أحمد الفهد
05/06/2009, 11:53 PM
الاكتمال التدريجي: سمة العمل الدؤوب
(إلى المترجمين والكتّاب التقنيين الجدد)
عندما تجد نفسك في بيئة عمل تخلو من الود والتعاطف، وعندما ينتابك شعور بأن كل هؤلاء الموظفين القدماء لا يريدونك بينهم وأن أحداً منهم لا يريد أن يعلِّمك حرفاً أو يمنحك بعضاً من وقته أو يفتح لك باب الأسئلة كي لا تعتاد على طرحها، وعندما تجد أن ما تنتجه موضع نقد وتهكم المسؤول عنك، فلا تبتئس كثيراً، فكل هؤلاء كانوا في مكانك يوماً ما. المهم: ألا تصبح في مكانهم غداً.
في أواخر عام 1989، تعيّنت في شركة أمريكية كبرى بالعربية السعودية بوظيفة مراجع/كاتب تقني. وكان زملائي الثلاثة إنجليز واسكتلنديين. وتم تكليف موظف مخضرم وخبير اسمه ريتشارد (أو دِك (Dick) كما يدلعونه) ليشرف على شغلي حتى يشتد عودي. وكنت كلما راجعت مجموعة من الوثائق والأدلة وكتبت تعليقاتي عليها أعطيتها لدِك.
بعد بضعة أسابيع من العمل دخل "دك" مكتبي وألقى علي المنضدة رزمة من نماذج التعليقات مع أدلة التشغيل والصيانة وقال بأسلوبه المحافظ المقتضب: "هذا تعليقاتي". ثم ألقى أمامي برزمة أخرى كانت بيده الثانية وأردف قائلاً عبر فتحة ضيقة حافظَ عليها بمهارة بين صفي أسنانه العلوي والسفلي: "...وهذه النفاية التي كتبتها أنت!"
بعد تبادل غير قصير للنظرات بيننا، استدار دِك مغادراً وهو يدندن بنغمة لم تكن تفارق فمه كلما تحركت قدماه طيلة الأربع سنوات التي جمعتنا في العمل بعد ذلك.
بعد أن انخفض منسوب الغضب والأدرينالين وأنزيم الحقد الطبقي "المهني" في عروقي، أخذت أقرأ تعليقات دِك وأقارنها بتعليقاتي. كانت المقارنة مستحلية، كان دك يكبرني بنحو أربعين سنة وهي الحد الأدنى للفرق أيضاً بين خبرتي وخبرته، والأهم هو أنه كان يتمتع بالأفضلية الحاسمة وهي أنه متحدث أصلي للغة الإنجليزية.
المحاولة الثانية لي كانت عبارة عن محاولة لتقليد أسلوب دك في الكتابة.
شعرت من الطريقة التي أعاد لي رزمة التعليقات فيها أن ثمة تحسن، ولكن شغلي لا يزال –على حد تعبيره- "(Terrible)".
في إحدى ملاحظاته كان دك يشير إلى رقم المواصفة التي تدعم رفضه لما جاء في أحد أدلة التشغيل. فذهبت إليه وسألته: "ما معنى رقم المواصفة هذا؟" فنهض من وراء مكتبه وقال لي "اتبعني".
شعرت بالتفاؤل حذر، وتبعته إلى غرفة مجاورة فيها خزانة من أرفف معدنية عليها ما لا يقل عن 30 كتاباً حجم الواحد منها لا يقل عن 1200 صفحة بالمعدل، وقال: هذه مواصفات جميع العقود المحالة في المشروع، هنا تجد الجواب.
لم يكن شيئاً يجبرني على القراءة في تلك المجلدات الضخمة إلا الرغبة في المعرفة وإثبات قدرتي على التعلم الذاتي تحت شتى الظروف. أمضيت بين الكتب أياماً بل أسابيع، كانت كتب مواصفات العقود التفصيلية.
لم يكن دك رقيقاً جداً، أليس كذلك؟
ولكني بعد مضي الشهور والسنين، عدت صدفة إلى بعض من تعليقاتي الأولى ووجدت أنها كانت –ببساطة- "مريعة".
نحن نتحسن تدريجياً مع مضي الوقت والمراس، وسرعة التحسن تعتمد على عدة عوامل، منها مدى القدرة على التعلم والإرادة ووجود الحافز الخارجي (ليس بالضرورة مثيل لدِك). وهذا التحسن يتجه نحو الاكتمال النسبي الذي نسميه الحرفية أو الاحتراف.
