ووضعت الكتاب في الحفظ والصون . وراح - والابتسامة العريضة – تسبقه ، يوزع كتبه على المرضى ومرافقيهم ، ويقبض النقود .
عرفته . رأيت في وجهه طبيب الصحة العمومية الذي كان ذات يوم ملك المستشفى .
ولم أقل شيئا .
حين وقف الممرض أمام باب الطبيب وبدأ في المناداة على المرضى ، كنت وحيدا . وكانت القاعة فارغة . قاعة الانتظار الفسيحة .
وكان طفلي الصغير يغط في النومة السابعة ...






3- الموعد

رن الجرس فقام يفتح الباب
أمه أوصته أن يقوم خفيفا كلما رن الجرس .
وجده واقفا أمامه يسد رحمة الرب .
قال : أمي خرجت منذ مدة .
ألم تقل إلى أين هي ذاهبة ؟
رد باقتضاب : لا .
لا، جافة وكاسحة .
لا ، غاضبة ومستفزة .
لا ، قاطعة كحد السيف .
لا ، مهلكة .
وهم بغلق الباب . لكن الرجل وضع رجله المدفونة داخل حذاء ضخم أمام وجهه وقال : هكذا إذن . لقد كبرت بسرعة ... ونسيتني ... نسيت الحلوى و... هداياي الكثيرة .
هم بالانصراف إلا أنه قذف قبل أن يغادر المكان :
سأعود ليلا . قل لأمك أن لا تسهو عن الموعد .
عندما تناثرت النجوم فوق خد السماء ، عاد الرجل إلى البيت . لم يضغط على الجرس ، فقد كان الباب مواربا .دلف إلى الداخل وهو يلتفت يمنة ويسرة . رأى زوجته في غلالة نوم شفافة . زوجته التي أخبرها أن واجبا دعاه الليلة للمبيت خارج المنزل . كانت جالسة على الأريكة الكبيرة المقابلة لجهاز التلفاز . وكان ابن صاحبة البيت واقفا وراءها . كانت يداه تغرقان في صدرها ، وتجنيان من ثمار الجسد ...


4-عقرب

وقف أمام الباب أكثر من مرة . كانت الحيرة تحوم في الجو ثم تحط فوق كتفيه كالرصاص المذاب . ترك الباب نصف مفتوح وعاد من جديد إلى الداخل .أشعل جهاز التلفزيون . أطفأه بعد دقيقة .وضع شريطا في المسجل . أخرجه قبل أن تصدح الموسيقى . تمدد على السرير . أغمض عينيه ، ثم فجأة قام .اتجه نحو الحائط وضربه بجمع يده . كان الألم الذي نبت فجأة في زنده ، تحت ساعة اليد فضيعا .كان يخزه باستمرار . يتوقف لحظة ثم يعود كأعنف ما يكون الألم . حك زنده حتى سال الدم ، وانتفخت الذراع .
وعاد إلى الحائط يضربه بعنف ...
ولم يتوقف عن الضرب ، إلى أن انهارت قواه .
همس وهو يسقط تحت الجدار : ما أقسى لسعة هده العقرب ...
عقرب الساعة .

dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/

صبيحة شبر
13/01/2007, 12:18 AM
الاديب المبدع ابراهيم درغوثي
اربع قصص قصيرة جدا يجمع بينها ان امورا
غريبة تحدث في الواقع الذي يحياه ابطالها
تبين لنا انه ليس كل شيء قابل للتعليل في حياتنا
وان الواقع اغرب من الخيال .......
دائما
قصصك ممتعة وتستهويني ايها القاص القدير

نزار ب. الزين
13/01/2007, 02:07 AM
أربع أقاصيص رائعة كان من الممكن أن تفرد لكل منها مكانها اللائق ، لولا أن جمعها إتجاه واحد ، ألا و هو خلط الواقع بالخيال ، و العقل بالجنون ، و الممكن بالمستحيل ؛ بأسلوب جذاب شدني حتى النهاية .
سلمت أناملك أخي إبراهيم و دمت مبدعا
نزار ب. الزين

ابراهيم درغوثي
15/01/2007, 10:12 PM
أختي صبيحة

سعيد بمرورك الجميل على هذا النص
وسعيد برأيك فيه
دمت متألقة

ابراهيم درغوثي
15/01/2007, 10:15 PM
أخي نزار
لقد صرت أترقب قراءاتك لنصوصي كما تترقب الارض العطشى الهطول
ما أسعدني بمعرفتك أخي نزار

علاء الدين حسو
17/01/2007, 01:30 PM
عزيزي الدرغوثي . اسمح لي بلا القاب وانت استاذنا ..حلوة حلوة قصة العقرب ..بالله عليك كيف كتبتها ..غرت منها مثلما تغار الاخت من اختها الكبرى ..كم انمنى ان اخرجها لو كنت مخرجا للذين لا يقرؤن ولا يعرفون متعة القراءة.. مع تحياتي علاء

ابراهيم درغوثي
17/01/2007, 03:39 PM
عزيزي علاء
نصوصك الجميلة تجعلك الأخ التوأم لي .
فأنت تبدع الجميل الذي يصل القلب بدون استئذان
دمت لأخيك

زاهية بنت البحر
18/01/2007, 07:07 PM
أخي المكرم القاص البارع إبراهيم درغوثي ..قرأت هنا أربع حكايات قصيرة مما يحدث في الحياة, أو يحتمل حدوثه ..نفسك القصصي يشد القارئ حتى النهاية كما حدث معي في قصة تاكسي تاكسي ..
بارك الله بك مبدعًا ,ونفع بك الأمة بتشخيص الأمراض الاجتماعية عسى أن تجد جراحًا ماهرًا يخلصنا منها..
أختك
بنت البحر

ابراهيم درغوثي
19/01/2007, 12:42 AM
أختي زاهية
سعيد بمرورك الكريم على نصوصي
وأسعد برأيك اللطيف حولها
دمت قارئة فهيمة للأدب العربي النابض بالحياة

فيصل الزوايدي
14/07/2007, 02:01 AM
أخي ابراهيم ، كل قصة تستفز كلاما كثيرا لنقوله عنها لكننا نجد الكلام يتفلّت فنكتفي بعبارات الاستحسان رغم احساسنا بالاثارة التي تخلقها نصوصك .. أعجبتني قصة العقرب بسبب عدائيتي للزمن و هو فعلا كما أجدتَ وصفه " عقرب تلسعنا
مع كل المودة

ابراهيم درغوثي
16/07/2007, 08:23 PM
الرائع فيصل
شكرا على لطفك
لقد عرفت طريقك يا صاحبي
فسر فيه الى النهاية
مع المودة