المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التنزيلات الموصلية لون متميز من ألوان المقام العراقي



ابراهيم خليل العلاف
06/06/2009, 06:01 PM
التنزيلات الموصلية لون متميز من ألوان المقام العراقي

أ .د . ابراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية –جامعة الموصل

حينما جمع وحقق صديقنا الدكتور محمد نايف الدليمي كتابه الموسوم " ديوان الموشحات الموصلية " , وطبعه في دار ابن الاثير للطباعة والنشر التابعة لجامعة الموصل سنة 1975 , قال ان الموصليين اطلقوا على شعر وقصيدة المديح المرفوع الى الرسول الاعظم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اسم (التنزيلة) حسبما يقتضيه المقام الغنائي , والنغمة الموسيقية عند الزهاد وأصحاب الطريقة , وقد رغب في ان يجمع ( التنزيلات الموصلية ) في كتاب الا انه علم بوجود من يقوم بهذه المهمة ( اظنه المرحوم ميسر صالح الامين ) وقد بدأ بالعمل منذ فترة , ولما يكمله بعد .
ومنذ قرابة (30) عاما ونحن ننتظر وللاسف لم يخرج الكتاب الى النور . المهم ان موضوع التنزيلات الموصلية موضوع مهم , ومفيد , وضروري لابراز دور الموصل في تعميق التراث الشعري والموسيقى العربي , وقد كان الدكتور محمد صديق الجليلي رحمه الله واحدا من ابرز المهتمين بتوثيق التنزيلات الموصلية , فلقد اشار في كتابه الشهير ( التراث الموسيقي في الموصل ) والمنشور سنة 1945 الى ان التنزيلات هي ( موشحات دينية ) والتنزيلة من اصطلاحات الصوفيين وللشيخ محي الدين بن عربي كتاب بعنوان " التنزيلات الموصلية " وقد ألفه عندما كان يعيش في الموصل والتنزيلات , كما يقول ألجليلي , " منظومات على أسلوب الموشحات في المديح النبوي الشريف أو التوسلات والابتهالات الصوفية المتنوعة , منها ماهو من تلحين ناظم أبيات الموشح نفسه ,ومنها ما نظم على ألحان ألاغاني التي كانت شائعة في عصر الناظم ".
من الطبيعي أن يضع مؤرخو الشعر في الموصل , ومنهم الدكتور ذو النون يونس مصطفى الاطراقجي التنزيلات الموصلية ضمن التوجه الديني , فقصائد المديح النبوي قد تكون تقليدية وقد تكون إصلاحية أي نهج نهجا حديثا متطورا , ولكن في كل الأحوال فان تلك القصائد تستوحي قيم الإسلام وشعائره .
وفي الموصل الشئ الكثير من هذه التنزيلات , ومعظمها قديم , فمنها ماهو من الحان القرن التاسع عشر ومنها ما يعود الى قرون ابعد من ذلك , فمثلا موشح (عرج يا حادي نحو الحمى ) من مقام الصبا المنسوب إلى ابن الطبيب الدمشقي المتوفى عام 1230 ميلادية (627هـ) يرجع إلى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي ويقول ناظمه في اخره (رب واغفر للجراح بن الطبيب واختم بالحسنى لنا جميع ) وبهذا يكون عمر هذا الموشح أو التنزيلة ما يقرب من سبعمائة وستة وسبعين عاما.