في بداية حياتك المهنية ...
- قد تجد نفسك في بيئة عمل محبطة ومخيبة للآمال. وقد تشعر أحياناً أن زملاءك لا يريدونك بينهم، لا أحد يريد أن يعلِّمك أو يجيب عن أسئلتك. وقد تتعرض للنقد أو التهكم. لا تبتئس كثيراً، فكل هؤلاء كانوا في مكانك يوماً ما. المطلوب منك ألا تنضم إليهم عندما تجتاز مرحلة "الأغرار"، فتلك أولى درجات السقوط بعيداً عن المهنية.
- لا بد من تقبل النقد... مهما كان مؤلماً طالما أنه يدور في حدود العمل. قد تشعر بالإهانة لوصف مستواك العلمي أو المهني أوصافاً لا تحبها، هذا صعب نعم. يمكنك الاحتجاج على الأسلوب إن شئت ولكن الحقيقة تبقى حقيقة، وكون الأسلوب سيئاً، لا ينفى أن النقد صحيح.
- لا بد من تحويل النقد إلى نتائج طيبة. أول خطوة في ذلك هي افتراض أن النقد صحيح خاصة إذا كان مصدره شخص أكثر منك خبرة في العمل. الخطأ الأكبر الذي يرتكبه المبتدئ هو تبديد وقته على إثبات خطا ناقده الخبير بعمله.
اكتشفت بعد مضي الوقت أن "دك" [الرقيق] كان يائساً من قدرتي على القيام بواجبات العمل. قال لي ذات يوم "كنت عندها أردأ بكثير من أن يُراهن عليك"!
- اصعد الجبل. إذا حال بينك وبين الفهم جبل من الكتب. عليك بقراءتها. أقصر طريق إلى المهنية لا يمر عبر أسهل الحلول بل عبر الطريق التي تعتقد أنه لا وقت لديك لسلوكها.
- إذا كانت "لا أدري" هي نصف العلم، فنصفه الآخر هو ألا تكررها رداً على نفس السؤال.
مع أمنيات التقدم على المسار المهني،،
أحمد الفهد
(إلى المترجمين والكتّاب التقنيين الجدد)
عندما تجد نفسك في بيئة عمل تخلو من الود والتعاطف، وعندما ينتابك شعور بأن كل هؤلاء الموظفين القدماء لا يريدونك بينهم وأن أحداً منهم لا يريد أن يعلِّمك حرفاً أو يمنحك بعضاً من وقته أو يفتح لك باب الأسئلة كي لا تعتاد على طرحها، وعندما تجد أن ما تنتجه موضع نقد وتهكم المسؤول عنك، فلا تبتئس كثيراً، فكل هؤلاء كانوا في مكانك يوماً ما. المهم: ألا تصبح في مكانهم غداً.
في أواخر عام 1989، تعيّنت في شركة أمريكية كبرى بالعربية السعودية بوظيفة مراجع/كاتب تقني. وكان زملائي الثلاثة إنجليز واسكتلنديين. وتم تكليف موظف مخضرم وخبير اسمه ريتشارد (أو دِك (Dick) كما يدلعونه) ليشرف على شغلي حتى يشتد عودي. وكنت كلما راجعت مجموعة من الوثائق والأدلة وكتبت تعليقاتي عليها أعطيتها لدِك.
بعد بضعة أسابيع من العمل دخل "دك" مكتبي وألقى علي المنضدة رزمة من نماذج التعليقات مع أدلة التشغيل والصيانة وقال بأسلوبه المحافظ المقتضب: "هذا تعليقاتي". ثم ألقى أمامي برزمة أخرى كانت بيده الثانية وأردف قائلاً عبر فتحة ضيقة حافظَ عليها بمهارة بين صفي أسنانه العلوي والسفلي: "...وهذه النفاية التي كتبتها أنت!"
بعد تبادل غير قصير للنظرات بيننا، استدار دِك مغادراً وهو يدندن بنغمة لم تكن تفارق فمه كلما تحركت قدماه طيلة الأربع سنوات التي جمعتنا في العمل بعد ذلك.
بعد أن انخفض منسوب الغضب والأدرينالين وأنزيم الحقد الطبقي "المهني" في عروقي، أخذت أقرأ تعليقات دِك وأقارنها بتعليقاتي. كانت المقارنة مستحلية، كان دك يكبرني بنحو أربعين سنة وهي الحد الأدنى للفرق أيضاً بين خبرتي وخبرته، والأهم هو أنه كان يتمتع بالأفضلية الحاسمة وهي أنه متحدث أصلي للغة الإنجليزية.
المحاولة الثانية لي كانت عبارة عن محاولة لتقليد أسلوب دك في الكتابة.
شعرت من الطريقة التي أعاد لي رزمة التعليقات فيها أن ثمة تحسن، ولكن شغلي لا يزال –على حد تعبيره- "(Terrible)".
في إحدى ملاحظاته كان دك يشير إلى رقم المواصفة التي تدعم رفضه لما جاء في أحد أدلة التشغيل. فذهبت إليه وسألته: "ما معنى رقم المواصفة هذا؟" فنهض من وراء مكتبه وقال لي "اتبعني".
شعرت بالتفاؤل حذر، وتبعته إلى غرفة مجاورة فيها خزانة من أرفف معدنية عليها ما لا يقل عن 30 كتاباً حجم الواحد منها لا يقل عن 1200 صفحة بالمعدل، وقال: هذه مواصفات جميع العقود المحالة في المشروع، هنا تجد الجواب.
لم يكن شيئاً يجبرني على القراءة في تلك المجلدات الضخمة إلا الرغبة في المعرفة وإثبات قدرتي على التعلم الذاتي تحت شتى الظروف. أمضيت بين الكتب أياماً بل أسابيع، كانت كتب مواصفات العقود التفصيلية.
لم يكن دك رقيقاً جداً، أليس كذلك؟
ولكني بعد مضي الشهور والسنين، عدت صدفة إلى بعض من تعليقاتي الأولى ووجدت أنها كانت –ببساطة- "مريعة".
نحن نتحسن تدريجياً مع مضي الوقت والمراس، وسرعة التحسن تعتمد على عدة عوامل، منها مدى القدرة على التعلم والإرادة ووجود الحافز الخارجي (ليس بالضرورة مثيل لدِك). وهذا التحسن يتجه نحو الاكتمال النسبي الذي نسميه الحرفية أو الاحتراف.
في بداية حياتك المهنية ...
- قد تجد نفسك في بيئة عمل محبطة ومخيبة للآمال. وقد تشعر أحياناً أن زملاءك لا يريدونك بينهم، لا أحد يريد أن يعلِّمك أو يجيب عن أسئلتك. وقد تتعرض للنقد أو التهكم. لا تبتئس كثيراً، فكل هؤلاء كانوا في مكانك يوماً ما. المطلوب منك ألا تنضم إليهم عندما تجتاز مرحلة "الأغرار"، فتلك أولى درجات السقوط بعيداً عن المهنية.
- لا بد من تقبل النقد... مهما كان مؤلماً طالما أنه يدور في حدود العمل. قد تشعر بالإهانة لوصف مستواك العلمي أو المهني أوصافاً لا تحبها، هذا صعب نعم. يمكنك الاحتجاج على الأسلوب إن شئت ولكن الحقيقة تبقى حقيقة، وكون الأسلوب سيئاً، لا ينفى أن النقد صحيح.
- لا بد من تحويل النقد إلى نتائج طيبة. أول خطوة في ذلك هي افتراض أن النقد صحيح خاصة إذا كان مصدره شخص أكثر منك خبرة في العمل. الخطأ الأكبر الذي يرتكبه المبتدئ هو تبديد وقته على إثبات خطا ناقده الخبير بعمله.
اكتشفت بعد مضي الوقت أن "دك" [الرقيق] كان يائساً من قدرتي على القيام بواجبات العمل. قال لي ذات يوم "كنت عندها أردأ بكثير من أن يُراهن عليك"!
- اصعد الجبل. إذا حال بينك وبين الفهم جبل من الكتب. عليك بقراءتها. أقصر طريق إلى المهنية لا يمر عبر أسهل الحلول بل عبر الطريق التي تعتقد أنه لا وقت لديك لسلوكها.
- إذا كانت "لا أدري" هي نصف العلم، فنصفه الآخر هو ألا تكررها رداً على نفس السؤال.
مع أمنيات التقدم على المسار المهني،،
أحمد الفهد