يقول الدكتور ألجليلي ان العادة الجارية في الموصل عند الأدباء والشعراء وشيوخ الصوفية إبان العصور الأخيرة انه كلما ظهرت أغنية جديدة ذات لحن شجي , بادر اكثر من واحد منهم الى نظم موشح على لحن تلك الاغنية , فالشيخ عثمان الخطيب بن يوسف بن عزا لدين ألخلوتي القادري الموصلي المتوفى سنة 1732م (1145هـ) له ما يزيد على الخمسين موشحا من مختلف المقامات , واشهرها الموشح المسمى بـ ( سلسلة الرست ) ويتألف من أربع قطع ومطلعه
( صلوا على طه الحبيب الرحمن ) . وقد كتب عصام الدين العمري في كتابه (الروض النظر في ترجمة ادباء العصر ) والذي حقق جزءه الاول الدكتور سليم ألنعيمي سنة 974 , عن عثمان الخطيب يقول : انه" فارس ميدان رهان الأذهان , العابث بأنواع المعاني والبيان".أما محمد ألغلامي في كتابه (شمامة العنبر والزهر المعنبر ) فقال عنه انه " زهرة حديقة الزمان ... رقيق حواشي الطبع , رحيق في ملح النظم والسجع ..). ونقل سليمان صائغ في الجزء الثاني من كتابه (تاريخ الموصل) عنه قصيدة يمدح فيها الرسول الكريم مطلعها :
سر بنا صاح راشدا مهديا وتهيأ وناد بالركب هيا
وقال الصائغ " وتجد في شعره المراثي والمديح لآل البيت وفيه المربعات والمخمسات ويتسم شعره بالبساطة وسلاسة التعبير مع الضبط والانسجام , وتتجلى غالبا ميوله في شعره انه كان متوغلا في التصوف , شديد الحب , كثير التهجد ".
أما الشيخ قاسم الرامي الموصلي المتوفى سنة 1772م (1186هـ) فكان " من أهل الطريقة الصوفية , ومن مقدميها وكان يصحب شيوخها ويحدو لهم لأنه كان موسيقيا خبيرا بالنغمات والنقرات , وكان شاعرا مجيدا برع خاصة في نظم الألغاز الدقيقة الطريفة , واكثر شعره في المدائح النبوية على شكل الصوفيات " , هكذا يقول الصائغ , وذكر له متسعات بليغة في المديح على حروف الهجاء . ومن الذين كانت لديهم تنزيلات من الموصليين الشيخ علي الوهبي الموصلي الشهير بالجفعتري المتوفى سنة 1787م (1202هـ) . "كان عالما جليلا , وخطيبا فصيحا , وناظما مجيدا , وناثرا بارعا " له قصيدة طويلة في المدائح جرى فيها مجرى صوفيات ابن الفارض وتقع في نحو 30 بيتا منها :
فلي قلب لغيرك غير صاب
وماهو عنك لما غبت صابر
وأصبح في الهوى والوجد ساه
وطرفي في ظلام الليل ساهر
تزيد صبابتي ويزيد دائي
ولم ابرح على المحبوب دائر
ثم يقول :
له فضل يحير كل ذاك
و أوصاف تحير كل ذاكر
وكان الشيخ الوهبي يستهل قصائده في المديح بالغزل ومنها كثيرة في الموصليات امتدح إحداها والي الموصل سليمان باشا ومطلعها :
تبدى فنال القلب من سعده البشرى
وحي فاحيا كل قلب به مغرى
واطلع بدرا تحت هندس غيهب
وابرز في أفق الجبين لي الفجرا
وممن اشتهر في نظم الموشحات الدينية في الموصل العلامة سليمان بك آل مراد بك ألجليلي المتوفى سنة 1908م (1326هـ) , وله ما يقرب من خمسة عشر موشحا جميعها من الألحان النفيسة .
ولد سنة 1863 في الموصل , ودرس على اشهر علماء زمانه , وكان ذا إلمام كبير بالرياضيات والفلك والموسيقى ..كما أتقن بعض اللغات الأجنبية كالتركية والفارسية وقد ضاع معظم شعره بعد وفاته , ومع هذا فقد جمع الدكتور محمد صديق ألجليلي بعض شعره وموشحاته وقدم بعضها للدكتور محمد نايف الدليمي عندما ألف كتابه انف الذكر .. وقد قال من نظم السيكاه على لحن الأغنية البغدادية (يمه أش لزمني لزمه..شكك أزرار الزخمة )
بطرفه الفتان قد هام قلبي لما تبدى
لكن على العشاق قد طال عتبي لو كان أجدى
ما همت فيه وجدا إلا وزاد صدا أبدا طلا وخدا
لو تدري بالأقمار يزري فاسأل عن صبري
وقال من نغم بياتي إبراهيمي على لحن الأغنية القديمة ( مالي عليك مالي)
ما للهوى مالي قد زاد بلبابي
والوجد أضناني يانديمي في طب ذي الخال
على حالي قد رق عذالي
وله موشح من نغم السيكاه على لحن الأغنية المصرية (مرمر زماني يا زماني اتمرمر قلبي تولع في هواك يا الأسمر )
عبد أتاكم يا بنو المختار يرجوكم العفو عن الأوزار
انتم نجومي وكذا أقماري عقود نظمي في هواكم تنشر
صلوا على صاحب الحوض الكوثر طه شفيع الخلق يوم المحشر
ومن أصحاب التنزيلات الأديب الشاعر علي بن علي أبو الفضائل ألعمري المتوفى سنة 1778م (1192هـ) وكان صاحب شمامة العنبر معجبا بشعره , وبأسلوبه الشائق في الترسل , وقد نوه بذكر علومه ومصارفه , وذكر بعضا من نظمه و وجد له نحو إحدى عشر قصيدة عصماء من مختارات نظمه وفيها أنواع الشعر من مديح وحماس ورثاء. وقد أشار الصائغ إلى انه في شعره أميل إلى سرد الحقائق , وكان يبرز عواطفه بعبارات صريحة ويتضح قدمه في الشعر بقصيدته الشهيرة التي سماها " الجوهر الثمين في بعض وقائع الأمين ".
وهناك خليل بن علي البصير (1700-1762م , 1112هـ - 1176هـ ) وهو أديب وشاعر ينتمي إلى السادة الإشراف , كان كفوفا , وقد نبغ نبوغا عجيبا في الدروس العقلية واللغوية , أتقن لغات عديدة منها التركية والفارسية وشعره متين " وإذا تلي عليك تخال انك تسمع نثرا لبساطته وسلاسته" . ومن شعره قوله :
لست أهوى سواكم اليوم حتى
اطلب الموت في هواكم حثيثا
يا لقومي من معشر عنفوني
لا يـكادون يفقـهون حـديثا
وأجاد ايضا بقوله :
يا مبتلي بذوي المظالم لاتهن
واصبر فان الله كان بصيرا
واستنصرن الله يهدك عاجلا
وكفى بربك هاديا ونصيرا
ويذكر مؤرخو التنزيلات أسماء أدباء وشعراء اشتهروا وبرزوا في الموصل منهم الأديب نعمان بن عثمان الدفتري الموصلي , ومنهم الأديب والمقرئ والموسيقار الشيخ سعدي الموصلي بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ سعد الدين شيخ القراء الموصلي وغيرهم مما لا يتسع هذا المجال لذكر التفاصيل عنهم.
ولا يمكننا ان نتغافل عن ما قدمه الأديب والموسيقار الشهير الملا عثمان الموصلي المتوفى سنة 1923م (1341هـ) ويمكن الرجوع إلى الدكتور عادل البكري الذي ألف كتابا قيما عنه ,وللملا عثمان ما يزيد على الخمسين موشحا جميعها من الألحان النفيسة واشهرها موشح (يا آل طه فيكم قد هام المضني) من مقام الرست والحان هذا الموشح , كما يقول الدكتور محمد صديق ألجليلي رحمه الله على جانب عظيم من الفخامة. والمــلا عثمان كان من احد أساتذة الشيخ درويش .
ويشير الدكتور الاطراقجي الى ان محمود الملاح من الذين طوروا في قصيدة المولد النبوي " أما فاضل الصيدلي الشاعر والأديب الموصلي المعاصر فقد استفاد من قصائد المديح في معالجة أوضاع المجتمع ومهاجمة مظاهر التخلف والفساد .. وكثيرا ما دعا إلى استنهاض الهمم .. كذلك فعل الشيخ محمد علي الياس العدواني عندما وسع من دائرة موضوع قصيدة المديح وحولها إلى دعوة الناس إلى التمسك بشعائر الدين , واستلهام قيم القوة والتصدي لأعداء الأمة .
وأخيرا فالموصل , مدينة ومركزا حضاريا , قد قدمت الكثير من الإنجازات على صعيد التراث الشعري والموسيقى وكانت بحق مدرسة متميزة , فمنها انتشرت إبداعات رائعة في مجال النظم والتلحين إلى مدن عربية كالقاهرة وحلب ودمشق وتونس , ولا يزال الناس يذكرون هذه الريادة وينوهون بها الأمر الذي يتطلب من المهتمين بهذه الألوان الإبداعية العمل من اجل جمعها وتوثيقها وتسهيل مهمة الاطلاع عليها والاستفادة منها..